مستقبل الطبيعة البشرية: الإشكالات الأخلاقية والفلسفية للتدخل الجيني

 

الإشكالات الأخلاقية والفلسفية للتدخل الجيني[1]

في سنة 2001 نشر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (JÜrgen Habermas) كُتَيبًا بعنوان: "مستقبل الطبيعة البشرية: نحو نسالة ليبرالية" [2]، وقد حظي الكتيب باهتمامٍ كبيرٍ وقُدمت له مراجعات عدة، وفضلاً عن شهرة هابرماس، فإن تلك الأهمية ترجع إلى أنّ موضوع الكتاب يقع ضمن الدراسات العابرة للتخصصات (Transdisciplinary)، ولذلك سنجد اهتمامًا بالكتاب من قبل حقول: الفلسفة، والأخلاقيات الطبية، والبيولوجيا، واجتماعيات الطب، والأخلاق. ويشكل الكتاب - على صغر حجمه – أهمية خاصة لثلاثة تخصصات هي:

أولها: الأخلاقيات الطبية؛ لأنه يتضمن نقاشًا جدّيًّا وحُججًا جديدة بشأن استعمال الهندسة الوراثية واستعمال التقنيات الجينية الحديثة قبل الولادة، فهو ينتصر لفكرة فَرْض تقييدات أخلاقية (يُسميها "تحفظًا مبررًا") على الإمكانات التي توفرها التقنية.

ثانيها: الفلسفة؛ لأنه يكشف عن التطور الذي طرأ على فلسفة هابرماس الأخلاقية من خلال انخراطه في مناقشة مسألة تنتمي إلى حقل الأخلاق التطبيقية.

وثالثها: فلسفة الأخلاق وإشكالية العلاقة بين أخلاق الواجب (Morality) وما يسمى ما بعد الأخلاق (Metaethics) والفضائل (Ethics) التي تتناول مجال التقويمات والتبريرات الأخلاقية للأفراد والجماعات وعلاقتها بالحياة الطيبة، أو "الحياة التي يجب عيشها" أو الحياة النموذجية المرتبطة بقالب جديرٍ بأن يُحاكى، وهو ما تبحث فيه الفلسفة، وكذلك العقائد التي تسعى نحو الحياة الصالحة والمجتمع العادل.

يتضمن الكتاب ثلاثة مقالات، تدور المقالة الأولى حول فكرة ما بعد الأخلاق ويبحث فيها عن إمكان وجود إجابات ما بعد ميتافيزيقية عن "الحياة العادلة"، وتدور الثانية – وهي المقالة الرئيسية – حول التدخلات الجينية والنقاشات الأخلاقية حول فهم الجنس البشري لأخلاقياته، مع ملحق يناقش بعض الاعتراضات التي أثارتها أفكار هابرماس. أما المقالة الثالثة فتدور حول الإيمان والمعرفة.

في هذه المراجعة سأركز على ثلاث مسائل مركزية تناولها الكتاب بالإضافة إلى بعض الانتقادات التي وُجهت إليه.

 

  1. البحث عن إجابات ما بعد ميتافيزيقية للسؤال عن "الحياة العادلة":

يميز هابرماس في هذا السياق بين نظرية "كانت" في العدالة ونظرية "كيركغارد" في الكائن بوصفه ذاته أو الفهم الأخلاقي للذات، وقد تَبَنى موقفًا مُتحفِّظًا رأى أنه يجب على الفكر ما بعد الميتافيزيقي (post-metaphysical thinking) أن يتخذه تجاه مسائل جوهرية تخص "الحياة الصالحة" أو ما يجب على الإنسان أن يفعله كي لا يُفسد حياته، متسائلاً عما إذا كان على الفلسفة أن تدافع عن التحفظ نفسه.

يحاول هابرماس أن يقدم صيغةً كيركغاردية من "إمكانية أن يكون المرء ذاتَه" دون الالتزام بالإجابات اللاهوتية التي قدمها كيركغارد؛ لأنه على المجتمعات الليبرالية أن تبحث عن إجابات ما بعد ميتافيزيقية للأسئلة الميتافيزيقية الخاصة بالوجود وغاياته ونهاياته. فالعلوم البيولوجية وتقنياتها توسع إمكانات العمل المعروفة، كما تسمح بنمط جديد من التدخلات، وهو ما يفرض العديد من الإشكالات كتلك التي تتعلق بالفرق بين أن يكون المرء جسدًا أو أن يكون له جسد، أو بتلاشي الحدود بين الطبيعي (نحن) وبين الجهاز العضوي، وهو ما يُرسي نمطًا جديدًا من العلاقة بالذات غارقًا في أعماق الحامل العضوي للذات، الأمر الذي سيفرض تأثيرات على كيفية فهم الذوات لأنفسها بوصفها ذاتًا مسؤولة عن أفعالها، خصوصًا إذا ما خضعت هذه التدخلات لنظام السوق بطريقة تَحَكمية. وبناء على هذا المفهوم المركزي (الفهم الأخلاقي لذوات قادرة على الكلام والفعل) يرى هابرماس أنه لا يمكن للفلسفة أن تتملص من المساهمة في هذا النقاش واتخاذ موقف، وأنه "ليس هناك سبب وجيهٌ يجعل الفلاسفة يتخلون عن موضوع خلافي كهذا لعلماء البيولوجيا أو لمهندسين أغراهم العلم الوهمي".

 

  1. التدخلات الجينية وإشكالاتها الأخلاقية:

يسمح تشخيص ما قبل الزرع بإجراء اختبار وراثي تقديري لمصلحة الأهل للكشف التقديري أو تجاوز خلل الأعضاء والزرع، أو التدخل لإصلاح ما في الجينوم، وإن كان هذا التدخل يتيح لنا إمكانيات تبدو إيجابية وعلاجية، فإنه في الوقت نفسه لا يقتصر عليها؛ ولذلك يرى هابرماس أنّ النقاشات يجب أن تركز على "كلية التطور" التقني؛ لأنّ تَقَدم التقنية البيولوجية ونجاحات العلاج الجيني والتدخل الوراثي اتسعت لتشمل غايات احترازية، وجعلت المسافة الفاصلة بين التدخل المُبَرَّر (كما يُفتَرض) والتدخل غير المبرر متدرجةً، ومن هنا يركز هابرماس على ضرورة فرض حدود واضحة، خصوصًا مع وجود "نسالة ليبرالية" لا تعترف بالحدود أصلاً بين التدخلات العلاجية والتدخلات التي غايتها التطوير الخاضع لمنطق السوق. 

يثير مبدأ التدخل المتدحرج الكثير من الإشكالات الفلسفية والأخلاقية، ويمكن تلخيصها في الآتي:

أولاً: التدخل في التجهيز الطبيعي لشخص آخر هو رغبةٌ غير قابلة للتبادل، وتنشأ عنها علاقة ما بين شخصية غير معروفة، وهو ما يمثل شكلاً غريبًا في علاقات الاعتراف المتبادلة قضائيًّا والمؤسَّسة في المجتمعات الحديثة.

ثانيًا: هذا التدخل يَحُدّ - بالضرورة - من المساواة، أي التوازي في المسؤولية القائم مبدئيًّا بين أشخاص أحرار متساوين.

ثالثًا: في الأوضاع الطبيعية بإمكان المرء أن يُقيم علاقة متَعَقَّلة مع سيرورة تَشَكله، وأن يَنحت فهمًا لنفسه عبر المراجعة، وأن يَحوز نقدًا ذاتيًّا عن تنشئته، وهذا كله لن يكون مطروحًا في حالة التدخل الوراثي.

ولكن هذا النقاش حول التدخل المبرر وغير المبرر قد يُواجَه بحجتين رئيستين: الأولى: هي تسويغ إجهاض الحمل غير المرغوب فيه، والثانية: هي سلطة الأبوين وتدخلاتهم المبررة في تربية أبنائهم.

فيما يَخص الحجة المستخدمة حول الإجهاض، يحاجج هابرماس بأن ثمة فرقًا بين النقاش حول التدخل الجيني والنقاش حول الإجهاض يتلخص في البحث "الاستهلاكي" على الأجنة وتشخيص ما قبل الزرع؛ لأن مراقبة الصفة المقصودة يجعل الحياة الإنسانية "حياة آلية" تُخلَق وفق شروط معينة بالتناسب مع تفضيلات وتوجهات أخلاقية لطرف ثالث. صحيحٌ أنه يمكن أن يُحذّر من إجهاض محتَمَل، ولكنه يوقِع في صراع بين حماية حق الولد الذي سيولَد من جهة، وبين حق الأهل الذين يضعونه في الميزان كما لو كان مِلْكًا، ولكن هذا الصراع ناتجٌ عن سماحهم بإجراء اختبار وراثي على الجنين، فهم قد تَكَيَّفوا مع هذا التناقض منذ البداية. أما النقاش حول الحمل غير المرغوب فيه فهو نقاشٌ يدور بين حق المرأة في التقرير الذاتي وبين ضرورة حماية الجنين، أي أنّ القرار الحياتي بقطع الحمل ليس له علاقةٌ بهذا الاستعداد للاستخدام الاستهلاكي.

لكن يبقى ثمة نقاشٌ حول الفارق بين الإجهاض والحياة ما قبل الشخصية (pre personal life)، فالكلام في الإجهاض هو كلام عن حياة جنينية تختلف فيها وجهات النظر بين فريقين: الفريق الأول يصف الحياة الإنسانية في هذه الحالة بعبارات حيادية (خالية من الأحكام المسبقة) كوصف الجنين بأنه "تَجَمّع خلايا"؛ بخلاف "المولود" الذي يشكّل المرحلة الأولى التي يُتَحَدَّث فيها عن شخص له كرامة إنسانية، أما الفريق الثاني فيصف إخصاب الخلايا بأنه البداية الفعلية لسيرورة متطورة تتمتع بالتفرد وتُنظم نفسها بنفسها، وهو ما يمكن وصفه - بيولوجيًّا - بأنه نموذج إنسانيٌّ أو شخصٌ بالقوة وبالتالي صاحب حقوق أساسية.

أما بالنسبة للحياة الإنسانية ما قبل الشخصية فإن الجوهر المعياري الذي يجعل منها جديرة بالحماية "لا يجدُ تعبيرًا مقبولاً له من الناحية العقلانية ومن قبل كل المواطنين لا في اللغة التجريبية ولا في لغة الدين" كما يرى هابرماس، ولذلك يذكّرنا بأن تحديد عالم الحقوق والواجبات الأخلاقية كامنٌ في تحديد "أساس الأخلاق" الذي يرجع إلى جماعة الكائنات الأخلاقية التي تعطي لنفسها قوانينها، وهي جماعة تتعلق بكل العلاقات التي تتطلب أن تُنَظَّم معياريًّا، فهم يَفرضون على أنفسهم التزامات أخلاقية، وينتظر بعضهم من بعض سلوكًا يتناسب مع المعيار، بل حتى الحيوانات يمكن لها أن تستفيد من الواجبات الأخلاقية في علاقاتنا بكل المخلوقات الحساسة للألم.

فالكرامة الإنسانية – بناء على هذا - هي كرامة مساويةٌ لهذا التوازي في العلاقات، وهي "عدم المساس" الذي لا معنى له إلا في إطار العلاقات بين الأشخاص الذين يَعترف بعضهم ببعض في إطار تبادل متوازٍ ومتساوٍ. ولكن يبقى أنّ الحياة ما قبل الشخصية لا تمتلك قيمة كاملة ومساوية للحياة الشخصية، ولذلك يدعونا هابرماس إلى التمييز بين "كرامة الحياة الإنسانية"، و"الكرامة الإنسانية" التي يَضمنها القانون لكل الأشخاص.

أما فيما يخص الحجة المتعلقة بالتربية التي تمثل تبعية اجتماعية، لا تقبل الانعكاس، تصوغ العلاقة بين الأهل والأولاد، ومن ثم فهي علاقة تُخلّ بالأصل المفتَرض لدى هابرماس وهو أنّ "الأشخاص جميعًا يتلقون الوضعية المعيارية نفسها، وأنّ من واجبهم الاعتراف المتبادَل والمتوازي بالآخر؛ انطلاقًا من مبدأ تبادل العلاقات ما بين الإنسانية". ولكن هابرماس يجيب عن هذه الحجة بأن ثمة فارقًا بين التبعية الاجتماعية والنسالة الليبرالية، ذلك أنّ "القرار غير القابل للانعكاس الذي يتخذه شخص ما بتنظيم جينوم شخص آخر؛ تبعًا لرغباته سيولّد نمطًا جديدًا من العلاقة بين هذين الشخصين" تخلّ بالفهم الأخلاقي للذات التي تفعل وتطلق الأحكام بطريقة مستقلة دون وجود عائق مبدئي يتعارض مع نظام علاقات مساواتي بين الأشخاص. فالبرمجة الوراثية تولد علاقة لا متوازية، وهي "أبوية من نوع متميز"، لأن التبعية السلالية عند الأولاد تجاه الأهل وإن كانت غير قابلة للانعكاس فهي تزول مع بلوغ الأولاد سن الرشد، ولا تؤثر إلا في الوجود، لا في كينونة الأولاد ولا بأيٍّ من المحددات النوعية لحياتهم المستقبلية، أما التبعية الوراثية فهي مركزة في فعل وحيد يُنسَب للمبرمِج، وتلغي "التبادل المعتاد بين متساوين بالولادة"، وبإمكان الشخص المبرمَج أن يفسر نية المبرمِج الأبوية لكنه لا يستطيع تعديلها ولا العمل على منعها ابتداءً، أي أنّ هذه النية الأبوية الوراثية تأخذ هنا شكلاً عينيًّا عبر برنامج وراثي يثير التأثر بغير ممارسة اجتماعية تقوم على التواصل.

إنّ الإشكال الرئيس الذي يثيره هابرماس هو أنّ البحث الاستهلاكي يفشل في أن يَنسب إلى تخصيب الخلية الإنسانية كرامة إنسانية أو وضعية حامل حقوق أساسية، وهو يثير سؤالاً حول الطريقة التي يجب من خلالها فهم الأخلاق وحدودها، ولذلك يوضح هابرماس أنّ "الأخلاق" هي تلك "المسائل التي تُعنى بواقعة العيش معًا مع ملاحظة معايير قويمة"، أما ما تفعله تَقْنَنَة الطبيعة الإنسانية فهو فهم آخر لذواتنا، بحيث لم يعد بإمكاننا أن نفهم أنفسنا بوصفنا كائنات حرة سلوكيًّا ومتساوين أخلاقيًّا، نتوجه بواسطة المعايير والحجج. فالتلاعب بشكل الجينوم؛ بهدف فك رموزه: يزعزع الفوارق الحادة بين الذاتي والموضوعي، وما ينمو طبيعيًّا وما هو مصنّع أو مُفَبرك في أماكن لم تكن تحت تصرفنا، ومن شأن هذا أن يُعدل فهمنا لأنفسنا ويؤثر في الضمير الأخلاقي ويمس شروط النمو الطبيعي التي لا بد منها حتى نستطيع فهم أنفسنا بوصفنا صانعي سيرة حياتنا الشخصية كأعضاء متساوين في الحق بالجماعة الأخلاقية، ومن ثم فهو يهدد الحرية والمساواة الثابتة لكل الأشخاص كحقوق منذ الولادة، وهو شكلٌ من أشكال التسلط على أخلاقية العلاقات الشخصية وعلى التوجيه الأخلاقي للبشر بوصفهم كائنات تعرف من هي وماذا تريد أن تكون، أي أنه يؤدي إلى اضطراب الوضوح الذي بموجبه نوجد نحن بوصفنا جسدًا على ما نحن عليه، ومن هنا سيولد نمط جديد من العلاقات اللامتوازية.

 

  1. الفهم المستقبلي للطبيعة الإنسانية:

اتضح مما سبق إذن أنّ التدخل الجيني يؤثر في القدرة على فهم الذات كعضو في الجماعة الإنسانية، ويهدد المفهوم الكانتي للاستقلالية، ويلغي الفارق بين الإنسان والأشياء المصنعة، وهذا يعني أنه يشكل تهديدًا للثقافة الليبرالية؛ لأن فهم الذات شرط في الانخراط في الثقافة الليبرالية الديمقراطية وفي بناء الأخلاق العلمانية. و"سيناريو تشييء الجنين" يثير مسائل أخلاقية صعبة، ومسائل من طبيعة أخرى، والجواب الذي يمكن تقديمه يتناول الفهم الأخلاقي الذي اكتسبته البشرية – مُجتمعَةً - عن نفسها، وستصبح أخلاقيةُ إرادة المرء أن يكون ذاته إمكانيةً من بين إمكانيات أخرى، كما ستؤثر على السؤال الفلسفي حول الحياة التي يجب أن تُعاش؛ لأنها ستُفرز نقاشًا عامًّا حول الفهم الذي يجب تكوينه عن أشكال الحياة الثقافية بوصفها أشكالاً ثقافيةً. كما أنّ توسع أعمال الإنجاب وتَحَولها إلى "طبيعية" سيسهم في تغير النظرة الثقافية للحياة البشرية؛ ما يؤدي إلى القضاء على حساسيتنا الأخلاقية لصالح حسابات "التكاليف والأرباح"، فـ"الممارسة النسالية قد تُسبب ضررًا على وضعية الشخص الآتي بوصفه عضوًا في جماعة كونية مؤلفة من كائنات أخلاقية"؛ لأن النقاش حول استهلاك الأجنة لغاية بحثية أو حول الخلق المشروط للأجنة، فيه "انتهاك للحدود الخاصة بالنوع التي نعتبرها جامدة وهو بداية اللايقين المرتبط بهوية الجنس البشري" من جهة، كما أنّ هذه السيطرة بالتدخلات في علم الوراثة تنقلب إلى فعل تسلط على الذات، ما يحيل إلى "سلطة أهل الحاضر على أهل المستقبل الذين سيكونون موضوعات، والوجه الآخر لسلطة اليوم هو العبودية اللاحقة للأحياء تجاه الموتى" من جهة أخرى.

بما أنّ هابرماس يدير الأخلاق على المعايير القويمة، فهو يُقر بأننا لا يمكن أن نعطي الجنين منذ انطلاقته "حماية كاملة" للحياة؛ لأنها ثابتة لأشخاص يتمتعون بحقوق أساسية، ولكنه يوضح في الوقت نفسه أنه من غير المسموح به أن نجعل الحياة قبل الشخصية خاضعة للمضاربة، وأنّ المسألة لا ترتبط بالتقنية الوراثية نفسها وإنما بكيفية ومدى استخدامها، وبناء عليه فإن عدم الضرر الأخلاقي للتدخلات في الجهاز الوراثي لأعضاء محتَمَلين في جماعتنا الأخلاقية إنما يُقاس بالموقف الذي نتخذه للقيام بها، ولا يمكن الحصول على إجماع مُفتَرَض إلا إذا تَعلّق الأمر بتحاشي أمراض لا ريب في خطورتها القصوى، وعلى الجماعة الأخلاقية أن تُظهر أنها قادرة انطلاقًا مما يَتكون عفويًّا في حياتنا على تطوير معايير مُقنعة مُحدِّدةً الصحة والمرض للوجود الجسدي في إطار علاقة غير آلية، وإقامة حد بين التناسل السلبي واستنسال التطوير.

 

  1. هابرماس ونقاده:

إنّ المساهمة المركزية لهابرماس هنا تكمن في تصديه لهذه المسألة الحيوية والراهنة، والتي فرضت تحديًّا على نظريات فلسفية كنظرية "كانت" في الكائن الأخلاقي و"هابرماس" في الفعل التواصلي، ومن ثم اندفع هابرماس إلى مواجهة هذا؛ لأن القضية المطروحة مُلِحة وتمس مستقبل الأجيال القادمة، ولذلك دار النقاش المركزي حول الفهم الذاتي الأخلاقي للنوع الإنساني وهنا تكمن مساهمته المهمة، ولكن التساؤل النقدي الذي يمكن أن يُطرح هنا هو أنه ليس من الواضح كيف يمكن لأخلاق النوع هذه أن تُولّد الواجبات الفردية التي تقتضيها خطورة التدخل الجيني.

وقد لقي نقاشُه بعضَ النقد كما فعلت إليزابيث فينتون (Elizabeth Fenton) التي رأت أنّ هابرماس أفرط في قلقه حين اعتبر أنّ التعديل الجيني سيشوه العلاقات الإنسانية وخصوصًا بين الوالد والمولود؛ لأن هذه العلاقة تغيب فيها المساواة أصلاً، كما أنّ الأبوين يتمتعان بمشروعية التحكم في الابن خلال فترة نموه وتطوره. ولكن هابرماس تَعرض لهذه الحجة كما أوضحنا، ونقاشه كان يدور حول "توسيع" حدود تدخلات الوالدين، فضلاً عن أنّ تدخلات الوالدين في العلاقة الطبيعية محدودة ومنضبطة. والانتقاد الثاني الذي وجهته فينتون هو أنه لا يوجد حدود حاسمة بين ما هو طبيعي ومُصطنع، ومن ثم لا يوجد معايير تُتَّبع في هذا التفريق. ولكن هابرماس قدّم تساؤلات نقدية جدية حول خطورة غياب هذه الحدود؛ لأنها تُخل بأصل الوضوح الأخلاقي المطلوب، ولو أخذنا بكلية التطور المتدحرج هذه فسيترتب عليها "تشييء" الإنسان وتحويله إلى وسيلة.

تُحيلنا مناقشة هابرماس للتدخل الجيني إلى الافتراق بين العلم والأخلاق في النظر إلى المستقبل؛ فكلٌّ منهما ينظر إليه بطريقة مختلفة، فالعلم يحاول فهم الواقع الفيزيائي ولكنه نادرًا ما يهتم بالأسئلة الكبرى حول الوجود نفسه. يسعى العلم إلى الدفع بالتطورات إلى أقصى غاية وتوسيع دائرة الممكن الذي يتحول مع الوقت إلى موجود ويفسح المجال مجددًا إلى بروز ممكن آخر وهكذا، وفي هذا تصعيد من البسيط إلى المركب، وهو ما يتعين على علم الأخلاق أن يتعاطى مع نتائجه فيما بعد، ولكننا مع هابرماس أمام محاولة استباق للتطورات من جهة التعامل معها بوصفها كلية متدحرجة، أي أنها محاولة للسماح للتفكير الأخلاقي بتَخَطي العلم، والعمل على تقييد حركته والحد من محاولته الهيمنة على الطبيعة والتحكم بالطبيعة الإنسانية، بدل الاكتفاء بدور ملاحقته وإيجاد حلول ومخارج لما يُوجده بالفعل. ولكن سياران غيلفويل (Ciaran Guilfoyle) رأى أنّ الخطأ المركزي لهابرماس هنا هو أنه "بالرغم من كل رثائه لتَراجع الإيمان وتهديد الوضوح واليقين، فإنه يملك إيمانًا ضعيفًا بالإنسان نفسه"، ولكن تَخَوف هابرماس لم يكن من الإنسان من حيث هو إنسان ولكن من تدخلات التقنية فيه وخضوعه لمنطق السوق، والإيمان بالتقدم المتدحرج، أي أنّ الحديث هنا عن تَسَلط "البعض" على الطبيعة الإنسانية وأنه لا بد من معايير تحفظ حقوق المستضعفين أو الذين سيولدون من أن يكونوا موضوعًا للتدخل غير التبادلي.

يبقى أنّ هذه النقاشات الفلسفية والأخلاقية العميقة تَنتُج في سياق أوروبي ويكاد يغيب عنها الفقهاء المسلمون الذين يملكون إرثًا تشريعيًّا وأخلاقيًّا كبيرًا يتصل بهذا الموضوع، خصوصًا فيما يتعلق بمفهوم الاستقلالية الذي يطرحه "كانت" ويدافع عنه هابرماس هنا والذي "يهدم الفكرة التقليدية التي تعتبر الإنسان من ذرية الله"، ولا زالت النقاشات الإسلامية حول مفهوم الاستقلالية لم تنضج بعد، والكلام حوله يرجع إلى تصورين رئيسين: تصور علماني يستند إلى العقلانية ويتجاوز سلطة الوصايا الإلهية إلى أخلاق الواجب غير المشروطة، وتصور ديني يستند إلى مرجعية الوحي الذي له تعاليم في مسائل مختلفة بدءًا من التصورات حول الوجود وغاياته، والعلاقة بالجسد وعدم تملكه وأنه أمانة، مرورًا بمسائل بداية الحياة ما قبل الشخصية والشخصية، والكرامة التي تشتمل على حرمة الإنسان سواءٌ قبل نفخ الروح أم بعد خروجها (الميت)؛ تبعًا لتحديد ماهية الحياة الإنسانية بوصفها خلقًا إلهيًّا، والنظرة إلى الجسد في علاقته بالروح التي "تُنفَخ في جسد قد استعدّ لها".

 


 

[1] تمت كتابة هذ البحث في إطار المشروع البحثي "توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية (Indigenizing Genomics in the Gulf Region (IGGR): The Missing Islamic Bioethical Discourse)" بتمويل من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمسجل برقم NPRP8-1620-6-057. وقد تمت المراجعة النهائية للنص من قِبَل أ. نور جاسر، مساعدة أبحاث بمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق وطالبة الماجستير (تخصص الفكر الإسلامي والأخلاق التطبيقية) بكلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة.  

[2] تُرجم إلى الإنجليزية سنة 2003 بعنوان (The Future of Human Nature)، ثم إلى العربية عن الألمانية سنة 2006.

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.