مراجعة الدكتور: محمد نعيم ياسين، القسم الأول: الجينوم – السيرة الذاتية للنوع البشري

الجينوم -السيرة الذاتية للنوع البشري[1]

تأليف مات ريدلي- ترجمة د. مصطفى إبراهيم فهمي

القسم الأول

 

 صاحب المراجعة: الأستاذ الدكتور محمد نعيم ياسين

بسم الله الرحمن الرحيم

«الجينوم» - تأليف مات ريدلي

 

تعريف موجز بالكتاب ومؤلفه ومترجمه:

العنوان الأصلي للكتاب:

GENOME- The autobiography of a species: by Matt Ridley

عنوان الكتاب باللغة العربيّة: - الجينوم – السيرة الذاتية للنوع البشري تأليف مات ريدلي، وهو كاتب بريطاني حاصل على دكتوراة الفلسفة في علم الحيوان من جامعة أكسفورد. له عدة كتب ومقالات في الثقافة العلميّة.

ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمي – حاصل على الدكتوراة في الكيمياء الإكلينيكية من جامعة لندن. حاصل على جائزة ترجمة أحسن كتاب في الثقافة العلميّة.

الناشر: عالم المعرفة – الكويت – 2001م

 

أسلوب الكتاب ومنهج المراجعة:

اتبع المؤلف في كتابه أسلوباً تشويقيّاً ينطوي على جاذبيّة تستدعي القارئ الباحث عن قسط من الثقافة العلميّة في مجال الجينوم أن يتابع القراءة في كل فصل من فصول الكتاب، ولا يتركه حتى يأتي عليه جميعاً، فاستعمل في ذلك أسلوب الرواية والقصص الصغيرة، والتراجم الوجيزة لحياة العلماء، والمراوغة اللطيفة، والمزاح الهادف، والتمثيل التعليمي الممتع، واستدعاء بعض المعارف الشعبيّة، وظهر المؤلف بمظهر الرجل الظريف الفِكِه (من الفكاهة والفاكهة، وهو ذو الكلام المستطاب).

ولكن هذا الأسلوب، وإن كان له حشوة علميّة، فيه بعض المظاهر السلبيّة في ميزان البحث العلمي؛ كالمبالغة أحياناً، والتعارض في بعض المواضع من ترجيحاته. كما أظهر في بعض آرائه نفوراً من الدين، مع أنه يشير أحياناً قليلة إلى بعض النتائج التي تؤيّد بعض الرؤى الدينية، ولكنه سرعان ما أشاح عنها قلمه، ومرّ عنها مروراً سريعاً؛ خلافاً لما تفتضيه الموضوعيّة من طرح الأدلة، والبناء على أقواها دلالة.

ولوحظ في كثير من فصول كتابه أنه جعل الطبيعة هي الحلّ لكل معضلة، والمفتاح لكل باب مغلق على الفهم والمنطق، وسيفُها القاطع هو ما سماه دارون (Darwin) الانتخاب الطبيعي، حتى إنه ليكاد أن يقول للقارئ إن الطبيعة هي العليم الحكيم البصير الخبير الذي يسير بالحياة إلى الإمام. ومع أنه أشار في فصل من فصول الكتاب إلى أن قوانين مندل (Mendel) في الوراثة تدحض فاعلية الانتخاب الطبيعي، لكنّه هوّن من شأن هذا الأمر، وأرجعه إلى بعض الأخطاء البسيطة في تجارب دارون وأبحاثه، وظل يسترشد بالطبيعة التي كثيراً ما وصفها بأنها "أمنا"، وجعل انتخابها هو الضابط المحكم في مسيرة الحياة البشرية، وأخضع له الأحياء والإنسان منهم. مع أنه نفي في كثيرٍ من الأحيان وجود أية حتميّة، وهذا واضح في آخر فصول الكتاب "الإرادة الحرة".

ولما كانت فصول الكتاب كثيرة (23 فصلاً)، فإن مراجعتها بصورة تفصيلية تتطلب عشرات الصفحات أو أكثر، وهو ما  لا يسمح به نظام المشروع الذي تنتمي إليه هذه المراجعة؛ لذلك ستكون مراجعتي لبعض فصول الكتاب، عسى الله تعالى أن يأذن بإكمالها في مستقبل الأيام.

ثم لما كان تخصصي هو علم الشريعة الإسلاميّة، فإن مراجعتي سيكون التركيز فيها على بعض الأفكار والمعطيات التي أحضرها المؤلف مما له علاقة بالشريعة الإسلاميّة وأخلاقياتها.

غاية المؤلف من تأليف كتابه

صرح المؤلف بأن كتابه هذا ليس كتاباً عن مشروع الجينوم البشري؛ أي عن تكنيكات رسم خريطته، وإنما هو جولة سياحيّة، يطلق الدليل صفارته للتوقف عند مواضع الجينوم الأكثر إثارة، وما تقوله لنا عن أنفسنا.

وقد كتبه المؤلف في وقت لم يُقرأ فيه سوى عدد يقارب ثمانية آلاف جين، موزعة على الكروموسومات الثلاثة والعشرين الموجودة داخل نواة الخليلة البشريّة. وأخذ من كل واحدٍ منها موضوعاً له علاقة بخصائص النوع البشري، وجعل كّلاً منها في فصل. وبالرغم من أن المؤلف يُعطي أهميّةً عظيمة لمشروع الجينوم البشري، وبخاصّة إذا اكتملت مخرجاته، وقد تَوَقّعَ أن يكون ذلك بعد تأليف كتابه بوقتٍ قصير حدّده بعام 2000م.

ومع ذلك، فإنه لا يرى أن كل شيء موجودٌ في جينات الإنسان، بل هو أكثر بكثير من أن يكون مجرد شفرة جينيّة. (انظر مقدمة المؤلف ص 7-10) نرى أن توصيف المؤلف لدور الجينات في حياة الإنسان يمثل قناعته بوجود عوامل وعناصر أخرى تؤثر في الحياة الإنسانية. وقد أشار إليها في بعض الفصول أهمها الفصل الأخير عن دور الجينات في إرادة الإنسان، وهي قناعة تتفق في عمومها مع رؤية العلماء المسلمين؛ حيث جعلوا معظم الأنشطة الاختياريّة، بل جميعها، وهي الأنشطة النابعة من إرادة الإنسان، جعلوها من اختصاص الروح الإنسانية الممتزجة ببدنه (النفس) غير أن المؤلف لم يكن يعنيه هذا الأمر من قريب أو بعيد. وقد ناقض في بعض الفصول تلك القناعة، وأحالَ كثيراً من سيرة الإنسان إلى الطبيعة التي أطلق عليها كثيراً (أمّنا)، وأن وسيلتها في ذلك هو الانتخاب الطبيعي، كما تقدّم.

وفي تصدير الكتاب، قدّم المؤلف بياناً موجزاً عن موضوع الجينات، وكيفيّة عملها، ليساعد القارئ الذي يرغب في أن يحصلَ على قسطٍ من الثقافة العلميّة في علم الجينوم على أن يفهم ولو بصورة إجماليّة المراد من فصول الكتاب. وقد أحسن في ذلك وحقق الهدف بتبسيط المصطلحات وبيان معانيها، والتمثيل لها.

وبين في هذا التصدير أن الجينوم البشري كتاب فيه مليون كلمة، مليء بوصفات للجسد الإنساني، تصف جانباً كبيراً مما حدث له في الماضي وما هو كائن فيه، وما سيحدث له بصورة مجملة أحياناً، ومفصلة أحياناً أخرى. ومن جملة كلامه في التصدير ما يبعث على تعميق الإيمان بالله عز وجل عند أهل الإيمان؛ كذلك قوله: (ولو أنني دوّنت الجينوم البشري بمعدّل حرف في كل مليمتر، فإن النص الذي أكتبه سيكون بطول نهر الدانوب؛ فهذه وثيقة عملاقة، كتاب هائل، وكل هذا يتخذ موضعه داخل نواةٍ ميكروسكوبية لخلية دقيقة الصغر تتخذ مكانها بسهولة فوق رأس دبوبس (المؤلف ص11).

وقد كان هذا الكشف العلمي يقتضي من العقلاء الذين يربطون الآثار بمؤثراتها، ويقرأون دلالات المعجزات الموجودة على عظمة موجدها وحكمته وإحاطته بكلّ شيء. والذين آمنوا تزيدهم هذه الكشوفات إيماناً بخالقها وصفاته الكاملة. وهم الذين قال فيهم القرآن {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر 28)، وهم الذين يرون الحق في آيات الله عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ... } (فصلت 53). ولكنّ طائفة من العلماء لا يتجاوزن ما يحسونه حسّاً مادياً، ولا يعترفون ببصيرة ولا عقل، ولا روح، ولا يرون إلا السّطوح، ولا يستطيعون رؤية ما بداخلها، ولا المرور إلى مقتضى دلالاتها، كما أخبر عنهم ربنا تبارك وتعالى، فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم 7)؛ وإلا فإن كتاباً بدون كاتب لا يتصوره عاقل غير معاند ولا جاحد، ولو قيل بأن هذا الكتاب الذي نراجعه وُجِدَ من غير كاتب، ولا تآلفت فصوله وفقراته وكلماته وأحرفه من غير مؤلف، ثم رحنا نخرِصُ بأن أصل الكتاب نقطة وجدت بنفسها على ورقة، ثم نسخت نفسها، واستدعت النقطة أخرى وأخرى حتى كانت كلمة، والكلمة استدعت كلمات، وهكذا حتى وُجدت جمل وفقرات وفصول، وكل فصل له غاية وحكاية، وصار الكتاب الذي بين أيدينا ثلاثة وعشرين فصلاً، وأن مات ريدلي ادعى تأليفه، فهل يصدق هذا ذو عقل؟ فكيف إذا كان الكتاب الجينومي عظيماً، كما وصفه المؤلف؟ إن هذا الشيء غريب وعجيب!!

 

مراجعة الفصل الأول

كروموسوم (1) – الحياة

في بداية هذا الفصل، قال المؤلف (في البدء كانت الكلمة، وكان من الكلمة أن اهتدى البحر برسالتها، فأخذت تنسخ نفسها للأبد بلا انقطاع... وحولت الكلمة سطح الأرض في كوكبنا من جحيم مُترب إلى جنة خضراء. وفي النهاية ما لبثت الكلمة أن أيَنعتْ لأن تبنيَ بدعةً من مادّة هلاميّة تُسمّى المخ البشري، له القدرة على أن يكتشف، وعلى أن يَعِيَ الكلمة نفسها...) ص17.

لنفترض – أيها القارئ - أنك تؤمن بالله، مهما كان دينك السماوي أو حتى لا علم لك بالأديان، ألا يتبادر إلى ذهنك أن هذا المؤلف الظريف يتكلم عن الخالق الخبير اللطيف، الذي له كلمات تحمل إرادته نافذة لا محالة، اهتدى بها كل شيء لما يُسّرَ له؟ وهذه الكلمة، وهي عند المؤمنين كلمة (كن) في اللغة العربيّة كانت سبباً لكل كائن؛ فهي تنسخ نفسها بحسب البرنامج الذي وضعه قائلها، وقد حولت تلك الكلمة الربانية سطح الأرض في كوكبنا من جحيم مترب إلى جنة خضراء (كما قال المؤلف). وأن صاحب الكلمة سبحانه جعل في مضمون تلك الكلمة بناء الدماغ الذي له القدرة على أن يكتشف كلمات الخالق ويفهم معناها.

وقد ذكرتني هذا البداية للمؤلف بعدّة آيات كريمات من القرآن العظيم ورد فيها الكلمة أو الكلمات أو ما في معناها، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} (آل عمران 45)، وقوله تعالى: {وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا} (التوبة 40)، وقوله تعالى: {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} (الأنعام 24)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله، إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لقمان 27).

ففي التصّور الإسلامي أصل الكون كله، بما فيه من جمادات وأحياء ومادة وطاقة بجميع أنواعها كلمة الله عز وجل باعتبارها اسم جنس، ويُعبّر عنها قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} (آل عمران 47)، وأفراد الجنس المعبر عنه بالكلمات لا تُعدّ ولا تحصى، وبداية كل شيء في الكون كلمة من كلمات الله عز وجل؛ وهذا معنىً يؤيده التفكير المنطقي والنظر العميق؛ وذلك أن كل كلمة لها عنصران كلاهما مهم، ولكن أحدهم أهم بكثير من الآخر، والأول هو الأحرف، والثاني- وهو الأهم- مضمونها أو معناها، أو ما تحمله في بطنها؛ فالأحرف وعاء، والموعَى هو المعنى، وحقيقية الكلام هو الثاني، والأول كالثوب أو اللباس، ومجموعات الأحرف إن لم يكن لها مضمون فهي كلمة فارغة ولا قيمة لها. والمضمون أو الموعَى  لا يمكن أن يوجد في وعائه إلا بموعِي أو متكلم يضع الموجود في علمه أو نفسه في ذلك الوعاء. فإذا كانت الحياة هي المعنى الموجود في أحرفها أو رموزها، فَمنْ ذاك الذي ملأ وعاء تلك الأحرف بأمر عظيم هو تكوّن كل شيء حيّ في هذا الكون؟ هل يستطيع أن يجيب على هذا السؤال غير المؤمنين بالله العظيم؟ وهل يصلح أن يجاب عليه بأن أصل الحياة خيط حيّ؛ يعني أن أصل الحياة حياة خيط، وهو دورٌ وتسلسل لا يقبله العقل المجرد (أعني القول بأن أصل الحياة حياة)، وهو تفسير الماء بعد الجهد بالماء كما يقولون. ولا يخرج تفسير المؤلف للحياة بأنها تتألف من مهارتين مختلفتين: القدرة على النسخ، والقدرة على خلق النظام (ص18) عما ذكرنا؛ لأن تفسير الحياة بأنها النمو و التوليد (النسخ) المنظم (النظام، إنما هو مجرد وصف للكائن الحي لا يمت إلى قاعدة السببيّة أمر العلّية بأية صلة)، ويبقى السؤال: ما سبب النمو أو التنامي، ومن هو المنظم (إذ لا بد لأي نظام من منظم)؟

وعلى أية حال، فغاية المؤلف من هذا الفصل هي ربط صفة الحياة في الإنسان بالجينوم البشري، الذي يمثّله ما يشتمل عليه من معلومات رقمية مكتوبة في «الدنا».

وقد اختلط بيانه الذي ساقه في هذا الفصل بكلام صحفي محض، كما في ثاني فقرة من الفصل، وسرد تاريخي لمحاولات سبقت في القرنين السابقين لتفسير الحياة وبيان أصلها، واشتمل ذلك البيان على أسلوب ممتع فيه مزج بين العلم والأدب، ويدعو القارئ إلى المتابعة، إن كان له قدر من المعرفة حول موضوعه، ولكنه اشتمل على بعض الاستغفال للقارئ (نوع مخفف من التدليس)، وبعض التناقضات، ومثال الأول كان عند جوابه عن سؤال: أيهما أتى أولاً: الدنا أو البروتين، وتمثيله لِذلك بالحالة الكلاسيكيّة للدجاجة والبيضة أيهما أتى أولاً؛ حيث استقر كلامه على أن البيض قد أتى قبل الدجاج بوقت طويل؛ إذ الزواحف أسلاف كل الطيور كانت تضع بيضاً؛ وبنى على ذلك أن "الرنا" أتى قبل البروتين، وأن براهين متزايدة تدل على ذلك. والحقيقة أن جوابه في مشكلة الدجاجة والبيضة لا يصلح؛ لأن السؤال هو في حقيقته عن شيء تولّد من شيء يتولد عن مثل الأول... وهكذا؛ ففي صورة البيضة والدجاجة يظل السؤال قائماً عن البيضة والسلاحف، كل منهما تولّد من الآخر، فأيهما يكون أولاً. وكذلك البروتين والدنا، فأرجعهما إلى مصدر واحد هو الرنا، وأنه سابق على الاثنين، كالزواحف سابقة على الدجاجة وبيضه. فإذا رجعنا إلى التصدير الذي كتبه المؤلف فقد روى لنا أن «الرنا» متولدة من الجين الذي تعتبر مادته الأساسيّة هي «الدنا»، فرجعت "الرنا" في نسبها إلى "الدنا"، ثم قال في ص24: إن رنا هي السلف لدنا والبروتين؛ ففي الكلام تناقض في الظاهر يتوقف رفعه على توفيق مقنع. والحقيقة عندي أن قصة الحياة تلخصها قصة البيضة والدجاجة؛ لأن الذي نراه أن كل حي له بذرة مبرمجة لإنتاج مثل ذلك الحي، فالشجرة جاءت من بذرة، والبذرة من الشجرة، والإنسان جاء من ماء الرجل، وماء الرجل جاء من رجل، وهذه قصة الدنا والبروتين والرنا، لا يمكن أن يُنْسبَ خلقهما لواحد منها؛ فإنها تتناوب في الوجود، والقصة لا يجوز أن تكون بلا بداية، وبداية الحياة هي كلمة، ولكنها لا يمكن أن تكون بغير متكلم. والرنا إذا كانت هي الكلمة، وفيها برنامج النسخ والتوالد؛ فإنها يجب – عقلاً - أن تكون من متكلّم عليم بصير.

ويلاحظ في هذا الفصل وغيره أن معظم الأفعال في أكثر المواقع قد صيغت بمبنى المعلوم فاعله، ونُسب إليها فاعلٌ لا يصلح عند العقلاء أن يكون فاعلاً؛ مثل قوله «اخترع أحدهما» ص24، وقوله «يصور نسخة لنفسه»، وأن «يقرأ نفسه» ص13، وأن كتاب الجينوم كتاب بارع يفعل ما ذكر من الأفعال. وقد كان حق هذه الأفعال أن تكون إما مبنية للمجهول، وإما أن تُنسب إلى فاعل قدير عليم بصير. وأما نسبة الفعل إلى ما ليس عنده علم، بل يستحيل أن يكون عنده علم، فهي كنسبة «كتاب الجينوم- السيرة الذاتية للنوع البشري» إلى فصول الكتاب وجمله وأحرفه وورقه ومدادِه وليس إلى مؤلفه «مات ريدلي».

ومما يلاحظ عليه أيضاً أن المؤلف جعل لازمة هذا الفصل (في البدء كانت كلمة، وكررها ثم قال ص24: «كان الرنا هو الكلمة»؛ يعني كان بدء الحياة هو الرنا. وفي تصدير الكتاب ص14 بيّن أن الجينوم يقرأ نفسه، والقراءة هي الترجمة، وفيها يستنسخ نصّ الجين إلى نسخة عن طريق العملية نفسها، ولكن النسخة هنا لا تكون مصنوعة من الدنا، وإنما هي مصنوعة من الرنا. والسؤال الذي يبدو فيه تناقض مع القول بأن الكلمة التي بدأت بها الحياة هي «الرنا»؛ إذ كيف يقرأ الجينوم نفسه، وينشأ عن هذه القراءة «الرنا»؛ فإذن لم تكن «الرنا» هي كلمة بدء الحياة؛ لأنها تنشأ عن شيء آخر. وفي ص 22 يقول أيضاً: "الحياة هي أيضاً معلومات رقمية مكتوبة في «الدنا»"، فهذا تناقض في العرض وتعكير شديد.

وأصدق ما جاء في هذا الفصل- في نظري - ما جاء في آخره ص 29 من قول المؤلف: "وأينما ذهبنا في العالم فإن أي حيوان أو نبات أو فيروسات أو فقاعة ننظر إليها إن كانت حيّة فإنها تستخدمُ القاموس نفسه، وتعرف الشفرة نفسها؛ فالحياة كلها واحدة، والشفرة الوراثية تتماثل في كل المخلوقات ... يعني هذا أنه كان هناك عملية خلق واحدة؛ حديث وحيد عند ولادة الحياة، وقد يجدُ المتدنيون أن هذه حجة مفيدة".

وقد كان مقتضى الموضوعيّة أو «العدلُ في القول» بالمصطلح القرآني أن لا تقتصر فائدة هذه الحجة على المتدنيين، وإنما على جميع طلاب الحق، وأن لا تقف دلالتها على كلمة واحدة أبدعت المخلوقات الحيّة، وأن تمتدّ لتدل على وحدانية صاحب هذه الكلمة، وقدراته المطلقة في تنفيذ إراداته بكلماته.

 

مراجعة الفصل الثاني

كروموسوم 2 - النوع

صرح المؤلف في أول هذا الفصل أن هدفه منه هو سبر التفرد البشري؛ ليكشف فيه عن أسباب خصوصيّة النوع البشري (ص33). وقد كان المأمول أن يبين في مطلع هذا الفصل خصوصيات البشر قبل البحث عن أسبابها. ولكنه أشار إلى بعضها على سبيل التمثيل في موضعين: الأول في ص37، وقصر تلك الخصائص على الشكل في الشعر والرأس والجسد والأطراف والصوت، وذلك بالمقارنة مع أقرب الحيوانات إلى الإنسان في الجينات، وهو الشمبانزي، الذي يشبه الإنسان في جيناته بنسبة 98%. وفي موضع آخر، قصر الخلاف الواقع في الجينات على الجينات التي تعمل في تنظيم النمو وتطوير الهرمونات، ولم يُشر من قريب أو بعيد إلى الفروق الهائلة بين الإنسان عن جهة وبين أي حيوان آخر في الوظائف النفسيّة التي يشعر بها كل إنسان، والتي يعول عليها في تطوير الحياة والتقدم بنوعهم في الإبداع والاكتشاف، والتي أبدى ثورته من أجل خصيصة واحدة يشعر بها ويستبطنها هو وسائر البشر، وهي الإرادة الحرة في الفصل 23 (كروموسوم 22) عندما قال: "إنما يوجد بدلاً من ذلك – يعني وجود جين مختص بالإرادة الحرة - شيء فيه رقيّ وروعة إلى ما لا نهاية: طبيعة بشرية بأكملها تحتمت بمرونة في كروموسوماتنا، وهي خاصة كل الخصوصية بكل واحد منا؛ فكل واحد منا لديه فريدة مختلفة تنمو من الباطن؛ إنها الذات" ص358، وهذا كان آخر ما كتب من كتابه الممتع، وهو يشير إلى أن خصائص البشر لا تقتصر على ما ذكر في هذا الفصل (الثاني)؛ حيث جعل سببها الأوحد اندماج كروموسومين في الشمبانزي في كروموسوم واحد في الإنسان هو كروموسوم 2. فهل يا ترى لو تمكن العلماء من دمج الكروموسومين الموجودين في الشمبانزي يأتي نسلّه بشراً يفكرون ويعلمون ويخترعون ويبدعون ويكتشفون ويعتقدون ويمارسون السياسة والحكم، ويضعون القواعد العامّة ويطبقونها على الجزئيات وغير ذلك من النشاط الإنساني، مع اعتدال في القامة، وعناية باللباس وستر العورات وحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والقصور والسيارات؟!

مقتضى كلام المؤلف في أكثر من موضع أن هذا هو السبب المنتج للفروق بين البشر والقرود، وأن الفروق بينهم وبين غيرهم من الأنواع هي فروق وراثية (ص46)، فلو صح هذا القول لأمكن تحسين نسل القرود إلى مقام البشر، ومسخ البشر إلى مقام القرود.

والحقيقة أن الماديين الذين لا يؤمنون إلا بما تقع عليه حواسهم لا يستطيعون أن يجدوا سبباً لتفرد البشر بخصائصهم إلا قوانين الوراثة، والوصفات الجينية في أشرطة الكروموسومات.

ويلاحظ أن تناقضات الماديين لا يقتصر على واقعٍ يصادر مزاعمهم في أن الوراثة هي أصل الخصائص البشريّة، بل إن مخرجات فُحوصِهم لجينات الشمبانزي وما تبنيه من أحشاء جسده الداخلية والخارجية لتنقض تلك المزاعم من جذورها؛ وترى ذلك في مخرجات المقارنة بين جسد الإنسان وجسد الشمبانزي المؤكِّدة للتماثل شبه الكامل بينهما: في الأسنان والأصابع والعينين والأطراف والكبد والشعر والجلد الجاف والعمود الفقري وعظام الأذن، وفي 98% من البويضة المخصبة؛ ومما قاله المؤلف في هذا الصدد: "ولا توجد عظمة في جسد الشمبانزي لا يشاركه فيها الإنسان، وليس في أي مادة كيميائية في مخ الشمبانزي لا يمكن العثور عليها في مخ الإنسان، وليس لدينا أي جزء من جهاز المناعة أو الجهاز الهضمي أو جهاز الأوعية الدمويّة أو الجهاز اللمفاوي إلا وهو موجود لدى أفراد الشمبانزي، أو العكس بالعكس، بل إنه لا يوجد حتى فصّ- دماغي- في مخ الشمبانزي لا نشاركه فيه" (ص38).

إن هذا المخرجات التي عرضها المؤلف بأسلوب التأكيد إذا قورنت بالفروق الهائلة في أنواع السلوك المبنية على الإرادة والعلم والتفكير بمظاهره المتعددة من تحليل وتركيب وبناء القواعد العامّة وتطبيها على الجزئيات، وإدراك المألات البعيدة والقريبة والمتوسطة، وإدراك المتشابهات والمختلفات، وبخاصة في المعاني، وسائر أعمال الإنسان الإراديّة، فإن تلك المقارنة تعجز عجزاً كلياً عن تفسير هذه الفروع بين أعلى نوع من الحيوانات وبين الإنسان وبخاصة مقارنة الدماغين عند القرد الأعلى والإنسان، والدماغ هو الذي ينسب إليه عند الماديين جميع ما ينسب إلى العقل الذي يعتبر مع الإرادة أهم قدرتين عند الإنسان، وهما اللتان استعملهما في بناء حضاراته في الكون. فإن كان الدماغ عند الإنسان والشمبانزي على ذلك النحو من التشابه الذي يكاد أن يكون كاملاً، فكيف وجدت تلك الفروق الهائلة بين منجزاتهما؟ إن تفسير ذلك بالوراثة والجينات يقتضي أن يكون عند الشمبانزي قدر من تلك الخصائص الذي يعادل ما عند الإنسان؛ إن هذه المقارنة تظهر سطوع حجة المؤمنين بالنفس والعقل وراء هذا الجسد مجمع الخلايا والجينات.

ولذلك فإننا نجد المؤلف في آخر الفصل يُقر بما ينقضُ زعمه بأن الوراثة هي سبب كل الفروق ببضع كلمات؛ إذ قال: "فالجينات ليست كافية في حالة السلوك على الأقل عند القردة العليا" (ص47)؛ وإذا كان الأمر كذلك فقد كان مقتضى ما أعلنه من هدف البحث، وهو بيان تفرد الإنسان، وسبب خصوصياته أن يكمل بحثه ليصل إلى السبب. ولكنه ما دام قد وضع لنفسه خطّاً أحمراً هو عدم الإيمان بالغيب مهما دل عليه المشهود، فسوف يظل واقفاً في نار الحيرة والتردد في تفسير القدرات والخصائص الإنسانية المميزة للإنسان. وللتوضيح نقول: عندما يوجد نوعان من الحيوان تتشابه جيناتهما وبينهما فروق جوهريّة كالفروق السلوكيّة لم يكن لذلك أية دلالة سوى أنه يوجد في أحدهما شيء مختلف مؤثر في السلوك أكثر من الجينات.

وحاصل هذا الفصل محاولة من المؤلف لدعم الأفكار التطوريّة في تفسير نشوء الأنواع وأصل الإنسان التي جاء بها دارون، بما قُرئ من الجينوم عند البشر وغيرهم. وأظنه لو تحرر من هذا القيد الفكري لكانت نتائج البحث في خصائص الإنسان أقرب إلى الموضوعية.

 

مراجعة الفصل الثالث

كروموسوم 3 – التاريخ

موضوع هذا الفصل هو تأريخ البحث العلمي للكشف عن جين صغير موجود على كروموسوم 3 يُعتبر مثالاً لحقيقة الجينات وأنها كما قال: "وصفات لصنع البروتينات"، وأن أي تعديل في الوصفة الجينيّة يوقع التشويش في البروتين المطلوب، ويترتب عليه خلل جسماني قد يكون خطيراً أو غير خطير (ص66).

والفصل كله عرض مشوق لبحوث العلماء؛ من جارود إلى فرانسيس كريك وواطسون مروراً بمندل ودارون ومولر وغيرهم. تلك البحوث التي أدت في نهاية الأمر إلى معرفة ما هية الجين، ووظيفته ومحتواه.

وأكثر ما يجلب اهتمام القارئ الناقد لهذا الفصل ما رواه المؤلف عن أفكار «مندل» في الوراثة، وما دار حولها من آراء العلماء في نوع العلاقة بينها وبين نظرية دارون في الانتخاب الطبيعي؛ بين قائل بالتعارض الكلي، وأن ما اكتشفه مندل من قوانين الوراثة يدمّر كلّياً ما جاهد دارون من أجل إثباته؛ وهو أن التطور تراكم لتغيرات طفيفة وعشوائية من خلال الانتخاب الطبيعي، وأنه "إذا كانت الجينات جسيمات – بحسب مندل - أو ذرات البيولوجيا – بحسب آخرين، وأنها أشياء صلبة يمكن أن تنبثق سليمة بعد أن اختبأت في جيل، فكيف يمكن لها إذن أن تتغير تدريجياً أو برهافة كما يقول دارون؟".

وهناك من قال بالتعارض الجزئي بين مندل ودارون، وهناك من ذهب إلى وجود تكامل بينهما. وكأن المؤلف من أصحاب الرأي الثاني، وأن تعديل بعض معطيات دارون يكفي لتصحيح نظريته، ولكنه لم يبيّن كيف يمكن ذلك؟ (ص57). وبالرغم من ذلك، ظل المؤلف يعتمد على نظرية دارون والانتخاب الطبيعي في كثير من المواضع، وكأنها مرجع لا شك في مخرجاته.

ومما يجلب الانتباه أيضاً في هذا الفصل ما رواه المؤلف وصَوّبَهُ من قول فرانسيس مفاخراً "لقد اكتشفنا سر الحياة"؛ وذلك بما اكتشفه مع صاحبه واطسون أن "حامض الرنا يحتوي على شفرة مكتوبة بطول درجات سلم أنيق متشابك في لولب مزدوج يمكن أن يطول إلى ما لا نهاية، وأن هذه الشفرة تنسخ نفسها بوساطة انجذابات كيماويّة بين حروفها..". وفي الفصل الثامن عشر، يلمح المؤلف إلى معرفة سر الموت من خلال أحوال الجينات وأدوارها في الجسد؛ وهذا يبعث المرء على التساؤل: أنه إذا كان علماء البيولوجيا قد اكتشفوا سر الحياة وسرّ الموت، وعرفوا سبب هذين العارضين للإنسان بملاحظة أحوال الجينيات، فهل يتوقع في المستقبل معالجة الجينات، ولو في أسرة واحدة لتنجبَ أجيالاً لا تموت؟

 

مراجعة الفصل الرابع

كروموسوم 4 - المصير

بطل رواية هذا الفصل أحد الجينات الموجودة على كروموسوم 4، فعدم وجوده يسبب مرضاً نادراً يؤدي إلى عيوب خطيرة في نموّ الأجنّةِ، وهو مكون من كلمةٍ واحدة متكررة، ويكاد يكون موجوداً في جميع الناس، ولا خطر في وجوده من حيث هو، ولا بد أن يكون له دور إيجابي في نمو الجسد. لكن الخطورة تكمن في تكرر كلمته أكثر من 35 مرة؛ حيث يصاب المرء في هذه الحالة بمرض خطير سمّي باسم مكتشفه «هنتجتون»، ويتناسب وقت ظهوره من العمر عكسياً مع عدد مرات التكرار الزائدة عن الخمس والثلاثين؛ فقد يظهر في سنوات العمر قبل الثلاثين وقبل الأربعين إذا كان عدد التكرار كثيراً جدّاً، وقد لا يظهر قبل الثمانين أو التسعين إذا كان ذلك العدد قليلاً جدّاً.. وهكذا، وعنوانه الجنون، ومصيره الموت المحتوم، ولا يزال الطب عاجزاً عن علاجه.

وكأن المؤلف يرى من خلال اختياره لعنوان هذا الفصل أن هذا الجين يعرّض كثيراً من الناس إلى مصير محتوم، بوجوده في خلاياهم واحتمال تكرار كلماته بطفرات تزيد عن التكرار العادي مع عجز الطب عن العلاج. ويعرض المؤلف آراء للعلماء تفيد أن تكرار الكلمة في كثير من الجينات إلى حد يختلف في كثرته من جين لآخر قد يؤدي في النهاية إلى اختلالات في الجهاز العصبي من جنس «هنتجتون» أو أخف منه. وفي ختام هذا الفصل، نجد الروح التشاؤميّة للمؤلف؛ حيث يؤكد وجود حتميّة خالصة في مرض «هنتجتون»، ولا يخفف منها التباين في البيئة، ولا يفيد فيه شيء من طيب العيش، ولا الطب الجيد، ولا الغذاء الصحي، ولا العائلات المحبة ولا الثراء العظيم؛ فيكون مصير المرء هنا في جيناته (ص 79).

وقد استدعى كلام المؤلف في هذا الفصل عن ذلك المرض الخطير الذي لم يكتشف له علاج، وتظهر مرارته العلقميّة في آخر العمر مهما كان: بعد الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أو الثمانين... أو غير ذلك. وأنه قد يقع لطائفة كبيرة من الناس، وأنه ليس للبشر أي إمكان لفعل شيء بشأنه، حتى سماه «ريدلي» بأنه لعنة على الجنس البشري. استدعى ذلك عندي خواطر إيمانية مصدرها عقليّة راسِخة في نفسي رسوخاً فطرياً وعقلياً هي: -

  • أن الإنسان مهما بلغ من العلم والجبروت فإنه يستحيل أن يقدر على معاندة خالقه، وأنه سيظل محدوداً في قدراته وفي أجله، وأن ربّه قد ابتلاه بكبد في كافة مراحل عمره، وأن أكبر طواغيت الأرض كانوا ضعفاء إذ لم يستطيعوا أن يحيدوا عن مثل هذا المرض فضلاً عن الموت، وأن يغيّروا مصيرهم المحتوم في نهاية حياتهم الدنيا، بمرض خطير يتربص بهم في آخر العمر أو بغيره من الآفات.
  • أول ما ورد في خاطري عند قراءة كلمات «ريدلي» في بعض مواقع هذا الفصل هو قوله عز وجل: {وَالله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (سورة النحل 70 وسورة الحج 5). وإذا أردت أن تدرك القرابة بين ما فصّلّهُ مات ريدلي عن مرض هنتجتون، وقوله تعالى {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}، فانظر تفسير هذه العبارة القرآنية عند علماء التفسير؛ وعلى سبيل المثال تأمل كلام ابن عطيّة الأندلسي؛ حيث يقول: "الردُّ إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانةٍ – مرض- واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات، واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات، وهذا أبداً يلحق مع الكبر. وقد يكون أرذل العمر في قليل من السنِّ بحسب شخص ما لحقته زمانة؛ وربّ من يكون ابن خمسين سنة هو في أرذل عمره، ورب ابن مائةٍ أو تسعين وليس 

    في أرذل عمره..." (تفسير ابن عطية جـ10 ص 230 وجـ 8 ص 464، 465، وانظر أيضاً كتب التفسير الأخرى مثل تفسير القرطبي وابن كثير، في آية سورة النحل 70 وآية سورة الحج 5).

جـ- ومما استدعاه إلى نفسي كلام «مات ريدلي» في هذا الفصل حديث صحيح موجود في البخاري ومسلم والترمذي ومسند أحمد وسلسلة الألباني الصحيحة، هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً"؛ هذا في البخاري، وورد في صحيح مسلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء فإذا أصاب دواءُ الداءِ برأ بإذن الله". وفي مسند أحمد: "إن الله لم ينـزل داءً إلا أنزل له شفاءً، علمه من علمه، وجهله من جهله". وفي جامع الترمذي: "إن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً إلا داءً واحدا. قالوا، يا رسول الله: ما هو؟ قال «الهِرَم»"، قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فتأمل هذه الأحاديث الصحيحة التي تحمل بشرى من الخالق عز وجل على لسان رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لبني البشر أنه لا يوجد مرض قدره الله في الأرض إلا وقد جعل له دواءً؛ وفيه كما يظهر حثٌّ لعلماء البشر على البحث العلمي ليكتشفوا الأمراض وأدويتها. وقد جاءت رواية البخاري عامّة شاملة لكل داءٍ ودوائه، ولم يرد فيها استثناء، فيدخل في البشرى مرض هنتجتون وغيره، وهو ما يؤيده ما ذكره مات ريدلي عن نانسي ويكسلر في ص 79. ولا يرد على ذلك استثناء الهرم والموت من العلاج؛ لأن الأول معناه الوقوف على حافة الأجل، وهو في معنى الموت، وكلاهما قدر الله لا يردّه أي شيء إذا جاء، والمسلم يؤمن بناء على بشرى الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل مرض سواء أكان مرض هنتجتون أم غيره له دواء. ويؤمن في الوقت نفسه أن أهل الأرض لو اكتشفوا دواء كل داء لن يُغيروا أقدار الله تعالى في آجالهم ولا حتى في أمراضهم.

 

مراجعة الفصل الخامس

كروموسوم 5 - البيئة

هذا الفصل يتفق مع قناعة المؤلف التي أفصح عنها في صدر كتابه، وعبر عنها بقوله: "إني لا أزعم أن كل شيء موجود في الجينات، أو أن الجينات مهمّة أكثر من العوامل الأخرى؛ فمن الواضح أنها ليست كذلك، وقد يجادل البعض بأن كيان الإنسان أكثر من جيناته، وأنا لا أنكر ذلك، فكل واحد منا فيه ما هو أكثر، بل أكثر كثيراً من أن يكون مجرد شفرة جينية".

ومدار الكلام في هذا الفصل عن مرض الرّبو، ودور الجينات في ظهوره. ومع أن مجموعة من الجينات على كروموسوم 5 جُعِلَ لها نصيبٌ من التسبب بهذا المرض، لكنها كما أفاد المؤلف لا تفسّر سوى 15% من الحالات. وروى المؤلف في قصة هذا المرض كثيراً من الآراء التي ربطته بجينات أخرى على كروموسومات أخرى، وكثرة الدعاوى في ذلك جعلت المؤلف يطرح احتمالاً مفاده "أن كل صنوف الجينات يمكن أن تكون جينات ربو، إن لم يكن هناك أي جين يمكن أن يُفسّر أكثر من حفنة من الحالات" (ص91). وقد كان الذي يتفق مع تلك القناعة أن ينفي سببّية الجينات لمرض الربو؛ لأن زعمه وجود هذه السببّية في كل مرة لا نجد جيناً أو مجموعة من الجينات وراء مظهر من مظاهر الحياة البشرية يعني أنه يجعل كل كيان الإنسان محكوماً بجيناته سواء كان على التحديد أو على التعميم، وهو ما يناقض قناعته المشار إليها. ويقوي القول باستبعاد الجينات عن أكثر أوضاع الكيان الإنساني هو ما طرحته الجمعيّة الأمريكيّة للرئة من عوامل ظهور مرض الربو، وجميعها ترجع إلى البيئة وذكرت منها ستة عشر عاملاً بيئياً، حتى رأت أن الربو إلى حد كبير مشكلة حضرية (ص 85). ولعلّ هذه القناعة عند المؤلف جعلته يختار "البيئة" عنواناً لهذا الفصل، ولكنه لما أراد أن يربطَها بالجينات لينسجم عنوان الفصل مع عنوان الكتاب ناقض نفسه، واحتمل أن كل صنوف الجينات تسهم في حالات الربو. وفي مكان آخر كاد يتفق مع الفكرة الشعبية التي تقول: إن الجينات فوضى.

والحق أن احتمال نفي سببّيَةِ الجينات في تكوّن مرض الربو ليس أضعف من إثباتها لها عندما يُغمُّ الأمر على العلماء في معرفة سبب ذلك المرض، ولا ينبغي الميل إلى أحد القولين بدون دليل. وليس دليلاً الفكرة الشعبية القائلة بأن الجينات فوضى؛ لأن دلالة الفوضى على أحد الاحتمالين المذكورين سواء. وعندنا في العقيدة الإسلاميّة لا يوجد مفهوم الفوضى المطلقة، وهي أخت الصدفة في تفسير أي شيء؛ لقوله تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد 8)، وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر49)، وقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى 3)؛ فالخلق كله تسوده حكمة بالغة للخالق، فإن ظهرت فوضى في نوع من الخلق فمعنى هذا أننا لم ندرك الحكمة في ذلك، وقد يأتي زمان ندركها فيه.

 

 أ.د. محمد نعيم ياسين

  في 18/8/2017م

 

[1] تمت كتابة هذ البحث في إطار المشروع البحثي "توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية (Indigenizing Genomics in the Gulf Region (IGGR): The Missing Islamic Bioethical Discourse)" بتمويل من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمسجل برقم NPRP8-1620-6-057. علما بأن المسؤولية عن البيانات الواردة هنا تقع بالكامل على عاتق من قام بتأليف البحث.

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.