الجينوم – السيرة الذاتية للنوع البشري, مراجعة الدكتور: محمد نعيم ياسين

مراجعة لبعض الفصول من كتاب:

الجينوم -السيرة الذاتية للنوع البشري[1]

تأليف: مات ريدلي

ترجمة: الدكتور مصطفى فهمي

نشر: عالم المعرفة – 2001م

القسم الثاني

 صاحب المراجعة: الأستاذ الدكتور محمد نعيم ياسين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مراجعة لفصول من كتاب: (الجينوم – السيرة الذاتية للنوع البشري)

القسم الثاني

مراجعة الفصل السادس: كروموسوم 6 – الذكاء

 

موضوع هذا الفصل هو آراء العلماء في دور الجينات والوراثة في قدر الذكاء عند الإنسان، واختلافهم بين من ينفي أي دور لها في هذا الجزء من الشخصيّة الإنسانية، ومن يثبته كلّياً، ومن يثبته جزئياً.

ورواية المؤلف أن أبرز من يثبت ذلك الدور هو الدكتور روبرت بلومين وأن أيّة فئة من تلك الفئات الثلاث ليس عندها أدلة كافية على مزاعمها، وأن الدكتور بلومين اعتمد على تتابع في جزء من الحمض النووي على الكروموسوم 6، يختلف عند الموهوبين عن غيرهم بصورةٍ غالبة. وهذا أسلوبٌ في الاستدلال لا يكفي؛ فقد يوجد على كروموسوم آخر أو أكثر اختلاف يميزهم عن غيرهم.

ويرى المؤلّف أن الإسناد الوراثي للذكاء في الإنسان استُغِلّ لمن يشتغلون بالعلم استغلالاً سيّئاً، دوافعه التعصب، وأن كثيراً من علماء الوراثة جانبوا الطريق العلميّ في البحث والاستنتاج؛ باجتهادهم في البحث عن أدلة- وإن كانت واهية- تؤيّدُ أفكارهم، من غير أن يُناقِشوا الاحتمالات والفروض الأخرى ويستبعدوها. ورجح المؤلف بعد استعراضه لكثير من المحاولات البحثيّة حول هذا الموضوع، وأن خلاصتها تشير إلى أن ما يقربُ من 50 % من ذكاء البشر موروث، والباقي يأتي من الرحم والمدرسة والتأثيرات الخارجيّة (ص102). وربما كان في تحديد تلك النسبة مجازفة، بعدما ذكر شبهة مفادها أنه لا يوجد تعريف للذكاء متفق عليه، وبعدما شكك في مصداقية المقاييس المقنّنة للذكاء؛ وهو في نظري على حق فيما أثاره؛ لأن الذكاء هو في الغالب مستوى أداء الشخص في مختلف عمليات التفكير، وهي كثيرة ومتباينة، إلا أن يُراد بالذكاء العام الذي يتضمّن القدرة العامّة للشخص في أداء تلك العمليات دون تخصيص لموضوعاتها.

وعلى أية حال، فإنّ رأي المؤلف لا يختلف كثيراً عن رأي العلماء المسلمين في النتيجة، مع اختلاف جوهري في طريق الوصول إليها؛ فإنهم يرون أن عمليات التفكير كلها والحس والنشاط الإرادي للإنسان هو من عمل النفس البشرية، وأن مستوى عمل أدواته و الذي يؤثر فيه، وهي وسائل الاتصال بالعالم الخارجي، وتجميع المعلومات بوساطة الحواس، وترتيبها وترميزها وإرسالها إلى النفس، ويحدث هذا في الدماغ. فإن كانت أجزاء الدماغ على مستوىً عالٍ من التكوين، كان عمل النفس متناسباً مع ذلك المستوى. والجينات وصفات لتكوين أجزاء الجسم، وهي مختلفة عند الأشخاص في هذا الأمر؛ فالوراثة عملها في وسائل النفس من أجزاء البدن وبخاصّة الدماغ. وهذا هو الجزء الوراثي الذي يمكن أن يكون له دخل في أداء النفس لعمليات التفكير.

فعند علماء الإسلام، حصّة الذكاء وسائر الأعمال النفسيّة من الوراثة هي مقدار تأثيرها في أجزاء الجسد وبخاصّة الدماغ، والنوعيّة التي تنتج عن وصفة الجينات لتكوين الآلات الجسديّة المستعملة في الإرسال إلى والاستقبال من النفس، وهي حصّة معتبرة بلا شك. ولكن العنصر الأهم من كيان الإنسان هو وحدة المعالجة المركزيّة في النفس بقدراتها، وأهمها العلم والإرادة والذاكرة.

والذي يظهر مما تقدّم أن الجينات إذا تعثرت في وصفاتها المستعملة في تكوين أجزاء الدماغ، وكان هذا التعثر مما يورَث، فإن الوراثة يكون لها، بصورة غير مباشرة، أشد الأثر في القدرات العقلية، ومنها الذكاء. وأما في الأحوال العاديّة التي لا يقع فيها أي تغيّر على الجينات المختصة، فيقتصرُ أثرها على مدى كفاءة أجزاء الدماغ، ويقع الاختلاف بين الناس في هذا.

وأما قدرات النفس ذاتها فلا تخضع للوراثة ووصفات الجينات، وإنما خُلقتْ أصولها، وفيها قابلية النمو في الاتجاهات المختلفة التي تكفي لبقاء الحياة البشرية والقيام بمتطلباتها حتى يحكُمَ خالقُها بإنهائها.

مراجعة الفصل السابع – كروموسوم 7- الغريزة

 

أولاً- قدم المؤلف لهذا الفصل بأن دور الجينات في تشكيل البدن فكرة يمكن قبولها بسهولة، لكن دورها في تشكيل سلوك الإنسان فكرة يحتاج إلى قبولها، وإن بشكل جزئي، إلى جهد جهيد.

ثانياً- وفي الفكر الإسلامي يسهل قبول الشطر الأول من مقدمته، وهو ما تعلق بدور الجينات في تشكيل البدن، ولكن يختلف الأمر بالنسبة لدورها في تشكيل السلوك؛ فإن جذور أنواع السلوك الإنساني في الفكر الإسلامي تقع في النفس البشريّة، وتصدر عن شيء فيها أشبه ما يكون بوحدة المعالجة المركزية، تطبخ فيها موجودات النفس من قدرات وغرائز مع وارداتها من الخارج التي ترد إليها عن طريق مكونات الجسد، وأهمها الحواس؛ فيحصُل للنفس خطط للسلوك، ترسلها إلى الدماغ، الذي يرسلها بدوره إلى الأجهزة المختصة بالتنفيذ من أجزاء البدن، لتظهر في الواقع سلوكاً بشريّاً يتفق مع خصائص كل نفس. وهكذا فإن هذا التوصيف يُظهر دوراً أساسيّاً للنفس في سلوك الإنسان تظهر فيه علومها وإراداتها ومشتهياتها وسائر اتجاهاتها، ويُظهر دوراً غير مباشر لمكونات الجسد الإنساني في سلوكه أيضاً، ولكنه مهم جدّاً؛ لأن كثيراً من القرارات النفسيّة تتوقف على وارداتها الآتية من الدماغ والحواس، ودور الجينات الذي يتمثلُ فيه دور الوراثة هو في صياغة مكونات البدن وأهمها الحواس والدماغ، وما يحدث فيها من تغيرات يؤثر في تلك المكونات التي بدورها تؤثر فيما تتخذه النفس من القرارات بناء على ما يردها من الدماغ الذي يستقبل من الحواس وغيرها. ولا شك في أن أي تغيير سلبي في أجزاء البدن يؤثر في مستوى خدمته للنفس. ويؤثر بالتالي في قراراتها السلوكيّة. ولكن يجدر بالملاحظة أن الجينات وما ينتج منها ليست هي كل شيء في الكيان الإنساني، كما قال مات ريدلي في فصل آخر، بل جُعل لكل نفس إرادة حرّة، وعلوم عقلية فطريّة، والنفس بتلك الإرادة والعلوم تقدر على إدارة الكيان الإنساني بطرق شتّى، فإذا صح ما ذكره صاحب هذا الكتاب من أن أزرار تشغيل الجينات تقع في خارجها، ولا تُشغل هي نفسها بنفسها، فإن النفس بإرادتها الحرة يمكنها أن تشغل بعض هذه الأزرار سلباً أو إيجاباً. فالتأثير والتأثر أمران تبادليان بين النفس والجينات مع ملاحظة أن تأثير النفس في سلوك صاحبها اختياري نابع من إرادة حرة، وتأثير الجينات إجباري اضطراري. ولكن تأثيره قد يكون علة النفس في التأثر ، فتصير قراراتها اضطراريّة أيضاً، كما إذا تسبب عن تغير جيني سلبي في الدماغ وصارت رسائله إلى النفس غير معبرة عما في الواقع، وانعكس ذلك على قرارات النفس المرسلة إلى البدن عن طريق الدماغ، كالتغير الجيني في المعوقين عقلياً أو نفسياً.

ثالثاً- فيتبين ممّا سبق أن تحديد دور الجينات في السلوك من وجهة نظر تقوم على معطيات شرعية، ومفاهيم لعلماء مسلمين، لا يتسم بالتعقيد كما ظهر من منهج مؤلف الكتاب ومقدمته لهذا الفصل الذي أداره في معظمه على مناقشة دور الجينات في السلوك اللغوي، واستطرد في التفتيش عن سلطان الوراثة في هذا السلوك، وعرض بإسهاب رأي ناعوم شومسكي الذي يرى أن اللغة البشريّة بمضمونها المعنوي وظاهرها المادي تتقاسمها الوراثة والثقافة مناصفة، وأن أصولها مجموعة من قواعد عقلية فطريّة. وعرض المؤلّف طائفةً من الأدلّة على قول شومسكي. ولكن ما عرضه من أدلة شومسكي لا يفيد أن منبع تلك القواعد العقلية الفطريّة التي تعتبر عنده أصلاً للسلوك اللغوي هي الجينات، وإنما غاية ما تدلُّ عليه أنها قواعد عقلية فطرية غير مكتسبة بجهد بشري. والذين أرجعوا اللغة إلى الجينات اعتمدوا على تجارب كانت نتائجها أضعف دلالة من الأدلة الكثيرة التي اعتمد عليها ناعوم شومسكي؛ لأنهم أقاموا ارتباطاً بين التلف اللغوي وبين تغيّرٍ في شكل الجين الموجود على الذراع الطويلة من الكروموسوم 7. وهذا دليل يقوم على اقتران غير قطعي؛ فلعل تغيراً حدث في مكان آخر هو السبب. وإذا تعددت التغيرات لم يعرف أيها هو المؤثر في التلف اللغوي. حتى وإن خلا ذلك الاقتران من الاحتمالات الأخرى، فإن دلالته على التسبب في التلف تبقى ضعيفة؛ لأن ذلك التغير الجيني إذا سلمنا باقتران ذلك التلف به كانت دلالته قاصرة على تسببه في خلل لعضو تنفيذي للسلوك اللغوي، وأما تأثيره على المضمون المعنوي والقواعد الضابطة لذلك المضمون، فغير مسلّم.

رابعاً- وأما دليل ناعوم شومسكي الذي أحضره المؤلف فهو دليل عام ويستند إلى ظاهرة عامّة تعم البشر كلهم. وما ذهب إليه هذا العالم أقرب إلى ما ذهب إليه علماء الكلام وعلماء الأصول المسلمون؛ حيث ذهبوا إلى وجود ما يُسمّى بالعلوم الضروريّة يكتسبها الإنسان قبل سن البلوغ، ويسمّيها بعضهم العلوم الأوليّة أو البدهيات، ويعرفونها بأنها العلوم التي يجدها الإنسان في نفسه، دون أن يقام عليها أي دليل، مسيطرةً على نفسه ولا يستطيع الفكاك منها؛ كقولهم أجزاء الشيء أصغر من كله، والعين أصغر من الرأس، ويجمعها المستحيلات العقلية والعادّية والواجبات العقلية والعادية وهي أنواع من العلوم جعلها الله في فطرة الإنسان؛ ليفصّلَ بها قوى النفس وأهمها قوة العلم وقوة الإرادة؛ فتلك هي القواعد العقلية الفطرية تمكّنُه من تفعيل ما ركب في نفسه من قوة الإرادة والعلم؛ فنظر العلماء المسلمين يقترب منه نظر شومسكي، وهو يشير إلى نوعين من الفطرة: فطرة جسديّة، وهي فطرة جبريّة. وفطرة نفسيّة، فطرت عليها النفس، وهي فطرة محايدة لا تجبر الإنسان على شيء، وإذا صح أن الفطرة الجسديّة لها ارتباط من نوع ما، بوصفات جينيّة، فإن فطرة النفس من تلك القواعد الفطريّة العقلية لا تحكمها الجينات التي اكتشفها الإنسان ولو قيل بوجود جينات نفسيّة فإن دورها لا يتجاوز تلك العلوم الضروريّة الآليّة التي تسَاعد الإنسان على دخول الامتحان بالعلم والإرادة.

خامساً- القواعد العقلية الفطريّة التي أشار إليها شومسكي هي في نظر علماء المسلمين من العلوم الضروريّة. وهي لا تظهر إلا على الجوارح، سواء أكان اللسان أم غيره، وفي طريقها من النفس إلى الجوارح يجب أن يستقبلها الدماغ، ويرسلها إلى الجوارح على الصورة السليمة التي جاءت من النفس، فإن وُجد تلف في بعض تلك الأجزاء أثّر على المعنى المُضَمّن بالأحرف والكلمات والنحو والصرف. وإن لم يوجد تلف في الأجزاء المختصة باللغة من الدماغ، فإنه – الدماغ – سيستقبل المعاني بصورة سليمة، ويرسلها إلى الجوارح، وهي الأدوات التنفيذيّة لتلك المعاني، فإن كانت صالحة ظهرت اللغة عليها بمعانيها ونحوها وصرفها وجُملها ومفرداتها كما جاءت من الدماغ على نحو ما استقبلها من النفس. فإن وجد بعض التلف في تلك الجوارح ظهر خللٌ في التعبير. ولم تتأثر العناصر اللغوية في الدماغ، وهنا مجال للعلم في الابتكار التعويضي عن تلك الجوارح التالفة.

وأما إذا وُجد التلف في أجزاء الدماغ المختصّة باستقبال عناصر السلوك اللغوي، وكانت الجوارح سليمة أوصلها الدماغ إلى تلك الجوارح بطرق لا تُعبّر عما جاءه من النفس؛ لا لانه لم يستطع استقبال ما جاءه؛ فظهر على الجوارح نطقٌ لا يُعبّر عن الواقع، وهذه هي حال المعوقين عقلياً جزئياً أو كلياً، ولا يمكن علاجهم إلا بالوصول إلى طريقة علميّة لإعادة الأجزاء التالفة من الدماغ إلى وضعها الطبيعي. وإدخال معلومات تصحح أو تمسح ما وصل إلى النفس في فترة التلف الدماغي، ولكل داء دواء كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام.

ومن خلال هذا النظر يمكن تقدير دور الجينات في السلوك بصورة عامة، ومنها السلوك اللغوي في الخارج، إذا كان الخلل مقتصراً على الصورة التنفيذيّة للأفكار الواردة إلى الدماغ من النفس، فإذا استطاع العلماء تعويضها بما يقربها إلى الوضع السابق أو ينوبُ عنه استطاع هذا الصنف من المعوقين التعبير عن الحقائق الواقعة بصورة سليمة. وأما إذا كان التغيّر الجيني أثّر على أجزاء الدماغ المختصّة بنقل العناصر اللغويّة من النفس، فإن كانت الجوارح المختصّة سليمة عبّرت بكلام أو ما يقوم مقامه عن أمورٍ غير واقعيّة؛ لأن تلك العناصر النفسيّة اللغوية السليمة لم تجد طريقها إلى ناقلٍ دماغيّ سليم، وهذا هو حال المعوقين عقلياً.

سادساً- في التصور الإسلامي يخرج الإنسان من بطن أمّه لا يعلم شيئاً، كالصفحة البيضاء، حتى العلوم العقلية الضروريّة لا تكون موجودة في نفسه حينئذ، وإنما تحتاج إلى اكتسابها بالتعلم من أي مصدر صالح، ولا تقع في النفس إلا بالتدريج، ويقع للإنسان عند علماء المسلمين قسط وافر منها بين السابعة والبلوغ. ويختلف الناس في حصولها لهم باختلاف ما يتعرضون له من مصادر التعليم. وأما الذي في النفس قبل الولادة هو قابليات وصفات وخصائص، ومنها قابليتها لاستقبال القواعد العقلية الفطرية وسبل التعلم ألا وهي الحواس، وقدرة في النفس تسمّى العقل. والحقيقة أن النفس بقدراتها والدماغ باستعداداته الفطريّة للاستقبال من النفس والأعضاء، والإرسال إليهما بالترتيب السليم تستطيع أن تُحصّل كثيراً من القدرات والمهارات، ومنها المهارة اللغويّة نحواً وصرفاً ومفردات وعبارات وتراكيب.

سابعاً- ما تقدّم يُظهر اتفاقاً بين التصور الإسلامي وشومسكي ومعه مات ريدلي في وجود قواعد فطرية عقليّة لغويّة يتفق فيها البشر كلهم وتمكنهم من السلوك اللغوي. ولكن الفرق بينهما هو في مصدر هذه القواعد. والظاهر من عرض المؤلف لهذا الأمر أنها تكون مدفونة في مكان ما من دماغه، وأنها جاءت من برنامج مدفون في جينات الإنسان، وأنها على التحديد جينات موجودة على الكروموسوم رقم 7، وأن ذلك يوجد منذ تكون جيناته على ذلك الكروموسوم؛ فهي موجودة من أول خلية تكونت في البدن. بينما التصور الإسلامي يقرر بصورة قطعيّة أن الإنسان قبل ولادته تكون نفسه خاليةٌ من أي علوم أو قواعد عقليّة، وإنما يخلقها الله عز وجل بقابليات وصفات تؤهله لاستقبال علوم ضرورية تلزم الإنسان للبناء عليها بالنظر والتجارب في مختلف مجالات حياته؛ وقد جاء ذلك في آية قرآنية قطعية في دلالتها؛ وهو قوله تعالى: (وَالله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/78)؛ فالله خلق الإنسان وجهزه بما يلزمه من أدوات الحياة في الدنيا، منها بدنيّ، ومنها نفسيّ. وكثير منها لا يمارس عمله إلا بعد الخروج من بطن أمّه، كالرئتين مثلاً لا تعملان قبل الولادة ولكنهما تعملان بمجرد الولادة وبدء الحياة. وكذلك النفس خُلق لها خصائص وقدرات وغرائز، وتبدأ عملها بعد الولادة أيضاً. وفي الجهة الأخرى خارج الإنسان خلق الله سبحانه وتعالى ما يلزم للإنسان في هذه الحياة الدنيا، وجعله على صفة القابليّة للتفاعل مع الإنسان بأجهزته البدنية والنفسيّة؛ فالهواء مثلاً خلقه الله تعالى بقابلية الدخول إلى رئتي الإنسان بسهولة، ويمده بما يلزم لبقاء حياته المقدرة، وكذلك الماء والطعام وحرارة الشمس وكثير من النِّعم مما تتطلبه الحياة؛ يُعبر عن ذلك قوله تعالى (وَاتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) (34/سورة إبراهيم)؛ يعني (هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم) ابن كثير – التفسير جـ4 ص45 – طبع شركة الرسالة العالمية- دمشق وبيروت – 2010م.

ومثل ذلك أيضاً أنواع السلوك الإنساني ومنها السلوك اللغوي؛ أوجد له سبحانه قواعد فطريّة تدخل في نفسه اضطراراً، كلما تعرضت لها بالحواس وغيرها، ولا يقبل العقل أن تظهر تلك القواعد الفطرية اللغويّة بنفسها قبل وجود أي مثير لها في أوقات متلاحقة من عمر الإنسان. ولو أن شخصاً لم توجد فيه مستقبلات لتلك القواعد اللغويّة، فلا يُعتقد أن يظهر شيء من الكلام ولا أي عنصر من عناصره. ثم إن القواعد الفطريّة اللغويّة خُلقت للإنسان للبناء عليها؛ ولا يكون ذلك إلا بالتعلّم بأي نوع من أنواعه وأية كيفية من كيفياته. وجهاز التعلّم هو في النفس، وهو مجموعة من القدرات النفسية من عقل وإرادة وتفكير وغيرها؛ وثمار ذلك علوم تختزن في جهاز الذاكرة. وكلما ورد من الخارج شيء من المعطيات عن طريق يمر بالحواس أولاً، ثم الدماغ ثانياً، ثم تفاعل النفس مع علوم الذاكرة في عمليّة التفكير، وأنتج علماً جديداً، قد يكون بحرف أو بكلمةٍ أو جملة أو غير ذلك.

ثامناً- هذا هو التفسير للسلوك اللغوي الذي يليق بالتصورات الإسلاميّة، مهما اختلفت اللغات بمفرداتها وتراكيبها ونحوها وصرفها.

خلاصتها: الخالقٌ خلق كل شيء، خلق الإنسان، وزوده بنفس (هي الروح قبل اتصالها بالجسد) وبدن، وأودع في النفس قدرات تمكّنها من معالجة كافة أنواع السلوك الاختياري، والاتصال بالبدن عن طريق الدماغ، الذي يرسل ما يصله من النفس إلى الأعضاء المختصّة لتنفيذه. فإذا ظهر في السلوك اللغوي وغيره من أنواع السلوك خللٌ ما فيبحث عنه أولاً في أدوات التنفيذ، وهي الجوارح، ثم في الأدوات الناقلة للمعلومات إلى الدماغ، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، ثم في مكونات الدماغ الذي يرسل إلى النفس ويستقبل منها، ويرسل إلى الحواس والجوارح ويستقبل من الأولى. ثم يبحث في محتويات النفس من العلوم والمشاعر والانفعالات والشهوات وغيرها. ولا ينتهي البحث عند هذا الحد؛ لأن ما خلقه الله للإنسان من قُوى في نفسه ودماغه وحواسه وبدنه خلق من أجله في الخارج أدوات تساعده على القيام بوظائفه، ومِنَح الرب في خارج الإنسان كمِنَحِه في داخله لا تعدّ ولا تُحصى، ومن أهمها المناسبة التامّة بين ما خلق له في داخله وما خلق له في الخارج، بحيث جُعلت معطيات الخارج في خدمة الإنسان عند الطلب. ومن هذه المعطيات الخارجيّة قواعد فطريّة لكل نوع من أنواع السلوك البشري، ومنها السلوك اللغوي. ثم إن غيابها أو غياب جزء منها سيؤدي قطعاً إلى تعثّر كلّي أو جزئي في السلوك التي جُعلت له.

تاسعاً- ما تقدم من البيان يجيب عن كافة ما يصدر عن الإنسان من أنواع السلوك، ومنها السلوك اللغوي. كما يجُيبُ عن كافة ما يعرض له من العوارض السلبيّة؛ لما يصوّره من وجود مصنع يشكلُ أنواع السلوك ومنها اللغوي بحسب وارداته من الخارج ومخزوناته في الداخل.   

وأما التفسير الذي عرضه المؤلّف وأيده بنظرية شومسكي، وهو أن مصدر السلوك اللغوي في الإنسان هو محتويات جينات كروموسوم 7، وأن سبب ما يحدث من تعثّر في السلوك اللغوي هو ما يحدث في أحد تلك الجينات، واستنصر بنظرية شومسكي التي تقرر وجود قواعد لغويّة عقلية فطريّة في كل إنسان، تصل إليه من غير حاجة إلى تعلمها؛ وكأنه رأى أن وصف شومسكي لتلك القواعد بالفطريّة تعبيرٌ عن تدخل الجينات في ذلك السلوك تدخل الصانع بالمصنوع، مع أن ذلك الوصف الشومسكاوي لا يحتمل أكثر من الدلالة على أن تلك القواعد تولد مع الإنسان، وأنه مفطورٌ عليها. وتفسير الفطرة بعمل الجينات لا يصلح إلا في تشكيل البدن المادي الملموس. ومن العسير على أي مفكر أن يستعمل هذا التفسير في بيان كيفيات تكوّن اللغة في الكلام عند الإنسان، ولا يستطيع الإجابة عن الأسئلة التالية إلا بكثير من التكلف والمماحكة، مثل:

1- ارتباط الرموز اللفظيّة (أحرف أو إشارات) بالمعاني التي تُعبّرُ عنها. 2- كثرة تلك الرموز الموجود في اللغة، والتي تزيد عن نصف مليون رمز، وتنوعُها بشكل هائل. 3- الطرق المتنوعة التي يمكن للرموز اللغوّية أن تعبر عنها. 4- أين تختزن تلك الرموز؟ هل يمكن أن تختزن في بعض البرامج الجينية؟! ثم كيف تتشكل وهي تحدث بالتدريج بحسب المناسبات المادية والمعنويّة؟ وهل مَنْ وَضَعَ البرنامج اللغوي في جينات الإنسان يعلم الغيب، فيقدر لكل حادثة لغتها المعبرة عنها بالطريقة التي تناسبها؟ 5- كيفيّة الضبط النحوي والتركيبي من كلمات وجمل تعبّر عن معان مختلفة في ماهيتها وأوقات حدوثها. 6- علاقة تلك المشكلات بوظيفة الدماغ: أين ترتبط الرموز اللغويّة بمعانيها في الدماغ؟ أين تختزن نحو نصف ميلون رمز لغوي في الدماغ؟ وهل يوجد مكان في الدماغ أو في البدن لحفظ القاموس اللّغوي؟ وكيف يتم الجمع بين رمزين مختلفين وترتيبهما لتكوين جملة ذات معنى؟ ولماذا يحصل الاختيار الصحيح ببساطة وعفويّة من مجموع خيارات تقترب من اللانهاية؟ ثم أين مركز ضبط النحو في الدماغ؟ 7- عدم تخرّبِ المحتوى اللفظي وإن تخربت المواضع المختلفة من الدماغ؛ يقول أحد العلماء: إن الأشخاص الشبان الذين يصابون بآفة واسعة في منطقة الكلام والتي تسببُ عندهم عُسْرَ نطقٍ كلي وشامل، إن هؤلاء الأشخاص يسترجعون القدرة على الكلام بعد التدريب، ولكن المحيّر في الأمر أنهم يسترجعون النطق بنفس اللهجة العاميّة التي كانوا يعرفونها قبل الآفة، رغم أن المدرب ذاته لا يعرف التكلم بهذه اللهجة – عن محمد راتب السمان- النظرية الروحيّة- طبع المطابع الإلكترونية بالرياض ص 81 بتصرّف.

لا يُفسر ذلك إلا أن يكون ما تعلموه باللهجة العاميّة قد اختزن في النفس، حتى إذا ما استقبلت ما يذكرها بذلك المخزون، ظهر على اللسان بالصفة التي كانت في النفس، وذلك بعد أن كان الاتصال بين النفس واللسان موقوفاً بسبب خلل في منطقة الكلام من الدماغ، فإذا صلحت بالتدريب تدفق مخزون النفس بإرادتها على تلك المنطقة، فأرسلته آلياً إلى الجارحة المختصّة، تُعبّر عنه بالطريقة التي تعلمتها قبل حدوث الآفة؛ لأن التغيّر في الأول والآخر لم يكن على المحتوى المعنى، ولا على الشكل اللفظي الذي سبق للنفس أن اختزنتها في ذاكرتها، وإنما كان على جزءٍ من الدماغ، فلما أصبحت الطريق من النفس إلى الدماغ إلى اللسان سالكة على النحو الذي كانت عليه، عاد أولئك الأشخاص إلى ما كانوا عليه قبل حدوث الآفة، فعبّروا عن المحتوى المعنوي بالرمز اللفظي الذي كان في ذاكرتهم – وهي في النفس ؛ فحقيقة الكلام أو ما يقوم مقامه ينشأ في النفس معانيّ، وترسل إلى الدماغ مع رموزها اللفظيّة، ثم ترسل إلى الجوارح التي تُظن عليها تلك الرموز.

عاشراً- وقد حاول المؤلف التشكيك في أن الكلام اللفظي أو الإشاري أصله أفكارٌ في النفس؛ وأراد الاستدلال على هذا التشكيك بأن هناك (نوعاً من المعوقين عقلياً يُثرثرون بلغة وقادرين على تعلّم اللغة، ويواصلون الثرثرة، ويستخدمون كلمات طويلة وجملاً طويلة... وعندما يُطلب منهم الإشارة إلى أحد الحيوانات اختاروا مثل آكل النمل على أنّه قطة أو كلب، ولديهم مقدرة رفيعة على تعلّم اللغة، ولكن على حساب المعنى؛ فهم معاقون عقلّياً إعاقةً شديدةً؛ ويبدو أنّ وجودهم فيه تقويضٌ لفكرة «أن التفكير شكل من لغة صامتة...») ص 118.

وأرى أنّ ما ذكره المؤلف من المقدمات، وهي قصة المعوقين عقلياً، لا يصلح لتقويض الفكرة التي ذكرها، بل تؤكدها؛ وذلك لأنه يُفترض وجود خلل في أجزاء كبيرة من الدماغ؛ مما يجعله غيرَ قادرٍ على إرسال صورٍ مطابقة للواقع إلى النفس. فإذا أراد المعاق عقلياً أن يُعبّر عن شيء يراه، وكانت الصورة التي ينقلها المصاب بالتلف إلى النفس مختلفةً عن الواقع، فإنّ الصورة الراجعة من النفس بعد معالجتها فيها إلى الدماغ، ويرسلها إلى الأعضاء المستعملة في الإحساس بالواقع، ستكون موافقة لما في الوعي الآني في النفس، وليس الصورةَ الواقعيّة؛ فهؤلاء المعوقون يُعبرون بصدق عما في نفوسهم، ولو عبروا بغيرِ ذلك لما كانوا معاقين؛ وهذا يؤكد تلك الفكرة التي أراد المؤلف تقويضها بوجود المعوقين عقلياً الذي يُعبرون عن الواقع بلغةٍ لا تدلُّ عليه، وإنما بلغة تدل على ما في أنفسهم. بل إن العقلاء أنفسهم إذا وُجدت صورة معينة في أذهانهم، وأرادوا الكلامَ عن واقعٍ مختلفٍ عن تلك الصورة عبّروا عما في أذهانهم الموجود في منطقة الوعي الآني، وغفلوا عن صورة الواقع. ولكن الفرق أن العقلاء يدركون في الغالب، ويسترجعون الصورة الحقيقية الموجود في نفوسهم، في منطقة الوعي الآني، فيصححون أوضاعهم. فأولئك المعوقون الذي ذكرهم ريدلي يُعبّرون عن فكرهم الصامت الذي تكوّن في نفوسهم مختلفاً عن الواقع. ولو لم يُعبّروا عنه، ولو كانت هناك طريقة لمعرفة ما في نفوسهم وأدمغتهم لاكتُشِفَ أنهم عبّروا عنها بصدق. وعلى أية حال فإن المؤلف لا يحتاج إلى هذا المثال ليؤكّد دور الجينات في السلوك اللُّغوي؛ ذلك أن دورها يمكن أن يكون في تشكيل الدماغ أو اللسان، بحيث إذا تغير بعضُها تغيّر معه بعض ما ذكرنا، فأدى إلى خللٍ في ما يصلُ إلى النفس عن طريق الخارج، فإن كان ذلك التغيّر وراثياً، كانت الوراثة هي السبب في انتقال التلف إلى أقارب الشخص. ومهما يكن فإن ارتباط تغيّر جين موجود على كروموسوم 7 أو غيره بظهور خلل في السلوك اللغوي لا يتعيّن أن يكون ذلك ارتباط سبب بمُسبّب، وإنما قد يكون سبب ذلك الخلل شيئاً آخر دَلَّ عليه الجين المتغيّر؛ فإن مجاهيل الدماغ بخاصّة، وكذلك القلب لم تكتشفْ جميعها، وقد يكون سبب الخلل في الدماغ، وجعَلَ الله تلفَ الجين عليه دليلاً، أو جعل الجين رسولاً يصلُ بين شيئين، فإذا أصابه التلف انقطع الاتصال، فإذا أمكن استبدالُه بجين صالح، وعاد الاتّصالُ شُفي المريض بإذن الله تعالى.

حادي عشر- ختم المؤلف هذا الفصل بخلاصة فيها بعض التناقض في الظاهر؛ وأحال ذلك إلى عدم فهمنا لمنهج الطبيعة في عملها، وأنها لا تُغيّرُ طرائقها بسبب عدم فهمنا لها، مع أنه قدّم لهذه الخلاصة (بأن وراثيات السلوك والسيكولوجيا التطوريّة غير قابلة للهضم على نحو واضح بالنسبة لكثيرين من غير العلماء، وأن سبب ذلك عدم فهمهم لطرائق الطبيعة. ويرى أن فكرة وجود جينات للسلوك لا تزيد غرابة عن فكرة وجود جينات للتنامي؛ وكلاهما يجفل لهما العقل) ص127، 128.

وفي هذا تعصب شديد لفكرة مسبقة تقوم على اللاقدرية في وجود خالق للحياة؛ لأنهم لم يروا ولم يلمسوا ولم يفهموا كيف يمكن لخالق واحد أن يعمل ما أدركوه من مسارات الحياة. ولكنهم يناقضون أنفسهم عندما ينسبون ذلك العمل الخلاّق إلى الطبيعة، ويقفون أمام ظواهر في الحياة لا يستطيعون أن يفسروا كيفيّة عمل الطبيعة فيها، ويرون أن إيمانهم بالطبيعة لا يتوقف على فهمهم لعملها في حين يتوقف إيمانهم بالله تعالى على فهم ظواهر الحياة كلها؛ فالطبيعة عند هؤلاء القوم لا تُسأل عما تفعل! فإن قيل مثل هذا في حق الخالق قالوا: لا نؤمن بما لا نفهمه ولا ندري عنه!

على أن أي مفهوم يُحدّد للطبيعة لا يتناسب مطلقاً مع ما يُنسب إليها من الأفعال، بل إن نسبة الأفعال إلى أي مفهوم للطبيعة لا يقبلها عقل الإنسان الذي يُقال بأنه من صنع الجينات أو من صنع الطبيعة؛ فإن قيل: الطبيعة هي موجودات الكون وتغيراتها وأحوالها وسننها، كان ذلك نسبة الفاعل إلى المفعول؛ كما لو قيل: الطبيعة أوجدت وخططت ونظمت نفسها بنفسها؛ وهذا معدود من المستحيلات العقلية؛ فلا يصح في العقل أن يقال: الجين برنامج برمج نفسه؛ لأن الجين قبل برمجة نفسه عدم، والعدم يستحيل أن يصدر عنه أي فعل فضلاً عن الإبداعات الكونية. وإن قيل: الطبيعة هي الصدفة، فإن العقلَ لا يتصور القيام بترتيب الأشياء كبرامج الجينات بالصدفة، فإنه لا يتصور أن الصدفة تعمل في فراغ، فتوجد المعدوم، وتنشئ مسكن البرامج الموجودة في الجينات، ثم تنشئ كلماتها وأحرفها وجملها وترتيبها.

 

 

[1] [تمت كتابة هذ البحث في إطار المشروع البحثي "توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية (Indigenizing Genomics in the Gulf Region (IGGR): The Missing Islamic Bioethical Discourse)" بتمويل من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمسجل برقم NPRP8-1620-6-057. علما بأن المسؤولية عن البيانات الواردة هنا تقع بالكامل على عاتق من قام بتأليف البحث]

 

 

 

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.