أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بين المدينة "الفاضلة" والمدينة "الذكية" (2) المدينة الذكية: النموذج العملي وسؤال الأخلاق

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي

بين المدينة "الفاضلة" والمدينة "الذكية"

(2) المدينة الذكية: النموذج العملي وسؤال الأخلاق

محمد غالي

أستاذ الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام

مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق

كلية الدراسات الإسلامية

جامعة حمد بن خليفة، قطر

 

المدنية الذكية: سياق تاريخي مختلف

استعرضنا في مقال سابق مفهوم "المدينة الفاضلة" كما تصورها الفلاسفة والأدباء عبر العصور، وأوضحنا أن السياق العام لهذه الكتابات كان البحث عن "مِثال منشود" يتجسد فيه محاولات إصلاح واقع غير مرضي عنه. وكان عدم الرضى مرتبطاً في الأساس بالمنظومة القِيَمية الحاكمة للمجتمع أو لأهل المدينة الفاضلة، ولم يكن مرتبطاً في الأصل بطريقة تصميم البيوت أو المباني التي تصنع الشكل المعماري للمدينة. وبعبارة أخرى، كان انشغال مُنظِّري المدينة الفاضلة بـ"أهل المدينة" في المقام الأول، وليس بـ"المدينة" ذاتها بوصفها شكلاً من أشكال التصميم الحضري. ويبدو هذا الملمح واضحاً في عنوان كتاب الفارابي "آراء أهل المدينة الفاضلة". ولذلك كان التنظير للمدينة الفاضلة في المقام الأول مهمة الفلاسفة والمنشغلين بحقل الأخلاق عموماً.

أما ظهور مفهوم "المدينة الذكية" في عصرنا الحاضر، فله سياق تاريخي مختلف؛ سواء على مستوى الواقع غير المرضي عنه أو على مستوى التصورات المقترحة لإصلاح هذا الواقع. فمفهوم المدنية الذكية مرتبط بالمشكلات الناشئة من الهجرة المتزايدة للسكان من القرى الريفية إلى المدن الحضرية، بحثاً عن حياة أفضل تتوفر فيها مؤسسات تعليمية وبنية تحتية جيدة ورعاية صحية ذات مستوى عالٍ، إلى غير ذلك من الخدمات ووسائل الرفاهية التي تصنع ما يسمى بـ"جودة الحياة (quality of life)". وبالتالي، فالواقع غير المرضي عنه هنا مرتبط في الأساس بـ"المدينة"، بوصفها حيزاً جغرافياً، وما يوجد بها من خدمات. أما المنظومة الأخلاقية التي ينبغي أن تشكل شخصية وهوية سكان المدينة، فتبقى مسألة ثانوية في سياق المدينة الذكية، بل وربما غائبة تماماً في بعض الأحيان، وخاصةً فيما يتعلق بالأبعاد الدينية والعقدية التي تراجع دورها في الحياة العامة في معظم المجتمعات الغربية. وبالرغم من اهتمام بعض الدراسات الحديثة بالترويج لنموذج المدينة الذكية الذي يتمحور حول الإنسان (Human-centered model)، إلا أن الإنسان هنا يبقى في صورة المستهلك المستهدف بهذه الخدمات ويظل الاهتمام بالمنظومة الأخلاقية لسكان المدينة، على نحو ما نراه في التنظير للمدينة الفاضلة، هامشياً إلى أبعد الحدود.

أما على مستوى التصورات المقترحة لإصلاح هذا الواقع عبر نموذج المدينة الذكية، فقد ساهم التقدم العلمي الهائل والثورة التكنولوجية المعاصرة في تشكيل هذه التصورات، بل ونقل هذا النموذج من حيز الخيال (العلمي) إلى واقع التطبيق (العملي) بفضل التقنيات التي أنتجتها هذه الثورة. ولذلك فالتنظير للمدينة الذكية، تصميماً وتطبيقاً، هو في الأساس من عمل المهندسين والمعماريين والتقنيين، أما المتخصصون في مجال الأخلاق فمهمتهم تكاد تنحصر في التعامل مع القضايا والإشكالات الأخلاقية التي تطرأ نتيجة لوجود المدنية الذكية في الواقع أو لاستعمال بعض تطبيقاتها.

 

ما المدينة الذكية؟

ناقشنا في مقال سابق إشكالية الغموض المفاهيمي (conceptual ambiguity) التي تتعلق بكثير من موضوعات وقضايا الذكاء الاصطناعي. وينطبق هذا الأمر على مفهوم "المدينة الذكية"، كواحدة من أهم المجالات التطبيقية لمجال الذكاء الاصطناعي، حيث لا يوجد إلى الآن تعريف موحد لهذا المصطلح. فبالرغم من أن استعمال مصطلح "المدينة الذكية" يعود إلى تسعينيات القرن العشرين، بالتزامن مع وجود الإنترنت وخدمات الاتصالات الحديثة وتكنولوجيا المعلومات، إلا أن الكتابات المتخصصة في هذا المجال قد طرحت ما يزيد عن ثلاثين تعريفاً مختلفاً لهذا المصطلح، وفق بعض الدراسات المنشورة التي سعت إلى تقصي هذه التعريفات ومحاولة الجمع بينها. وتُظهر هذه الدراسات أن مفهوم المدينة الذكية يختلف تبعاً لطبيعة الشخص الذي يضع التعريف، سواء كان مهندساً معمارياً أو متخصصاً في علوم الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي أو خبير سياسات حكومية، بالإضافة إلى طبيعة الأهداف المرجو تحقيقها من خلال نموذج المدينة الذكية المقترح، سواء كانت تحسين أداء وكفاءة دوائر العمل المختلفة أو خلق بيئة أكثر استدامة أو تحسين جودة الحياة ... إلخ.

وبالرغم من وجود خلاف واسع حول ماهية التعريف الجامع المانع لمصطلح المدينة الذكية، إلا أن هناك بعض العناصر التي اتفق الجميع تقريباً على ضرورة وجودها، باعتبارها تشكل نوعاً من الحد الأدنى لما يمكن أن نطلق عليه "مدينة ذكية". وأول هذه العناصر، وأكثرها تميزاً بالنسبة لنموذج المدينة الذكية، هو استخدام التكنولوجيا الحديثة على نطاق واسع، مثل تكنولوجيا المعلومات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، بغرض تسهيل عملية الربط بين مختلف مكونات المدينة الذكية. فالمدينة الذكية مكان يعج بالكاميرات والآلات التي ترصد كل شاردة وواردة، أو ما يسمى بـ"المجسات (sensors)"، وذلك بهدف جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات التي يتم تخزينها ثم معالجتها وتحليلها والربط بينها عن طريق خوارزميات وآليات مثل تعلم الآلة (machine learning). وفي هذا الإطار، يتميز نموذج المدينة الذكية بوجود دور أكبر وأوسع للآلة الذكية التي يتم من خلالها "أتمتة" كثير من الإجراءات والنظم حتى تكون أقل تعقيداً وأكثر كفاءة مما هو عليه الحال في المدن التقليدية. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد جُلُّ المنظرين للمدينة الذكية بأنها لا بد أن تتمتع بقدرات أكبر من المدن التقليدية في توفير الطاقة والحفاظ على البيئة. ومن بين المزايا التي يتم من خلالها الترويج لتفوق نموذج المدينة الذكية على غيره هو القدرة الكبيرة على توفير سبل الراحة لساكني المدينة وخلق ما يسمى بـ"جودة الحياة (quality of life)". ومن أمثلة وسائل الراحة التي يكثر ذكرها في هذا الصدد، سهولة الحركة والتنقل دون اختناقات مرورية كبيرة ودون الانتظار طويلاً لإيجاد مكان خال لانتظار السيارة، بل وربما دون الاضطرار إلى قيادة السيارات أصلا لوجود سيارات ذاتية القيادة. ولعل هذه العناصر مجتمعة تجعل فكرة المدينة الذكية قريبة من "عِلْم الحِيَل" الذي تكلمنا عنه في مقال سابق، وذكرنا أن الهدف منه هو تحصيل "الفعل الكبير من الجهد اليسير". ففي المدينة الذكية، تضيق مساحة الحاجة إلى الفعل البشري المباشر، وخاصة المجهود العضلي والجسماني، وتتسع في المقابل إمكانات الحصول على خدمات وتسهيلات توفر سبل الراحة والرفاهية لسكان المدينة الذكية.

 

القضايا الأخلاقية

بالرغم من أن نشأة مفهوم المدينة الذكية لم تكن مرتبطة في الأساس بتصورات أخلاقية كبرى لإصلاح المجتمع، كما أوضحنا سابقاً، إلا أن تطبيق نموذج المدينة الذكية في أرض الواقع يطرح أسئلة وإشكالات كثيرة ذات طابع أخلاقي. ونشير هنا إلى عدد من هذه القضايا، والتي ورد بعضها في سياق الحديث عن المدينة الفاضلة في مقال سابق:

 

  • الخصوصية: يُعد سؤال الخصوصية واحداً من القضايا الجديدة التي يتفرد بها نموذج المدينة الذكية عن النموذج الكلاسيكي للمدينة الفاضلة. ذلك أن كفاءة ونجاعة تقنيات الذكاء الاصطناعي عموماً والمدن الذكية خصوصاً، تعتمد على توافر ما يعرف بالمعلومات والبيانات الضخمة (Big Data)، التي يتم الحصول عبر آليات مختلفة مثل الكاميرات والمجسات التي أشرنا إليها سابقا. ونظراً لأهمية البيانات الضخمة في مجال الذكاء الصناعي وتطبيقاته المختلفة، فقد شاع القول بأن هذا النوع من البيانات هو بترول القرن الحادي والعشرين، وهو ما يفسر أهميتها الاقتصادية وقيمتها المالية كذلك. لكن في المقابل، يعتبر احترام خصوصيات الأفراد واحداً من القيم المعاصرة التي تكاد أن تكون محل إجماع بين مختلف الثقافات والأديان. وبالتالي، فالمعضلة الأخلاقية الرئيسة هنا تتمثل في أنه كلما أردنا رفع كفاءة المدينة الذكية بزيادة حجم البيانات التي يتم تحصيلها ومعالجتها كلما تقلصت مساحة الخصوصية التي يمكن لساكني هذه المدينة أن يحتفظوا بها. فالأجهزة الذكية يمكن أن ترصد كل حركاتهم وسكناتهم على مدار اليوم، بداية من مواعيد النوم والاستيقاظ ومروراً بالأنشطة اليومية المختلفة مثل الانتقال من مكان لآخر بالسيارة أو بوسائل المواصلات العامة وتسوق البضائع المختلفة، بالإضافة إلى متابعة الحالة البدنية والصحة العقلية للأفراد ... إلخ. ونظراً لأهمية هذه القضايا، نلحظ تزايداً مستمراً في الدراسات الأكاديمية والتقارير التي تسعى إلى معالجة مثل هذه المعضلات وكيفية التوفيق بين المصالح المتعارضة.

 

  • العدالة: شرحنا في مقال سابق مركزية قيمة العدالة في تصورات المدينة الفاضلة. ويظل الحديث عن هذه القيمة الأخلاقية مركزياً في نموذج المدينة الذكية، بالرغم من الاختلافات الحادة أحياناً حول ما إذا كان هذا النموذج معززاً أو مقوضاً لقيمة العدالة المنشودة وما إذا كان مفهوم العدالة ذاته قد تغير بفعل عوامل تتعلق بالسياق الزمني والثقافي والاجتماعي. ففي التصنيف الدولي للمدن الذكية، المعروف بمؤشر المدينة الذكية (Smart City Index)، يتم التركيز على معايير تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، مثل ضرورة وجود منازل بأسعار مناسبة (affordable housing) ومرافق صحية تلائم احتياجات المناطق أكثر فقرا ... إلخ. لكن يوجد في المقابل انتقادات بأن نموذج المدينة الذكية، القائم على استخدام واسع للتكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة، سيعزز تلقائياً الفجوة القائمة بالفعل بين الأغنياء والفقراء. فهناك مجتمعات فقيرة لا يستطيع أفرادها تحمل تكاليف الخدمات التي تقدمها المدينة الذكية، بل إن كثيراً منهم ليس لديهم إمكانية الوصول إلى هذه الخدمات أصلاً بسبب غياب شبكات الإنترنت في المناطق التي يعيشون فيها.

 

  • إحلال الآلة مكان الإنسان وإرباك سوق العمل: أشرنا في مقال سابق إلى فرضية أرسطو حول إمكانية حلول الآلات الذكية محل البشر وما يمكن أن يكون لذلك من تأثير في تركيبة المجتمع في ذلك الوقت، وخاصةً في العلاقة بين السادة والعبيد. وفي نموذج المدنية الذكية، تتحول فرضية أرسطو إلى واقع ملموس ويتسع مداها ليشمل قطاعات عريضة من المجتمع أوسع بكثير من حدود العلاقة بين السادة والعبيد، كما تصورها أرسطو في زمانه. فقد ذكرنا سابقاً أن استخدام التكنولوجيا الحديثة على نطاق واسع يمثل أحد أهم العناصر المميزة لنموذج المدينة الذكية. وبالرغم من مزايا انتشار هذه التكنولوجيا في كل مناحي المدينة الذكية تقريباً، مثل رفع كفاءة مؤسساتها وتوفير سبل الراحة لساكنيها، إلا أن هناك مخاطر وجوانب سلبية لا يمكن إغفالها. ذلك أن هذا الانتشار الواسع للتكنولوجيا وللآلات الذكية سيكون في النهاية على حساب البشر الذين كانوا يضطلعون بمهام ووظائف في المدن التقليدية، لكنها أصحبت جزءاً من عمل تقنيات الذكاء الاصطناعي في المدن الذكية. فهناك مِهَن كثيرة ستكون مهددة بالانقراض في نموذج المدينة الذكية، مثل قائدي السيارات والمركبات وشرطة المرور والمحاسبين وموظفي الاستقبال وغير ذلك من الوظائف والأعمال الروتينية التي يسهل برمجتها وتطوير آلات ذكية للقيام بها على مدار الساعة دون كلل أو تعب، وبشكل أكثر كفاءة من العمالة البشرية. صحيح أنه لايزال هناك جدل كبير بشأن ما إذا كانت المدن الذكية ستخلق بالضرورة بطالة قد تؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد. فإلى جانب الوظائف التي سيخسرها البشر لصالح الآلة، هناك دراسات تقول بأن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستخلق في المقابل وظائف جديدة للبشر، وخاصة تلك التي تتعلق بمجال البيانات الضخمة مِن جمع وتخزين ومعالجة وتحليل هذه البيانات حتى يمكن الاستفادة منها بشكل أمثل في إدارة المدينة. لكن يؤكد الكثيرون على أن نموذج المدينة الذكية، وغيره من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، سيحدث إرباكاً في سوق العمل وإن كنا لا نستطيع أن ندرك الآن طبيعة هذا الإرباك والمدى الزمني له. وبعيداً عن سوق العمل واقتصاديات السوق، يحذر بعض علماء الأخلاق من أن إحلال الآلة مكان الإنسان سيجعل التواصل بين البشر أقل مما هو عليه الآن، في مقابل زيادة حجم ووتيرة تواصل الإنسان مع الآلات المنتشرة في أرجاء المدنية الذكية. ويرون أن هذا التغير في طبيعة التواصل بين الإنسان والإنسان من ناحية والإنسان والآلة من ناحية أخرى قد يكون له عواقب وأضرار نفسية واجتماعية. فالتواصل الاجتماعي عند حَدَث الحصول على فنجان قهوة أو كوب من العصير بين مُقدِّم هذا المشروب والشخص الذي يتناوله مهم في ذاته، بعيداً عن أية عوامل أخرى قد يتفوق فيها الروبوت على الإنسان مثل مدى جودة المشروب وسرعة تحضيره وسعره المنخفض ... إلخ. فالتخوف هنا هو أن تصبح المدن الذكية أكثر "آلية" وأقل "إنسانية"، لدرجة تتحول فيها الرفاهية المنشودة إلى شعور بالملل والاكتئاب وغير ذلك من المشكلات النفسية والاجتماعية.

 

  • الرفاهية المادية والثقافة الاستهلاكية: ذكرنا في مقال سابق عند الحديث عن النموذج الكلاسيكي للمدينة الفاضلة أن السعي إلى إشباع الشهوات والرغبات المادية لا يمثل أولوية في هذا النموذج، بل ولا يمثل فضيلة أصلاً عند معظم مُنظِّري المدينة الفاضلة. لكن الأمر أضحى مختلفاً تماماً في السياق التاريخي المعاصر لنموذج المدنية الذكية، حيث يقاس نجاح الدول وتقدم الأمم اليوم بما لديها من ثروات مادية ودخل قومي كبير وسُبُل الدعم المادي ووسائل الرفاهية المتاحة لمواطنيها، ولا تختلف هذه المعايير كثيراً عند الحديث عن مقاييس نجاح الأفراد والشركات. وقد حاول فلاسفة الأخلاق دراسة هذه التغيرات الجذرية وآثارها العميقة في مجتمعاتنا المعاصرة وكيفية إصلاحها، ومِن أهم مَن تصدى لهذا الموضوع الفيلسوف الأمريكي مايكل ساندِل (Michael Sandel) الذي ألف كتابا بعنوان "What Money Cannot Buy: The Moral Limits of Markets" (ما لا يمكن للمال شراؤه: الحدود الأخلاقية للسوق). وقد أقر ساندل بأننا نعيش في عالم كل شيء فيه تقريباً معروض للبيع وتسيطر عليه معايير السوق، وتسائل ساندل في كتابه عن كيفية إصلاح الوضع الحالي ومنع توغل قِيم السوق في كافة مناحي الحياة. وفكرة المدينة الذكية هي بنت هذا العصر الذي توسع فيه دور المال والثروة والمادة حتى طغوا تقريباً على كل شيء آخر. ومن هنا تأتي المخاوف من أن يصبح نموذج المدينة الذكية تجسيداً أو ترسيخاً للفلسفة المادية والثقافة الاستهلاكية تحت عباءة مفاهيم فضفاضة مثل تحقيق جودة الحياة والرفاهة ورغد المعيشة.

 

  • الرؤية الشاملة؟ ذكرنا في مقال سابق أن النماذج المقترحة لتصور المدينة الفاضلة كانت تُشكِّل جزءاً من رؤية شاملة وتصورات كلية عن طبيعة الفرد والكون والكائنات الأخرى الموجودة في هذا الكون والإله ... إلخ، وأن هذه الرؤية كان لها تأثير كبير في تشكيل وصياغة النموذج المقترح حتى يتوافق مع التصورات الكلية الحاكمة. لكن الحال في مفهوم المدينة الذكية يبدو أكثر إشكالاً وتعقيداً، فالبعض يرى أن المدينة الذكية مجرد تطبيق تِقَني في مجال علمي محايد يهدف إلى تحقيق الراحة والرفاهية للمواطنين، وهو هدف يتفق البشر في هذا العصر عموماً على حُسْنه ونُبْله. وبالتالي، فنحن لسنا بصدد نموذج منبثق عن تصورات فلسفية كلية أو رؤى أخلاقية شاملة. إلا أن عدداً من البحوث الأكاديمية المنشورة بدأت تُسائل هذا التصور "البريء" لنموذج المدينة الذكية، بوصفه تطبيقاً تقنياً لمعارف علمية "محايدة". ويدافع أصحاب هذه الدراسات عن فرضية مفادها أن المدينة الذكية هي نِتاج تصورات شمولية كذلك، لكنها تتمثل هذه المرة في أيديولوجيا الليبرالية الجديدة أو ما يسمى بـ "النيو ليبرالية (neoliberalism ideology)"، حيث تتم إعادة تشكيل الحيز الجغرافي وفقاً لفلسفة هذه الأيديولوجيا. وتتمثل أهم ملامح النيوليبرالية الحاكمة لنموذج المدينة الذكية في سيطرة اقتصاد السوق وخلق أنماط جديدة لِحُكْم وإدارة هذه المدن قائمة على الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص والمنافسة العالمية وسيادة منطق ريادة الأعمال (entrepreneurship)، الذي تعطى فيه الأولوية للقيام بمجازفات ومخاطر من أجل تحصيل أرباح كبيرة. ويرى هؤلاء الباحثون أن الرؤية النيوليبرالية تختزل المدينة الذكية في كونها مجرد شركة خاصة أو مشروع ربحي. وينطوي هذا التوجه على مخاطر جمَّة، منها طغيان الأهداف ذات الطابع المادي والربحي على الأهداف ذات الصبغة الاجتماعية وبالتالي تفضيل الحلول التكنولوجية ذات التكلفة العالية التي تفضي في النهاية إلى تعزيز وخدمة مصالح صفوة مختارة من رجال الأعمال ومن ثم خَلق استقطاب مجتمعي، وذلك على حساب حلول أخرى تتعلق بالتخطيط العمراني طويل المدى وتقلل الفروق بين طبقات المجتمع وتعزز التماسك الاجتماعي.

 

ملاحظات وتعقيبات ختامية: المؤتلف والمختلف بين المدينة الفاضلة والمدينة الذكية

تظهر النقاشات التي أوردناها في مقال سابق عن المدينة الفاضلة وما جاء في هذا المقال عن المدينة الذكية مدى انشغال الإنسان عبر العصور باستخدام الخيال بحثاً عن "مكان" يُحصِّل فيه طِيب العيش وحُسْنه ويَتخلص فيه من منغصات الواقع ومثالبه كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ففي نموذج المدينة الفاضلة، كانت الأدبيات تنشغل مرة بتصوير المثال المنشود الذي يجب أن يكون (اليوتوبيا) ومرة أخرى بتقديم صورة مكبرة لسوءات الواقع الحاضر أو المستقبل الذي لا ينبغي أن يكون (الديستوبيا). وفي كل هذه المحاولات، كان الخيال دائماً هو البطل حتى ساد الاعتقاد بأن المدينة الفاضلة أقرب إلى الحُلم منها إلى الواقع. وفي عصرنا الحديث، جاء نموذج المدينة الذكية بوعود عملية كبيرة؛ على رأسها حل مشكلات العمران وتحسين جودة الحياة عموماً، ومن ثم الوعد بإمكانية تحقيق "يوتوبيا" ما في أرض الواقع بفضل العلم الحديث وتقنياته، وفي مقدمتها تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

وبالتالي، فبالرغم من اعتماد كلا النموذجين في الأساس على قدرة الإنسان على التخيل والإبداع في تصوير واقع أفضل مما هو موجود بالفعل، إلا أن نموذج المدينة الذكية أكثر قابلية للتطبيق في أرض الواقع من المدينة الفاضلة التي ساد فيها عالم الخيال. لكن سيبقى السؤال المطروح قائماً، حول ما إذا كان نموذج المدينة الفاضلة سيحقق للبشر حُلم "اليوتوبيا" القديم أم أن سوءات هذا النموذج قد تتحول في النهاية إلى كابوس "الديستوبيا" الذي كان مصدر خوف كثير من الكتاب عبر العصور. ولا شك أن الإجابة على هذا السؤال وتحديد مصير المدينة الذكية لن يتوقف فقط على الجوانب العلمية والتقنية المتعلقة بشكل المدينة وتصميمها وإنما سيتوقف أيضا على طبيعة القيم والأخلاق التي ستسود في عالم المدن الذكية.

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.