عودة الدين بعد تبدل مفهوم الفضاء العام

-----------------------------------

[تم تقديم هذا البحث في المؤتمر الدولي السنوي السادس لمركز دراسات التشريع الاسلامي والأخلاق، الذي عقد بالدوحة، قطر في 17 مارس 2018]

-----------------------------------

 

مقدمة

في عنواني مسألتين كانت العلاقة بينهما تبدو لزمن محسومة: عودة الدين مما يعني أنه كان قد أخرج، إشارة إلى زمن كان يعتبر فيه خروج الدين من الفضاء العام أمرًا محسومًا بالمعنى الذي شرحه مرسيل غوشيه: "[...] خروج الدين لا يعني ترك الاعتقاد الديني، بل الخروج من عالم حيث يلعب الدين دورًا بنيويًا، وحيث الدين يوجّه الشكل السياسي للمجتمعات وحيث يحدّد الإدارة الذاتية للرابط الاجتماعي"[1]، وفضاء عام رسم لذاته طريق الاستقلال عن الارتهان لأي مرجعية موّجهة أو محدّدة له مصيره بعيدًا عن الحرية.

لذا الكلام على تبدل في مفهوم الفضاء العام واقتران هذا التبدل بعودة الدين إليه، يحتوي بذاته جدلية تستأهل التوقف عندها: ما الذي سهل عودة الدين إلى هذا الفضاء، بعدما كان هذا الفضاء ولفترات طويلة يؤثر إبقاء الدين في المجال الخاص؟

تتطلب الإجابة عن هذا السؤال الإشارة بداية إلى إشكالية أساسية ارتبطت بمسألة موقع الدين في الفضاء العام منذ نشأة هذا الفضاء في الزمن الحديث، ومن ثم التوسع في تطور مفهوم الفضاء العام حتى يتضح معنى عودة الدين إلى هذا الفضاء، وفي النهاية البحث في تصور هذه العودة في بعض الأطروحات في الزمن الراهن.

 

  1. الدين والفضاء العام في الزمن الحديث

إن البحث في موقع الدين في الفضاء العام، لم يطرح بشكل حاد إلا مع الديانات التوحيدية، باعتبار أن الديانات غير التوحيدية منذ الأزمنة الغابرة وعلى تعاقب الحضارات لم تكن تشكل تحديًا في وجودها للفضاء العام، لأن التماهي بينها وبين هذا الفضاء كان من البديهيات، كما يشرح هيغل الذي كان يعتبر الروح اليوناني مثالاً للدين الذي يرضي حاجات الحياة. كتب في هذا المجال يقول : "منذ أيام الماضي البعيدة تشرق في النفس (...) صورة روح الشعوب وابن السعادة والحرية، ابن المخيلة الجميلة. وهو كان يربط أيضًا رباط الحاجات القاسي بالأرض الأم، لكن عالجه بشعوره ومخيلته وهذّبه وجمّله وكلّله بالورود، بمساعدة آلهات الجمال بشكل طاب له معه المقام في هذه القيود كأنها من صنعه وجزء منه."[2] وهذا النوع من الدين هو دين حيّ في نظر هيغل لأنه على اتصال وثيق بالمعنى العملي للدين.

هذا التماهي بين الدين والواقع لا ينطبق على الديانات التوحيدية التي تقوم أصلاً على الفصل بين المجال الطبيعي والوحي، باعتبار الوحي سلطة ليست في متناول الإنسان أو مؤسسات المجتمع، بل تأتي من خارج الطبيعة ولو وجدت الطبيعة في ذاتها استعدادًا لقبوله أو أنها كونّت على هذا الاستعداد. وهذا يعني في النتيجة عدم التطابق بين الدين التوحيدي والفضاء العام الذي يؤثر البحث عن قوانينه وتناغمه الذاتي.

هذا يعني أن القضية على صلة بنتائج وجود هذا النوع من الدين في الفضاء العام، كما قال غوشيه، وبالتحديد مسألة سلطته على الواقع وبالنتيجة ارتباطه بالسلطة والسلطة به. ومن النتائج المحتلمة، وقد حفظ التاريخ صورًا عنها، الصراع بين السلطتين. لكن في الدولة الحديثة المنبثقة من طبيعة تطور مفهومي الفضاء العام والمجال العام، هذا الصراع غير مقبول، إذ لا مجال لوجود سلطتين على أرضٍ واحدة.

طرحة هذا المسألة مع الحداثة على الشكل التالي: كيف من الممكن التعاطي مع الدين كحقيقة موجودة لا يمكن إنكارها، لكن مع تعطيل مفعولها السلطوي؟ والجواب أتى على النحو التالي:

أولاً، بتحويل المعطى التوحيدي للدين معطىً أخلاقيًا، كما فعل كانط ومن تبعه، ومنهم هيغل من دون أن ينكر على الدين طابعه الحسي كما يظهر عند الرومان. هذا التصور للدين جعل كانط يتكلم على الدين الفلسفي، أي الدين الذي يختصر مضمونه في مجال العقل العملي أي الأخلاق.

ثانيًا، بتحويل الدين مجرد معطى أخلاقي، من الممكن استيعابه في إطار المجال العام عبر القانون. فيتم ضبطه، ومن ثم إبطال دوره. هكذا يتحول الدين خيارًا ذاتيًا محصورًا في المجال الخاص، إذ إن الدولة لا يمكن أن تتنكر لحرية الضمير والاعتقاد التي تكفلها القوانين.

ثالثًا، بهذا يظهر الدين على تناقض تام مع العقل العلمي وبالتحديد العقل الطبيعاني باعتبار أنه ينحو إلى الخرافة أكثر منه إلى الحقيقة الوضعية، بما أنه يعمل على المخيلة أكثر منه على المفاهيم الواضحة والمحدّدة.

شكلت هذه الخطوات ما عرف بعملية إخراج الدين من المجال العام، مقدمة لإخراجه من الفضاء العام. وهذه العملية استلمت دفتها "الأطروحة الدهرانية" التي حاولت أن تلقي وشاحًا تعميميًا، بأن هذه الخطوات الثلاث، كفيلة بأن تخرج الدين بالكامل من الفضاء العام.

كرّس هانس يواس[3] (Hans Joas) دراسة متكاملة لهذا الطموح الدهراني، بيّنت في النهاية أن هذا الطموح لم تكن له الكلمة الأخيرة في موضوع إخراج الدين.

انطلق يواس من سؤال أساسي: "هل تقود الحداثة حكمًا إلى الدهرنة؟"[4] جوابه على هذا السؤال  فصّله في مجموعة أطروحات نوجزها كما يلي:

  • يعتقد غير المؤمنين أنهم يسودون على التقدم التاريخي للبشرية، وبالتالي ينتظرون حكمًا امحاء الدين بالاعتداد بأعداء الدين الذين يناصرونهم عبر الضعط الذي تقوم به الدولة وعبر الهجمات الفكرية.[5]
  • يسود الاعتقاد بأن الدهرنة لها معنى واحد وهو اخراج الدين من الفضاء العام أو التقليل من معناه في هذا الفضاء ولهذا الفضاء.[6]
  • ثمة اعتقاد بأن الحداثة تعني النمو الاقتصادي والتقدّم التقني، أي التخطي أو بلوغ جديد يفوق كل شيء قديم ويلغيه، وفي كلا الحالين يكون لذلك تأثير مباشر على إضعاف معنى الدين أو إمحائه.[7]
  • ربطت هذه الاعتبارات الثلاثة موقفها بعناصر ثلاثة، إذا تأمنت أنتفت الحاجة إلى الدين: العنصر الأول، "معرفي"، إذا كانت المعرفة الدينية معرفة غير مضمونة معرفيًا وغير ناضجة معرفيًا أيضًا، فهذا يعني أن المعرفة العلمية ستحل محلها لأنها أكثر ثقة وضمانًا؛ العنصر الثاني، إذا كان الدين تعويضًا عن نقص ناجم عن عدم الأمان الوجودي، فالتقدم في الرفاه وتأمين حظوظ كافية في المشاركة السياسية وتأمين ظروف حياة كافية، تؤدي إلى انتفاء الحاجة إلى الدين؛ العنصر الثالث، إذا ساد الاعتقاد بضرورة التناغم الحضاري وتربية سلطوية كعامل من عوامل استمرار الدين، عندها سيتكفل النموذج التعددي الحضاري والفردنة والدمقرطة بإضعاف الدين.[8]

ويخلص يواس إلى أن الطرح الدهراني يقوم على "أيديولوجيا الغالبين في الصراعات الدهرانية"[9]، لا على صورة حقيقية عن الواقع بمجمله، إذ ليس من تحديد واحد للدهرنة وليس من نمط دهراني واحد، وبالأخص ثمة موجات دهرانية، فالدهرنة لم تأتِ كاملة ودفعة واحدة.

 

  1. تطور مفهوم الفضاء العام

إن الموقف الأخير ليواس حيال صعود الدهرنة كمفهوم وارتباطه بالمعطيات العلمية والاقتصادية والمجتمعية وبروز الفردنة، وتأثير ذلك في الأطروحة المتعلقة بكسوف معنى الدين أو سحبه من الفضاء العام، هو موقف على صلة وثيقة ببروز معنى الفضاء العام. لذلك إن فهم عودة الدين إلى هذا الفضاء تحتاج هي أيضًا إلى إلقاء الضوء على تشكل هذا الفضاء وما الذي تحوّل فيه في الزمن الراهن حتى حظي الدين بعودة من جديد إليه.

ويشير موقف يواس بوضوح إلى أن الأطروحة الدهرانية لم تطبق على الواقع بجملته. وهذه بداية مهمة لفهم أي دور للدين بعد في الفضاء العام، وبالتالي لتظهر حقيقة ما الذي حاربته الدهرنة بالتحديد في الدين.

إذا تمعنا في التطور التاريخي للدهرنة والفضاء العام، نجد، بخاصة في الغرب، أن الدين كان وراء أشكال مهمة من تقدم مفهوم الدهرنة والفضاء العام. يتضح الأمر حين نعرض لتطور مفهوم الفضاء العام، ومن ثم ما الذي تحوّل في هذا المفهوم حتى عاد الدين فظهر من جديد، أقول ظهر من جديد، مما لا يعني أنه قد اختفى.

بالعودة إلى التطور التاريخي لمفهوم الفضاء العام، نجد أن هذا المفهوم لم يظهر ويتطور بشكل موحّد في كل الدول، مع أن له معالم مشتركة عرفتها المجتمعات. هذا ما تشير إليه تجربة دول الغرب، حيث اقترن تبلور هذا المفهوم بمسار تاريخي منذ القرن السادس عشر حتى يومنا، مما يعني أن هذا المفهوم مع الدهرنة ليسا مفهومين جامدين أو أحاديي المعنى.

لقد نشأ مفهوم الفضاء العام من عملية تمييز الحيّز الخاص من الحيّز العام (أي السلطة) من حيث هو مجال مفتوح للجميع.[10] ثمة في أصل المفهوم إذًا فاصل بين الحيّز الخاص (حيث الدين) والفضاء العام.

لكن نشوء هذا المفهوم لم يكتمل دفعة واحدة أو اتصل بحدث تاريخي معيّن، بل خضع لتطور مرّ بمراحل مختلفة وأشكال مختلفة، حتى فاز بصيغة حيّز منفصل يتميّز من الحيز الخاص والحيّز العام. والفوز يتضمن في العادة معنى الصراع، وهذا ما كان عليه مفهوم الفضاء العام إنه وليد صراع، صراع من أجل الحرية بما هو مجال مفتوح للجميع. هذا يعني أن وراء كلمة عام فكرة الحرية، وهذه الحرية تتجلى في مجال يكون حيّزًا تعبّر فيه الحرية عن ذاتها في الرأي الحر. من ثم بدأ التعبير يأخذ صورة مبدأ منظّم للمجال السياسي انعكس في مبدأ الديمقراطية.[11]

عمل يورغن هبرمس في كتابه تحول بنية الفضاء العام[12] على رسم صورة التبلور التاريخي لهذا المفهوم، رابطًا تتطوره بمراحل ثلاث. لكن القول عن مراحل لا يعني أن ثمة قطيعة بين مرحلة ومرحلة، بل هي إشارة إلى تطور المفهوم بارتباطه بالواقع الاجتماعي، والسياسي والفكري: 

  • المرحلة الأولى: هي مرحلة فصل الارتباط بين العام بمعنى المجال الخاص بالسلطة والعام بمعنى الحقل الذي يخص الجميع أي الشأن العام الذي لا تحتكره السلطة كحق من حقوق الجميع (not holding public office or official position). [13]والسلطة (نحن نتحدث عن مرحلة تمتد من القرن السادس عشر حتى نهاية الثامن عشر) كانت تتمثل يومها في الحلف القائم بين القوى الاقطاعية، والكنيسة وحكام المقاطعات أو النواحي التي كانت تحتكر مفهوم المجال العام وشؤونه. في هذه المرحلة ارتفعت المناداة بتحويل الدين شأنًا خاصًا مع ضمان حرية الاعتقاد كحرية انتماء خاص[14]. واقترنت هذه المطالبة بصعود فكرة الفرد والطبقة البورجوازية المؤلفة من التجار وأصحاب المهن والمثقفين وغيرهم الذين أوجدوا لهم موقعًا مقابلاً للسلطة. [15] وقد أدى هذا التطور إلى قيام ثنائية بين السلطة والفضاء العام، فنشأ من هذه الثنائية المفهوم الحديث للسلطة القائمة على المؤسسة وصون الحريات، مع التشديد على انتظام الحرية من ضمن إطار لا يمس بالانتظام العام، حتى يكون الانتظام العام مجالاً للتعبير الحرّ، مهما كان شكل هذا التعبير.[16]

 

  • المرحلة الثانية: مرحلة تكوّن بنى الفضاء العام الاجتماعية. كان العنوان العام لهذه المرحلة كسر النماذج المألوفة أو الموروثة واستبدالها بالتفكير العام أو الاستعانة بالعقل تحت عنوان الاستعمال العام للعقل.[17] فلم يعد التفكير حكرًا على طبقة معيّنة بل صار الجميع من حيث الطبيعة عُقالاً وشركاء عبر تداول المعرفة والأفكار.[18] سيؤدي هذا بالطبع إلى تحويل في بنى المجتمع، إذ يزيل نوعًا ما الثنائية التي تشكلت في المرحلة الأولى، بحيث أن الجميع يشاركون في ما يقدّمه المجال العام كالمسرح والمقاهي والصالونات وغيرها. [19] أرسى هذا التحول مبدا النقاش العام في المسائل، فلم يعد التسليم بما تمليه الهرمية المجتمعية هو السائد، بل ما ترسيه قوة الحجة. وهذا طبعًا سيؤدي إلى وضع ما كان يصنّف تحت خانة "المطلق" تحت النقد، وبالتالي ستخسر المرجعيات التي تحتكر قضية تفسير هذا المطلق، وهما السلطتان الروحية والمدنية، مرجعيتهما في هذا المجال لصالح الفلسفة والأدب والفنون وبالتأكيد الاقتصاد كجزء مرتبط بحركة الفكر والفن والأدب.[20] ولا يمكن هنا اغفال محورية الطباعة والصحف التي لعبت دورًا أساسيًا في بث النقد وتسليط الضوء على القضايا. وقد ربط هذا التطور من جهة بمفهوم الأنسنة (Humanism) التي تقوم على المساواة بين أفراد المجتمع وحقهم بأن يكون لهم رأي وإطار علاقات اجتماعية متفق عليها[21]، ومن جهة أخرى بمنظومة قانونية مبنية على معايير عامة ومجردة تتعامل مع الإنسان فردًا في ذاتيته[22]. إذًا أُعيد تكوين المطلق على أساس هوية مفترضة مبنية على قوننة المجال العام على أساس أن الإنسان يملك الحق بالرأي وبأنه إنسان وحسب.[23] إستتبعت ذلك حركة البرلمانات وصدور الدساتير، وخصوصًا شرع حقوق المواطن، في فرنسا ومن ثم في أميركا... لكن هذا الانتقال تحول في بعض المراحل إعادة اختصار للفضاء العام بالتمثيل السياسي في البرلمان، فترك نتائج سلبية.[24]

 

  • المرحلة الثالثة: المرحلة الليبرالية ودور الطباعة في نشر المعرفة. لم يكن لينبث هذا المعنى للفضاء العام كما أشرنا سابقًا، لولا الدور الذي لعبته الطباعة في نشر المعرفة وآزرتها في ذلك الروح الليبرالية. فالنشر ارتبط بموقف كانط بــــ"الاستعمال العام للعقل" الذي هو تثبيت عملي للحرية والأداة الفاعلة للأنوار. فكل واحد مدعو إلى لعب دور "المُعلِم" لأن العالم يتكلم من خلال ما ينشر. فهذا العالم هو حصيلة المعرفة باعتباره معرفة عالم (Weltkenntnis)، وهو عند كانط صورة للمواطنة العالمية على قاعدة التواصل. هذا العالم هو الذي سيعبر عنه المنحى الجمهوري باعتباره العالم الذي تتمكن فيه العقول من التعبير عن ذاتها فتساهم في تكوين عالم حياة مشتركة، تكون فيها الاستقلالية قائمة على أساس أن لكل واحد الحق بالتفكير بسعادته والبحث عنها بأي طريقة تكون مفيدة له. هذا يعني كفل حرية الفرد تحت حماية القانون.[25] سيترجم ذلك بالدرجة الأولى في المفهوم الليبرالي الذي يتيح لكل فرد البحث عما هو مفيد له شرط ألا يضر ذلك بحق الآخرين بالشيء ذاته أو يعيقهم عنه.[26] وكي يتم ذلك كان لا بد من أنظومة حقوقية وأخلاقية تبنى على أساس المساواة والعدالة، كما يظهر ذلك في نقاشات العدالة والمساواة في القرنين الثامن والتاسع عشر وحتى يومنا. هذا الجو من الاستقلالية والليبرالية، فسحا في المجال لمبدأ النسبية على أساس أن الحقيقة تتصل بما هو نافع وبما لا يتناقض مع حرية الفرد. وهذا طبعًا (وهنا الكلام ليس لكانط بل استنتاج مما تقدم) سيكون له تأثير على دور الدين في الفضاء العام كعائق للحرية والسعادة، لأنه يواجه الواقع النسبي بالحقائق الأزلية من دون أن يعطي الدليل على صحتها، فهو لا يملك الوسائل ليجعل هذه الحقيقة في مجال ما هو مفيد للحياة المباشرة للإنسان. وهنا يمكن الإشارة إلى نقطة مهمة أيضًا تكلم عنها هبرمس في الكتاب وهي تحويل الإنسان كائنًا استهلاكيًا وتحويل الفضاء العام فضاءً استهلاكيًا.

 

هذا التطور الذي عرفه الفضاء العام، كما اختصره هبرمس، أعطى صورة نمطية كما لو أن الدين لا حظ له في العودة مجددًّا إلى هذا الفضاء بعدما أخرج منه، باستبداله بالفردية المطلقة على قاعدة الاستقلالية والحرية، ومن ثم بإخراج مطلقية الدين بما هو يؤمن الغطاء الإلهي والأخلاقي للسلطة والحياة في المجتمع بواسطة الأنسنة والقوانين، وبعد ذلك بحذفه نهائيًا بواسطة النسبية التي تتجسد في السعي الاستهلاكي نحو ما هو نافع.

                 

  1. عودة الدين إلى الفضاء العام

هذه النتيجة التي يشير إليها تطور الفضاء العام، لم تكن حاسمة في موضوع الدين بأن تنقله كليًّا إلى دائرة الخاص وتخرجه من مجال العام، لأن الأزمة التي أصيب بها العقل بنتائجه الوسائلية، كما عبر عن ذلك ماكس هورك هايمر وأدولف فون أدونرنو في كتابهما جدلية الدهرنة[27]، فتح زمنًا جديدًا لنسبية العقل الذي أشاعه عصر الأنوار أنه هو الذي سيجلب السعادة للبشر لأنه سيجلب لهم الحرية. فإذا بهذا العقل ذاته، على رغم التطور الذي حصل، يجر البشرية إلى أزمات كبيرة، منها الأنظمة الديكتاتورية التي أسست على مطلقية الدولة كمطلب من مطالب العقل، وحروب جرّت على البشرية أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية، وسيطرة السوق على حياة الإنسان تحت ناصية الحق بالرفاه والمنفعة، وكان من نتائجه الأخيرة أزمة 2008 الاقتصادية وأزمة البيئة.  

هذه الأزمات فتحت الطريق لمرحلة ما بعد الحداثة أو كما يقال اليوم لزمن-ما-بعد-الدهرنة، وهي مرحلة يبحث فيها العقل عن مصادر له، تكون داخل-عقلية لا خارج-عقلية. وهذه المصادر لا يجدها العقل الوسائلي في ذاته، لأنه لم يطور نظيرًا لها. فالبحث عن مصدرها يعيدنا بالطبع إلى الحضارات والتراث الإنساني، ومن أقدم هذه المصادر الدين. لهذا يتم الحديث اليوم عن عودة الدين إلى الفضاء العام. ويعود معه الحديث عن الفرد المستقل، لكن المنتمي من دون أن يشكل ذلك عقدة أو تناقضًا أو حاجزًا لانتمائه إلى الفضاء العام. كما يقوم بحث عن مصادر ما-قبل-قانونية للبناء القانوني، من دون أن يعني ذلك ارتهان القانون لمصدر دون آخر. كذلك نجد إعادة بحث في معنى الليبرالية، عبر السؤال عن ضرورة معايير لا تناقض حرية البحث الحر عن النافع، لكن يكون لهذا البحث مستند معياري يحدّ من عملية الإقصاء الذي يقوم عليه التنافس الاقتصادي اليومي، فعلى سبيل المثال يتم الحديث اليوم عن "اقتصاد إدماجي" بدل الاقتصاد الإقصائي. وفي هذا المجال تظهر أيضًا أهمية المسعى البيئي الذي يحاول أن يلقي الضوء على صورة الاهتمام بــــــ"البيت المشترك".

لتبيان هذا التحول، ينكب كثيرون على البحث عن سبل عودة الدين إلى الفضاء العام من دون أن يدعّي الدين أنه هو الحل النهائي أو الوحيد، فيكون ذلك استعادة لطموح سلطوي. على العكس هناك محاولات جدّية تعمل على كشف دور للدين يحتاج إليه العالم اليوم. أعرض في ما يلي لثلاثة مساعٍ تفكير في هذا المجال، تبيّن الدور الذي يمكن أن يلعبه الدين من جديد في الفضاء العام: الأول لتشارلز تايلور (Charles Taylor) عن معنى الدين في إعادة بناء فضاء الثقة بالمعنى، والثاني ليورغن هبرمس (Jürgen Habermas) عن الدين والمساهمة التي يقدّمها على صعيد العقل العام، والثالث لكان فيلبر (Ken Wilber) عن الدين في بناء "رؤية تكاملية" للوجود الإنساني.  

يعتبر تشارلز تايلور أنّنا نعيش اليوم مرحلة جديدة من تاريخ المجتمعات، وخصوصًا على صعيد العلاقة بين الدين والمجتمع، يسمّيها مرحلة "النيو-دوركهايميّة"، ويعرّفها بأنها مرحلة "يندمج فيها شعور الانتماء إلى المجموعة مع شعور الانتماء إلى الطائفة، ويكون السعي إلى ترميز التحديات في تاريخ المجموعة بواسطة مقولات دينية. "[28]يعني ذلك أن الدين عاد يلعب دورًا لافتًا في تكوين الهويّة الذاتية والجماعية على السواء وله تأثير في مجالات الحياة المختلفة.[29]

والتأكيد الذي يطلقه تايلور يرتكز بالدرجة الأولى إلى الحال الحضارية التي يمر بها عالم اليوم، التي يصفها بأنّها حال "تململ حضاري" ناتج بالدرجة الأوّلة من الفردانية المفرطة، التي أبعدت الإنسان عن مصادر المعنى و"الأفق الأخلاقية"، وبالدرجة الثانية من "العقل الوسائلي"، الذي ساعد الإنسان على التحرّر لكنّه في الوقت عينه وضعه أمام مخاطر تهدّد وجوده، وبالدرجة الثالثة من البعد السياسي المرتبط بنتائج الفردانية والعقل الوسائلي الذي يظهر في تحكّم بنى المجتمع التقني-الصناعي ومؤسّساته بخيارات الإنسان. فكانت النتيجة في نظر تايلور نوعًا من انقلاب قامت به الحداثة على ذاته، إذ بشّرت الإنسان بأهّم خاصة فيها أي "تحقيق الذات"، لكن النتيجة أتت معاكسة، بحيث تحوّل الإنسان أداة في يدها، فانفصل تحقيق الذات عن أي غاية جوهرية للوجود وانحصر في البحث عما أسماه توكفيل "الرغبات الصغيرة والمبتذلة".[30]  

تكشف هذه الحال التي تمر بها الحضارة عن سبب تقدّم الدين من جديد في الفضاء العام، فالقضية على صلة بالمعنى لا على المستوى الفردي وحسب، بل على مستوى المجتمع أيضًا، إذ إن المعنى يشكّل عاملاً مساعدًا على الدمج الجماعي والمجتمعي، كما يظهر تايولر ذلك في كتابه أشكال الظاهرة الدينية في الزمن الحاضر[31] الذي يتناول فيه موضوع الظاهرة الدينية في ماهيتها ووظيفتها ومظاهرها في الزمن الحاضر.

في موضوع وظيفة الدين ترتبط هذه الوظيفة بسؤال المعنى. كان تايلور قد استلهم الموضوع من وليم جيمس الذي تحدث عن السويداء في الحضارة المعاصرة، والناتجة من الاكتفاء في البحث المعرفي بتخلٍ عن البحث عن المعنى، مع أن العقل يرمي إليه من وراء الجزئيات المعرفية، حتى أن "العالم (صار يبدو) بعيدًا، غريبًا، مظلمًا، وموحشًا، والأشياء، بدورها، تظهر كأنّها وهمية، وبعيدة، كما لو أنّه ينظر إليها من خلال غمامة".[32] فخلّف الابتاعد عن المعنى شعورًا من "اليأس الكلّي والكامل" أو القلق. يضيف تيلور إلى أسباب السويداء هذه أطروحة "موت الله"[33]التي أدت إلى فقدان أي ضمانة بوجود معنى وانعدام الوسائل لبلوغ المعنى. يعلّل تايلور هذا الأمر بالابتعاد عن المصادر التقليدية كقوّة معرفية أو إدراكية في الاستدلال إلى المعنى. فهذه المصادر لم تعد توفّر أيّة ضمانة كما يقول : "(...) المصادر التقليدية (لهذه الضمانة)، سواء أكانت لاهوتية أو ميتافيزيقية أو تاريخية، أضحت في دائرة الشكّ. لهذا تظهر السويداء بشكل جديد، فهي لا تبرز على مستوى شعور الرفض والابتعاد عن كون (cosmos) ملؤه المعنى غير المشكوك فيه وحسب، إنّما في صعوبة تحديد ماهيّة هذا الفراغ الكلّي، الذي يربط البداية والنهاية بوهم المعنى. وهذا الأمر يسبّب ألمًا (...)"[34] لانعدام إمكان وجود معنى. 

قدم تايلور ذلك شرحًا وجوديًا لهذاه الحال، حين اعتبر أن السويداء صارت نتيجة حتمية للشعور بسيادة الشرّ بشكل قوي، ممّا يحمل على الشكّ في قدرة الخير على التغلّب عليه. وهذا الشعور تحوّل نوعًا من قاعدة معرفية تنفي حتى وجود نظام خيّر، وتُكسب المرء شعورًا بأنّ الشر هو النظام الذي يحكم الوجود. ويصرّ تايلور على أنّ "(...) تبدّد الشعور بنظام باطني (للوجود)، يمكن فيه للخير أن ينتصر، بات أمرًا ثابتًا. وصار الشعور بوجود الشرّ فينا وخارجًا عنا (...) أمرًا لا شك البتة في حضوره الفعلي (...)".[35]

والجواب على هذه الحال، لا يكون في نظر تايلور بالركون إلى أي مقدّمات، لا لاهوتية كانت ولا ميتافيزيقية أو معرفية،[36] بل يجب أن يكون اختبارًا دينيًا يسميه وليم جيمس إحداث شعور غريزي يجمع الديني بالجانب الحسّي في الطبيعة الإنسانية، فيكون له دور مركزي، إذ يأخذ شكل عقل حسيّ، إذا جاز التعبير. فيلعب هذا الشعور دورًا مساعدًا على الوصول إلى قرار "حسّي" بين مجموعة من الافتراضات المعاشة. والمقصود بذلك هو أنّ الديانة، بما هي إحساس، تهيئ الظروف المواتية على مستوى الشعور، فتخّول الإنسان التوصل إلى خيار معيّن والانقياد إليه. وهذا الأمر يتم، من خلال بلوغ الشعور نقطة تجعل الإنسان يشعر بوجود "شيئٍ كبيرٍ لا يزال موجودًا (...)"،[37] على رغم تعدد الخيارات المبعثرة.  ومن المؤكد أنّ هذا الاختيار لا يتمّ بمعزل عن الاقتناع بأنّ هذا الشكل يحتوي معنى أكثر من الأشكال الأخرى. وفي الوقت عينه، يولّد هذا المعنى حالاً من اكتساب معنى. فيكون عندها الاختيار في ذاته معنى، أي شيئًا كبيرًا أو مرحلة في التأكد من وجود شيء كبير أو معنى أكبر. ويحسم الشعور في هذه المعادلة مكانته طريقًا معرفيةً نحو المعنى، من دون الادعاء بقدرة تحديد هذا الشيء الكبير. هكذا يظلّ المعنى مفتوحًا على شعور بوجود شيء كبير لا يمكن تحديده. فتكون الديانة عندها الحافز إلى هذا الخيار، لأنها في الأصل خيار دائم من أجل شيء كبير يتخطّى القدرة على التحديد. إذًا بدل الشعور الغريزي يحضر الشعور بــ"وجود ما هو أكثر".

قدّم يورغن هبرمس مساهمة مختلفة، منطلقًا من دور الدين على صعيد العقل العام في زمن ما بعد الدهرنة، وهو زمن يمر بـ"تحوّل في الوجدان"، بعدما عاد الدين يظهر عاملاً أساسيًا على صعد مختلفة، منها السلبي، مثل ظاهرة التطرف الديني والحروب الدينية الجديدة، ومنها الإيجابي الناتج من ظاهرة الهجرة، التي تعتبر عاملاً مهمًا في اختلاط الثقافات وتفاعلها.[38] والحدث الأبرز في نظر هبرمس كان تاريخ 11 أيلول 2001. وأبرز ما فيه ردة الفعل التي أتت عليه باستحضار شعارات دينية مقابلة.[39] ومن المسائل التي تساعد على طرح الموضوع أيضًا، تطوّر علوم الأحياء مثلاً الذي يشكل تحدّيًا مزدوجًا للدين والسياسة، وخصوصًا الإمكانات التي تتيح لهذا العلم التدخّل قبل الولادة في التركيبة الجينية للإنسان، مع ما ينتج منها من تقويض لما هو "مسلّم به إنسانيًا على الصعيد الخلقي"[40] كـــــ"الشمولية على صعيد المساواة" التي تقدّم "في المجتمعات التي تسود فيها تعددية في النظرة إلى الوجود، الأساس العقلاني الوحيد المقبول في تنظيم معياري للنزاعات".[41] هنا نقف إذًا أمام سؤال أساسي يعترض الحياة المشتركة الحرّة والعادلة، لأنّ مفهوم المساواة يعتبر القاعدة الأساسية للعدالة في المفهوم الحديث، إذا أراد المجتمع الحفاظ على بعض من "معنى الإنسانية"[42] الذي أعطته الديانات قيمته في الأساس. وهذه المساواة قامت على مفهوم أعمق هو الفرد في فرديته، وهو من المفاهيم الدينية الأساسية. يعطي عليها هبرمس المثال التالي: "في اليوم الأخير [...] يحضر كل واحد منّا بمفرده، الواحد بعد الآخر، ولا يقدر أحد أن يدافع عنه، وحيث لا تنفع حماية الكرامات والممتلكات الأرضية، لنقف في حضرة وجه الله الديّان، فنكون خاضعين لمشيئته، وبالطبع لعدالة حكمه. وأمام استحالة حلول الواحد مكان الآخر في تحمّل مسؤولية مسيرة حياته الشخصية، يتوقّع كلّ واحد المعاملة نفسها. وعلى هذا الأساس من تجريد شكل الدينونة الأخيرة، تجد السياقات المفهومية في موضوع الفردانية والمساواة أصولها، وتستند إليها أيضًا أسس دستورنا الشاملة".[43]

هنا يبرز دور الدين في نظر هبرمس في ضوء التحديات الجديدة، لأنّ فيه "قدرة عقل" (Vernunftpotential)، إذ إن "التقاليد الدينية تمتلك قوة بيان مميّزة تساعد الحدس الخلقي، ولاسيّما في ما يتعلّق بأشكال التعايش الحسّاسة بين البشر. هذه الطاقة تجعل من الخطاب الديني في مسائل سياسية ملائمة، المرشّح الجدّي لمضمون حقيقة محتملة يمكن ترجمتها في مفردات جماعة دينية معيّنة وفي لغة قابلة للمداولة العامة".[44]

لذا يرى هبرمس ضرورة الحفاظ على قدرة الدين الدلالية في أوقات تأسيسية وتحولات كبرى على الصعيد المجتمعي. وهو يناقض بموقفه هذا نظرة ماكس فيبر الذي كان يعتبر أنّ الدين "في المطلق غير منطقي وسلطة منافية للعقل".[45] هكذا يعطي "مجتمع ما بعد الدهرنة" علاقة الدين بالمجتمع بعدًا جديدًا، فلا تتجاهل المجتمعات الحديثة بفضل دهرنتها قدرة العقل الكامن في الأديان.

لكن التأكيد الذي يطلقه هبرمس عن دور الدين يثير مسألة ضمان الشروط التي يمكن بموجبها النظر إلى حضور الدين وإعادة الاعتبار إليه[46] في الفضاء العام وفي المجال الثقافي العام في مجتمع تعدّدي، من دون أن يحدث ذلك مسًّا بتحرّر مبادئه وديمقراطيته. يتحدث هبرمس هنا عن "عملية اكتساب مكمّلة"، حيث "يأخذ [المواطنون غير المتديّنين والمواطنون المتديّنون] على محمل الجدّ وفي شكل متبادل مساهماتهم في القضايا المثيرة للجدل في المجال العام، ومن ثمّ أيضًا تلك الآتية من الأسس المعرفية".[47] لذلك يتوقّع هبرمس من الأشخاص غير المتديّنين ألا ينفوا عن التعبيرات الدينية في المجال السياسي العام "محتوى معرفيًا محتملاً"، لأنّه يعتقد بأنّ من "صالح المواطنين الدهرانيين وجود ذهنية مماثلة".[48]

وهو يرى أن نجاح "عملية الاكتساب" المشتركة بين الطرفين مرتبطة بعيش الطرفين في مجتمع واحد وعلى أرض واحدة، بحيث لا يمكن للواحد أن يمحو الآخر أو يتنكّر لوجوده. وهو يرى ضرورة تغيير هذه العقلية مقدّمًا اقتراحًا استفزازيًا،حين يشير إلى أنّ من غير الجائز في الدول الدهرانية أن تأخذ الأكثرية الدهرانية قرارات حاسمة في علم الأحياء مثلاً تخدش الاقتناعات الدينية لدى المواطنين المتديّنين، قبل أن تعطى معارضتهم درجة سماع وافية. فالأكثرية الدهرانية "يجب أن تعتبر هذا الاعتراض شكلاً من أشكال حقّ نقض إرجائي لهذه القرارات، حتى يتبيّن لها ما يمكنها أن تكتسب منه".[49] يتم ذلك عندما يوسّع مفهوم الحرية الدينية في الدولة الليبرالية خارج حدود التسامح، لأنّ الدولة الليبرالية تقوم في الأساس على تكريس التعدّد، الذي يتطلبه النظام الديمقراطي، شرط أن تكون الديمقراطية ديمقراطية "مداولة ولها طابع شامل" يساعد في مشاركة الجميع في عملية أخذ القرارات. فالتسامح ليس مسألة قانونية وحسب، بل هو أيضًا ممارسة في الحياة اليومية، يتم بقبول المتديّنين من ديانة واحدة أو من ديانات مختلفة وغير المتديّنين مختلف الاقتناعات والممارسات وطرق الحياة المختلفة، حتى وإن كانوا لا يستسيغونها.[50]

 وكي ينجح تبادل وجهات النظر، لا بد من أن تمتنع النظرة الدهرانية عن اعتبار نفسها مطلقة. وهذا يحتاج طبعًا إلى "قطيعة معرفية تأتي من يقين نقدي ذاتي يُقّر بحدود العقل الدهراني".[51] إنّ هذا الشرط لا غنى عنه في مجتمع ما بعد الدهرنة وهو يتمثّل في إدراك حقيقة أنّ العقل الدهراني لا بدّ من أن يأخذ في الحسبان إمكان وجود جانب عقلي في الدين، له معنى.

 إلاّ أنّ ما يطلبه هبرمس ليس مجرّد "عملية اكتساب" من جانب غير المتديّنين. ثمة عملية "اكتساب متكاملة"، على المواطنين المتديّنين وغير المتديّنين إنجازها. فيكون على المتديّنين كمواطنين: أن يسعوا جاهدين إلى ترجمة معتقداتهم الدينية في لغة دهرانية، لتكون أهميّتها مفهومة لدى المواطنين غير المتديّنين، ومن ثمّ إلى تحديد أسس الدهرنة، التي تساعد في تحويل مضمون الدين الدلالي شيئًا معقولاً بأن يتناسب خطابهم ورابطة اللغة الدهرانية وعملية التبرير التي تعتمدها. فتكون "ترجمة صائبة (لهذا الخطاب، وإلاّ كان) من الصعب أن يجد مضمون الصوت الديني طريقه إلى جداول أعمال المؤسّسات الحكومية ومفاوضاتها، أو أن يؤخذ في الحسبان في عملية سياسية أوسع."[52] شدّد هبرمس على هذا الأمر ، عندما تكلّم على ثلاثة حوافز للتفكير مطلوبة من المتديّنين في المجتمعات الحديثة: "إنّ على الوجدان الديني أوّلاً معالجة التنافر المعرفي في لقائه الطوائف والأديان الأخرى، وعليه ثانيًا أن يتكيّف مع سلطة العلوم، التي في يدها الاحتكار الاجتماعي للمعرفة الكونية، وأخيرًا، عليه أن يوافق على مقدمات الدولة الدستورية، المؤسسة على أخلاق دنيوية (profane)".[53]

ومن دون هذه الحوافز الثلاثة من المحتمل أن تتجه الأديان في الإطار التعدّدي للحداثة إلى التصلّب من ضمن قوالب أصولية ولا يعود يعترف بها شريكَ حوارٍ على قدم المساواة.

هذا الموقف الذي يأخذه هبرمس يعني بالنتيجة:  أولاً، أن لا رجوع إلى زمن ما قبل الدهرنة، حيث كان الدين يتحكّم بحياة المجتمعات في شكل كامل، لكن من المؤكد من الناحية الأخرى أن لا مجال بعد اليوم لتحتكر الحداثة منفردة الساحة المعرفية من دون شراكة وتفاعل مع مصادر أخرى لفهم الوجود البشري والحياة المشتركة في المجتمعات. هذا التحوّل سيؤدّي حتمًا إلى تبدّل على الصعيد السياسي في فهم الحياة في الدولة، إذ لا يمكن الكلام على مجتمع ما بعد الدهرنة من دون الكلام على دولة ما بعد الدهرنة وسبل إدارتها التعدّد الموجود فيها. وهذا لا يتمّ بعيدًا عن اعترافها بمكوّناتها وقبولها جزءًا مكوِّنًا للدولة وفاعلاً فيها.[54] وينتظر "(...) من الجماعات الدينية (في المقابل) في دولة دستورية لا مجرد التكيّف والمشاركة بتعايش هش وحسب، بل ينبغي لها بالأحرى أن تجعل من الشرعية الدهرانية شيئًا خاصًا بها على أساس مقدمات إيمانها الخاص"[55]

ثانيًا، هذا يعني أن الدين لا يمكن تركه بعد اليوم في الحيز الشخصي، وخسارة معناه على صعيد الفضاء العام السياسي والثقافي،[56] في حين بالإمكان أن تلعب الجماعات الدينية دور "جماعات تفسير"، تتولّى تفسير قيمها في شكل يساعد المجتمعات على البحث عن صياغة حلول لمشاكل القيم. وهذا لا يتمّ حقّاً إلاّ بتكريس التواصل السياسي في الفضاء العام عن طريق ترك المجال لكلّ الأصوات ومنها الدين، لتعبّر بلغة خاصة عن تصوّرها للأمور. "فمن غير المسموح به أن تمنع الدولة الديمقراطية الأفراد والجماعات من التعبير عن أنفسهم في شكل عفوي، فهي بذلك لا يمكنها أن تعرف، إذا كانت تفصل بذلك المجتمع عن مصادر تكوين المعنى والهوية".[57] هذا يعني أولاً أن الدولة لا يمكنها أن تستند حصرًا إلى اتّفاق مسبق يؤمّن وحدة ثقافية مهيمنة على المجتمع والدولة. فآليات الديمقراطية الحديثة، وخصوصًا ديمقراطية المداولة، تحول دون هذا النوع من الهيمنة، لأن الوحدة الثقافية في زمن العولمة باتت وحدة مرهونة بنتيجة التفاعل المجتمعي بين مكوّنات المجتمع المختلفة ؛ ويعني ثانيًا، أن الدولة لم تعد دولة محايدة بالمعنى التقليدي للكلمة، بل حياد الدولة صار نتيجة إعمال العقل للتوصّل إلى قواسم مشتركة نتيجة العقل التواصلي الذي يستند إلى مجموع العقول التي يتكوّن منها المجتمع لا حصر ذاته في العقل الطبيعي.

أما كان فيلبر، فينطلق بدوره من الواقع الذي أملاه التبدل الذي حدث في العالم في زمن العولمة التي فتحت الحدود بين الدول والحضارات والبشر، وأحدثت تداخلاً لا عودة عنه في مجمل الحقول. وهذا الانفتاح ليس مجرد انفتاح عابر، بل المعرفة بحد ذاتها صارت شاملة.[58]  ومن المؤكد أن هذا التحول لا بد من أن يحمل على البحث عن طريقة جديدة للتعامل مع هذا التعدّد المعقّد، ويحتّم بالتالي الانتقال من رؤية أحادية أو تفضيلية إلى رؤية تكاملية. في هذه الرؤية لا يمكن إقصاء السؤال عن المعنى لأن الرؤية التكاملية تحاول أن تبحث عن المعنى في كل مراحل نمو الوعي الإنساني. هنا يدخل الدين مرحلة ضرورية لديه من مراحل الوعي الإنساني لأنه من مراحل بلوغ المعنى. وهو يركّز على هذا الدور من منطلق الطلاق الذي أحدثه العلم الحديث أو العلوم الصحيحة مع قضية الروح، لأن العلم يسأل عن الشيء الموجود ما هو، ولا يسأل عما سيكون أو ما يجب أن يكون. والإنسان لا يمكنه أن يكتفي بهذا المستوى من المعرفة. إن الإنسان تواق إلى المعنى، إلى الحكمة والقيم والعمق والعناية والاهتمام والكرامة في وجوده اليومي. وعندما لا يحصل عليها من العلم، لا بد من أن يبحث عنها في مجالات أجرى، وبالدرجة الأولى يسعى إلى أن يستقيها من الدين الذي يقدّم للإنسان حكمة صافية.[59]  وهذا السعي، يجب ألا يفهم على أنه مواجهة مع العلم أو وقوفًا إزاء العلم، بل باعثًا إلى رؤية تكاملية تراعي مراحل تطور الوعي الإنسان ومتطلباته.

يجمع فيلبر تطور الوعي في ثلاث عتبات على صلة باختبار الإنسان، هي عبارة عن وجود مفهومي[60] تختلف تسمياتها بحسب مستوى التجريد الذي تقع تحته. لكن من المؤكد لديه أن هذه العتبات ليست محض ذاتية أو نسبية، بل موضوعية أيضًا ولها صبغة جماعية ومشتركة بين الأشخاص (interpersonnel).[61] مخططها العام يدرجه فيلبر تحت مستويات ثلاثة أو مراحل ثلاث: عتبة الأنا (egocentrisme) أو العتبة ما-قبل-الاصطلاحية، وعتبة الإثنية (ethnocentrique) أو العتبة الاصطلاحية والعتبة الكونية (mondecentrique) أو العتبة ما-بعد-الاصطلاحية.[62]  وكل عتبة من هذه العتبات تقوّم بحسب مستوى التطور الذي تحدثه في الوعي. أهميتها إذًا ليست لذاتها، بل لما تقدّمه لهذا الوعي من إمكانات الانتظام والتشكّل المركّب.[63] والمهم أيضًا أن ذلك يتم على شكل موجات (vagues, waves) تتحرك بمستويات ومن دون توقف.[64] هكذا يتم الانتقال على سبيل المثال في التطور الأخلاقي عند الإنسان من الأنا المركزة على الذات، إلى مرحلة الاثنية المركزة على الانتباه إلى الجماعة أو القبيلة أو الأمة، وهي مرحلة ربما ساد فيها الإقصاء، إلى مرحلة الادماج وهي التركيز والتعاطف مع الآخرين بغض النظر عن العرق واللون والجنس والاعتقاد.[65] ومن الممكن إدراج هذه العتبات في مثل آخر على مستوى الجسد، والذهن والروح، حيث المستوى الأول يمثل البعد الفيزيائي الذي يشير إلى تماهي الإنسان مع ذاته بواسطة جسده المنفصل عن الآخر وبواسطة رغبات البقاء لديه، والمستوى الثاني يتمثل في الذهن الذي تتخطى فيه هويته الخاصة مستوى الجسد المعزول وتمتد إلى العلاقة مع الآخرين على أساس القيم المشتركة والمصالح المشتركة... إذًا إنها مرحلة الأنا والنحن، والمستوى الثالث يتجاوز مستوى النحن إلى مستوى نحن كلنا، وهذا هو مستوى الروح.[66]

في هذا الإطار للرؤية التكاملية، يندرج موضوع الدين الذي يخصّص له كان فيلبر حيزًا كبيرًا في كتابه الرؤية التكاملية. والتفكير بموضوع الدين في الفصل الخامس من الكتاب يأتي جوابًا على سؤال : "كيف يمكن لشيء أن يعلّم من جهة هذا القدر من الحب والحياة، ومن جهة ثانية أن يولّد هذا المقدار من الموت والدمار؟"[67] والإجابة التي يعطيها فيلبر هي التالية: "ليست المسألة هنا مسألة أجوبة جاهزة. وهذا السؤال العقدة هو من دون شك التحدّي الأخطر الذي يواجه الإنسان، وبالحقيقة العالم في أثره."[68]

وصعوبة الإجابة على هذا السؤال تتعلق في نظره بتحديد معنى الأشياء، وخصوصًا في موضوع الدين. لكن من الواضح لديه أن الدين يقع في صلب خطوط التطور الإنساني التي تضم الحاجات، والقيم، والتفكر، والأخلاق والذات. وهو يستند بذلك إلى مقارنة بين توجهات عدة تعنى بعملية النمو هذه كمازلو (Maslow) الذي لديه جدول عن حاجات الإنسان وعلى رأسها تجاوز الذات، أو بياجيه (Piaget) الذي يضع في قائمة عملية التفكّر الروح المتعالي أو لوفينغر (Loevinger) وكوك غرويتر (Cook-Greuter) في الحديث عن الهوية الذاتية يحدّدون في أعلى الهرم مسألة ما يتجاوز الشخصي، وغيرهم.[69] لكن وضع هذه الأشياء في القمة لا يعني أنها منفصلة عن بعضها، بل يعني أن كل مرحلة تضم التي قبلها وتنبثق منها وترقيها.[70] هكذا يسير خط التطور في مراحل تنتقل من الشيء القائم (id) إلى الأنا (ego) إلى الروح (Esprit). "والعتبة الثالثة من التطور التي تتجاوز الشخصي ذاته تأخذ في التمدّد إلى ما فوق العالم الشخصي، إلى عالم أوسع وأرحب، مغمور بوضوح نوراني ومليء باختبارات موحِّدة، بحيث يفوح من ذلك عطر مؤكد أنه عطر روحي. لكن خلافًا للمستويات السحرية والخرافية التي هي مفهومية وعقائدية بشكل بحت، هذه المستويات من الاختبارات المحدّدة هي مجال اختبارات ويقظة مباشرة."[71] ويتوسع في هذه النقطة لناحية دورها إذ يقول: "عندما يبدوا أن الأشياء الدينية أو الروحية تظهر كما لو انها تنتمي إلى الماضي [...] يأتي القوس الثالث الأساسي. فالتطور المبني على ارتقاء الوعي العقلاني يأخذ في تجاوز العقلانية ودمجها في دوائر ترددية تتسع أكثر فأكثر مؤلفة من وعي وكذلك من الانتباه والتعاطف. وهنا لا تعبر الحقيقة السامية عن ذاتها بتعابير تجسيمية تضمن القوس الثاني، لكن بالأحرى تعبّر عن ذاتها بتعابير الكائن، والفراغ، والوعي التالّية (tellité) – وهو وعي يطال حقلاً هو في أصل كل كائن، وعي شامل، والتالّية أو ʽهل الهذاʼ ليست مسألة ثنائية، بل وضوح منير واسع [...] ذات محضة، لا متناهية [...] وحضور أو لحظة لا زمنية... هذه الديانة ليست ديانة أبائكم، ولا أمهاتكم، ولا حتى أجدادكم [...] إنها تقع على الضفة الأخرى لشبح النمو الإنساني، وهي مناهضة للمفاهيم الخرافية والسحرية [...]"[72] وليست رهينة المرحلة العقلية المحضة.[73]

يخرج فيلبر من هذه النتيجة بالاقتناع الراسخ بأن ثمة وجودًا ضروريًا لخط روحي أو لذكاء روحي. وهذا الخط أو الذكاء ينمو ويتطور عبر كل مراحل تطور الوعي.[74] يطبق هذا الأمر في المثل التالي: "[...] عندما نتنزه في الطبيعة ونعيش اختبارًا بحدّه الأقصى، يَلد لدينا الشعور بأننا نشكل واحدًا مع الطبيعة. لنُسمِّ هذا الأمر ʽتصوفًا تولّده الطبيعةʼ. أي نوع من الحال الروحية أو من الاختبار الروحي المعاش في هذه الحال من الحلم. ربما تحلم بغيمة حب كبيرة، منيرة ومشّعة، وربما تشعر بأنك في صدد الاتحاد مع هذا الحب اللامتناهي. لنُسمِّ ذلك ʽحبًا للألوهةʼ. وبالاستناد إلى الثبات من دون حلم ومن دون شكل، هل من الممكن عيش اختبار روحيٍّ يؤسس على هذا المستوى؟ يبدو الأمر أكيدًا، بما أن بعض الاختبارات الروحية أو الدينية توصف بأنها فارغة، ومن دون صيغة وغير معلنة [...] لنُسمِّ ذلك ʽتصوفًا من دون صيغةʼ (أو نسميه أيضًا تصوفًا سببيًا، بحسب الحال السببية أو من دون صيغة). وفي النهاية ثمة اختبارات أكثر تداولاً عن حالات مدّ أو سيولة، حيث يسود عند الفرد الشعور بحال اتحاد مع ما يحدث بمعزل عن المرحلة. نسمي ذلك تصوفًا غير-ثنائي".[75] وهذا الأخير يمهّد الطريق لبلوغ مرحلة مجرد الشعور بالوجود من دون دلائل عليه، لأنه روح أزلي بمعنى الحاضر أبدًا، وهو الحقل الأساس وغاية كل وجود، بما أنه حقيقة متناهية تقف وراء كل شيء، وفوق كل شيء، وداخل كل شيء.[76]

هكذا يبرّر فيلبر دور الدين كحقيقة ملاصقة للاختبار البشري في مراحل نمو الوعي، لكن من ضمن الحركة العامة لارتقاء الوعي أو في كل مرحلة من مراحل نموه.

مساهمات كل من تايلور وهبرمس وفيلبر تقدّم عناصر تفكير واضحة عن عودة الدين إلى الفضاء العام، لما للدين من دور حاسم في مسار التاريخ الإنساني وتاريخ المجتمعات. فإذا كانت الحقبات السابقة من التاريخ حاولت وضع سلطة الدين جانبًا، فهي لم تتمكن من أن تعطّل دور الدين الذي استندت إليه بأجزاء كثيرة من دون أن تترك له المجال ليبرز في الفضاء العام. أما اليوم، فمن الواضح ان الدين بسبب صموده في الساحة، إذا جاز التعبير، كتب لذاته أن يبقى قوة ولو لم تكن له سلطة أو بالحرى لم تعط له سلطة، حتى يمكننا القول إن الدهرنة كانت فرصة ساعدت الدين على أن يعاين بدقة مجال القوة لديه، وهو أنه رافعة حضارية ومجتمعية أقوى بكثير مما لو كانت مقاليد السلطة في يده.

إن هذا التطور الذي أشرنا إليه يحتّم علينا في عالمنا العربي أن نقوم بقراءة متأنية لدور الدين، وخصوصًا أن الدين لم يخرج بعد من الفضاء العام. فالتحولات المجتمعية في بلداننا تستدعي وقفة حتى نعاين أي دور يمكن للدين أن يقدّمه لمجتعاتنا بعيدًا عن الاعتداد بالسلطة التي يملكها الآن، لأن المتغيرات المجتمعية فيها إشارات إلى دهرنة على مستوى الحياة اليومية. وهذا لا بد من أن يحسب له حساب للمستقبل. هكذا بدأت القضية في الغرب، قبل أن تولد الثورة.  

 

الدكتور باسم الراعي

دكتوراه في الفلسفة من جامعة مونستر في ألمانيا، واستاذ محضار  في الجامعة اللبنانية وجامعة القديس يوسف وجامعة الروح القدس-الكسليك، يعنى بمسائل الفلسفة السياسية وفلسفة الدين وفلسفة الـتأويل. مشارك في أكثر من مؤتمر وحلقة بحثية، وخصوصًا في موضوع العلاقة بين الدين والمجتمع، وله مجموعة منشورات وأبحاث في مجال الفلسفة وقضايا فكرية أخرى. منها : ميثاق 1943، المجتمع الدولة في النقاشات المعاصرة، على حدود المعرفة (مدخل إلى الفلسفة، ترجمة من الألمانية)، ومجموعة أخرى من الدراسات. وهو ناشط في مجال النقاش المجتمعي في مسائل الدولة المدنية والعيش المشترك في المجتمعات المتعدّدة.     

 

 


 

[1]  Marcel Gauchet, La religion dans la démocratie. Parcours de la laïcité. Folio-essais 394. Paris 2011. P13.  

[2]  حميد موراني، هيغل. كتابات الشباب. دار الطليعة. بيروت 2003. ص 33.

[3] Hans Joas, Glaube als Option. Zukunftsmöglichkeiten des Christentums. Herder. Freiburg im Breisgau 22013.

[4]  المرجع السابق، ص19.

[5]  المرجع السابق، ص23.

[6]  المرجع السابق، ص26-27.

[7]  المرجع السابق، ص28.

[8]  المرجع السابق، ص33.

[9]  المرجع السابق، ص72.

[10] Elisabeth Bühler, Öffentliche Räume und soziale Vielfalt. Einführung zum Themenheft. p5-7, 5.

[11]  المرجع نفسه.

[12] Jürgen Habermas, Strukturwandel der Öffentlichkeit. StW891. Frankfurt am Rain 1990.

[13]  المرجع السابق، ص58-59 و66.

[14]  المرجع السابق، ص163.

[15]  المرج السابق، ص66-69.

[16]  المرجع السابق ص84 و162. 

[17]  المرجع السابق، ص86.

[18]  المرجع السابق، ص88-89.

[19]  المرجع السابق، ص90 و95

[20]  المرجع السابق، ص97.

[21]  المرجع السابق، ص111.

[22]  المرجع السابق، ص118 و119. 

[23]  المرجع السايق، 121.

[24]  المرجع السابق، ص153 و155 و157.

[25]  المرجع السابق، ص182-183.

[26]  المرجع السابق، ص187.

[27] Max Horkheimer und Theodor W. Adorno, Dialektik der Aufklärung. Philosophische Fragmente. Frankfurt am Main 162006.

[28] Charles Taylor , A Secular Age. Harvard University Press 2007. P.458.  

[29]راجع:

Charles Taylor, Religion heute. Der Ort der Religion in der modernen Gesellschaft. In: Transit (19/2000). P.84-104. Ici p.101.

[30] راجع: . Charles Taylor, Le malaise de la modernité. Paris 2008. P.9-19

[31] Charles Taylor, Die Formen des Religiösen in der Gegenwart. STW (1568(. Frankfurt am Main 2002.   

[32]  المرجع السابق، ص34.

[33]  المرجع السابق، ص40.

[34]  المرجع السابق، ص38.

[35]  المرجع السابق، ص40.

[36]  المرجع السابق، ص42.

[37]  المرجع السابق، ص55.

[38] راجع:

Jürgen Habermas, Dialektik der Säkularisierung. In: Blätter für deutsche und internationale Politik (4/2008). P.33-46. Ici, p.36.

[39] Jürgen Habermas, Glauben u. Wissen. Friedenspreisrede 2001. http://www.glasnost.de/docs01/011014habermas.html

[40] Jürgen Habermas, Die Zukunft der menschlichen Natur. Auf dem Weg zu einer liberalen Eugenik? Frankfurt 42002. P. 32.

[41] المرجع السابق، ص 151.

[42] Jürgen Habermas, Nachmetaphysisches Denken. Philosophische Aufsätze. Frankfurt 1988. P.23.

[43] Jürgen Habermas, Eine Art Schadensabwicklung. Kleine Politische Schriften (VI). Frankfurt 1987. P. 120.

[44] Jürgen Habermas, Zwischen Naturalismus und Religion. Philosophische Aufsätze. Frankfurt 2005. P. 137.

[45] Max Weber, Gesammelte Aufsätze zur Religionssoziologie (I). Tübingen 91988. P. 564.

[46]راجع:

Jürgen Habermas, Ein Bewußtsein von dem, was fehlt. Über Glauben und Wissen und den Defätismus der modernen Vernunft, in: Die Religionen und die Vernunft. Die Debatte um die Regensburger Vorlesung des Papstes, hg. v. K. Wenzel. Freiburg 2007. P. 47–56, Ici  p. 51.

[47] Jürgen Habermas, Vorpolitische Grundlagen des demokratischen Rechtsstaates?, in: Jürgen Habermas und Joseph Ratzinger, Dialektik der Säkularisierung. Über Vernunft und Religion. Freiburg 22005. P. 15–37, Ici p.33.

[48] Habermas, Zwischen Naturalismus und Religion, p.145

[49] Habermas, Glauben und Wissen.

[50] راجع: Habermas, Dialektik der Säkularisierung, p.39-40

[51] Habermas, Zwischen Naturalismus und Religion, p.146.

[52] المرجع ذاته، ص138 و

Jürgen Habermas, Replik auf Einwände, Reaktion auf Anregungen. In: Glauben und Wissen. Ein Symposium mit Jürgen Habermas, hg. v. R. Langthaler u. H. Nagl-Docekal. Wien 2007. P. 366–414, ici p 410–412.

[53]Habermas, Glauben und Wissen.

[54] راجع:

Jürgen Habermas, Die öffentliche Stimme der Religion. Säkularer Staat und Glaubenspluralismus. In: Blätter für deutsche und internationale Politik  (12/2007). P1441-1446, ici p1442.  

[55] المرجع نفسه.

[56] راجع:

Jürgen Habermas, Dialektik der Säkularisierung. In: Blätter für deutsche und internationale, p.34. 

[57] المرجع نفسه، ص46.

[58] Ken Wilber, le livre de la vision intégrale. Paris 2008. P16.

[59] Ken Wilber, Naturwissenschaft un Religion. Die Versöhnung von wissen und weisheit. Frankfurt am Main 21999. P 9.

[60] Ken Wilber, le livre de la vision intégrale, p17.

[61]  المرجع السابق، ص28.

[62]  المرجع السابق، ص35 و34.

[63]  المرجع الساق، ص32.

[64]  المرجع الساق، ص33 و37.

[65]  المرجع السابق، ص34.

[66]  المرجع السابق، ص36.

[67]  المرجع السابق، ص108-109.

[68]  المرجع السابق، ص111

[69]  المرجع السابق، ص112-113.

[70]  المرجع السابق، ص116.

[71]  المرجع االسابق، ص122.

[72]  المرجع السابق، ص128-129.

[73]  المرجع السابق، ص130-132.

[74]  المرجع السابق، ص135.

[75]  المرجع السابق، ص141.

[76]  المرجع السابق، ص153 و154.

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.