هوادي الأخلاق السياسية  وراء الأحكام القانونية السلطانية

هوادي الأخلاق السياسية 

وراء الأحكام القانونية السلطانية

 

حسن الترابي*

 

مقدمة

كلمات ومعان ومصطلحات في سياسة الحكم والأمر العام والأخلاق:

 

السياسة

السياسة – كلمةً عربية - هي ترويض الدواب والقيام على الأمر بما يصلحه. وهي - مصطلح أصبح شائعاً في سياق معالجة الحياة العامة لمجتمع الناس - الهمّ فالقيام بالشئون العامة وأمور الحكم السلطانية - وضعاً للقوانين نافذاً وإدارة بالأوامر نازلة سالكة ومنهجاً عاماً مرعياً من تلقاء الرعاة المتولّين السلطة في درجها الأعلى والأدنى، ومذهباً من قوي الرعية فيما يرونه الأوفق في تصريف ذلك الشأن العام وفيما يؤدونه من مواقف نصح أو مقولات مؤيدة أو دعاوي نقد أو فعال معارضة لولاة الأمـــر في سياستهم للسلطان. و "السياسي" في اللغة الدارجة بين عامة الناس قد تجري وصفاً للحكيم الذي يُحسن تدبير الأمر العام، وقد تشير إلى مَن هو ماكر نهّاز للفرص يتخذ أيما وسيلة لمبلغ غاياته في التعامل العام. والسياسة علماً قد تعني علم تدبير نُظم السلطان والمناشط فيه وحوله وقد تعني ممارسة عموم تلك الهموم والتدابير والمناشط. وقد تضاف الكلمة إلى شأن خاص في أمور الحكم فيقال: سياسة التعليم أو المال العام، وهي المنهج المتخذ في معالجة ذلك الأمر.

 

السلطان

هي كلمة تصريف أبلغ لكلمة السلطة، وقد تعني الحجة الأعلى بين المتجادلين، أو وقع السلطة العليا الحاكمة أو جملة القوة ذات السلطة العليا المتولية للأمر العام من الحكم في إطار من الأرض أو بلد يتواطن فيه مجتمع متحد تحت ولايتها، أو يتسمى بها ذات الحاكم الأمير الذي يأمر الرعية كما يشاء أو الملك الذي يملك أمر رعيته العام وذلك في مدى قطر من الأرض سيطر علي مَن اتخذه وطناً من مجتمع الناس. والأحكام السلطانية هي الأوامر الناظمة لإدارة السلطان بِنْيات تأسيسية ومعالم مفروضة وتكوينات أجهزة سلطة باختصاصات فرعية وآجال للولاية فيها وعلاقات تضابط وتكامل بينها، وقد تكون فيها نصوص توجيه لا تقتضي حكماً لازماً بل هي تكاليف توجهات سياسية مراعاتها مرجوّة.

 

القانون والدستور

"القانون" كلمة أصلها يوناني تعني الحكم اللازم، وتبدلت القاف منها كافاً في اللغة اللاتينية الدينية اصطلاحاً للأحكام الكنسية اللازمة المكتوبة على الرعية الدينية. وشاعت الكلمة في الاصطلاح العربي المعاصر ترجمة لكلمة (Law) إشارة للأحكام اللازمة بالسلطة في كل شئون الحياة العامة، فالأحكام القانونية التي تؤسس أصول السلطان - وهي الأحكام السلطانية باصطلاح الفقه الإسلامي - تسمي قوانين تأسيسية، بعضها قد يصدر تشريعات بالشورى والإجماع من جمهور الشعب أو نوابه تفصّل أحكام أصول السلطان، وبعضها  نصوص عهد رسمي وميثاق تأسيسي عام يتخذه كل أهل الوطن لتلك الأصول، وتطلق عليه باللاتينية (The Constitution)كلمة تشير على صفته التكوينية لتراكيب ولايات السلطان الأعلى وأصول مقتضيات سلطتها، وقد تُرجمت إلى العربية بكلمة "الدستور"، وتلك كلمة فارسية كانت تصف كبير المقدسين ديناً الذي تصدر منه الأوامر العليا في تصاريف حياة الناس العامة، ثم جرت هناك وصفاً لمن يتولى السلطان الدنيوي الأعلى بجبروت القوة العليا. وقد شاعت تلك الكلمة المعرّبة على نظام الأحكام السلطانية لكنها تجردت لدى عامة الناس من ظلال معناها ذات الوقع الثقيل لزاماً على المجتمع رعاة ورعية عهداً مُجمعاً عليه يحمل عليهم التكليف بكل مقتضيات الصدق في مراعاة نُظم الحكم التأسيسية ومناهج الفعال السلطانية السياسية.

 

الحُكم

هو إنزال الأمر في عين موقعه المشروع وإيقاع الحق في مفصله العادل في علاقات الناس وخصوماتهم العامة والخاصة. والمرء هو "الحكيم" إذا بلغ دقة الضبط في عدل حكمه ورشد تقديره ففصله وضبطه في وضع الحكم الآمر الناس رداً للظلامات والخصومات بينهم إلي ماهو حق. والفاعل لذلك عموماً هو "الحاكم" الواضع للعلاقات العامة بما هو أعدل وأرشد وأحسن تقديراً وفعلاً الذي وُلّي لأنه ذو سعة من علمه المحيط بالحق الصحيح لكثافة تجاربه واعتباراته وعظاته وتلقيه موازين الحق وحجج العلوم من مصادر الهدي الأحق. و "المُحكّم" هو الذي يُولّي أداء تلك الوظيفة في الحكم بالحق بين خصوم تراضوا به، "والحكومة" هي مقتضي ذلك التحكيم من قول فاصل يحسم الخلاف، وهي فيما شاع اليوم أيضاً من معانيها جُملة مَن يتولون الحكم بين الناس في مناصب السلطان العليا.والقضاء في نُظم الحكم هو الإمضاء والإنتهاء من أمر يستدعي فصلاً ومنتهي من مسألة أو مشكلة، فالله يقدّر المقادير ويقضي قضاءً نافذاً في الخلق والتصريف للوجود المشهود، وقضاة البشر يقدّرون الوقائع وبيّناتها وحيثيّات المعادلة وموازينها ويصدرون الأمر الخاتم الذي يقضي إجراءات التخاصم والتنازع بمقتضي الحق الفاصل.

 

الشرع

كلمة من جذرٍ تصاريفه متكاثرة. فشَرَع تعني وَرد وأقبل أو فتح وأبان أو ابتدر وسَنّ. والمشرع هو المورد، والشارع هو الطريق في المسير، والشراع هو قلاع السفينة المتوجه بمهب الريح إلى المجرى المقصود. فالدين الحق إنما شرعه الله للعباد وفتحه بادرةَ توجهٍ هاد صارفٍ عن ضلالات الدنيا، والمنهاج إنما هو سائر الطريق السالك إلي الغاية المنشودة. والشِّرْعة هي النمط الخاص لما شُرع، فشِرعه الله تميز الحق دون شِرعات الضلال. والشريعة هي الملة والسنة في الحياة وهي المهدية إذ شرعها وهدي إليها الله العالم بالحق المطلق في وجهة الطريق المستقيم بالحياة الدنيا إلى الأخرى. وأحكام شريعة الله هوادٍ وأوامر ونواهٍ في مسلك حياة عباده المؤمنين وصراطهم المستقيم، بعضها توجيه يخاطب ضمير كل مؤمن لأنه باطني وجداني لا يحيط به إلا المرء وربه، وبعضها يخاطب مجتمع المؤمنين يتآمرون به ويتناهون وينتظمون وفق هديه، وبعضه يقتضي إنفاذاً بقوة السلطان لأنه يخص نظام السلطان الأمضي أو يعم في علاقات الناس شرعاً يأمر وينهي أو ينظُم ويستدعي من الأمراء والقضاة أن ينفّذوه إن لزم فعلهم أو يُوصي المجتمع أن يراعيه ويضاغط ويذكرّ ويجازي أفراده أو أمراءه بمقتضاه. والمؤمنون عملاً بشريعة الله يندفعون في سلطانهم العام واضعين لأصول نُظُم الحكم منظومة أحكام تأسيسية قائمة مفوضين ولاياتهم لوضع فروع الأحكام الشرعية المتصلة بحياة الناس دون ذلك أحكاماً بيّنة مسنونة نافذة المقتضي، وذلك في مختلف ابتلاءاتهم بالظروف المتجددة قد يقتضي منهم اجتهاداً عاماً وقراراً إجماعياً أو إيكال الأمر لمن يتولون منهم سلطة وضع الأحكام.

 

فالمجتمع يشرّع كله قراراً منه هو قانون في إجماع أو يتولى التشريع العام نوابه الموكول إليهم وضع الأحكام القانونية أو قضاته الذين يجتهدون ويفصّلون في القضايا بحكم قانوني بهدي الشرع حتى وراء ما وضع الإجماع والنواب والأعراف احتكاماً لمقتضي مبادئ فطرة العدالة السائدة في ثقافة المجتمع. وذلك كله قانون مشروع لأن فيه إمضاء لهِدي الشريعة بحدّ نصّها البيّن أو للأحكام الاجتهادية التي تُفصّل هديها أو تُنزل مقتضاه الحق في صور جديدة لدواعي الابتلاءات المتقلّبة ودقائق الحياة المتطورة. وإن وضع الحكم بقرار إجماع عام للشعب أو بقرار عام من نواب جمهوره فهو تشريع، وإذ كان التفعيل صرفاً هو استكمال من الفعل فالتشريع هو تفريع وتجديد لمقتضي الشرع والشريعة الحق.

 

ووراء أحكام التشريع أو القانون والحكم النافذ قد يتواضع المجتمع على عرف أيضاً يُعمّ عادة مقبولة فيصبح إجماعاً لا بالتداول والقول الفاصل الصريح بل تجاوباً مع ابتلاء الحياة ومعاملاتها بنهج من التصرف يتواضع عليه الناس فعلاً حق يصبح عرفاً مرعياً لازماً يُعتبر من مصادر القانون الماضية. والأعراف قد يغُلظ وقعها في سياسة الحكم فتصبح أحكاماً لازمة في أصول تأسيس السلطان، أو تجري دون ذلك في المعاملات الجارية بين الناس فتمضي حكماً مرضياً لازماً، أو تُحسب أعرافاً خُلقُية تُراعي لا نفاذاً بالسلطة بل بضغوط المجتمع وضوابطه ودوافعه.

 

الدين والحياة السياسية والأحكام السلطانية

الدين الحق ما هو بالمعتقدات الوضعية ولكن هو الذي تنزّلت به كل رسالات الغيب الموحاة من الله لعباده هدايةً للحياة الدنيا حتى تكون موصولة بحسن العاقبة في الحياة الآخرة. وتلك رسالات وعد الله بها بني آدم منذ مهبطه في الأرض محجوباً عن مشاهدة الله، وتوالت تلك الدعوات الدينية متصادقة متجددة، لكنها جميعاً عهدت تمايزاً في أمم الخطاب الأولي بين المؤمنين المستجيبين بفطرتهم التي زكّوها والمعرضين الكفار لفطرة الايمان التي غمروها في أنفسهم، ثم عُهد في سير أولئك المؤمنين أن تطاول عليهم الأمد فنسوا هدي الرسالة وضيّعوا كتبها وغفلوا عن مقاصدها الغيبية عبادةً لله الواحد في حياة مستقيمة في سبيله الي الموت قاصدة يوم لقائه وغشيتهم بلاءات الهوي وشهوات حاضر الدنيا وعاجلها المشهود فتدهور أمرهم الديني، فبعضهم كفر بالغيب كله وبالله، وحتى بعض الذين بقوا منتسبين لملة الدين الغيبي احترموا فيها الوحدانية لله واستقامة الحياة عبادة لله الواحد إذ أخذوا يؤمنون ببعض الدين الحق ويكفرون ببعضه - مشركين بين نسبة تقليدية إلى الملة واذكار وشعائر هي أصوات وصور أو إخلاص تعلقٍ فيها بالعبادة لله قاصر عن سائر الحياة، أو متخذين أهواءهم الدنيوية آلهة فالمتاع المادي المشهود العاجل يحبونه دون شكر لنعمة الله فيه ولا عدل بالهدي في علاقاته، أو مفتونين بشهوة السلطان ولاةَ أمرٍ يتكبرون به ويتألهون على الناس سلاطين جبابرة، أو يسيرون حسب نزع الأهواء والمنافع والأراء القاصرة بآفاقها على مشهود الدنيا ويتداولون بها ليسود فيهم بالهوي سواد الجمهور الأعظم، أو تجتذبهم في مجالات من الحياة فتنة الزوجانية أو الجمال والزينة والفنون العارضة فينشدون مبتغي تعلقاتهم تلك مدبرين عن هدي الله الضابط للفتن القاصد لوصل عالم الشهادة كله بالغيب ومدي الحياة الدنيا الشاملة بشعابها بالآخرة.

 

والاشراك السياسي هو القاطع لصلة السياسة والحكم بأصول الدين ومقاصده إيماناً بالغيب وبالله الذي يؤتي الملك مَن يشاء وينزعه كذلك وبالصراط المستقيم الذي يسوق السياسة في الحياة الدنيا مهتدياً إلى الآخرة. وتلك هي ظاهرة في تجارب كثير من المجتمعات البشرية التي ضلّت عن رسالات هويتها الدينية الموروثة. وهي وجهة شاعت مسماةً اليوم في الترجمة العربية "العَلمانية"، وهي مذهب في السياسة يؤمن فيه العلمانيون بعالم سياسي دهري دنيوي حاضر مشهود لا همّ لهم فيه بهداية دينية أزلية أخروية غيبية. والتعبير الأوربي لمنهج الحياة العامة الدنيوي عبر قرون الدهـر يأتي في كلمة (Secular)، والزماني لا الأزلي في كلـمة (temporal)، والتعبير عن المُعرض عن الكنيسة وإيمانها الديني لا سيما المنصرف في السياسة إلى عموم الحياة المشهودة يُقال إنه (lay) ووجهته السياسية هي (laic).

 

وفي لغة التعبير عن المجتمع والقانون كثيراً ما ترد كلمة ما هو "مدني".  والكلمة في أصلها العربي هي إمازة في المجتمع بين المدني الحضري والريفي البدوي من الأعراب. وهي اليوم في أحــــــكام خصومات المعامـــلات إمازة للقانون "المدني" الذي يعالج بأحكامه المضارّة بين الناس أو مخاونة العهود أو انتهاك الحقوق المالية والعقارية أو الأذى للعرض أو نحو ذلك الظلم في ذات البين، وذلك عن القانون الجنائي الذي يعالج ويعاقب على العدوان على الحرمات في المسكن أو الجسد أو في الملك بين الناس أو بعض أحوال الإضرار الهادف لعموم سلامة الأمن والسلطان أو الباغي على أيما محرم في شأن عام وقد تتداخل القضايا الجنائية والدعاوي المدنية فيمضي العقاب إن ثبتت البينة ويُحكم للذي أضير برد الضر أو العوض. أما في صنوف الخدمة العامة للدولة فالمدني هو من كانت وظيفته في خدمة الدولة الإدارية ودواوينها العامة لا العسكري الذّي يعمل في جند الدولة. وفي الهندسة يتمايز المهندس "المدني" المختص ببنيات الإعمار والجسور والري عن المختص بالكهرباء والآليات وسائر فــــروع التقنية. وفي احتراب البشر الحرب "المدنية" هي الأهلية الناشبة بين مختلف الشِّعاب لقوم في وطن سلطاني واحد لا بين قوة سلطان وآخر في أقطار متباينة. وفي القانون الزواج المدني هو المعتمد عند مسجله السلطاني العام دون المبارك بإجراءات الكنيسة الدينية. والدفاع المدني هو قوة المجاهدة الشعبية لا الرسمية السلطانَية. والحقوق المدنية هي حظوظ المواطنة العامة في السياسة والحرية والمساواة الاجتماعية، والمجتمع المدني هو المجتمع بنُظُمه الطبيعية الخاصة لا بصفاته الدينية.

 

ومختلف التعابير المتقدمة التي تتّخذ كلمة "المدني" صفةً إنما هي استنباط من أصول الكلمة الأوربية (civic) التي تشير إلى التوطن في المدينة وحضارتها وتمدّن أهلها ثقافة وأخلاقهم ونظام معاملاتهم وضوابطه تحاكماً بينهم، وخدمة شئونهم بالعمالة في الدواوين الإدارية، وإعمار أبنيتهم هندسة، ومدافعتهم هم بأنفسهم طوعاً عن أمنهم واحترابهم الخاص أحياناً، وكل أمر يعنيهم لكن لا يقتضي اتخاذ القوة العسكرية لجند السلطان ولا يستدعي مراشد الكنيسة ومباركاتها الدينية. والإسلام في دعوته ما يستكره حال جهالة الأعراب والبدو ويستحسن التمدن وحَضَره الأرقى وأخلاقه الحسنى ورعايته لأمور في مجتمع متجاور متآخ متوال متعاون، وهدي الإسلام لا يتخذ أسباب الإكراه والقتال قاصرة على جند السلطان الجبار وإنما يكل للجمهور المتواطن مباشرة تكاليف المدافعة عن دارهم والمجاهدة للعادي، ولا يميز بين المؤمنين فئة مقدسة روحاً ترعاهم بها كأنهم لا يبلغون القربي والإجازة والبركة من الله الإ بواسطتهم بل المسلمون سواسية بقدر ما يتقون الله في حياتهم كافة بنيات التعبد لوجهه تعالى والاهتداء بوحيه والاستعانة والدعاء له مباشرة. فلا جدوى مما تجر إليه الترجمة العفوية من الخلط والضلال في نهج حكم المسلمين الحق بالتشاور الحر والمعاهدة والإجماع والتولية والمراقبة والتناصح والخلع المرضي اعتزالاً لحكم الجبروت والجند، وفي القربى لله بالمسعى من ذوات أنفسهم الخالصة لا التزلف إليه بواسطة المقدسين المدّعين خصوصية في احتكار الصلة بالأله والغيب.

 

لكن يتخذ بعض الساسة اللادينيين اليوم في بعض مجتمعات أمة الإسلام التي تشهد صحوة سياسية دينية - يتخذون كلمة "الدولة المدنية" ويؤثرونها في وصف ولاية السَلطان ليؤكدوا بأن شرعيتها عائدة إلى إجازتها سياسياً من عموم الناس رعايا الوطن لا من إذن أهل الدين وبركتهم وحدهم. والتعبير وارد من عظة السيرة الأوربية حيث كان رعايا الكنيسة المعنية في البلاد هم الذين يرجعون إلى مقدسيهم وكتبهم الدينية التي تبارك حق الحكم وشرعية السلطان للملوك والطغاة الإقطاعيون والأثرياء الظلمة فانصرف عن الكنيسة المواطنون المدنيون الأحرار المعنيون بعموم أمور الدنيا وهمومها السياسية. ولئلا يستبهم الأمر في فرقان حَيرة الناس بين الاقتصاد على عالم الدنيا ومشهود حياتها وحسب والإيمان بعالم الحياة الموصولة في الوجود كافة أولاها وآخراها ومشهودها وغيبها وزمانها وأزلها، لئلا يقع ذلك اللبس أو العمد في وصف وجهة السياسية ونظمها السلطانية بأنها "مدنية" حيلة لإبعاد الدين من أوضاعها وعلاقاتها وأحكامها مثل ما فعل أهل الكتاب في ثورتهم وحملتهم وخروجهم على أهل الكنيسة وانصرافهم عما وراءها مـن هـمـــوم الغيب، لئـلا يكون ذلك فـإن القــــول الفصل الأبين لغــة أن نتخذ صفة "اللاديني"  نفياً بيّناً لمن أراد عزل دين الله عن الحياة السياسية وإن أقام بمذهبه دولة فهي "لا دينية".

 

والديني المؤمن هو من كان بهدي دين الإسلام لله توحيدياً في تدينه عبر كل الحياة حتى في شأن السياسة والسلطان، عندئذ قد لا يشترط تسمية الدولة التي يقيمها بأنها إسلامية أو دينية، لكن بحق وصفها كذلك في مضمون النيات والمسالك في إقامتها وبنيتها وسياستها. فعندئذ تكون السياسة السلطانية عنده مهتديه بآيات من القرآن الكريم لا تكاد تحصي وبسنن من حياة الرسول ﷺ ومكتملة باجتهادات في الواقع بمقتضي هدي تلك الأصول. وذلك خيار الموحدين في الدين وهدية في الحياة لا للذين يريدون الإشراك في الحياة بين شعاب منها دينية تنحصر في الشعائر والخصوص من شئون الحياة وشعاب عامة لادينة في الحكم والمعاش تمضي ممارساتها دنيوية مادية مُعرضة عن الغيب والدين. وقد ترد في الدستور نصوص صريحة بمرجع التشريع والأحكام إلى الإسلام أو دين الدولة أو ملته الأخري المعتمدة، وقد تذكر شرطاً في أهلية الأمير الأعلى. وقد ترد مبادئ موجهة لسياسة السلطان تذكر نصوصاً أو معاني دينية. وقد ينص الدستور بأن دولته لادينية بأي لفظ قاطع يقتضي ذلك. أو يأتي الدستور غافلاً عن أي ذكر للدين موجب أو سالب ويترك وجهة سياسة الحكم لمن كان رأيه هو الغالب في المواطنين.

 

الشورى والديمقراطية

من اللَّبس الذي تورده الكلمات الدخيلة على العربية في نظم الحكم وسلطانه استعمال مصطلح "الديمقراطية". فذلك بأصله اليوناني وثقافته اللادينية هــــو "حكم الشعب" لا الفرد أو العصبة المتجّبرة ملكاً موروثاً أو طغياناً سالباً لسلطة الأمر العام. وذلك أصل في مبادئ الحكم يوافق هدي الإسلام: أن السلطة العليا في السلطان وفي خيار سيرة حياة الناس العامة هو إجماع الشعب، أي قرار كل الشعب أو غالبه في تولية مَن شاءوا خياراً في مناصب السلطة أو في اعتماد ما شاءوا من أحكام مفروضة لازمة تأسيسية أو عامة. ومن الأوفق أن يمضي مصطلح "حكم الشورى" أو الأمر العام الشوروي ليميز عن الجبروت حكم الشعب بالإجماع وهو قرار الشورى بعد أن تتداول وتتجادل عبرها الرؤى. وسواءً في ذلك أن يكون الإجماع مباشراً من كل جمهور الرعية في إطار مجتمع أو في وطن سلطان أو يكون بتفويض من جملة النواب الممثّلين للتعبير عن إرادة الشعب. وذلك أن الديمقراطية في أقطار الغرب أصبحت بعد مدن اليونان تتجدد روحها في مجتمعات في أرض واسعة المدى ثائرة بغتة على حكم الجبروت أو خارجة طوراً بعد طور على وطأة حكمه، فأخذت تسعى نحو حكم للشعب إن لم يكن لها مباشراً فهو يُولّي لمن يفوضونهم وكالة في مجالس تشاور حاكم. ففي تطورات المجتمعات الأوربية المسيحية وصراعاتها ضد الكنيسة التي كانت تبارك سلطان الملوك والطغاة في الدولة أصبحت كلمة الديمقراطية تحمل ظلالاً تقتضي البعد عن الكنيسة والدين في أمر السلطان والسياسة - إما قطعاً تاماً لذات البين أو استمازاً بينهما غالباً إلا بعض مراسم ومشاعر من التراث الديني. 

 

والحق أن المقتضى الأحق التدبير الأرشد في جعل السلطان حكماً للشعب بأمره واجماعه وتوكيله أن تُبسط الحرية لكل فرد في التعبير والتخيّر بين الرؤي والمذاهب والأحزاب المتنافسة في تمثيل إرادة الشعب، وأن تجري بعدالة وصدق إجراءات الشورى للاستفتاء العام إجماعاً أو الانتخاب لمفوضين تشريعاً، شوري لكل الراشدين في المجتمع ليولّوا حكامهم المصطفين في كل الأصعدة وليناصحوهم بقرار الرأي إجماعاً أو غلبته تعبيراً راجحاً وليراقبوهم ويحفظوا لهم ثبات الثقة في نهجهم والطاعة لأمرهم ما استقاموا أو يحملوا عليهم بالمحاسبة والعزل إن خالفوا الإجماع أو عهد التفويض. وينبغي أن يكون ذلك تعاقباً في دورات بآجالها تتجدد فيها الثقة فيمن وُلّي ثم تبيّن من سيرته أنه ظل هو الأَولي خياراً متجدداً عند الرعية أو يُبدّل المفوضون بتحول الخيار إلى آخرين. وفي مجتمع المسلمين الأقوم لا يَعرف المؤمنون رجال دين يحتكرون هديه وقداسته ويطاعون تلقاءً، وذلك مهما ينتشر أعلام ممن هم أعلم وأحكم اجتهاداً في الرأي بدرجات شتي في تفقه الدين وتنبسط آثارهم في توجهات المجتمع مثلما تبين في شتي شعاب الحياة درجات من علماء النظر والواقع وأثارهم لا الغالبة جزماً مطلقاً لكن ذات الوقع في استمالة مدود من الجمهور تتأثر بهم وتميل في خيارها السياسي وفاقاً لهم، وذلك مدعاة لبوح الاختلاف الحر حسب التكاثر ومدى التقويم والقبول لمختلف الرؤي العلمية. ومهما يطرأ في مجتمع المسلمين المختلف تمايز لطبقات في العلم والاجتهاد تكاد تحتكر فيه التوقير والتأثير مثل نشأة الكنيسة ورجالها الأوائل والنصارى لهم منذ إضطهاد الرومان الأُول، مهما تغشى المسلمين ظواهر تعصب مثل ظواهر المذاهب والطوائف في الكنائس وولاءاتها، فإن الحق في دين الإسلام أن يتعلم كل مؤمن ويجتهد حسب وسعه ويسهم كلٌ بحظه من العلم والاجتهاد في جملة كسب المجتمع من فقه هدي الدين في سياق واقع الابتلاء العام، وذلك مثل مجتمع الرسول ﷺ حيث كانت تختلف درجات العلم بين الصحابة وتخصصاتهم ولكنهم ما كانت تتميز فيهم طبقة موقرة مقدسة بل كان لكل مسلم نَصَبه وحظه في المسعى والكسب العام في علوم الشعائر والمعاملات والأمر العام.

 

الدولة والسلطان

"الدولة" كلمة عربية هي الدورة في تداول الأمور أو تعاقب الحظوظ في المال أو الحرب أو السلطة. والكلمة اتُّخذت ترجمة لكلمة أوربية تصف أيما قطر يتواطن فيه مجتمع يُقيم فيه نظام حكم يعلو عليه إمارة في حياته العامة. والكلمة الأوربية إنما تصف الحالة القائمة أو الدار الثابتة للحكم والسلطة تلك. والغريب أن تترجم بكلمة عربية تصف دورة التداول لا الثبات في جملة قيام الوطن والمجتمع والسلطة.

 

وكلمة السلطان المصرّفة من جذر كلمة السلطة نحو ما هو أبلغ قد تعني الحجة العليا في المجادلات والرؤى والأحكام، أو السلطة الغالبة على رعية من ولي الأمر العام، وقد تشير إلى عين الوالي المسيطر على رعية، وقد تعني جملة ولاية السلطة وأدواتها السائدة على رعية من مجتمع متواطن في قطر من الأرض محدود. وقد يشار إلى دار السلطان أنها سلطنة، كما يشار بكلمة الإمارة لوظيفة الأمير الأعلى أو كل الدار التي يتأمر عليها، والخلافة للتعاقب خلفةً لولاة الأمر موصوفة بالرشد أو منسوبة إلى ذرية معينة في سيرة الإسلام. والمملكة هي دار الملك، والجمهورية هي النُّظم أو الدار التي يتولي السلطان فيها جمهور الشعب. والوطن المحدود لقوم قد يسمى داراً منسوبة إليهم أو يسمى بصفة القوم وذريتهم فيه أو الطبيعة.

 

الأخلاق السياسية

الثقافة اليونانية الأولى كانت مادية النزع فأصل الأخلاق فيها فطرة النفوس ومشاعرها أو هوادي التصرف في المسلك تفكراً بالعقل المطلق. وبعد انتشار الديانة الكتابية اهتدى أهل تلك الملة بنصوص كتابهم لقيم عليا يبيّنها وحي الله ويتبارك اتباع ذلك الهدي بدوافع الإيمان بالجزاء العاقب للمسلك في الحياة الدنيا في عالم الغيب في آخرة الحياة أجراً على حسن الخلق أو عقاباً على سيئه. فأحكام الهوادي وسنن القوانين المدنية الرومانية تطورت بعد الإمبراطور أوقسطين الذي أصبح قديساً مسيحياً سنة 354 بعد الميلاد، فأصول الأخلاق لم تعد في الفطرة والتفكر المطلق وحسب بل في حب الله والإيمان بالمسيح تجاوزاً للحيوانية والآدمية النازعة للذنب، حباً أبلغ من خوف العقاب. وبعدئذ قام مثل أكونياس يوفق ما في الأخلاق بين النظر اليوناني الأول في طبيعة الإنسان والمسيحية حباً للمسيح، وذلك بعد ما نقل من ترجمة التراث اليوناني عبر الكتاب العربي إلى اللاتيني.

 

واضطرب نزع العلماء الأوربين بعد عهد الصحوة والتنوير والإصلاح الخالف للعهود الكنسية المظلمة، فبدت عندئذ توجهات بعضهم نحو رفض الأخلاق وإهمالها وجعل التصويب في نظم الحياة القويم على حكم الأمراء ولاة السلطة ونصحهم، وذلك فيه اعتزال للعقل أو الدين أصلاً للأخلاق وتجاوز للتعويل على طبع الإنسان خشية نزع الصراع فيه وحظر الهلاك في مجتمعه فنشدان السعادة والنفع العام في المسالك باللجوء للسلطان المطلق جبراً وعقاباً على الرعية لتراعي الأمانة في تعاقدها والحسني في تعاملها. واختلف المفكرون في بريطانيا بين التعويل على نزعة الفطرة أصلاً للأخلاق أو على نشدان المنفعة والمصلحة العامة وما ينبغي من التدبر في القيم والحقائق. وأمثال جان جاك روسو حسب رأيه جعل الأصل للأخلاق الحسنى لا في فرض الجبروت خوفاً من نزع الروح الجنائية في الإنسان للفوضى بل في التعويل على النبلاء البسطاء في المجتمع المتعاونين عند الحاجة المجتمعين على التعامل بعقد اجتماعي يُولّي سلطة الحكم بالإرادة العامة للمجتمع لا بالشهوات الفردية. أو أمثال (كانت) الذي رأى أخلاق الإنسان في نزع الإرادة لأداء الواجبات لا دفع الشهوات.

 

وجاء أمثال نيتشه ماركسياً يسعى لتجاوز الإيمان بالله والمسيحية والمرجع إلى قوة الإنسان العظمى وأساس الوجودية. ثم جاء الفكر المنطقي الواقعي والعاطفي الإنساني العالمي أصلاً للأخلاق، ثم أعقبت ذلك نهضة العلم فادعاء العلم الطبيعي المتجرد أصلاً لعلم الأخلاق الاجتماعي والواقعية والعلوم النفسية ومحض نزعات الفطرة والمقاصد والشهوات والروح الجماعية وفرائضها في المنافع لا المرغوبة للفرد نفسياً بل الحكيمة العالمية أمانة وإحساناً ووفاء وأداء للواجب وللعوض والعدالة لا المصلحة الشخصية، بل المفروضات الطبيعية بل المراعية للمساواة بين بني الإنسان والعدل لا الظلم والسلام لا الحرب والصراع في المجتمعات والشعوب.

 

والأخلاق والخُلق في الثقافة العربية تصريف جمع من جذر الخَلقْ وهو ابتداع الشئ أو القول، والمخلّق هو التام صورةَ خَلق، وخَلَق الثوب وأخلاقه بَلِي والباليات منه، والأرض الخلقاء الملساء، والخَلاق النصيب، والمرء خليق بكذا أي جدير. كل ذلك تصريف لمعنى أصل الإيجاد ابداعاً أو ارتداداً إليه بالبلي، أو سلاسة في الخلق أو قدْراً مكتوباً متوافراً من أصله أو جدارة بأصل الطبع. فالأخلاق هي السجايا والطباع في المسلك إن حسُنت أصبحت فضائل وإن ساءت أصبحت رذائل، فهي هيئة المسالك في دقائق التصرفات وآداب المعاملات وعموم توجّهات الحياة. وهي لا تحكمها ولا تضبطها وحسب الأحكام السلطانية التي تضبط مسلك الرعية بقانون نافذ يفرض بالأمر حدوداً لمقتضاه وينفذها بحكم القضاء وقوة الإمارة. ذلك مهما يمكن للسلطان أن يكتب للرعية توجيهات سياسية نسبية المدي تلتزمها الأخلاق حسب وسع كل فرد من الرعية تخاطبه. فبينما تترتب على عصيان الأحكام الأميرية القضائية ذات الحدود القانونية اللازمة عواقب حبس أو غرم أو أذى لا يترتب على حسن الأخلاق وفق التوجيهات والنصائح العفوية السياسية مكافأة تلقائية من السلطان.

 

ودون ذلك التوجيه تنبعث الأخلاق من دوافع وضوابط في فطرة الإنسان الفرد من الرعية ومشاعره الوجدانية ورويّة فكره وحكمة بصيرته بعِبَر التجارب وعظاتها في سير الحياة، فلا تسوء الأخلاق انغماراً في دفع الشهوات ونوازع الهوي الخاصة بل تحسُن لا سيما من وحي الفطرة المتزكية من وجدانها ميلاً مستقيماً نحو الخير لا ليّاً فاتناً نحو الشر، أو من وقع عادات المجتمع وتراث أوامره المعروفة ونواهي منكراته المسموعة الموروثة المتطورة وجزاءاته العاقبة حسب مسلك أفراده أجراً دافعاً لمن أحسن بالشكر والحمد ونشر كلمات الذكر الطيب والسمعة الحسنة التي هو أهل لها وزجراً لمن عصي فأساء بالملام المباشر وإشاعة السمعة السيئة الحاقّة عليه.

 

وتزكو الأخلاق فيمن اهتدي أيضاً بالدين الموحي من الله لا سيما في ملة الإسلام بكتابها المحفوظ وسنته المرويّة بياناً للهوادي نحو الحسنى والسوءى في مسالك الإنسان الخلقية ودوافعها بأجر الله ورضوانه مما قد يتجلّى في المنظور العاجل عقب الإحسان وضوابطها الزاجرة من الإساءة عذاباً من الله أو غضباً قد تبدو مظاهره فوراً في الدنيا، وكل تلك الدوافع والضوابط يتأكد وقعها المحسوب في الآخرة البالغ بالوحي وبالوعد اليقين بشيراً ونذيراً. كذلك تتناصر وتتكامل الهوادي البينة والدوافع المبشرة والضوابط المنذرة في نزعات الفطرة وفي ضغوط المجتمع وفي نصائح السلطان وفي هوادي الدين، فالأخلاق الحسنى تدعو إليها مدارك الفطرة وخواطرها ورغبة البشري في اتباعها ورهبة ووازع الندامة في مخالفتها، وتدعو إليها ضغوط المجتمع حتى يوافقها المرء خوفاً من تعزير حملة المجتمع على مَن يخرج عليه ورجاء في جميله لمن وافقه، وتدعو إليها نصائح السلطان لتُتبع عشماً في عواقب حكمة سياسته وخوفاً من العقاب على معصية أحكام التكاليف ذات الحدود، وتدعو إليها هوادي حق الدين خشية من عواقب الفسوق أو حتى القصور عن مقتضابها غضباً من الله وروادعه وطمعاً في نيل نعمة الله ورضوانه بالتزامها.

 

الأخلاق وراء مدي الولاء السياسي

الإنسان قد يحصر ولاءه لنفسه شُحاً وأنانية يُغار على حرماته كسباً وعرضاً لئلا يُبغي عليها وحقوقه وحرياته الخاصة ألا تنتهك فيبيح لنفسه أن يدافع عما يهمه من أمر ذاته، ولكن لا يتسع أفق ولائه وراء ذلك إلى كل المدى الذي يرسمه المجتمع والسلطان، وإنما ينبغي أن ينشرح ولاؤه ليتسع بحسن خلقه فطرة إنسانية جامعة وصلة اجتماعية وقربي. ولربما يكتب القانون بعض الواجبات نحو ذوي القربي في الأسرة، ولكن الخلق الحسن يفتح أفق ولاء الفرد لكل ذوي القربى. وقد تقتضي حرمة الجيرة ألا يعدُو المرء عليها بحكم القانون، ولكن حسن الأخلاق تعزّز ذلك فيحمل المرء واجبات نحو الجار ولو كان جُنباً في العرق، والجيرة تتسع محلاً فإقليماً فوطناً وقد يرتب في أفقها ذاك القانون أحكاماً. وحسن الخلق يدفع المرء لأن يستشعر عاطفة ولاء في كل تلك الأفاق ويراعي واجبات بر وعون يمتد إلي أفاقها.

 

والقطر هو الإطار لحلقة التواطن وسلطة ولاية الأمر قانوناً، ومهما تباعدت المناطق المترامية في الوطن له وتبينت واجبات الولاء الوطني أن يستجاب لدواعيها المرسومة وألا تُخان بولاءات مزدوجة مع خصيم له، فإن حسن الأخلاق الإنسانية تمتد بالمرء من تكاليف القربى نحو سائر الأهل والعشيرة ثم نحو المواطنين كافة، ومن مدى الأرض نحو الجيرة فالمحلية فالإقليم فالوطن نحو ما وراء ذلك نحو الأمة ثقافة وتراثاً وديناً واحداً ثم نحو الإنسانية عهوداً عالمية بين الدول والنظم والأفراد في شتي جوانب من الحياة ومن ورائها بالأخلاق هموماً في بسط العلم وتبادل الثقافات.

 

وخلق المرء المتدين تصل المرء دون إكراه بأحكام قانون بسيرة كل الإنسان وملل الديانات المتواترة منذ آدم وتصله بالغيب فبربّه حباً وعبادة وتقوي لرقابته سبحانه وتعالى وإعداداً عبر بلاءات الحياة للقائه في الآخرة ولقاء الصاحب السلف والخلف الصالح والطالح من الناس يوم القيامة حيث يتمايزون بين الجنة والرضوان والنار والغضب من الله وفق سابق كسبهم في الدنيا. فلذلك تدعو المرء أخلاقه الفطرية الإنسانية الدينية لأن يكون منشرحاً منفتحاً أبداً بآفاقه همّاً لشئون أمته ثم بني الإنسان كافة يبتغي نشر العلم والصلاح وضمّ أوسع لآفاق التعامل والتعاون.

 

ويُعني المرء بالظلامات والمآسي حيثما بدت في الأرض، ويجتهد في معرفة سير التاريخ ليجد العبر والعظات وفي الإحاطة بأوضاع بني الإنسان وحياتهم في الأرض سعياً نحو تجاوز حدود القربى بالدم أو بالجيرة نحو الإحاطة بشأن بني الإنسان كافة تعارفاً وتبادلاً للعلم وتعاوناً في المكاسب والرقي نحو الدرج الأعلى وانبساطاً في السعد والرفاهية واليسر في الدنيا والقربى من الله المتعالي. والمشاعر الخلقية الحسنى هي التي توازن عدلاً بينما هو قريب وبعيد في صلات المجتمع وأبعاد الحوار، إلا تأخذ المرء العصبية للقريب انحصاراً بل يتجرد من العاطفة الألح دنواً تجاوزاً صوب البعيد الأعم، ولا يخون مقتضي العهد المنعقد مع أيّما أفق ميلاً نحو دائرة أوسع انعطافاً.

 

حسن الأخلاق وراء تفاعلات الرعية والراعي السياسية

الرعية قد تُبتلى بوطأة جبروت يفرضه عليها الراعي بأوامر يسُنها لكن تنسخها الشرعية الأَولى الضابطة لميزان حرية الرعية وسلطة الراعي المنضبطة عدلاً. والأخلاق الحُسنى تطهّر الرعية من الاستسلام للطغيان مراضاة له ونفاقاً يوقّر أوامره بقول اللسان ويركن لطاعته رغبة ورهبة لا صدقاً خالصاً. والأخلاق تضبط نزع المضادةّ للراعي القائم بالحق المشروع لاختلاف الرأي في سياسته وإنما تدعو لحواره ونصيحته لا البغي الشامل المطلق في حملة خروج عليه وسعي لخلعه بفتنة المغالبة. وفتنة الانتصار على الوالي الظالم الذي يحق عزله قد تودي في العاقبة إلى ما تدفع إليه روح الانتقام المفرطة في ابتغاء الثأر عزلاً وأذى، لكن حسن الخلق يضبط تلك النوازع ويدعو إلى إيثار العفو عن المظالم وتقبل توبة الذين خاب طغيانهم وراودتهم فطرة الخلق الحسن الأوابة وتذكرة المتاب إلى الله ليعترفوا ندماً بسابق فعلهم الجائر ويرجعوا عزماً على الاستقامة والرضى بإصلاح ما أفسدوا والنزول عن كرسي السلطان المتعالي.

 

والأحكام المشروعة في السلطان تترتب حجتها حسب نظام الحياة العامة حيث تعلو أحكام الأصول التأسيسية والعهود الدستورية درجة فوق لزوم القوانين التشريعية الضابطة لما دونها من أوامر تنفيذها في هيكل بنية السلطان الإدارية، ويقوم في بنى السلطة القضائية التي تحفظ ذلك الترتيب في النظام فضلاً عن تسويتها للخصومات والأقضية. لكن فتن السلطة السياسية قد توقع ما هو تعد ظالم على ذلك الدرج المنظوم في الشرعية، وضىآلة الوعي العام بالشرعية والتهيؤ لإنفاذ مقتضاها قد يُمضي الظُلم فيها عن غفلة وفوات لفرص العدل والنظام السوي القويم. ولكن حسن الخلق وعزائم مراعاتها تستدرك تلك العلل في نظام الحكم لأن الوفاء للعهود الدستورية بالعزيمة الأشد والطاعة الخالصة لحكم القانون دون ذلك بكل مقتضياته في سبيل بسط احترام النظم المؤسسة حقاً في مقتضي الأحكام ورعايه وقعها المنظوم المرضي من الرعية كافة هو فضل قويم في نهج حياة المجتمع.

 

حسن الأخلاق وراء علاقات الرعية السياسية

أحكام القانون قد تنضبط وفق المعايير العليا المشروعة عند واضعيه في سبيل المساواة بين المواطنين في حرياتهم وممارسة حقوقهم تقدماً نحو درج المكانة أو الولاية العامة واختيارهم بين المتنافسين فيها. وذلك دون تمايز ظالم بين الذكور والإناث، أو بين الناس مهما تختلف ألوانهم وألسنتهم وتتفاوت حظوظهم في مقامات الفضل والغني في المجتمع. ولكن كمال وقع تلك المساواة التي تُقرها أحكام القانون قد لا يتوافر في المجتمع إن كانت في نفوسه ما ينزع نحو المساخرة والمفاخرة بين الناس والتمييز الظالم بينهم مهما يبيح لهم القانون سواء الاجتهاد والاختيار الحر بينهم في عقود معاملات أو تدابير انتخابات أو المبارّة في معاملاتهم العفوية والمشاركة الطوعية بينهم في سبيل الخير والكسب.

 

ولكن حسن الأخلاق الناشئة من فطرة متزكية بالرشد وبهدي الدين غير مغشية بفتن المشاعر والتقاليد الظالمة المعهودة في المجتمع – تلك الأخلاق لا تعزز المساواة التي يقتضيها الحكم وحسب بل تؤكد صدقها بأن يراعيها المتخّلقون بالفضائل بإخلاص نيات وجدانهم وعزمهم فيما يُوكل إليهم فعله أحراراً لا إيجاباً بحكم القانون. والعصبية المضمرة فتنة لا يكاد يسلم منها مجتمع مهما ترقّت أحكامه القانونية، وحسن الخلق الزكي بهدي الدين لا يُمضي فعلاً مائزاً بين الناس بالظلم مهما يكن مظهر الذين يعاملهم المرء أو مقامهم بل مهما تكن ملتهم الدينية إن كان الخيار يقتضي حكماً على المرشحين لولاية عارضة بأجلها وفق معيار بالأهلية والأمانة، وقد يقتضي اختيار أنثي أو ذي ملة غير مسلمة لكنه أوفر أهلية علم وتجربة يقتضيها أداء مفلح في وظيفة الولاية وأمانة مهما تعتريها مخاطر فتن الخيانة في ضبط ممارسة السلطة وتقوي حفظ المال العام. وذلك هو الخلق الأحسن الذي يُصلح فعل السياسة ويزكيه ويبارك وقعه.

 

وكذلك ضوابط أحكام الأهلية شروطاً للذين يتقدمون مرشحين للاختيار لنيل ولايات السلطة المختلفة، وبعض تلك الأحكام حدود بينة مثل شرط الانتساب للمواطنة أو بلوغ العمر اللازم أو البراءة في السيرة من سابقة حكم طعنٍ في شرف الأمانة ولما يتقادم رجاء بلوغ التوبة. ومهما تكن تلك الأحكام ضوابط مشروطة فإن الأهلية للجدارة التقديرية للمرشح في نيل الولاية موكولة للناخبين أن يتخلقوا بالتقوى والتجرد من ميول العصبية فيؤدوا شهادة الاختيار بأمانة في التقدير الحكيم. ثم على المرشح في ضوابط الأخلاق ألاّ يزكي نفسه ولا يبدي إلحاحاً في طلب الولاية فذلك داع لأن يُصرف عنه الخيار حتى لا تفتنه السلطة وتتجلى شهوته نزعاً للفساد، وعليه خُلُقاً أميناً صادقاً أن يصوّب دعوته الانتخابية نحو المنهج الذي يعد بأن يتخذه في ولاية السلطة، ليقارب الناخبون بين ذلك وعروض الآخرين وليتخيروا من يمثل مذهبهم هم أو من أقنعهم بخياره.

 

وإذا كُتب للمرشح الفوز بالخيار فينبغي خلقاً حسناً ألا يفرط محتفلاً بالفرح والنيل من خصمه في المنافسة فالسلطة أمانة ثقيلة تقتضي ممن تولاها أن يجدّ في احتمال المسئولية ويجتهد في الصدق من بعد لا يغتنم الفرصة وينفتن بالسلطة بل يصدّق وعده في دعوته وصبره لإحقاق المرجو من العهد والبيعة بينه وبين ناخبيه. وذلك ابتلاء يقتضيه الخلق الحسن لا سيما إن كانت دورة الانتخاب تقضي النظر في تجديد الثقة بالمرشح ومدّ ولايته لدورة أخرى أو التبيّن بعد التجريب أنه قد كذب الوعد أو اجتهد لكن بلاء الواقع تعسر عليه وخيّب مرجواته.

 

والخيارات المتنافسة في السياسة المعروضة لخيار الرعية تقتضي أن يقوموها ويوالوا خير ما قُدّم فيها ويتحزّبوا له، وقد تروج دعوة لحزب وتبور دعوة لآخر أو تتعدد وتتكاثر الأحزاب السياسية. والحق حكماً سياسياً أن يُترك المجال لذلك عفواً لتظهر الأحزاب سواء في حرية نشأتها وبسط دعوتها توجهاً لعبادة الله وتقواه واتباع شرعه الموحي أو ميلاً للهوي ونزع الشيطان في الرؤي والفعال، ومذهباً نحو فتح الحرية فرجاً مطلقاً أو ضبطاً لها دون العربدة أو أيما ميزان يتخيره أهل حزب، وكذلك قد تختلف مذاهب الأحزاب في سياسة المعاش والمال والاقتصاد بسطاً لحرية الكسب والعمل الخاص للفرد والشركة طوعاً وانطلاقاً لمبادرات أفراد الرعية أو حصراً لذلك بأن يتولى السلطان بعض الخطط العامة اللازمة وأداء بعض الأعمال أو الخدمات العامة أو اختلافاً في تحري الميزان بين هذا وذاك.

 

وكذاك قد تتباين مذاهب الأحزاب والرأي العام في مختلف شعاب السياسة ثقافة أو مجتمعاً أو علاقات خارجية. والحق ألا يُحتكر الأمر العام لحزب واحد يفرض مذهبه بلا خيار، وألا يُشترط في نشأة الأحزاب ومنهجها بالقانون ضابط قطعي. ولكن الأخلاق الحسني من وراء ذلك تتوخى بالرعية ألاّ يُفرطوا في التشعب الحزبي لئلا يضطرب الخيار بينها وألا تُفرط في وحدة المجتمع تنازعاً مفرطاً حول المبادئ الأساسية لأحواله وتوجهاته، وأن تجتنب الأحزاب في دعوتها الدعايات الخاوية من لازم المعاني البينة المخادعة للرأي العام، وألاّ تشتد حمية الجدال الحزبي وعصبية الموالاة للحزب وحفظ الاعتدال الموزون بين الانتظام والوحدة والسماحة والتآخي من وجه ثم اجتهاد الرأي وأختيار الولاء والمنهج والحزب دون التحامس الحاد وتفاقم روح الخلاف والصراع وتأجيج نيران العصبيات.

 

حسن الأخلاق وولاية السلطة بالشورى

ولاية السلطة هي في مواقع من بنية التعاقد القانوني السلطاني، وهي حسب النظام التأسيسي الذي يقوم عليه ذلك التعاقد الإجماعي الذي يرسم تراتيب سلطانهم في دارهم ثم حسب الخيار الانتخابي بعين الولاة إذ تدور شورى الخيار بين مرشحين لولاية السلطة في شتى مواقعها: في رأس السيادة أو في مجلس التشريع أو في الإمارة والادارة أو في القضاء، وبإجماع الناخبين بسوادهم الأعظم تُعين أسماء مَن يتولى مختلف تلك المواقع. وحكم الدين الرباني أن تكون الولايات العليا بالشوري والإجماع ولا تكون ولاية الأمر العام جبروتاً يُقام باستلاب السلطة بمغالبة وقوة أو بتوارث ملكوت مطلق.

 

 كذلك ينبغي أن تكون إرادة جمهور المواطنين في عرفهم الراسخ أو خيارهم السائد هو أن أصل الحكم للشعب مباشرة أو لنوابه ووكلائه بوجه غير مباشر، وأن تقام بالشورى حكومة الشعب المباشرة أو انتخاب نوابه. ومهما يكن كذلك حكم القانون اللازم ومقتضي نظامه المرسوم فإن حسن الأخلاق في السياسة تقتضي في إجراء الانتخابات ما سبق ذكره، وتقتضي في الوالي حيثما كان درج منصبه أن يستشعر أبداً روح العقد الذي وُلّي به تعاهداً يقتضي التفويض من الشعب الناخب – مشاعر ينبغي أن يلازمها كل والٍ إزاء ناخبيه الذين تولوا إجراءات التعاقد معه. وعليه أن يتطهر من فتنة السلطة ويتجرد من نزع شيطانها تقيّاً في سماحة وأمانة غير متفرعن ولا متخون. 

 

وعليه في سيرة حكمه في موقعه فرداً أو في عضوية مجلس أن يلتزم في وضع الأحكام التشريعية والأوامر التنفيذية الشورى ويلتمس عبرها مرافد الوفاق ومعاقد الإجماع الغالب بعد تداول الرأي الحر المخلص، وعليه أن يتحرر من عصبية الرأي الذي يبادر به هو بل يسهم به في تداول الشورى لا يستبد برأيه ولا يحتكر الأمر وأن يصوب نحو تزاوج الرؤى وانشراح الصدور وبركة روح السعي نحو القرار المطمئن إجماعاً والعزم والتوكل إقداماً بعد مداولات التشاور تجاوزاً لتخالف الرؤي وتحيّز الخيارات. والوالي مراعاة لروح الشورى وتقديراً لمرجع ولايته إلى إدارة الشعب ينبغي أن يتجنب الخيلاء والاستكبار في أمره ومظهره لئلا يستضعف رعيته وأعوانه في شِركة شورى الحكم ولا يستفزهم فيُدبروا عن الاعتصام بروح الجماعة ويخيب هو جباراً عنيداً.

 

حسن الأخلاق وحكم الصلاح والعدالة

قد يرد النص في أحكام ميثاق الدستور على ترتيب الحكم بمبادئ موجهة لسعي السلطان توخياً لمقاصد الصلاح واجتهاداً لأداء المهام والوظائف والمثل العليا في خدمة الرعية وقضاء حاجاتها والرقيّ بها في درج العز السياسي للوطن والسعد والرفاهية في المعاش والصعود في مراتب العلم والصحة ونحو ذلك. ولكن هذه التوجهات لا تفرض واجبات ونُظماً لازمة ولا تعاقب على القصور عنها بتدابير مقضية وإنما تدفع كل وال لسلطان لتزكية أخلاقه السياسية ليجتهد في حسن أدائه لمهامه ويسعى نحو الأبلغ في تلك التوجهات والوعود، ولينافس في الأداء الأصلح فهو لا ينشد إرضاء الرعية وتبشيرها وبلوغ أمانيها وحسب بل إن تتزكى أخلاقه بابتغاء الحسنى في آخرته ورجائه أن يَحقّ له من الله الأجر المضاعف والفوز بخير العاقبة جزاء على الصلاح والإحسان الذي قدّم من كسبه.

 

وحسن الخلق في الرعية يدفع بها للإئتمار بالمعروف والتناهي عن المنكر لتمام قضاء الأحكام القانونية ومباركة أداء العاملين في دواوين السلطة وفي نظام شرطتها الآمرة والناهية وعموماً ولتجاوز مبلغها وتكاملها بأن يحيط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما لا يحيط به القانون السلطاني دقةً في المعاملات والآداب وعموماً فيها لا تبلغه حدود القانون وبأن يمضي سجية تنطبع بها النفوس فتنطوي على نيات تدفع نحو الصلاح الأتم والأرقى. وحسن الخُلق أيضاً يتجاوز مدى القانون في بسط سنن المعروف في عون الأغنى لذي الحاجة ونشر والوقف في مد الخير الموصول المداوم لمواقعه المندوبة ومراعاة التقوى لله في إصلاح كل دقائق السيئات من أمور الحياة العامة وانتشار كل فيوض الإخاء والتعاون في تجاوز كسب الفرد بالتعاون والشركة في أجمع الكسوب وأبلغ المقاصد لصالح ذوي القربي وأهل الوطن وبني الإنسان.

 

أما العدالة فإن حكم السلطان يقتضي بأن تتواخاها التشريعات ومداولات المجالس النيابية الشورية عدلاً في إجراءاتها لكتابة المفروضات الضرائب والنفقات والمصاريف الرسمية على الرعايا وفي ترتيب نظام الخدمات السلطانية بين الناس نقلاً واتصالاً وتعليماً وعافية ودفعاً ديوانياً وتشجيعاً وتيسيراً لمناشطهم الاجتماعية والمعاشية والثقافية وعدلاً في قسمة الحظوظ وتوزيع الفرص والفرائض. وينبغي أن يفصل القضاء كذلك في مخاصمات الناس في ذات بينهم أو بينهم وولاة السلطة راعياً العدالة وفق القانون، والعدالة تستلزم في حكم القانون ألاّ تحفظ حصانة من المسئولية عن الخطأ لذي ولاية بل الناس كلهم سواء أمام القضاء. وحسن الخلق إن غشيت كل المشرعين والآمرين والقضاة فأنها تجردهم من الجنوح للظلم برأي الأغلب من ذوي الولاية في مجلس تشريعي أو بأمر الأعلى رتبة لأنه أرجح سلطة أو بحكم القاضي القاصر في تحري كل البينات أو المائل في أحكامه التقديرية أو في إنزال الحكم على حيثيات واقع الاختصام.

 

وحسن الخلق سجية تتجلّى من فطرة زكية ترعى المعروف وتتقي رقابة الله وأمره بالعدالة – إنها تكف ولي الأمر عن أكل المال الحرام ولو توافرت له السترة من أن تدركه ضغوط الرأي العام وإجراءات القضاء، إنها تأخذ كل خصم جان بما فعل ولو كان في ولاية بل أن هدي الدين أن يؤخذ الجاني وهو الأظهر والأشهر على الناس بضعف العقوبة على الجاني العام، وإنها تدفع الخصوم للتصالح بالقسط لا الملاحّة في الخصومة والمطاولة في مجادلات التقاضي وتسويفاته بما يؤدّي لحرمان المظلوم من حقه الذي يحتاحه لمعاشه أن يحظي بحكم فوري ناجز  وبما ييسر للظالم أن يحبس مال الآخر ويستثمره استئثاراً به حيناً طويلاً. وكذلك حسن الأخلاق تدفع المشرّع والآمر وولي السلطة عموماً أن يتحري القسط وأن يتقي الله وعقابه الأشد والأبقى إن أمضى ظلمه على غفلة من الرعية وجور على المساكين والذين هم في قلة وذلة من الرعية.

 

وقضاء المظالم والعدالة الإدارية قد تقسط مَن ضاع حقه في آجال القضاء وعسر إجراءاته أو في الإدارة وترقياتها مراعاة للرتب وجزاءاتها حساباً لتقدير أداء العاملين. ولكن حسن الأخلاق في قضاء المظالم قد تستدرك قصور القضاء، وفي الإدارة قد تطهّر من نزعات الظلم في تقديرات الأهلية في توليها وفي وزن الأداء الإداري.

 

والقانون قد يرسم الميزان المسنون بين حرية أفراد الرعية بلا جبروت كابت وشروط العدل إزاء الآخرين دون تفريط في حقوقهم ومراعاة المصلحة الملحة لعموم الناس لا الشح والمحاباة. ولكن حسن الأخلاق بدوافعها وضوابطها هو الضمان ألاّ تتعطل الحرية بغير ممارسة ممن حقت له بحكم القانون بل تمارس اجتهاداً في الرأي ونصحاً لولي الأمر فيما يُخطئ ويظلم، ويُطلق حسن الخلق مهما تراودها الفتنة أن تحبسها وراء القانون وطأة الخضوع للمستكبرين وللسادة والجنوح عصبية لعرف موروث دون الاجتهاد العزيز المتجدد بالرأي والفعل في مساعي الحياة.

 

وكذلك يعدل المؤمن التقي لربه بحسن أخلاقه إذا كان له تولي الخيار والفصل بين الناس، لا يتعصب لأحد ولا يرتشي ولا ينحاز ولا ينجرف بوقع الدعاية لأحد. وإذا كان له أن ينشر رأيه لا يوالي السلطان ولا يتعصب للمعارضة بل يقول الحق ولا يكذب أو يبالغ للإثارة وترويج الرأي للعامة في سبيل الاغتنام بالباطل للكسب السياسي بل يبَّلغ الحقائق ويزن نشر الأراء ويبسط إعلام الناس بالحق، وإذا أثني على مَن حق له الثناء لا يُفرط المدح وإن انتقد وطعن لا يبغي في حملته وكذلك في كل وجه من الحياة يجعل العدل والقسطاس والعلم مقصده الأَولي لا الظلم والجنوح والجهل مما هو من ضلال الفتنة في بلاءات الحياة.

 

توحيد وقع الأخلاق في وجدان الفرد ومعروف المجتمع وسلطان الحكم

إن الوحدة هي أساس الوجود كله، تتجلّى في أصل الوجود المخلوق بالبداء في وحدانية الله الذي لا يشاركه كفؤ، فمنه وحده سبحانه وتعالي تصدر كل الأقدار التي يخلق بها ويطبع مخلوقاته من الأشياء المشهودة والغيبيّة ويُسوّيها والأقضية التي يصرّف بها سُنن مخلوقاته وحركة فعالها. وتتجلّي تلك الوحدة من بعد في حياة الإنسان وتصاريف الخلق حوله. فحياته تتواصل عهدين عاجلاً في عالم الشهادة وآجلاً في الغيب. وقُدّر له أن يقوم في أولاها خلفةً متعاقبة يحيا فيها أبُوة ثم يموت وتخلفه بنوة، ويمتاز وحده إذ قُدر له في دنياه حرية المشيئة يتعرض فيها لابتلاءات مختلفة فيجوزها إسلاماً لله وهدي أو إعراضاً وضلالاً ثم يعقبه في أُخراه الحساب والجزاء الوفاق لسابق كسبه، لكنه يدوم بعدئذ سعيداً مرضياً أو شقياً مغضوباً عليه ما شاء الله.

وأمر الله عالمَ الجن أن يكون مسخراً لخدمة الإنسان فسجد له من أصبحوا ملائكة رسل غيبٍ يبلغون الإنسان وحياً بالهدي من ربه ويثّبتونه إن اختار التزام ذلك الهدي في مسيرة يسر وسلام في الدنيا والآخرة. وذلك بينما أبلس عن ذلك الأمر الرباني من الجن مَن استكبر على الإنسان وتشيطن عن طاعة الله وعزم أن يلازم الإنسان ليغويه في حياته ويسوقه في حياة عسري حتى يصاحبه في عذاب الآخرة.

 

وإنما قدر الله لذلك الإنسان المخلوق أن تكون له المشيئة الحرة ليختار الإيمان بالله والغيب والرسالة ويتخلق بحسن الخُلق في حياته رغم البلاء أو يختار سوء الخُلق كفراً واتباعاً للهوى. وقد جعل الله له في فطرته ميثاقاً مركوزاً أن يؤمن بربوبية الله ويعبده في حياته بداعي تلك الفطرة ويتهيأ – إن لم ينقض العهد – لأن يزكّي فطرته بالتبصّر في مشاهد الطبيعة حوله المسخرة آيات لله الخلاّق ويحمد الله الرحيم على نعمائه المنبسطة فيها.

ثم وعد الله منذ مهبط آدم محجوباً عن الغيب أن يوالي أبناءه برسالات تذكير وهدي موحاة آياتٍ من الله تُنبئه عن حقائق الغيب المخلوق والموعود وتهديه إلى صراط مستقيم في دنياه بدواعي النذارة والبشارة عن مصير أُخراه وفقاً لمسيره الأول. فإن تزكّت فطرة الإنسان وتذكّرت كذلك حسُنت أخلاقه وصلح كسبه في الدنيا وإن دسّ فطرته بهواه وغفل وأعرض عن آيات الله ساء خلقه ومصيره. وإذ خُلق الإنسان متوالداً متعاقباً يتكاثر الناس يجمعهم طبع الخَلق والعرق ويتعرضون لبلاءات الدنيا، وقد تحسن خُلق الأفراد فتتضايف حياةً حسني في مجتمع ويعود عليهم المجتمع بدوافعه وضواغطه لتتبارك إحسانهم ويستقيموا على الطريق الحسني عاجلاً وآجلاً. وقد يسوء خيار الأفراد وخُلقهم ويكثرون بعدّهم ليؤلفوا مجتمعاً تغلب عليه سوءي الأخلاق فلا يزيدهم إلا سوءاً.

 

والمجتمعَ لكيلا تضطرب خيارات الناس فيه وأخلاقهم ومساعيهم يضطر إلى تنظيم حياته بإقامة سلطان يوكله الإمارة على عموم شأنه، وإما أن يتولى السلطان أمره بخيار الرعية الحر ويماثل خُلقها كيفما كان أو يستغل فيهم الحاجة لولاية ناظمة فيسلب السلطة على كره من الناس ويفتنه هواها فيتشيطن ويتفرعن ويؤم قومه بسئ المثال الظاهر عليهم فاسداً والغاً في أكل المال العام بالباطل ومستبداً طاغياً يُذل الرعية ويستضعفها يبسط قوة أُمرائه وجنوده. وقد يتجاوب الأفراد والمجتمع بمثال الفساد والطغيان فيما يليهم من الحياة أو يتمسكنون فلا ينشطون إزاءه إلاّ تزلفاً ومنافقة وطاعة ومدحاً كذباً ومناصرة لحملته على أي صوت حق ناصح سافر أو قوة معارضة ناقدة داعية للإطاحة به.

 

وتلك ظاهرة مشهورة أن يغمر الناس فطرة الصلاح في أنفسهم ويطفئون نور الحق في مجتمعهم وينسون أنه لن تجديهم عند الله أن يتعذروا عما فُتنوا به من اتباع سادتهم وكبرائهم فان المستضعفين والمستكبرين في صحبة بئيسة يوم الحساب والقضاء بالعذاب. بل إن الخَلَف في تاريخ مثل تلك الظواهر تشتد حملتهم على سابق الطغاة الفاسدين ولا ينجو من أحكامهم الأتباع المستذلون الذين أرهبهم خوف الاستبداد ورغبّهم فيه طمع الغنائم. والإنسان مسئول فرداً يوم القيامة عن حسن خُلقه أو سوئه في أيما سياق حوله يُبتلي به لا سيما في جملة مجتمع وسلطان تتعاظم فيه تداعيات الحسن والسوء.

 

وقد يستجيب أفراد أو ثلة قليلة لداعي فطرة زكية في سياق مجتمع غير صالح وتخلص الرغبة والرهبة فيهم لرجاء الله وخشيته فتحسن أخلاقهم فيصابرون بأساء الجبروت ويهاجرون فئة المنافقين المستسلمين لضغوطه ويخرجون على نظام الطاعة الذليل ويقومون مقاومين بلاء الاستكبار والظلم في عزيمة وتوكل على الله الذي ينصر بقدره مَن ينصرون كلمة الحق والهدى ويكتب على كل جبار أنه خائن في عاجلته أو آجلته، وقد تنتصر الثلة المجاهدة المندفعة بزكاء أخلاقها بأن يستجيب لهم المجتمع تدافعاً إلى سواء السبيل ويتغير ما بأنفسهم بانفسهم فيغيّر الله ما به من سوء متداع متدارك.

 

إن أخلاق الأفراد تتكامل وتتضابط وتتعادل أو تتخاصم وتتشاكس وتتظالم في المجتمع. فلكل فرد حّظه في البلاءات العامة يُسراً أو عسراً وعليه وطأة التكاليف حسب وسعة المكتوب وعليه المساءلة في الآخرة والجزاء لا يوازره ولا يشافعه أحد. وفي حياة المجتمع قد تختلف العواطف والرؤى بين أكثر الناس فيسوء أمرهم يتغالطون جدلاً في الحجج ويتنافسون حسداً في المقاصد ويختصمون عداوة في المسالك ويتفرقون شيعاً كلٌ يعمل على شاكلته ويمضي معظمهم بسوء خلقه إلى إيثار الاعتزال والشح والأنانية. لكن قد يتوادّ الناس بحسن الخلق ويتحابّون ويتعاونون ويتشاركون ويتوحد بحسن خلقهم المجتمع بحوار التخاطب في وفاق وإجماع.

 

ومن سوء الخُلق قد يتناكر الناس بأعرافهم وألوانهم وألسنتهم المختلفة فيتساخرون ويتفاخرون ويتجانبون لا سيما إن انبثوا شعوباً وقبائل فتثور فيهم العصبية والعداوة والصراع والحروب. وقد تحسن أخلاقهم فيُؤتون القربى حقها ثم يفيضون بالحسنى وراءها يمتدون من الأسرة إلى العشيرة إلى الوطن والقوم ثم إلى بني الإنسان مودّة ومساواة وجمعاً للرؤى والمساعي في الحياة. وأصحاب الملل الدينية قد تحسن أخلاقهم فيؤمنون مداً وراء الملة بوحدة رسالاتهم الكتابية المتصادقة وتراث دياناتهم بفضائلها المتشابهة، وقد يسوء خُلقهم فيتنازعون غيرةً وعصبية بين الملل بل المذاهب والطوائف في الملة الواحدة أو دون ذلك حتى تتعبأ كل قوي التدين الخيّرة لإثارة الشر بين المنتسبين إلى الدين والرب الواحد. وقد يختلف الناس طبقات في حظوظ العلم أو الثروة أو التراث فإن ساء خُلقهم بدت فيهم المضادة والمظالمة والمقاتلة وإن حسُنت أدركتهم روح المساواة والمسامحة والمؤاخاة الإنسانية.

 

والبشر يختلفون ذكوراً وإناثاً متفاضلين في أعضاء الزوجية لأداء وظائفها المتكاملة وقد يتعاونون في الحياة تعاقداً وتزاوجاً أو نسباً وقربى ويتوادّون يتكافلون ويراعون تقوي الله حيثما ابتُلوا بفتن العلاقات يتذكرون المساواة في الطبيعة الإنسانية وفي وطأة التكاليف مهما اختلفت وفي المسئولية والجزاء والمصير وفاق كسب كل فرد ذكراً كان أو أنثى. وقد يسوء خُلق الرجال يعضلون ويضايقون ويكرهون النساء ويستحقرون أمرهنّ في الأسرة وفي الحياة عموماً ويظلمونهنّ في تقدير ما يحقّ لهنّ من التكليف والمسئولية والجزاء، وقد يسوء خُلق النساء فتثور فيهن العاطفة الجامحة وتراودهنّ بالرجال الريب وسوء الظنون.

 

وإن أخلاق الأفراد والمجتمع وولاة السلطة تحسُن تآلفاً وتوالياً وتشاوراً وتناصراً وتناظماً إن أمنوا جميعاً أن المُلك والسلطان لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وأن مسلك السلطان الحق أن يُسلم التشريع لأحكام لله فهو الشارع الأعلى، وأن ولايته إنما حقّت بتراضي السواد الأعظم من المجتمع على توليته بشروط المبايعة معه عهداً إن لم يوف بها يُخرج عليه، وأنه عُرضة لمراقبة الرأي العام ومناصحته في مراعاة شرع الله وتناظيم الحكم التي يُتواثق عليها وعهود انتخابه التي قدّمها. وإن المجتمع ينبغي أن ولي إماماً للصلاة أو السلطان أن يتبعه ولا يخرج عليه ولا يخون عهده نظاماً عاماً وأحكاماً مشروعة.

 

إن في الأخلاق الحسنى ما يوحد التكاليف والوظائف في الحياة بين الأفراد والمجتمع والسلاطين. وهي مهما تباينت دواعيها وشعابها وأقدارها وعواقبها متكاملة متحدة في نظم ونسق لحياة الناس. فالفرد إن حسنت أخلاقه انبعثت في وجدانه النيّات للأفعال التي يقتضيها الإحسان في الحياة، ولذلك تعمر كل حياته بفعال تندفع بها تلك النيّات مثل دقائق التكاليف في علاقات الناس ومعاملاتهم ومثل لطيف التكاليف في عواقبها ووطأة وقعها فالفرد إذ يراعي المندوب من حسنات الفعال المعاملات ويتقي المكروه منها ولو لم تبلغ الواجب والحرام بوقعها.

 

وفي وجدان المرء ترسخ دوافع حافزة وزاجرة رجاء وخوفاً من ربه المحيط علماً بذرّات عمله المجازي عليها بموازين القسط، ولذلك وجدان الفرد فيه ضمان بليغ للوفاء بالتكاليف. والفرد يُقدر حسب وسعه في نفسه وحسب علمه المحيط بما حوله ضغوط الضرورة والحرج التي قد ترفع عنه إصر الالتزام بفعل في مختلف الظروف يُسراً وعسراً عليه وليُقدم على دواعي الضرورة ولو لم يكن الفعل جائزاً له في ظرف يُسر وليكفّ تحرّجاً من عُسر في أداء التكليف وعواقبه، ولذلك هو أقدر على تقادير الوقع للتكاليف وعواقبها.

 

والمجتمع يبارك فعل الفرد ذي الخلق الحسن إن كان من ظاهرات السلوك للملأ. فالمجتمع يرسم سنن الآداب العامة في التعامل وقد يحيط به التشاور فيُجمع قولاً على منهج وسنة في السلوك وقد تتواتر منه العادة فيُجمع عن سكوت لكن عن تراض على عرف حسن لازم يأتمر به الجميع وعلى منكر سيئئ في المسلك يتناهون عنه. والمجتمع – فضلاً عن مشاعر الرجاء والخشية من الله في وجدان الأفراد – يعزّز ذلك بجزاءاته التي تكافئ فعل الخلق الحسن لأفراده بالذكر والسمعة الحسنة والشكر لفاعله وتعاقب الفعل السيئ بالملام والمؤاخذة والغيبة حملاً على من أتاه – تلك حوافز وزواجر تبارك حسن الفعال وتكف عن سيئها.

 

والسلطان يَقصر التكاليف التي يكتبها على الرعايا بما هو من جلائل الأمور وما هو ظاهر يثبت بالبينة الراجحة وما هو عام يعني كل الملأ وليس بلطيف الآداب والأقوال ودقيقها التي لا يستطيع أن يحصيها السلطان إدارة وقضاء. فهو بالأحكام يستدرك الثغور العائبة في فِعال الناس في الحياة ويستدرك القصور البالغ في أداء تكاليفها. ولذلك يحرّم كبائر الخطايا والجرائم وعظائم المظالم والعدوان على الحرمات والحقوق ويوجب ضرورات الصالح العام من المفروضات الملحّة والضرورات.

ويُؤدي السلطان الخدمات العامة اللازمة لأمن الناس وسلامة حياتهم وصلاحها ورُقيّها. والسلطان إن كان يضع عقوبة لكل فعل محظور ولكل قصور عن مأمور به فإنه لا يكافئ من أحسن فعلاً ولا يحفز إلا من يعطيه أجراً على خدمة المجتمع العامة، ولا يكتب العقوبة بالغُرم والحبس والأذى على السوء إلا إذا ثبت فعله ببيّنة.

 

وقد يراعي السلطان ظروف اليسر والعسر والحرج فيجعل الأمر والنهي مشروطاً قد تخفّ وطأته أو تشتّد حسب مقتضي الظروف، وقد تشتد العقوبة أو تخف حسب مدى الحرج. وفي كل ذلك يتحد السلطان مع الأفراد والمجتمع لأنه يقوم بالشورى ولاية ويمارس سلطته التشريعية مُفّوضاً من الشعب أو تحت إمرة مفوّض أعلى ويشاور الرأي العام في الأوامر والنواهي من التوجيهات السياسية. وحسب تطور الرأي العام قد يُجدد الأحكام ويطورها أو يغيّر صورة الأمر حافظاً مغزاه لأن حكمته وعلته أنسب بصورة أخري في ظروف الحاضر لمثل ذات الوقع القديم. وقد يكون التغير في الأحكام والسياسات اعتباراً بالسوابق واتعاظاً من تجربة المواضي أو تخطيطاً لما هو مستقبل. ولا يجمد أمر السلطان إلا إذا ثبت الرأي العام على سالف التكاليف والأحكام. والاعتدال بين الجمود والتجديد يَرعاه الأفراد في مسلكهم ويعرفه المجتمع.

 

وحسن خُلق السلطان يحصّنه من فتنة السلطة فهو يوالي مباشرة التشاور والتماس التراضي وتوخي الاجماع في قرارته وسياساته وخُلقة وتدفعه للتواضع تقبّلاً للنصح والنقد واتقاء للشبهات في اغتنام الولاية على المال العام. ويجتهد بعد وقد وُضعت الأحكام المفروضة على الناس نهياً وأمراً مسئولاً عنه ألاّ يحصّن هو نفسه من المسئولية بل يقبل محاسبته وجزاءه ولو بعقاب مضاعف لأنه أشهر وأظهر قدوة سيئة إن أساء ولأنه إن قام قدوة حسنة يحق له الشكر من الناس المضاعف والأجر من الله المتبارك. وعليه بحركة دواوين الإدارة وعمّالها كافة أن يراعي خدمة الرعية اللازمة لضرورات حياتهم حيثما بدت ثغرة فيها من مبادرات الأفراد والمجتمع، وأن يؤمّن المجتمع ويدفع عنه مخاطر العدوان ويوفر له أسباب الاتصال والانتقال ويبسط له بعض حاجات الحياة التي لا تتوافر له بمجهوداته الخاصة ويكفل المساواة والعدالة للمظلوم والكفاف للجائع وما يلزم من العلم والصحة والمعاش لمن لا طاقة له ببلوغ حاجته.

 

والسلطان بقضائه ينبغي أن يهيئ لكل المبتلين بالمخاصمة والمضارة والمؤاذاة أن يبسط في إجراءاته السعي لإصلاح ذات البين تذكيراً بالسماحة والتعافي والتراضي وأن يرد بالحكم المظالم ويعوض الخسران ويقضي على الجاني بالعقوبة بحكم نافذ عاجل ناجز فيه فصل وقسط وضبط وجزاء.

 

والتكاليف وقضاء الحاجات في الحياة يتناصر فيها ويتكامل الأفراد والمجتمع والسلطان. فلو حسنت خُلق الفرد طلب العلم وهجر الجهل بمسعاه وحفظ المعلومات واجتهد فأثراها وطوّرها. والمجتمع متفاعل في العلم يتدارس ويتذاكر عبر الأعمار والقرون، والسلطان قد يضطر لبسط بعض العلوم الضرورية التي لا تعود بعاجل فيزدهدها الناس، ويتوحد الحق في العلم بالآيات الشرعية المنزلة وهديها والآيات الطبيعية المشهودة وسُننها والنظر العقلي المتجرد، ويتحد ابتغاء العلم بين النظر والعمل وبين الشرعي والطبيعي وبين ما عند الكافر والمسلم في الأرض.

والصحة كذلك من خُلق المسلم أن يتقي من أجلها العلل في طعامه وفي صحبته وأن يلتمس العافية ليؤدي ما كتب عليه وأن يستشفي وينشد الدواء، وعلى المجتمع أن يُعني بالعليل عيادة وشفاء وتعاوناً في تكاليف ذلك ويتبادل الخبرة والعلم في الصحة والدواء وأن يتقي الخرافات في العلاج، وعلى السلطان أن يستدرك ما ينبغي في مكافحة الأوبئة والأمراض وأن يُومّن للمريض الفقير شفاءه وأن يراقب صناعة الدواء وأن يساوي بين الناس في الاستشفاء والصحة.

 

وفي المعاش المسلم حسن الخُلق والدين لا يترهبن ولا يتزهّد حتى يجوع بل يضرب في الأرض ويسخّر نعم الله كاسباً حامداً لله، ولا يظلم ولا يغش بالباطل. وفي المجتمع لا تتصارع طبقات ولا ينتشر البخل والترف والاحتكار بل يُبسط التعاون والتشارك والتكافل والصدقات والأوقاف والمراقبة والمناصحة إجتناباً للتظالم والتفاضل بالمال. والسلطان يكفي المجتمع في ثغور المعاش بفرض الزكاة والضرائب دون غلظة في الأقدار، وقد يبادر في الإنتاج والصناعة مبادرة قبل أن يتناول الأفراد والمجتمع الأمر ثم يفتح الأمر ميسراً لكل الناس، وعليه بأحكامه أن يضبط الأمانة في التعامل والتعاقد لا سيما في التأمين وإيداع المال واستثماره وفي التجارة مع الأقطار الأخرى. والانفتاح مع العالم خير في كل شأن من الحياة: العلم والصحة والتجارة والرياضة والثقافة، فخُلق المسلمين أن تمتد حياتهم ودعوتهم إلى كل العالم سلاماً وتعاوناً بلا عدوان أو قطيعة لعل الأفراد والشعوب كافة تتواصل وتعبر الحدود والعصبية القطرية التي زرعها الضلال من الدين واتباع الهوى في الأرض الواحدة بين بني الإنسان الواحد.

 


* الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي (رحمه الله) مفكر وسياسي وزعيم إسلامي سوداني له العديد من المؤلفات والاجتهادات وكان له تأثير كبير في الحيات السياسية والمجتمعية في السودان وفي العالم الإسلامي.  قدم هذه الورقة في ندوة الأخلاق الإسلامية والسياسة التي عقدها المركز بالدوحة في الفترة من 8 إلى 10 يونيو 2013.

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.