ما هي الصفة الإسلامية "للأخلاقيات الإسلامية"؟
يتأمل كبار الشعراء الوضع الإنساني ويقدمون لنا الحكمة في سطور قوية تعكس عظمة هذا الكائن البشري وهشاشته في الوقت ذاته. وقد أهدانا أمير الشعراء، أحمد شوقي، لؤلؤة من لآلئ الحكمة تقول: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا" وتعكس كلماته تلك بصيرة متيقظة ورواية تحذيرية لواقع عالمنا المعاصر بما يعانيه في خضم الكوارث وموجات تسونامي، والزلازل، والحرائق ومعسكرات الجليد الذائبة؛ بين الانكماش الاقتصادي والعنف العالمي، بين الثراء الفاحش والفقر المدقع وما يرتبط بالاثنين من سمنة مفرطة ومجاعات متوحشة؛ فالأزمة التي يعانيها عصرنا بلا شك أزمة أخلاقية.وفي الوقت الذي تعاني فيه كافة المجتمعات من هذه الأزمة، نتحمل نحن المسلمين – سواء كنا أغلبية أو أقلية – عبئا أكبر نظراً لاحتلالنا مراكز متقدمة في العديد من المؤشرات السلبية علاوة على أننا أصحاب تراث يُؤهلنا لأن نكون أفضل حالاً ومعرفة من الآخرين. ولكن هل معنى هذا أن تكون هناك أزمة في الأخلاقيات في كل الأحوال؟ وما هي الأخلاقيات (Ethics)، هل هي مجرد اصطلاح آخر للأخلاق (Morals)؟ هل هي عامة وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي تختص به الأخلاقيات عندنا حتى تستحق وصف الإسلامية؟ لقد أقبلت عقول عظيمة على هذه التساؤلات وتدبرت فيها من قبل، لكن العالم الذي نحيا فيه اليوم يتطلب منا أن ننهض نحن المؤمنين العاديين والمواطنين المعنيين بهذا العالم، ونبذل قصارى جهدنا لعلنا نجد مخرجاً من هذا المأزق الذي يهدد إنسانيتنا ويهدد وجودنا جميعا بلا استثناء. عندما يحاول المرء العادي فهم ماهية "الأخلاقيات" وقبل أن يقدم على استكشاف الفوارق في العديد من النظريات والعادات التي تنشأ عنها تلك الأخلاقيات، يجد أنه قد ضل طريقه بين تلك التعريفات المتعددة لهذه الكلمة وعلاقتها بالأخلاق "Morals". إن الأخلاقيات حسب التعريف المعجمي لها هي منظومة من المبادئ الفاضلة، بينما الأخلاق هي تلك المبادئ التي تميّز التصرف الصحيح من الخاطئ. ويعرّف البعض الآخر الأخلاق باعتبارها معتقدات بشأن الصواب والخطأ توجّه تصرفاتنا، وهي منتج للزمان والمكان الذي نحيا فيه؛ بينما الأخلاقيات تقييم انعكاسي وفكري لمعتقداتنا وممارساتنا الخلقية، وهي عملية تؤدي بنا إلى نظام يقوم على السببية في اتخاذ القرارات الأخلاقية. ويرى آخرون أن الأخلاق تقتصر على نطاق الشخصية الفردية بينما تمتد الأخلاقيات للسياق الاجتماعي وقانون السلوك المتوقع من أعضاء هذا المجتمع أو ذاك. وهناك محاولة أخرى لتوضيح الصورة تفترض أن الفرق بين الأخلاق والأخلاقيات يشبه العلاقة بين الموسيقى وعلم الموسيقى مما يعطي انطباعاً بأن الأخلاق ما هي إلا مجال للدراسة فحسب، أي"علم" يشارك فيه المتخصصون (مثال علماء الأخلاقيات والفلاسفة). ولكن حتى هؤلاء المتخصصين أنفسهم لم يستقروا على تعريف واحد أو فارق واضح. فهم يضعون آرائهم في طريق ملتوية بين قوانين الأخلاق الداخلية (العادات أو الأعراف) وتطبيقها وبين الأخلاقيات (الروح أو الشخصية) الخاصة بالكائن الذاتي العاقل حيث يكون الأفراد مسؤولين وقادرين على الحكم على المبادئ التي تضفي صفة "الشخص الجيد" و"الحياة الجيدة". وقد انعكس ذلك على تصور محدد للفرد، والمجتمع والعلاقة بين الاعتقاد والسبب. هذا فضلاً عن الاضطراب الحالي فيما يتعلق بالأخلاق، والفضائل والقيم. وينظر كثير من الناس في وقتنا هذا إلى هذه المفاهيم باعتبارها رجعية تعود إلى التقاليد المقيدة - وبالنسبة لآخرين فهي عصرية حرة – أو الأسوأ أسلحة للحرب الثقافية التي يشنها السياسيون الشعبيون الذين أخذوا من تلك المفاهيم ما يلائم موضوعاتهم وجردوها من فحواها الحقيقي. فإذا خاطبت العامة (مسلمين أو غير مسلمين) وقلت أنك معني بالأخلاق، فغالباً ما يتصورون أنك تشير إلى الأخلاق الجنسية والانضباط الاجتماعي. وفي هذا السياق، يبدو أننا أصبحنا اليوم "متخوفين من الأخلاق ومتيمين بالأخلاقيات" والتفريق بينهما يهدف "لطمأنتنا بشأن سلطة كل منهما، إذ يبدو أن الأخلاق يتم فرضها، بينما الأخلاقيات تحتمل التفاوض بشأنها". ولكن دعونا نسميها بأي مسمى، فإن الأخلاقيات \ الأخلاق هي مجموعة المبادئ التي توجه حياتنا وتضع قانوناً لسلوكنا. فهي لا تساعدنا فقط على الاختيار بين الصواب والخطأ عندما تكون الخيارات واضحة، ولكن تجهزنا للإبحار في خضم الاحتمالات المبهمة. إنها وسائل لتشكيل القرارات والطرق التي يمكن من خلالها تصنيف القيم والتحقق بها في إطار مسعانا لتحقيق التوائم بين المبادئ التي نتبناها والتصرفات التي نقوم بها. إن الأخلاق ليست مجرد نطاق استطرادي لأصحاب الفلسفة المتأنقة، ولكنها أدوات الحياة العملية التي بدونها نضل طريقنا في خضم سعينا لتلبية الرغبات الجامحة وتجنب الكوارث الخاصة بكينونتنا. وهناك حركة دائمة بين تقييم تصرفات المرء وبين المعايير التي نعتنقها ونؤمن بها، وتلك القدرة على أن نصبح موضوعاً للتأمل الذاتي، هي في حقيقة الأمر منحة ربانية تظهر في ثوب المساءلة ومحاسبة النفس. إننا نشترك جميعاً في صفة الإنسانية التي تؤكد عليها العادات الدينية والروحانية فضلاً عن المعارف والعلوم الاجتماعية. ومثل اللغة والقدرة على التحدث التي نمتلكها جميعاً، هناك بعض المبادئ العامة المتعلقة بالأخلاقيات والأخلاق نشترك فيها جميعا. ومن تلك القدرة اللغوية العامة ظهرت العديد من اللغات ولغة الإشارة وجميعها تتميز في الأصوات، والرموز والقواعد النحوية. ولذا يمكنني القول إن هذا هو حال الأخلاقيات أيضا. فإن مبادئ مثل الأمانة والثقة، والاحترام، وحب الخير والاهتمام بالآخرين ودرء الأذى، وفضائل مثل العدل والشجاعة هي مبادئ وفضائل عامة، لكن طريقة فهمها والوسائل التي تظهر بها في الشخصية والمجتمع تختلف باختلاف السياق الذي نشأت به والبيئة التي تحققت فيها. عندما سُئل النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – عن أفضل البشر، أجاب أن الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا ما فقهوا. والإشارة هنا إلى تلك القدرة على التفوق الأدبي والأخلاقي التي تعد منحة إلهية عامة، وأن الدين الذي يتم فهمه وممارسته بشكل ملائم، هو ما يؤدي بنا إلى الخير الفطري الحقيقي. إذاً ما هي الصفة الإسلامية في الأخلاقيات؟ إن الاجابة على هذا التساؤل نجدها موجزة مرة أخرى في هذا القول الرائع لسيد البلغاء محمد صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". من هنا يتضح أن المبادئ الأخلاقية سابقة على الدين الإسلامي، ثم جاء الإسلام ليتمم البناء الأخلاقي ويشارك فيه. وتتأصل هذه المشاركة في النظرة الإسلامية الخاصة للطبيعة البشرية ودور الإنسان (الخليفة – الولي) والغرض من الخلق وهو الإقرار بوحدانية الله. إن دور الإنسان باعتباره عبدا طائعاً لخالقه ومولاه، وخليفته على الأرض، ومن خلال العلاقة بين الأمرين، يقتضي بسط الأخلاقيات وتدعيمها وتعزيزها. وهنا لا تتعارض ثنائيات الإيمان والمنطق، والجسد والعقل، والذات والآخر (الاجتماعي والطبيعي) ولكنها تتجانس وتتوازن على يد أشخاص مسؤولة في رحلة تبدأ منذ الولادة وحتى الوفاة، بل وفي الدار الآخرة سعياً وراء تحقيق السلام والطمـأنينة. وهنا يشارك الحدس الجماعي والفردي، والضمير الواعي، الذي يدرك ما عليه من مسؤوليات وواجبات ويدرك حدوده، يشارك في اكتشاف ووضع نظام أخلاقي يساعد على إحراز النجاح الآن وفيما بعد. إن المبادئ الشرعية التي يستقيها العقل الواعي من الوحي والتراث النبوي وتتشكل من خلال السياق الزماني والمكاني، وتلك الفضائل المستوحاة من الصفات الإلهية (مثل الرحمة، الخير، العدل، السلام) وتنعكس في الكمال الإنساني المتجسد في شخص الرسول، وكذلك الشعائر والعبادات التي هي بمثابة تدريب أخلاقي منتظم، توضح جميعها امتداد الأخلاقيات ورسوخها مما يمنحها الصبغة الإسلامية، وفي نفس الوقت تدرك جذورها الكونية العامة. ولعل مبدأ العدل خير مثال في هذا الصدد. فإن الناس في كل مكان – مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين – يعلمون بشأن فضيلة العدل ولكن إدراكهم لها يأخذ أشكالاً مختلفة. ففي الاسلام، يتجسد العدل الكامل في المولى عز وجل، كما أن العباد مطالبون بالتزام العدل من خلال الايمان بوحدانية الله. إذ إن الكفر بمثابة ظلم فادح للذات وجحود للخالق. ويأمرنا القرآن الكريم بالتزام العدالة حتى مع أنفسنا وأقاربنا. وعلى المرء أن يتحرى العدل تجاه الخلق (البشر والطبيعة) حتى وإن كان ذلك على حساب المصلحة الشخصية، فالعدل هو أساس المصالحة مع النفس ومع الأشخاص والطبيعة، وهذا العدل لا بد أن يكون منضبطاً بالرحمة والرأفة. وعلاوة على هذا، يجب استحضار الخيال، والحدس والفكر لفهم الكيفية التي يتم بها تطبيق العدل في عالم معقد ومتداخل. فالعدل بهذه الصورة وهذا المحتوى هو نسخة إسلامية للعدل بمفهومه العام.
إن هذا التعقد غير المسبوق، والاتكالية والتغير السريع ومسؤوليتنا المشتركة أمام الله ومركزية مبدأ العدل في الإسلام، كل هذا ينبغي أن يحفز المسلمين للعمل على تقديم رؤية أخلاقية وحلول للأزمات التي نواجهها. وإما أن نقنع بحلول جزئية تريح ضمائرنا ولكن سرعان ما تذوي، أو نقدم حلولاً حقيقة للمشكلات العديدة ونغيّر من عالمنا وأنفسنا خلال هذه العملية. فعندما ندرك نحن المسلمين أن وضع كلمة "إسلام" قبل المصارف التي لا تستطيع تفادى النظام المالي العالمي الليبرالي الجديد، أو قبل ذبح الحيوانات التي عذبتها ظروف الحياة غير المعقولة، أو قبل التعليم الذي يهدف إلى حماية البعض وتجاهل الآخرين أو قبل الموسيقى أو القانون أو العلم، عندما ندرك أن هذا يُبقي على الواقع وعلى الوضع الراهن عندها سنعلم أن تلك التصرفات لا تتلائم مع المبادئ الأخلاقية التي نزعم أننا نلتزم بها. إن الرسالة النبوية لم تأت لتُنشئ زوايا مريحة للمؤمنين يأوون إليها، وإنما جاءت لتحويل العالم من صورته التي كان عليها إلى عالم آخر له رؤية. ولا ينبغي أن يقبل ورثة هذه المهمة بالانزواء في تلك الزوايا.والحمد لله أن الكثيرين لا يقبلون بذلك. فهناك علماء النصوص وعلماء آخرون في مجالات شتى من العلم، والعلوم الاجتماعية والإنسانيات، إلى جانب أفراد وجماعات لا حصر لها تعمل على مستوى القواعد الشعبية، هؤلاء جميعاً لا يرضون بالإصلاحات المؤقتة، ويحاولون الارتقاء إلى مستوى التحديات التي نواجهها. ولكن يبدو أن الأفراد والجماعات تعمل في صوامع فكرية حول العالم لا تضيف شيئاً إلى تلك القوة التحويلية التي نحن في أمس الحاجة إليها. لذا أتوقع بشكل كبير ويحدوني الأمل في أن يلعب مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق دوراً جوهرياً في تكثيف تلك الجهود، حيث يسعى جاهداً لإعداد رؤية للإصلاح والتجديد تقتدي بالمبادئ الرئيسية للقرآن الكريم والسنة النبوية وترعى المقاصد العليا للشريعة، مما يؤهله لأن يكون ساحة فكرية للنقاش والتباحث بين المختصين من علماء النصوص وعلماء الواقع. وسوف يعمل هؤلاء العلماء جنباً إلى جنب مع النشطاء والأشخاص العاديين الذين يمكن أن يكون لتساؤلاتهم دور كبير في إثراء هذا العمل.
 
إن إدراك جدية التحديات التي تواجهنا والوضع الراهن لأمتنا هو ما يجعلني أدعو العلماء، والنشطاء وإدارة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، والعاملين والاستشاريين أن يكونوا على قدر كبير من التواضع وإنكار الذات وأن ينحّوا المصالح الشخصية جانبا، وأن يستمعوا للآخرين ويتعلموا، وتكون لديهم الشجاعة فلا ترهبهم سلطة ولا يغريهم الحرص على إرضاء العامة.
 
وسوف يركز مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق في عمله على عقد المؤتمرات والندوات، ونشر البحوث والمقالات التي تتعلق بواحد من تلك المجالات البحثية التي اختارها المركز لنفسه. لكن لا أتصور أن يقتصر دور المركز على تنظيم المؤتمرات ونشر البحوث والأوراق فقط، وإنما أتوقع منه تشكيل مجموعات عمل تستمر في متابعة القضايا واقتراح الحلول بعد انقضاء الفعاليات، وأن يُنشئ نماذج مؤهلة لطرح تلك المناقشات على الصعيد المحلي وبحث الحلول المناسبة وإمكانية التطبيق على أرض الواقع، ويمكنها أن ترفع للمركز تقريراً حول المرحلة التي وصل إليها الحوار على الساحة العالمية. كما أتوقع أن يكون مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق محضنا للريادة الفكرية وصنّاع التغيير. وإلى جانب تمنياتي ودعواتي للمركز بالتوفيق، أتعهد أن أتعاون معه بجد وإخلاص، بتواضع وشجاعة لتقديم المشورة والنصح والنقد، والمساعدة حتى يمكن للمركز أن يحقق أهدافه ويصل إلى مبتغاه الذي هو رؤيتنا وأخلاقياتنا.

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.