أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (3) التاريخ المعاصر

 


يقدم مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق سلسة من المقالات باللغة العربية حول "الأخلاق الإسلامية والذكاء الاصطناعي" والتي نمزج من خلالها بين عمق التحليل وبساطة الطرح، بهدف نشر المعرفة ضمن إطار جمهور أوسع من طلاب الماجستير.


 

محمد غالي
أستاذ الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام
مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق
كلية الدراسات الإسلامية
جامعة حمد بن خليفة، قطر

 

الذكاء الاصطناعي في العصر الحديث

تتفق المصادر تقريباً على أن أول استعمال رسمي لمصطلح الذكاء الاصطناعي كان في 31 أغسطس 1955 عندما قدم أربعة باحثين مقترحاً إلى كلية دارتماوث (Dartmouth College) بالولايات المتحدة الأمريكية لتنظيم "مشروع دارتماوث البحثي الصيفي عن الذكاء الاصطناعي".

 


مقترح المشروع البحثي المقدم إلى كلية دارتماوث (Dartmouth College) بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي شهد أول استخدام رسمي لمصطلح "الذكاء الاصطناعي"
المصدر: The Rockefeller Foundation: A Digital History

وقد تناوبت على هذا المجال في تاريخه المعاصر لحظات ومراحل مختلفة من النجاح والفشل والصعود والهبوط والتفاؤل والتشاؤم. فقد شهدت المرحلة الأولى، والتي امتدت خلال العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين، قدراً كبيراً من الحماس والتفاؤل بما يمكن أن يتم إنجازه في المستقبل القريب أو البعيد. وقد انشغل الباحثون خلال هذه الفترة بتحطيم الفرضيات التي تتعلق بعدم قدرة الآلة على أداء هذه المهمة أو تلك، باعتبارها أمراً يستطيع الإنسان فقط أن يقوم به، وخاصةً ما يتعلق بمهام عقلية لها صلة بالذكاء البشري مثل القدرة على التعلم. ثم جاءت بعد ذلك حِقَب ومراحل تراوحت بين الشعور بضرورة التقليل من الحماس الزائد والتفاؤل المبالغ فيه لتصبح الطموحات أكثر واقعية، وبين الخوف من أفول هذا المجال مع ركود البحث العلمي وقلة الموارد المتاحة، والتي أطلق عليها البعض حقبة "خريف الذكاء الاصطناعي"، كما كان الحال مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين. ومع بداية القرن الحادي والعشرين ودخول عصر "البيانات الضخمة (Big Data)"، والتي لا يمكن معالجتها أو التعامل معها عموماً من خلال الطرق وأجهزة الحواسيب التقليدية، برزت فرص جديدة لبزوغ نجم الذكاء الاصطناعي ودخول تطبيقاته التكنولوجية في معظم مجالات الحياة وتحقيقها لنتائج مبهرة. 

 

بين "الخوف" و"الرجاء": نوربيرت فينر (Norbert Wiener) وآرثر صامويل (Arthur Samuel)

دائماً ما توجد علاقة ترابط بين النجاحات التي ينجزها البحث العلمي في مجال ما وبين نضوج الخطاب الأخلاقي المتعلق بهذا المجال. فكلما زادت نجاحات وإنجازات البحث العلمي كلما تطور الخطاب الأخلاقي، والعكس صحيح كذلك في غالب الأحيان. وقد أشار الفقيه الحجوي الثعالبي (ت. 1956) إلى هذه القاعدة في حديثه عن العلاقة بين الاجتهاد في الفقه الإسلامي والعلوم الحديثة. وتنطبق هذه القاعدة على مجال الذكاء الاصطناعي، حيث نجد الحضور القوي للخطاب الأخلاقي في مراحل ازدهار البحث العلمي وتنامي الشعور بالقدرة على إمكانية تأثيره الكبير والعميق في المجتمع.

وفي سياق التأريخ لبدايات الخطاب الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، سنذكر هنا مثالاً مُهماً لنقاش بين عالمين كبيرين ورائدين في هذا المجال. ويرجع هذا النقاش إلى الحقبة الأولى من تاريخ الذكاء الاصطناعي التي أشرنا إليها سابقاً. والعالمان هما نوربيرت فينر (Norbert Wiener) وآرثر صامويل (Arthur Samuel)، وقد قام كل منهما بكتابة رؤاه وتصوراته حول الأبعاد الأخلاقية لهذا المجال الناشئ حينها، ونشرها في المجلة العلمية المرموقة “Science” عام 1960. وقد نشر فينر مقالته أولاً ثم نشر صامويل تعقيباً عليها في عدد لاحق. ومن المهم هنا أن نعرف السياق التاريخي المباشر لهذا النقاش، وهو نجاح آرثر صامويل في تصميم جهاز تمكَّن، عبر تقنية تعلم الآلة (machine learning)، مِن تعَلُّم لعبة الضامة/الدامة (checkers) في مدة زمنية قصيرة، تتراوح بين 8 و 10 ساعات، حتى وصل إلى درجة تفوق قدرات الشخص المُبرمِج ذاته. وقد نشر صامويل مقالاً علمياً عن هذا الإنجاز في عام 1959.

 


آرثر صامويل، أحد رواد الذكاء الاصطناعي، أثناء عمله على تطوير لعبة الضامة/الدامة

وإذا جاز لنا أن نستعير شيئاً من مفردات المتصوفة عند حديثهم عن منازل ومقامات السائرين، فيمكن القول بأن موقف فينر أقرب إلى منزلة الخوف في مقابل موقف صامويل الأقرب إلى الرجاء.

 

تخوفات نوربيرت فينر (Norbert Wiener) (1894-1964)


نوربيرت فينر، أستاذ الرياضيات وأحد رواد الذكاء الاصطناعي

يُعرف نوربيرت فينر بوصفه أستاذاً مرموقاً في الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة. وقد ظهرت أمارات نبوغه في وقت مبكر، فقد أنهي دراسته الثانوية في سن الحادية عشرة وحصل على درجة الدكتوراة في سن التاسعة عشر. وإلى جانب الرياضيات، فقد حصل فينر على درجات جامعية في الفلسفة وعلم الحيوان. وهو مؤسس علم التحكم الآلي أو "السيبرنيطيقا (cybernetics)" الذي يختص بدراسة التحكم في الأحياء والآلات وآليات التواصل بينها. وربما كان لعمله في هذا الجانب أثر في مخاوفه من أن التوسع في الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى فقدان التحكم في الآلة والسيطرة عليها.  
بدأ فينر التأطير لوجهة نظره الأخلاقية بالحديث عن معتقد شائع بين عامة الناس، مفاده أن الآلة لا يمكن أن نتنج إلا ما تم برمجته أو إدخاله فيها، وبالتالي ليس للآلة أية قدرة على الإبداع أو التصرف خارج حدود سيطرة الإنسان الذي يمكنه دائماً التدخل لتعديل عمل الآلة وتغيير مخرجاتها. يرى فينر أن هذا المعتقد، رغم شيوعه بين العامة، غير صحيح وأنه يجب رفضه بالكلية، وأكد على أن الآلة في هذا العصر يمكنها أن تتجاوز الحدود التي رسمها من قام بتصميمها وتطويرها، وهي بذلك يمكن أن تكون مؤثرة وخطيرة في الوقت ذاته.

ويقر فينر بأنه قد يكون من الصعب تطوير آلة معقدة، في المستقبل المنظور، بحيث تَفُوْق الذكاء البشري بدرجة تعيق الإنسان من فهم كيفية عملها في نهاية الأمر. لكنه أكد في الوقت ذاته على خطورة الموقف وعلى وجود مخاوف حقيقية يجب الوعي بها، واعتمد في تبرير مخاوفه على نموذج الآلات التي تكتسب مهارة تعلم لعبة ما حتى تصل في نهاية المطاف إلى درجة الإبداع والخروج بشكل ما عن سيطرة الإنسان، في إشارة إلى جهاز آرثر صامويل الذي ذكرناه سابقاً.

ويمكن تلخيص مخاوف فينر في نقطتين رئيستين: النقطة الأولى تتمثل في الرغبة القوية في تحسين أداء الآلة وجعلها أكثر ذكاءً مع عدم الوعي بأن هذه الرغبة ستتعارض في النهاية مع رغبة الإنسان في إبقاء سيطرته على الآلة وخضوعها له، تماماً مثل رغبة السادة في جعل العبيد أكثر ذكاءً للقيام بمهام كبيرة ومعقدة متصورين أن هذا الذكاء المتزايد لن يؤثر في النهاية على خضوع العبيد الكامل لهؤلاء السادة. ذلك أن الخضوع الكامل والذكاء الكامل لا يتلازمان، فكم من قصص ذكرها التاريخ عن فلاسفة يونانيين صاروا عبيداً لجنود رومانيين أقل ذكاءً منهم، وانتهي الأمر إلى تحكم العبد الفيلسوف في أفعال سيده الجندي بدلاً من طاعة أوامره.

والنقطة الثانية في تحليل فنير تتعلق بالفجوة الزمنية بين الوقت الذي تحتاجه الآلة للقيام بعمل ما وبين حاجة الإنسان لفترة زمنية أطول لاستيعاب وفهم ما قامت به الآلة في الواقع. وبسبب هذه الفجوة الزمنية التي يصير بسببها رد فعل الإنسان متأخراً عن فعل الآلة، قد يفقد الإنسان سيطرته على هذه الآلة. ذلك أن التحكم في عواقب الأمور، خاصةً إذا كانت ذات طبيعة كارثية، يتطلب القدرة على التنبؤ بها قبل حصولها في الواقع بوقت كافٍ حتى يمكن التدخل وتغيير ما يمكن تغييره قبل فوات الأوان. وذلك مثل السائق الذي يتأخر في رد فعله لمواجهة مخاطر على الطريق حتى ينتهي به الأمر إلى الاصطدام بحائط، بالرغم من تمكنه، نظرياً على الأقل، من قيادة السيارة وسيطرته عليها. كما أشار فينر إلى الحكاية الشعبية الشهيرة لذلك الصبي الذي يتدرب على مهنة السحر، فيستخدم التعويذة التي تعلمها من أستاذه، حال غياب الأستاذ، لحمل المقشة على إحضار الماء من النهر إلى المنزل حتى كاد الماء أن يُغرق الصبي لولا حضور الأستاذ في الوقت المناسب وإيقاف عمل المقشة. المشكلة هنا أن الصبي كان قد تعلم التعويذة التي تجعل المقشة تبدأ في مهمة إحضار الماء لكنه لم يكن قد تعلم بعْد التعويذة التي توقف المقشة عن العمل. وكان من المحتمل أيضاً أن يغرق الصبي لو حاول البحث عن التعويذة الصحيحة في مكتبة أستاذه طالما كانت وتيرة عمل المقشة أسرع من قدرته على العثور على التعويذة المطلوبة. سيكون الأمر كذلك بالنسبة للمصنع الذي تتم برمجة آلاته على الطاقة الإنتاجية القصوى، حيث سينتهي الأمر بمالكه إلى الإفلاس عندما لا تجد كل هذه المنتجات من يشتريها ويدرك المالك، بعد فوات الأوان، أنه كان يجب إيقاف هذه الماكينات قبل ستة أشهر.

وختم فينر كلامه بالحديث عن علاقة هذه التطورات بالعلم والبحث العملي، فأوضح أن ممارسة العلم عملية طويلة وممتدة تهدف إلى فهم المادة والتحكم فيها، وكل فرد من جماعة العلماء يسعى إلى المساهمة في هذه العملية. ومهما كان إيمان كل فرد من جماعة العلماء بنبل المقاصد والأهداف الموضوعة، فلا مناص من ضرورة المتابعة والتدقيق والتقييم، وكل هذا يحتاج إلى وقت يستخدم فيه العالم قدراته وخياله لاستشراف شكل المستقبل والتدخل في الوقت المناسب لتعديل ما يحتاج إلى تعديل. وهذا يتعارض مع الافتراض الساذج بأنه كلما أسرعنا في استغلال الإمكانات والفرص المتاحة كلما كان أفضل، ذلك أنه يجب علينا دوماً أن نبذل أقصى وسعنا أولاً لاستشراف ما يمكن أن نصل إليه إذا ما تابعنا السير وفق الأنماط التي نتبعها اليوم.

 

تفاؤليات آرثر صامويل (Arthur Samuel) (1901-1990)

يُعد آرثر صامويل واحداً من رواد ألعاب الكمبيوتر والذكاء الصناعي، وهو معروف بإسهاماته في تطوير تقنية تعلم الآلة (machine learning) والتي استخدمها لتصميم برنامج لعبة الضامة/الدامة (checkers) الذي كان وراء شهرته الواسعة. وبالتالي، لم يكن هناك أنسب من صامويل للرد على مخاوف فينر. وعلى خلاف فينر، كان صامويل أكثر تفاؤلاً في تقييمه وأكثر "رجاءً" في مستقبل واعد، وأوضح أنه كتب هذا المقال لدحض ادعاءات فينر وتفنيد مخاوفه من أن تصبح الآلات مصدر تهديد للبشرية.

بدأ صامويل مقاله بالحديث عما وصفها فينر بأنها فكرة شائعة بين "العامة"، مفادها أنه لا يمكن أن يخرج من الآلة إلا ما تم إدخاله فيها. و أكد صامويل على أن هذه الفكرة ليست متداولة بين "العامة" فقط وإنما هي محل اتفاق منذ زمن بعيد بين المتخصصين في هذا المجال، ثم عاب على فينر ادعائه بوجود مخاطر تنذر بها بعض الإنجازات الحديثة، في إشارة إلى البرنامج الذي صممه صامويل،  بالرغم من أن أصحاب هذه الإنجازات أنفسهم ينكرون ذلك.

أقر صامويل بإمكانية وجود آلات تتجاوز الحدود التي رسمها من قام بتصميمها وأن ذلك قد ينطوي على مخاطر، لكنه أكد على أن ذلك لا يعني أبداً امتلاك الآلة القدرة على الإبداع أو أنه يمكنها تجاوز ذكاء الإنسان أو أن يكون لها إرادة مستقلة عن إرادة الإنسان الذي صنع هذه الآلة. وضرب مثالاً بالمركبات الحديثة التي تفوق سرعتها سرعة من قام بتصميمها وتشهد حوادث الطرق السريعة بمدى خطورتها، لكن هذا لا ينفي كفاءتها. كما رفض صامويل القياسات والتشبيهات التي أوردها فينر في مقاله، فقال إن مثال الصبي الصغير الذي يتدرب على السحر لا يصلح الاستدلال به هنا لأن الآلة لا تعمل بالسحر ولا يوجد جني بداخلها. ولا يمكن كذلك تشبيه العلاقة بين الآلة وصانعها بالعلاقة بين العبد وسيده، لأن الآلة ليست إنساناً، وبالتالي ستبقى دوماً خاضعة لإرادة الإنسان وتحت سيطرته الكاملة. ومهما تطورت الآلة وتمكنت من تعديل طريقة عملها وتحسين أدائها، بل وحتى إن تمكنت هذه الآلة من عمل وتطوير آلة أخرى، فلن يكون هذا كله إلا تعبيراً عن إرادة ونية المبرمج الذي صنع الآلة الأولى.
وذكر صامويل أن خلاصاته هذه قد لا تنطبق على استثناء وحيد يتمثل في الآلات التي تستخدم شبكة من الخلايا العصبية تحاكي الخلايا الموجودة في الجهاز العصبي للحيوان، وتكمن خطورة هذا النوع من الآلات في أن الروابط والتشابكات الداخلية لهذه الشبكة تبقى مجهولة وبالتالي لن يتمكن الإنسان من التنبؤ بسلوك الشبكة. لكن صامويل عقب قائلاً بأن المقام لا يسمح بالإطناب في تفاصيل هذا النوع من الآلات كما أن هذه التقنية لا تزال في خطواتها الأولى، حيث إن أضخم الشبكات العصبية التي تم تطويرها في ذلك الوقت هي أقرب إلى حجم الجهاز العصبي لدودة مفلطحة منها إلى مخ الإنسان، وبالتالي لا تكاد تمثل تهديداً يذكر.

وفي نهاية مقاله، أشار صامويل إلى السرعة الفائقة والدقة العالية التي تعمل بها هذه الآلات الحديثة، وأقر بأن الشخص العادي قد يرى في ذلك نوعاً من السِّحر، إلا أن الحقيقة على خلاف ذلك، فهناك ساعات متطاولة من العمل الشاق والتفكير الإنساني وراء تطوير وبرمجة هذه الآلات. لكن هذه الآلات، مهما تطورت قدراتها، تبقى أدوات في يد الإنسان يمكن استخدامها من طرف الأولياء أو العصاة في الخير أو الشر. ولكن لو تبنى الإنسان مواقف حادة أو متطرفة في هذا الصدد، فيمكنه الحكم على آلات كثيرة بأنها نقمة وليست نعمة. فالآلات الكاتبة التي ساهمت في توفير العمالة وكان لها أثر إيجابي في المجتمع يمكن القول أيضاً بأنها ساهمت في جعل الحروب أكثر شراسة عندما تم استخدامها في مكاتب الحرب، ومثلت كذلك مظهراً من مظاهر استعباد المرأة واستغلال زهرة شبابها، وهلم جرا. وختم صامويل كلامه بأن جل العلماء يدركون مزية إسراع الوتيرة التي نكتسب بها معارفنا، وبالتالي ليس بوسعنا إلا أن نؤكد على أن أجهزة الكمبيوتر الرقمية الحديثة هي إلى الخير أقرب منها إلى الشر. 
 

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.