الشفرة الوراثية للإنسان: القضايا العلمية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري , مراجعة الدكتور: عبد الرحمن حللي

" الشفرة الوراثية للإنسان:

 القضايا العلمية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري" [1]

مراجعة: الدكتور عبد الرحمن حللي

 

"أجد نفسي أحياناً مجبراً على أن أتساءل: هل العمل الذي أقوم به عمل أخلاقي حقاً؟"

جيمس د. واطسون

مكتشف بنية  DNA وحامل جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب عام 1962

 

بيانات الكتاب:

  • الشفرة الوراثية للإنسان: القضايا العلمية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري
  • تحرير: دانييل كيفلس و ليوي هود
  • ترجمة: د.أحمد مستجير
  • سلسلة عالم المعرفة- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت - العدد 217، ديسمبر 1997م، 403ص.

 

يُعَبِّر عنوان الكتاب "الشفرة الوراثية للإنسان: القضايا العلمية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري" عن محتواه المتنوع المتضمن ثلاثة أجزاء تشتمل على أربعة عشر فصلاً (الجزء الأول: التاريخ والسياسة وعلم الوراثة (1-2)، الجزء الثاني: علم الوراثة والتكنولوجيا والطب (3-7)، الجزء الثالث: الأخلاقيات والقانون والمجتمع (8-14(. يتناول مؤلف كل فصل منها قضية تتصل بمشروع الجينوم البشري من حيث تاريخ البحث عن الشفرة الوراثية للإنسان، أو التحديات التي واجهت هذه الأبحاث من زوايا علمية أو قانونية أو اجتماعية، وتبرز أهمية الكتاب من أهمية العلماء المشاركين فيه، من حيث مكانتهم العلمية (بعضهم حاصل على جائزة نوبل في مجال يتصل ببحوث الوراثة والجينوم)، وتجاربهم الشخصية في العمل بمشاريع البحوث ذات الصلة.

كُتِبت فصول الكتاب في التسعينيات في فترة قريبة من إطلاق "مشروع الجينوم البشري-1990"، ولئن أصبحت المعلومات العلمية المتصلة بالجينوم البشري الموجودة في الكتاب قديمة، إلا أن القضايا المركزية في الكتاب والمتصلة بالبعد الاجتماعي والأخلاقي ما تزال راهنة وملحة ولم تلق من الدرس الأخلاقي والديني ما يستجيب للأسئلة التي تطرحها هذه التطورات. ويلفت النظر في الكتاب إجماع كُتَّاب فصوله على محورية تحدي السؤال الأخلاقي والمشكلات الاجتماعية المتصلة بمشروع الجينوم البشري، وهي أسئلة تفرضها حيثيات تاريخية رافقت نشأة البحث في علم الوراثة واستمرت ولا تزال بعد اتضاح الأهمية والجدوى الإنسانية لتطوير بحوث الجينوم كمشروع.

يوضح محررا الكتاب في المقدمة أن هدف الكتاب هو حفز التفكير في مختلف القضايا التي يثيرها مشروع الجينوم البشري وليس تقديم وجهة نظر واحدة نحوه، وقد نجح الكتاب في تقديم رؤية واحدة غير مقصودة وهي التأكيد على المشكلات التي تثيرها بحوث الجينوم البشري، والتأكيد في الوقت نفسه أن هذه المشكلات لاينبغي أن تحول دون استمرار البحوث في هذا المجال،  فالمعرفة ستثوِّر تفهمنا لتنامي الإنسان.

ولاكتشاف ما يمكن أن يضيفه الكتاب للباحثين في أخلاقيات بحوث الجينوم سأبين في عرض الكتاب موضوع كل فصل من فصوله مع إبراز ما قد يثيره من أسئلة تتصل بالجانب الأخلاقي أو الاجتماعي، ثم أعقب على العرض برؤية إجمالية تتضمن القضايا والأسئلة التي يثيرها الكتاب مما له صلة بمشروع سؤال الأخلاق الطبية.

 

أولاً ـ عرض الكتاب

يتناول الفصل الأول (من تحت معطف اليوجينيا: السياسة التاريخية، دانييل ج. كيفلس- أستاذ الإنسانيات في معهد كاليفورنيا التكنولوجي، ص13-48) تاريخ البحث في علم الوراثة والحيثيات التي حفزته، وكان يسمى (اليوجينيا) وهي كلمة مشتقة من أصل إغريقي تعني نبيل المحتد أو طيب الأرومة، وتعني "اليوجينيا" مجموعة الأفكار والأنشطة التي تهدف إلى تحسين نوعية جنس الإنسان عن طريق معالجة وراثته البيولوجية، وقد اقترحها جالتون في نهاية القرن التاسع عشر بهدف التخلص من الصفات غير المرغوبة وإكثار الصفات المرغوبة وتحليل الجذور البيولوجية للتدهور الاجتماعي بغية استئصاله، فكان لها بعدان: اليوجينيا الإيجابية: معالجة وراثة البشر و/أو التربية لتوليد أناس أفضل، واليوجينيا السلبية: تحسين نوعية السلالة البشرية بتخليص العشيرة من المنحطين بيولوجياً، كالتعقيم أو المنع من دخول العشيرة. وكان أقوى التحام بين البحث اليوجيني والسياسة العامة في ألمانيا النازية بحثاً عن صحة السلالة، وبعد الهولوكست أصبحت اليوجينيا كلمة قذرة علمياً وبدت اليوجينيا أضعف من أن يدافع عنها حتى نهاية الستينات حيث أصبح البحث عن الكأس البيولوجية المقدسة قد تحرر من ماضيه اليوجيني وغدا مهنة علمية مستقلة محترمة وأصبح الاستكشاف في وراثة الإنسان يُقَدَّر من أجل ذاته وكوسيلة لتحسين فهم المرض وتشخيصه وعلاجه.

تتبع الباحث تاريخ دعم مشاريع الجينوم ومعارضته، وبيَّن حجم اهتمام الولايات المتحدة به وحجم الإنفاق عليه، وتأسيس منظمة الجينوم البشري – هوجو 1988 بسويسرا – والانتقادات المختلفة الموجهة لها لأسباب تتعلق بالتمويل، أو المركزية والتبعية الرسمية / فرنسا، أو الخوف من عودة النازية / الخضر في ألمانيا، حيث إن علم الوراثة يذكر الألمان بكل ما يودون نسيانه – حسب الخبير الاسكتلندي جيمس بيرن.

بعد مناقشات وتعديلات أقَرَّ المجلس الأوربي عام 1990 موقفه العام بقرار يلزم الجماعة الأوروبية للجينوم البشري بأشياء تحرم بحث الخط الجرثومي البشري والتدخل الوراثي في الأجنة البشرية لتجنب الممارسات اليوجينية، ومنع العثرات الأخلاقية، وحماية حقوق الفرد وخصوصيته، مع نشر تقارير سنوية على الأساس الأخلاقي والقانوني لبحوث الجينوم، مع تخصيص 7% من التمويل للدراسات الأخلاقية المتصلة ببحوث الجينوم. نفس الجدل والمخاوف انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ففي عام 1988 تم تخصيص 3% من ميزانية مشروع المجلس القومي للصحة لدراسة الجينوم بأمريكا للقضايا الاجتماعية، وفي عام 1990 تم تشكيل لجنة استشارية للأخلاقيات.

إن هذا الفصل يكشف عن النشأة غير الأخلاقية للبحوث في علم الوراثة، وما أورثته من ممارسات تمييزية بين الناس، وكيف أثرت هذه الحيثيات السلبية حتى أصبح الاهتمام ببحوث الوراثة تهمة قبل أن تتحرر منها وتعود إلى حقل العلوم التي تسعى إلى خدمة صحة الإنسان، لكن السلبيات التي رافقت النشأة يمكن استعادة تطبيقها في أي وقت ما لم تنضبط البحوث وتطبيقاتها بقوانين وضوابط  صارمة، وهذا ما سعت إليه الدول التي أقرت قوانين تنظم هذه البحوث، وأعطت البعد الأخلاقي والاجتماعي أهميته في مشاريع البحوث.

 

يتناول الفصل الثاني (تأريخ للأسس العلمية والتكنولوجية لخرطنة الجينات، هوراس فريلاند جدصون- باحث أول في برنامج تاريخ العلوم في جامعةستانفورد، ص49-92) التأريخ العلمي لتطور البحث في القضايا الجينية، ويخلو الفصل من أية أبعاد اجتماعية أو أخلاقية، يُبرز فيه المؤلف هدف علم الوراثة وهو تفسير الطريقة التي تُوَرِّث بها الكائنات الحية إلى سلانها صفات التشريح والفسيولوجا والسلوك، والكيفية التي يعبر بها الفرد عن هذه الصفات أثناء تكونه وعبر حياته، هذا العلم هو القضية الرئيسية للبيولوجيا.

 

أما الفصل الثالث (رؤية للكأس المقدسة، والتر جيلبرت- حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1980، ص93-106) فيبسط فكرة سَلسَلة الجينوم البشري بأنها "محاولة لتحديد الجينات التي تجعل منا بشراً"؛ كيف يتنامى الإنسان من البويضة؟ ماذا بالضبط يُعَيِّن الكائن البشري؟ ماذا يجعلنا بشراً؟ يجيب مشروع الجينوم البشري عن هذا السؤال الثاني: كيف نختلف نحن عن بعضنا بعضاً؟ والجدوى هي اكتشاف تشكيلة من استعدادت البشر للإصابة بالأمراض التي ترجع إلى أصول وراثية، وبالتالي القدرة على تطوير دواء مفصل خاص للفرد دون آثار جانبية. لكن البحوث التي تقود إلى هذه الغاية يمكن أن يكون لها آثار اجتماعية عنيفة جداً، ومشاكل ليست مما لا يمكن تخطيه في مجتمع ديمقراطي.

فتشخيص ما قبل الولادة يُصَعِّد المناقشات حول الاجهاض، واكتشاف الجينات المؤثرة في تحمل بعض الأعمال كالحساسية سيؤثر في مواقف شركات التأمين في تغطية بعض الأمراض، فهل يسمح لشركات التأمين وجهات التوظيف اسخدام التحليل الوراثي والاستناد إليه؟ هل ستثير قدرتنا على تحليل البنية الوراثية للأفراد في محاولة تمييز الأشخاص الأفضل؟ وبالتالي إثارة العنصرية.

ويختم الفصل بأنه ينبغي ألا نكون عبيد المعلومات الوراثية، ويصف الحتمية الوراثية بالضحلة وغير الحكيمة وغير الصحيحة وأن "على المجتمع أن يتصارع مع قضية: كم من تركيبنا تمليه البيئة، وكم تمليه الوراثة، وكم تمليه إرادتنا وعزيمتنا".

 

يعرض الفصل الرابع (التحديات أمام التكنولوجيا والمعلوماتية، تشارلز كانتور- مدير مركز الجينوم في بيركلي، ص107-122) الصعوبات في إجراء التجارب على الإنسان وأجياله بسبب طول الحياة البشرية وللاعتبارات الأخلاقية، فـ"البشر حيوان تجارب رديئ للغاية"، ووصف البشري لمشروع الجينوم لا يخصه فيشمل حيوانات أخرى، ويرى أن من أخطر القضايا الاجتماعية التي يثيرها مشروع الجينوم هي العجز في مواجهة المعلومات، فمن الضروري أن نحمي حق الفرد في رفض التشخيص، فثمة دقة في المعلومات بحيث يمكن تمييز أي إنسان على وجه الأرض بدقة بالغة من شعرة واحدة أو حيوان منوي واحد، واستقراء ما يكفي لرسم صورته، وبالتالي فتخزين المعلومات الوراثية يشكل تهديداً لخصوصية الفرد، لذا كان من الهيئات المهتمة بمشروع الجينوم مكتب الاستخبارات الفيدرالي. ويستعرض معظم البحث نماذج أخرى من الصعوبات العلمية والمالية مقارنة بالطموحات التي يمكن أن تبنى على نتائج بحوث الجينوم.

 

يؤكد الفصل الخامس (طب أساسه الدنا: الوقاية والعلاج، س. توماس كاسكي - أستاذ ورئيس معهد الوراثة الجزيئية في كلية الطب ببايلور، ص123-144) أن مشروع الجينوم يحمل بداخله نجاحه في فهم بيولوجيا الإنسان المحددة وراثياً، مع التأكيد أنه لا بد أن نحمي الفرد من أية مضاعفات سلبية قد تنشأ عن إذاعة المعلومات، كعدم موافقة شركة التأمين على التأمين عليه صحياً، أو كحرمانه من وظائف معينة، فللفحص الوراثي أثره السلبي على إمكانية التأمين، فهل يعتبر المرض الوراثي حالة مرضية مسبقة؟ فتؤثر على تكاليف الرعاية والتوظيف، هذا فضلاً عن أثره على نفسية من يكتشف أنه سينزل به مرض عند البلوغ .

ثمة فروق يؤكدها الأطباء ورجال الأخلاق بين التنبؤ بمرض يظهر في الطفولة وآخر لا يظهر إلا في البالغين، ولا بد من تعيين الأمراض التي تكتشف قبل ظهور أعراضها، ثم تحديد نسبة المنفعة مقابل المخاطرة في استخدام التكنولوجيا الجديدة. ويدعم المؤلف فحص المواليد عند الولادة كلما أمكن لتوفير الرعاية للمصابين. لكن المؤلف لا يثق بأمان بنوك المعلومات الوراثية، ويرى أنها بحاجة إلى الكثير من الجدل والنقاش. فنتائج الاختبار الوراثي سجل طبي خصوصي وشخصي، إلا أن قيام احتمال أن تستغل المعلومات الوراثية بشكل سيء ليس عذراً نوقف به العمل في المشروع. لا بد أن نتوقع المشاكل حتى نكون مستعدين لمواجهتها. ومن الأسئلة التي يثيرها كاتب الفصل أن نقل الجينات إلى الأجنة البشرية سيثير الكثير من المخاوف الأخلاقية، كالمخاطرة بالأذى الآن مقارنة بالمنفعة الصحية للأجيال القادمة.

 

يناقش الفصل السادس (البيولوجيا والطب في القرن الواحد والعشرين، ليروي هود - أستاذ البيولوجيا الجزيئية في جامعة واشنطون ص145-166) آفاق العلاقة بين بحوث الجينوم والعلوم الأخرى التي من شأنها أن تسرع في تطبيقات البحوث البيولوجية، والسؤال الذي طرحه الكاتب – في حينه – كيف يمكن جذب عدد أكبر من العلماء في الأفرع الأخرى من العلوم للاشتراك في هذه المجهودات؟ ويتابع الحديث عن مستقبل الطب الوقائي الذي سيمكن معظم الناس من أن يحيوا حياة طبيعية صحية نشيطة ذهنياً، دون مرض، إذا ما توفر لكل جين معطوب أنظمة علاجية تطوق حدوده. وبخصوص الصناعة ستوفر معرفتنا عن المائة ألف جين بشري ذخيرة علاجية ضخمة يمكن بها للصناعة الدوائية أن تهاجم نواحي جوهرية من أمراض الإنسان. وسياسياً سيعزز تقدم الولايات المتحدة في مجال البيوتكنولجيا في تأكيد احتفاظها بقيادة العالم، إذا ما كان هناك التزام وطني بتدعيم جهود البحوث طويلة المدى وتدعيم ما ينجم عنها من فرص تجارية محتملة.

 

يعرض كاتب الفصل السابع (رأي شخصي في المشروع، جيمس د. واطسون – حامل جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب عام 1962، ص167-176) تجربته الشخصية في بحوث الجينوم كمكتشف لبنية الدنا / DNA يقول "أجد نفسي أحياناً مجبراً على أن أتساءل: هل العمل الذي أقوم به عمل أخلاقي حقاً؟" ويستعرض أسباب معارضة مشروع الجينوم – في حينه – والتي كانت متصلة بالتمويل الضخم له على حساب تمويل مشاريع علمية أخرى، ويضيف أنه لولا هذا التمويل ما وصلنا لما وصلنا إليه، ويشير إلى التفريق بين الإنفاق على علاجات الأمراض وبين الإنفاق على الكشف عن مسبباتها الجينية، وإلى مشكلات تملك براءات الاختراع في الكشف عن سلالات بعض الأمراض واحتكار النتائج مقابل المال، ويأمل أن تشترك في المشروع دول كبرى.

ثم ينبه إلى المشاكل الأخلاقية الخطيرة، فينبغي أن يحمي القانون خصوصية كل شخص وأنه الوحيد الذي يسمح له النظر في الدنا الخاص به، لكن الأخلاقيات تبدو معقدة في حالة الكشف في طفل وليد جيناً يسبب مرضاً لا علاج له. لاسيما إذا كان الكشف ينتج عنه تمييز في وجه من الوجوه. ويختم الفصل بالتأكيد على التضمينات الاجتماعية لبحوث الجينوم وحماية الخصوصية، وأن الخوف من المعلومات لا ينبغي أن يحول دون استمرار البحوث، فمعرفة الجينوم البشري أفضل للناس من الجهل به.

 

يستعرض الفصل الثامن (القوة الاجتماعية للمعلومات الوراثية، دوروثي نيلكلين – أستاذة بجامعة نيويورك في قسمي الاجتماع والحقوق، ص179-194) الجهات التي تستفيد من الاختبارات التي تتنبأ بالطريقة التي عمل بها الجسم، والتي نتوقع أن يعمل بها الجسم خلال حياة الفرد، من هذه الجهات: أصحاب الأعمال وشركات التأمين والمدارس والمحاكم، ... وكل الجهات التي تطمح إلى رفع الكفاءة الاقتصادية وخفض المصروفات. فالاختبار لم يعد مجرد اختبار طبي إنما هو طريق لخلق فئات اجتماعية وحفظ تنظيمات اجتماعية قائمة، وتعزيز سيطرة الجماعات السياسة والاجتماعية، وتشكيل الأفراد تبعاً للقيم المؤسسية. وتحويل الثقافة الشائعة إلى مثال بيولوجي أعلى يقاس عليه الأفراد. ثمة اعتقاد راسخ بأن السلوك البشري المعقد يمكن أن يختزل إلى تفسيرات بيولوجية أو وراثية. فمن بين الصفات التي نسبت إلى الوراثة سنجد: المرض العقلي، الشذوذ الجنسي، الإجرام، النجاح في العمل، التعدي، ... مع أقل إشارة إلى الأثر الاجتماعي.

من أمثلة المشكلات الاجتماعية التي تعرضها الباحثة وسم بطيئي التعلم بأنهم معوقون بالفطرة وهذا يصمهم بالعار ويصرف الانتباه بعيداً عن التفاعلات الاجتماعية التي تؤثر في التعلم بلا شك. وتقنيات الفحص التي تحدد من لديه الاستعداد للأمراض الوراثية قد تصبح وسيلة رخيصة لتقليل دعاوى التعويض وتفادي تكاليف علاج العاملين وعائلاتهم. ولهذه الفحوصات تقديرات أكثر صلابة من الرأي الوصفي للطبيب النفسي، وهي أكثر من مجرد مصدر للشواهد في النظام القضائي، فلها تأثيرها في المفاهيم القانونية التقليدية، كقضايا الأحوال الشخصية والإرث والقانون الجنائي وتحديد المسؤولية، وفي التنبؤ البيولوجي للسلوك الإجرامي. وفي مجال رخصة القيادة فإن الخطر الوراثي للإصابة بمرض قد تمت معادلته بالإصابة نفسها حتى في غياب أعراض واضحة للمرض.

كما يمكن أن نجد عائلات تبحث عن جذورها الوراثية، والراغبون في تبني الأطفال قد ينقبون عن التاريخ الوراثي للأطفال، ويمكن أن تقوم شركات بتخزين وبيع المعلومات الوراثية لمن يهمه الأمر. حتى إن الطبيب قد يقوم بدور العميل المزدوج بين الولاء للمرضى والولاء للشركة التي يعمل بها. مما يزيد مآزق الأخلاقيات المهنية.

ستخلق الاختبارات فئة من الناس مرضى أعراضهم مؤجلة، وحتى مع دقة الاختبارات وقبل اتخاذ الإجراء الاجتماعي المناسب، فما هي درجات التلازم بين الأعراض المتوقعة وبين ما يبنى عليها من إجراءات؟ كيف نوازن بين الحاجات المؤسسية وبين حقوق الإنسان؟ ما الطبيعي وما الشاذ؟ مقاييس من ستسود؟ وتختم الفصل بقولها "إننا نخاطر بخلق طبقة وراثية دنيا".

 

يعرض الفصل التاسع (بصمة الدنا: العلم، والقانون، ومحقق الهوية الأخير ،  إيرك لاندر – مدير مركز بحوث الجينوم في معهد ماساتشوستس التكنولوجي، ص195-212) الأخطاء والمشكلات التي تحدث عند تحليل الدنا من خلال نماذج اطلع عليها الكاتب، ويحذر من إقرار الهيئات التشريعية قوانين تجيز بصمة الدنا أوتواماتيكيا دون أدنى اهتمام بتعريفها. في حين أن تحديدها ليس تقنية أحادية إنما مجموعة متباينة من الطرق كل منها يقع في مرحلة خاصة من التطور وقبول أي نمط منها دعوة إلى الأذى.

قد يصبح الدنا هو رقم الضمان الاجتماعي، ويمكن أن يستعمل لتحديد هوية المجندين. ويحذر من أن انتشار قواعد البيانات الدنا سيشكل تحديا لحق الفرد في السرية بالنسبة لنظام القضاء الجنائي، كحالة الكشف عن القاتل من خلالها. فبصمة الدنا مأثرة هائلة قدمتها البيولوجيا لنظام القضاء الجنائي. ويختم الفصل بالقول "من الحكمة أن نحترس من الثقة الزائدة في التكنولوجيا، فضلاً عن الاستخدام المتحيز لها" و "من الحكمة أيضاً أن نفكر ملياً وعميقاً في طريقة نواجه بها ما يطرحه التصنيف بالدنا من تحديات للحريات المدنية".

 

يتضمن الفصل العاشر (الاستبصار والحيطة: ترجيعات من مشروع الجينوم البشري، ماري ويكسلر -  ص213-246) بحثاً تطبيقياً على مشكلات تقنية واجتماعية لمرض هنتغتون، وتمهد كاتبة الفصل لهذه المشكلات بملاحظة أن اكتساب المعارف الوراثية يسبق بكثير تجميع القوى العلاجية. ثم يعرض مشكلتي الولادة الخطأ بادعاء الوالدين على الطبيب بعدم تقديم المعلومة اللازمة لتقدير الصواب في بدء الحمل أو استمراره، والحياة الخطأ بادعاء الطفل أنه لم يكن له أبداً أن يولد. هل يمكن اللجوء إلى التهديد باللجوء إلى القضاء لضمان الممارسة الطبية الجيدة؟

ثمة اعتبارات كثيرة تؤثر في طبيعة الخدمات الوراثية ونوعيتها، كتوقيت إعطاء المعلومة، مثلاً بالنسبة للأمراض التي لا تحل إلا متأخراً كمرض هنتغتون، فللمعلومة أثر خطير على حياة الفرد، وعلى العائلة أيضاً. كأنك تفرض حَجراً على مريض وليس لديك علاج ولا وقاية. وكأثر الاختيار الفردي للاختبار على العائلة من حيث الكشف عمن يمكن أن يصاب بنفس المرض، فاختبار فرد في عائلة ما إنما يعني أن تختبر العائلة بأكملها، ويعني أنهم جميعاً سيتحملون نتائجه، وثمة مشكلة تنازع العائلة في قبول إجراء الاختبار أو عدمه أو قبوله بشروط، ماذا لو كان من يريد الاختبار توأماً؟ والآخر يرفضه، ولا ضمان لسرية المعلومة لو تم الاختبار واكتشفت الإصابة.

تنقل المؤلفة أنه تمت استشارة علماء الأخلاقيات في بعض هذه الحالات وقرروا أن استقلال الذات أعلى درجة من الخصوصية في معايير الفضائل الأخلاقية، لكنها ترى ألا علاقة لاستقلال الذات أو الخصوصية بالموضوع، ماذا لو سمع التوأم الحقيقة فانتحر؟ وترى أن فورية الواقع السيكولوجي للفرد لا بد أن تكون لها الأسبقية على القيم والقضايا التجريدية النظرية، وتقترح أنه لا بد للأخصائي في اختبارات ما قبل ظهور الأعراض أن يُدَرَّب على العلاج النفسي حتى يتمكن من تقديم العون عند تحديد أفضل الحلول للأفراد وللعائلات ككل.

مثلاً: يشعر كثير من آباء المهددين بالمرض بأنهم مذنبون  ومسؤولون عن حالة أبنائهم رغم أنهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن مرض هنتجتون عند ولادة أبنائهم. وثمة مشكلات في اختبار الأولاد القصر، مثال: امرأة تطلب التحليل لولديها لأنها تمتلك قدرة على تعليم واحد فقط منهما بجامعة هارفرد. ثمة إشكال آخر عندما تتأرجح نسبة الإصابة بالنسبة للجنين ويقرر الأبوان استمرار الحمل فإذا ظهر المرض لاحقاً على الأب انكشفت الهوية الوراثية للجنين أيضاً.

يصعب أن يتعلم الناس أن "المصادفة لا ذاكرة لها" وأن ما قد حدث في حمل سابق لا صلة له بالحمل اللاحق، وأن لكل فرد الخطر الذي يهدده شخصياً ولا علاقة له بما حصل لإخوته. وتلاحظ الكاتبة أنه من المستحيل أن تجري اختباراً إكلينيكياً غير متحيز إذا عرفت التركيب الوراثي. وتتساءل: هل معرفة الأخبار الطيبة (عدم الإصابة) تحتمل مخاطرة سماع الخبر السيء (الإصابة بالمرض)؟ وتختم بالقول: "قد نحظى لفترة بعالم هو أسوأ العوالم – علاجات أو لا علاجات، آمال وتوقعات قد لا تكون واقعية، مضاعفات تأمينية –– كل ما يتحدى إبداعيتنا وقدراتنا.".

 

تفرق مؤلفة الفصل الحادي عشر (التكنولوجيا الوراثية والخيار التناسلي: أخلاقيات لحرية الإرادة، روث شوارتز  كوان- أستاذة التاريخ بجامعة ولاية نيويورك،  ص247-266) بين معلومات داخلية تتصل بالجانب العلمي، وأخرى خارجية تتصل بالجانب الأخلاقي والاجتماعي وهي مجال البحث، فالأبعاد الاجتماعية والأخلاقية لمشروع الجينوم مرتبطة بالأبعاد الاجتماعية والأخلاقية للاجهاض والحديث عن التشخيص ما قبل الولادة. وتلاحظ أنه ثمة أهداف مخبوءة في النظم التكنولوجية: المنافسة، تأمين الوظيفة، الغرور، الرشوة، السيطرة على السوق، التحكم في البراءات. وينبغي على المستهلك الحكيم أن يبحث عن هذه الأهداف، وبالمقابل ثمة نتائج غير مقصودة للنظم التنكولوجية بعد انتشارها يبدعها الناس والمجتمعات المعقدة، لكن ينبغي توقع بعض هذه النتائج وألا تقودنا لليأس.

تشير الكاتبة إلى تعارض بين مبدأين من مبادئ الأخلاقيات الطبية، الأول: ألا تضر، والثاني: أن تحترم إرادة المريض، مثال: الامتناع عن الاجهاض بسبب تفضيل جنس الوليد، فهذا يناقض مبدأ أخلاقيا طبياً بأن تكون استشارتهم غير موجهة. فالأخلاقيون المعياريون يهتمون باستنباط القواعد الأخلاقية، أما الأخلاقيون اللامعياريون (مثال: الأخلاقيات النسائية) فيبحثون فيما يفعل الناس حقاً، وكيف يفسرون ما يفعلونه في مواقف أخلاقية بذاتها.

مبدأ "الرعاية تهم" يعطي أولوية خلق أفراد مستقلين ذوي إرادة، ورعاية الذات "أن تكون لنفسك حتى يمكنك أن تكون أفضل لغيرك"، ومعارضة إجهاض جنين مبتلى لعلة الأنانية يستجيب لسياق نظام أخلاقي لا يعطي أولوية للرعاة والرعاية ويقدم تضحية الفرد من أجل أهداف الجماعة، وهو ما يأمل الأخلاقيون النسائيون في أن يبطلوه.

تتساءل أي من النتيجتين نخشاه أكثر؟  أن يختار الآباء بحرية خصائص من سيولد من نسلهم؟ أم مستقبل فيه من الأسباب ما يحرم المرأة من المعلومات عن جنينها وما يمنعها من الإجهاض إن أرادت؟

إن من اكتشفوا تشخيص ما قبل الولادة لم يكونوا سعداء بما آل إليه اكتشافهم، ولو أنهم كتموا معلوماتهم لوقعوا في مأزق أخلاقي. وتختم الفصل بقولها: "في القرارات التكاثرية. إذا كان لتاريخ القرن العشرين أن يعلمنا شيئاً فهو أننا نحن الأفراد قد نتصرف حقاً بحماقة، لكن حماقتنا أبداً لن تبلغ مدى حماقة الحكومات!"

 

يسلط الفصل الثاني عشر (التأمين الصحي والتمييز الوظيفي وثورة علم الوراثة، هنري ت. جريلي- أستاذ القانون بجامعة ستانفورد، ص267-284) الضوء على أخطاء في تحديد مصدر المشكلة من ناحية الآثار المالية المتعلقة بالتأمين، فهي ليست في الثورة الوراثية إنما في تزايد قدرتنا على التنبؤ بصحة الفرد، والنتيجة ليست التحيز بل تناقص التغطية الصحية وعدم اكتشاف البدائل الأخرى. وهذا التنبؤ بالأمراض لا يقتصر على البحث الجيني فهناك طرق كثيرة أخرى، كالتي ترتبط بالعدوى كالإيدز الذي تتأخر أعراضه سنوات. وإن مخاطر التنبؤ أياً كان مصدره تتمثل في التحيز والفواتير المفزعة، لكن – يتساءل المؤلف – لم القلق "تمتلئ الحياة بالظلم والتحيز، والكثير من هذا الظلم يرتبط ارتباطاً لا ينفصم بخصائص الشخص المتأصلة، لكن مجتمعنا لا يبذل أي مجهود حقيقي لتسوية معظم التفاوت بين الناس. فلماذا إذاً يختلف الأمر بالنسبة للتنبؤ بالمخاطر الصحية؟" ويقترح ثلاثة أنواع من الاصلاحات تزيل التحيز أو تقلله: تأمين صحي إجباري تموله الضرائب، أو دعم الموظفين المهددين بمخاطر صحية عالية، أو التسعير الجماعي لشركات التأمين.

 

تشير مؤلفة الفصل الثالث عشر (الطبع والتطبع ومشروع الجينوم البشري، إيفلين فوكس كيلر – خبيرة القضايا الاجتماعية للعلم، أستاذة في جامعة كاليفورنيا بيركلي، ص285-304) إلى فصل علماء الوراثة بين المعارف الوراثية وبين استخداماتها، وتبسط بعض الأمور بارجاعها إلى معانيها ودلالاتها المباشرة، فقد "كانت النظرة التقليدية تقول إن الطبع يورِّث النصيب والقسمة، وأن التطبع يورث الحرية، يبدو لنا الآن أن الطبع والتطبع قد تبادلا الأدوار"، ففي ضوء الابتكارات البيولوجية يتوقع أن نتحكم في الأول لا في الثاني.

إن العلاج هو على أفضل الأوضاع هدف بعيد المدى والوقاية لا تعني إلا منع ولادة أطفال يحملون شذوذاً وراثياً، فكلمة الوقاية تعني الاجهاض، والاختبارات التي يطلب من الأفراد اختيارها لا تتعلق بصحتهم هم أنفسهم وإنما من أجل صحة نسلهم.

"إن الحرية التي تعد بها البيولوجيا الجزيئية هي حرية أن ننبش في مجال القضاء والقدر الملازم للجينات المسببة للأمراض باسم معيار غير محدد للحالة السوية – معيار بقي دون أن يفحص بالمراقبة، ولا بالمنطق الداخلي للاجتهاد. ولا يمكن أن تحدد الحالة السوية في مثل هذا الاجتهاد إلا بنقيضها – بغياب الآليات التي يقال إنها تسبب المرض" .

 

يختم محررا الكتاب بالفصل الرابع عشر (تأملات، دانييل كيفلس و ليوي هود ص305-335) بملاحظات تعلل بعض المواقف من مشروع الجينوم وتبين التحديات التي يفرضها، فوصف مشروع الجينوم البشري بأنه علم رديء يأتي على خلفية امتصاصه التمويل، ووصفه بأنه من العلم الكبير يصرف الانتباه عن قضايا شائكة تحيط به اقتصادياً واجتماعياً ولئن لم يكن هو الذي خلقها لكنه ساهم في تفاقمها، وبالمقابل تفتح المعلومات والبيانات التي يولدها احتمالات تجارية عالية، ولئن كان من المستبعد في الديمقراطيات المعاصرة أن تتقبل اليوجينيا، إلا أن معرفة الوراثيين ليست أفضل بما فيه الكفاية ولا بد من تضمينات اجتماعية وأخلاقية للبحوث الوراثية، والتصور الشائع أن هندسة أفراد كأينشتاين أو حتى تحسين الذكاء فكرة منافية للعقل، وهندسة جينومات حسب الطلب مستبعدة في المستقبل القريب، وفيما يخص مواجهة مشكلات التأمين يعزز مشروع الجينوم فكرة تحويله إلى نظام جماعي تكافلي، فإن علم وراثة الإنسان فيما يخص قضايا السلوك قد ينتج معلومات قد تكون خاطئة، أو متفجرة اجتماعياً، أو تحمل كلا الصفتين. ويوصيان أنه من الحكمة السياسية ومن الضرورة أن يمضي مشروع الجينوم جنباً إلى جنب مع نوع من التقييم والكبح الأخلاقي.

 

ثانياً ـ تقييم الكتاب، وعلاقة الكتاب بمشروع سؤال الأخلاق الطبية

رغم مضي عقدين على تأليف الكتاب، فإن أهمية محتواه ما تزال مهمة للمعني بالدرس الأخلاقي لقضايا الجنيوم،  فالحيرة الأخلاقية والوعي بالمشكلات الاجتماعية رافقت علم الوراثة منذ بداياته، ولم يكن ذلك على سبيل الافتراض، إذ كان التوظيف غير الأخلاقي لهذا العلم عائقاً أمام تطوره في مرحلة ما بعد النازية، ويكشف الكتاب عن عمق وعي علماء البيولوجيا بمخاطر التوظيف السلبي لأبحاثهم، والذي ظل يقلقهم وهم يتابعون اكتشافات واعدة تخدم صحة الإنسان. فيعيش العالم البيولوجي صراعاً داخلياً بين الطموح الإيجابي بخدمة صحة الإنسان والخوف السلبي من احتمال التوظيف غير الأخلاقي، لذا كان العلماء أنفسهم هم من ألحوا على تخصيص جزء من تمويل مشاريعهم العلمية للدراسات الأخلاقية والاجتماعية، واستشارة المعنيين بهذه القضايا.

ثمة قضايا واسئلة يمكن استخراجها من الكتاب، ويمكن عدُّها محورية في الدراسات الأخلاقية الطبية عموماً وفي مشروع "توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية" خصوصاً، من هذه القضايا الجديرة بالمراجعة والدرس الفقهي والأخلاقي :

 

أولاً-أهمية بناء سلم للمبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية:

تكشف قراءة الكتاب عن قلق أخلاقي في تقرير الموقف من آثار بحوث الجينوم عبَّر عنه عدد من الباحثين، ومصدر هذا القلق تنازع عدد من المبادئ والقيم الأخلاقية في الحكم على الأثر المترتب على البحث الجيني في كل حالة، كـ"الحق الشخصي والخصوصية"، و"حق الرعاية"، و"استقلال الذات"، و"أولوية الواقع النفسي للفرد على القيم والقضايا التجريدية النظرية"، وحق الفرد وحق العائلة وحق الجماعة لاسيما في حال تنازعها، وتنازع المصالح المستقبلية والمخاطر القريبة المترتبة على الاختبار الجيني، سواء بالنسبة للأفراد أو الجماعة، بل ثمة جدل في المرجعيات الأخلاقية بين اتجاه معياري واتجاه يستند إلى واقع الحياة، إضافة إلى تنازع المصالح الاقتصادية للأفراد والشركات والدول كذلك.

ولئن كان الفقه الإسلامي يمتلك منظومة مقاصد الشريعة التي توازن نظرياً بين المصالح والأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين، إلا أن الغالب فيها مراعاة الجانب الحقوقي بالدرجة الأولى، وبالنظر إلى توسع المصالح وتعقُّد أوجه النظر إليها، لاسيما في قضايا مثل آثار بحوث علم الوراثة، ما استقر منها وما يمكن أن يكتشف مستقبلاً،  يبدو أن  الدراسات الإسلامية بحاجة إلى حقل جديد من الدراسات يُعنى بدراسة المعايير الحقوقية والأخلاقية ومراتبها بما يُمَّكن من المقايسة عليها في تقييم آثار بحوث الجينوم بالخصوص، ومقارنة ذلك بالمعايير القانونية والأخلاقية التي استنتدت إليها تشريعات الدول التي اعتنت بتقنين تطبيقات بحوث الجينوم. ولا تغني عن هذه الحاجة البحوث الجزئية التي اجتهد فيها فقهاء معاصرون في تقرير أحكام بعض الحالات، فآثار بحوث الجينوم – التي يتجاوز عمرها القرن من الزمان – لم تعد من قضايا النوازل التي تعالج جزئياً بالفتوى وتقرير الحالة، بل أصبحت موضوعاً استراتيجياً سيترك آثاره في الصحة والمجتمع والاقتصاد والسياسة، في حاضر الأفراد والجماعات ومستقبلها، ولا بد من تقرير مرجعيات معيارية يمكن من خلالها تقييم تلك الآثار، وتقييم المنظومات الأخلاقية والقانونية التي عالجت هذه الآثار، ولئن كان علماء الوراثة أنفسهم قد أدركوا أهمية الجانب الأخلاقي فخصصوا جزءا من تمويلهم لدراسته، فحري بالمتخصصين بالدرس الإسلامي والأخلاقي أن يولوا هذا الجانب حقه من العمق والدرس الجامعي المتخصص.

 

ثانياً-مراجعة مفهوم الكفاءة في الزواج:

تعد مسألة التمييز العرقي موضوعَ النقد الأخلاقي الأبرز للتوظيف التاريخي والمحتمل لعلوم الوراثة، ويعد هذا النقد من جوهر ما تدعو إليه الأخلاق الإسلامية من المساواة بين البشر وحصر تفاضلهم بالتقوى، إلا أن هذا النقد جدير أن ينسحب إلى مباحث في الفقه الإسلامي تقوم أساساً على اعتبار صريح للنسب في مبحث شرط الكفاءة في الزواج، وإقرار هذا الاعتبار لدى جمهور المذاهب الفقهية يستند إلى المصالح أكثر من استناده إلى الأدلة والنصوص، والتي تقتضي خلافه، فإقرار هذا الاعتبار – والذي هو جار في أعراف بعض المجتمعات المسلمة– ليس إلا وجهاً آخر من السعي التاريخي في بحوث الوراثة (اليوجينيا) وراء النقاء العائلي، والذي كان سبب السمعة السيئة لبحوث الجينوم ما قبل السبعينات.

إن القارئ لمباحث الكفاءة الزوجية المتصلة بالنسب (يمكن النظر لخلاصتها في مصطلح "الكفاءة" في الموسوعة الفقهية الكويتية) ليلحظ ضعف المستندات والأدلة في اعتبار خاصية النسب في الكفاءة، ويلحظ تقديم الأعراف والتقاليد والمبررات الأخرى لإقرار هذه الخاصية، والأمثلة التي أوردوها تؤكد على حجم التمييز غير الأخلاقي بين أصناف الناس، وهم المسلمون بطبيعة الحال، فثمة فرق بين القرشي وغير القرشي من العرب، وتفضيل للعربي على الأعجمي،  فضلاً عن التفريق بين الأحرار وغيرهم، أو من موالي من ذكر.

إن وهن الأدلة الشرعية للتمييز النَسَبي في الكفاءة في الزواج الذي راعاه معظم الفقهاء (ما عدا مالك وسفيان الثوري وآخرون)، لا يقلل من أهمية نقد هذا المبحث ومراجعته، وبيان التبريرات الأخلاقية التي اعتمدها الفقهاء، وهم أنفسهم من وضعوا معيار الكفاءة في الدين أولاً، ويعزز هذه الأهمية قبول هذا المنظور في الأعراف والمجتمعات الإسلامية على مستوى الممارسة، في الوقت الذي تنتقد فيه النزعات العنصرية في بلدان غير إسلامية.

ثمة أسئلة أخرى يمكن أن تضاف للنقاش في هذه الزاوية: هل يمكن التفرق بين الاختيار الشخصي الفردي على المستوى العائلي وبين الاختيار المجتمعي / السياسي؟  ما المعايير للتفريق بينهما؟ وهل يمكن تبرير شيء من الاختيارات الشخصية التي تقتضيها الأعراف الاجتماعية مما له صلة بالفروق الجينية بين الناس؟ ولو تم تبرير شيء من ذلك فهل يمكن السماح بتوظيف بحوث الجينوم في ذلك ضمن ضوابط معينة؟ وأسئلة أخرى تثيرها بعض الأحكام الفقهية المتصلة ذات الصلة، وهي أسئلة أخلاقية بالدرجة الأولى.

 

ثالثاً-التنبؤ الجيني والكشف عن الغيب الصحي:

إن بحوث الجينوم تتمحور في جوهرها حول التنبؤ بالمستقبل، سواء ما تعلق منه بحال الفرد نفسه أو حال نسله، ولهذا التنبؤ آثاره الإيجابية (كالوقاية المحتملة) وآثاره السلبية (كالقلق النفسي لمعرفة مخاطر آتية دون وجود حلول وقائية آنية أو علاجية عند حلولها)، والتقييم الأخلاقي هنا يتجه إلى بعدين: الأول تحرير علة النهي عن التنبؤ بالمستقبل عن طريق العرافين والمنجمين حتى وإن صدقوا، فهل العلة لفساد الوسيلة (العرافة والكهانة) وعدم علميتها أو للمشكلات العقدية التي ترافقها؟ أم العلة ترتبط بأصل التنبؤ لآثاره السلبية على سلوك الإنسان نفسياً (قد تؤدي معرفة المستقبل المرَضي عن طريق التحليل الجيني للانتحار)، أو عقدياً من خلال الميل إلى التفصي من المسؤولية والاتكاء على العقيدة الجبرية خلطاً بين القضاء والقدر وبين الأسباب والنتائج؟ البعد الثاني: الموازنة بين المصالح المستقبلية، والتي بعضها لا يزال محتملاً (اكتشاف عقاقير مناسبة للأمراض المتوقعة للفرد موضوع الاختبار الجيني) والمخاطر الآنية المترتبة على المعلومات التي يكشفها الاختبار وهي في معظمها نفسية وعائلية ومجتمعية فضلاً عن التحيز المحتمل ضد مريض المستقبل.

 

رابعاً-المسؤولية وحقوق المعلومات:

تترك آثار الاختبار الجيني أسئلة حائرة في ضبط المسؤولية عن الآثار الصحية المستقبلية المحتملة، ومن ينبغي أن يبادر لتلافيها؟ مسؤولية الدولة عن صحة المجتمع، مسؤولية الفرد عن صحته، مسؤولية الأبوين عن صحة طفلهما ونسلهما، متى يصبح من الواجب اتخاذ أسباب الوقاية؟ وماذا يترتب على إهمالها؟ هل من فرق بين مستويات من الأمراض بعضها محتملة وأخرى غالبة؟ ماذا لو تنازعت رغبة الوالدين في الإنجاب مع غلبة الظن أن ولدهما سيكون معاقاً؟ هل يتحملان المسؤولية في ذلك؟ وما الأثر لو اكتشف ذلك أثناء الحمل على حكم الاجهاض الذي هو مركزي في آثار بحوث الجينوم؟

كل ما سبق يبنى على المعلومات التي يكشفها الاختبار الجيني، فمن يملك حق الكشف عن هذه المعلومات؟ وحق إذاعتها؟ الفرد، العائلة، الدولة، القضاء؟ ماذا لو تنازعت فيما بينها؟ ماذا عن المعلومات المتعلقة بالقاصر؟ ماذا لو اكتشفت المعلومات عرضاً أو من غير إذن؟ ماذا لو تعينت للكشف عن الحقوق في القضاء؟ هل تعد قرينة أو حجة في الدفع أو الإثبات؟ هل يمكن للمعلومات الجينية أن تكون مصدراً في الإدعاء الجنائي كحالة وجود أثر على جثة القتيل يمكن أن يقود البحث الجيني للكشف عن هوية القاتل المجهول المحتمل؟  هل للمعلومات الجينية عوض مادي محتمل؟، هل يمكن الضنُّ بها عندما تتعين الحاجة إليها؟ هل يمكن للفرد البحث عنها من غير حاجة؟ هل يمكن أن تترك أثراً رجعياً على العلاقات العائلية والنسب والإرث؟ ... أسئلة كثيرة أجيب على بعضها في دراسات فقهية جزئية، وما يزال أكثرها معلقاً يحتاج إلى اجتهاد معمق، وتقرير المعايير المناسبة التي يمكن الاستناد إليها.

 

 خامساً-السلوك الإنساني بين الطبع والتطبع:

حذرت بعض بحوث الكتاب إلىى ما يمكن أن يبنى على بحوث الجينوم من آثار تتصل بالسلوك الإنساني، فتحمل نسبة كبيرة منه للطبع وتقلل من أهمية التطبع، مما يترك رؤية سلبية عن أثر التربية في التغيير، أو يفضي إلى تفضي التربويين من المسؤولية بإحالة القصور إلى طبع المتعلم، وسيؤول ذلك تبعاً إلى اتكال الفرد على طبعه والتقليل من أثر إرادته في أفعاله، ولكل ذلك آثاره السلبية المجتمعية لاسيما عندما يكون موضوعاً  لتعليل السلوك الإجرامي أو الأداء الإيجابي في المجتمع، ويتم الخلط في ذلك بين المنشأ المتقارب لأصحاب السلوك المتشابه، مع إهمال الخلفية البيئية والمجتمعية المتشابهة أيضاً.

إن الحكم المطلق بإحالة الظواهر السلبية في المجتمع إلى خلفية عرقية مرفوض أخلاقياً باتفاق، لكن السؤال الذي يمكن بحثه هو مدى إمكان مراعاة ما يتركه الطبع في السلوك مما له أثر في العلاقة مع الآخرين، وضبط أثر هذا الطبع في تصرفات المكلف، وقد راعى الفقهاء في بعض المسائل أحوال المكلف في التزاماته، واحتمال أن تكون في بعض الحالات لا تعبر بالضرورة عن الإرادة الحقيقية (طلاق الغضبان مثلاً) فهل يمكن فقهاً تقييم آثار تصرفات الفرد في ضوء ردها في بعض الحالات إلى تصرف طبيعي لا يعكس الوعي بالأثر المترتب على التصرف؟ وربما في بعض الحالات الخطيرة يكون للاختبار الجيني أثره في تحديد درجة المسؤولية في التصرف.

 

الخاتمة:

إن ما أوردته من قضايا وأسئلة يمكن إثارتها ودرسها في الأخلاق الطبية ذات الصلة بمشروع الجينوم، إنما تبنى على ما يتقرر علمياً من حقائق وتقديرات غالبة وليس على احتمالات، وكذلك بناء على تطبيقات للاختبارات تراعي علمياً شروط الوصول للنتيجة المعتبرة، وهذا ما نبَّه إليه بعض الباحثين في الكتاب لاسيما فيما يخص المجال القضائي، مع التحذير من النتائج الناقصة أو الواهمة، ومع الأخذ بعين الاعتبار ما نبه إليه غير كاتب من التأكيد على الاحتراس من الثقة الزائدة في التكنولوجيا، فضلاً عن الاستخدام المتحيز لها، وعدم إغفال الأهداف المخبوءة في النظم التكنولوجية والتي بعضها غير أخلاقي.

إن القلق الأخلاقي سيبقى ملازماً للبحوث العلمية والباحثين، فالاكتشافات العلمية واستخداماتها أسرع من الدراسات النظرية، ومن غير الأخلاقي أن يتأخر علماء الدين والأخلاق في دراسة هذه القضايا، والاكتفاء بمعالجة آثارها على طريقة رجال الإطفاء في الوقت الذي كان يمكن أن يحال دون اشتعال الحرائق، لكن تلافي ذلك يقتضي استشعاراً مشتركاً بالمسؤولية من قبل الدول والمؤسسات والباحثين والممولين على حد سواء.

 

[1] [تمت كتابة هذ البحث في إطار المشروع البحثي “توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية (Indigenizing Genomics in the Gulf Region (IGGR): The Missing Islamic Bioethical Discourse)” بتمويل من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمسجل برقم NPRP8-1620-6-057. علما بأن المسؤولية عن البيانات الواردة هنا تقع بالكامل على عاتق من قام بتأليف البحث]

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.