تجديد الجهاد في سؤالات الوحي والسياسة بقلم الشيخ الدكتور زكريا صديقي

[تم تقديم هذا البحث في المؤتمر الدولي السنوي الخامس لمركز دراسات التشريع الاسلامي والأخلاق، الذي عقد بالدوحة، قطر في 18- 19 مارس 2017]

 

الشيخ الدكتور زكريا صديقي

مدير المعهد الاسلامي للتعليم عن بعد، فرنسا

الشيخ الدكتور زكريا  صديقي خريج كلية الشريعة بجامعة الأزهر وحاصل على الدكتوراه عن الشهيد في الإسلام من جامعة السربون بفرنسا. وهو مؤسس و مدير المعهد الإسلامي للتعليم عن بعد      ورئيس هيئة الرقابة الشرعية للمعاملات المالية بفرنسة ومستشار لدى بعض المؤسسات. من أعماله الإشراف على تصحيح ترجمة معاني القرآن ومختصر تفسير ابن كثير إلى اللغة الفرنسية مطبوع، تحقيق وشرح نور العيون في سيرة الأمين المأمون لابن سيد الناس مطبوع، نظرية التطور والقرآن باللغة الفرنسية مطبوع ضمن أعمال مؤتمر جامعة لوفين الجديدة ببلجيكا، تحقيق المذاهب في أحكام الذبائح باللغة الفرنسية مطبوع في مجلة المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات الدولية في الجزائر، فرنسا، بلجيكا، بريطانيا، السويد، كندا، مصر، السنغال، جنوب إفريقيا. له اعتناء بقضايا الفكر الإسلامي عموما وبالتجديد والإحياء من خلال مستحدثات العصر في فقه السلوك خصوصا.    

مقدمة              

إن الحق في الأمن وفي احترام الحريات والعيش تحت قبة العدل وترقية الفضائل مطلب رئيس في موازنات الشرع والتي ضبطت فروعها من خلال مجموع الأحكام التفصيلية المحددة لمواقف الفرد والأمة عند دفع البغي والعدوان وإقامة القسط، غير إن ضعف إدراك أحكام الجهاد عقائديا وأخلاقيا وفقهيا لدى شرائح واسعة من طلبة العلم فضلا عن باقي المجتمع يجعلها عرضة للنسف أو الانكسار أو التلاعب، ولقد تشعبت فهوم نصوص الوحي وتنوعت مدارك الوقائع بحسب التأهل والمتاح في مقاربات اجتهادية لاستيعاب مسائل الجهاد ولكن دون صوغها في نظرية متسقة، وفي استكشاف الوحي من جديد بمنظار واقعنا وأدواته مقابلا بالحالة الفكرية الراهنة ما يفتح أمامنا نوافذ رؤية نسق الجهاد و تحقيقه مقصدا وسبيلا ومآلا و يمكن من تحرير مفاهيمه من ربقة التقليد وقبضة وقائع الماضي. ففي هذه الورقة محاولة لإبراز فهمي لنظرية الإسلام في الجهاد كنظام بنى الشرع الحنيف عليه موازناته عند ربط مقاصد المكلفين بمقاصده وضبط مآلات الواقع وتحولاته بآدابه. ولعل استجواب نصوص الوحي من قرآن وسنة مقبولة ومناهج تأويلهما وطرائق تنزيل المستنبطات على المكلفين في ظروفهم الخاصة يهدي إلى الكشف عن أصول هذه النظرية التي من خلالها نستبين سبيل الجهاد ويمكن حينئذ رسم نماذج تجديده.                                 

‏‏مفهوم الجهاد وهيمنة استعمال القتال عليه:

 إن أول سؤال يرد على باغي الكشف عن ما قد يكون نظرية الجهاد في ثوبها الجديد هو سؤال المفهوم أعني هل الجهاد في صوره التطبيقية يعكس حقيقة تعريفاته النظرية؟ إذ مما لا شك فيه أن جملة المعرفين قديما وحديثا قد عُنُوا ببيان مدلولاته واستعمالاته في لسان العرب وفِي الوحي قرآنا و سنة ثم يعرجون على معناه الاصطلاحي وهو في الواقع ليس إلا اصطلاح علماء الفقه خصوصا دون غيرهم وبعد ذلك يتفقون على أن كل المعاني المستفادة من كلمة الجهاد تؤول عند الاستعمال المطلق لها إلى معنى واحد هو ما اصطلح عليه الفقهاء أي المفهوم الخاص للقتال. فعلى سبيل المثال للتدليل على ما نحن بصدده لو نظرنا في تعريف الجهاد عند بعض أشهر الموسوعات الفقهية لوجدنا ما يلي: الجهاد مصدر جاهد، وهو من الجهد - بفتح الجيم وضمها - أي الطاقة والمشقة، وقيل: الجهد - بفتح الجيم - هو المشقة، وبالضم الطاقة. والجهاد القتال مع العدو كالمجاهدة، قال تعالى: { وجاهدوا في الله حق جهاده }. وفي الحديث الشريف: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. يقال: جاهد العدو مجاهدة وجهادا إذا قاتله. وحقيقة الجهاد كما قال الراغب: المبالغة واستفراغ الوسع في مدافعة العدو باليد أو اللسان. أو ما أطاق من شيء، وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، والشيطان، والنفس. وتدخل الثلاثة في قوله تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده}. وقال ابن تيمية: الجهاد إما أن يكون بالقلب كالعزم عليه، أو بالدعوة إلى الإسلام وشرائعه، أو بإقامة الحجة على المبطل، أو ببيان الحق وإزالة الشبهة، أو بالرأي والتدبير فيما فيه نفع المسلمين، أو بالقتال بنفسه. فيجب الجهاد بغاية ما يمكنه. قال البهوتي: ومنه هجو الكفار. كما كان حسان رضي الله عنه يهجو أعداء النبي صلى الله عليه وسلم.

والجهاد اصطلاحا: قتال مسلم كافرا غير ذي عهد بعد دعوته للإسلام وإبائه، إعلاء لكلمة الله.      [ الموسوعة الفقهية الكويتية. حرف الجيم- جهاد].

وهذا الاختزال الذي حصر الجهاد في نوع من القتال حتى صيّره حقيقته العرفية دفع بالعقل المسلم من حيث لا يشعر إلى إغفال حقيقته الشرعية وإهمال ميادينه الواسعة التي دلت عليها النصوص بل وتحقير بعضها من بعض. ويظهر ذلك عند تفقد تطبيقات الجهاد المختلفة وممارسات برامجه وخططه العملية. ونلحظ أن هذا المنعرج الاصطلاحي لم يفصح أصحابه عن مبناه ولا عن علته. وليس قول بعضهم لا مشاحة في الاصطلاح يجدي في مثل ما نحن فيه لما للاصطلاح بمجرده من آثار على المعرفة والسلوك. لذا فقد يكون تخليص مفهوم الجهاد من هيمنة مدلوله الاصطلاحي أول خطوات تجديده ورد الاعتبار له. لذا يتعين جعل المعنى العام للجهاد الأصل عند صياغة خطاب التبشير بالإسلام  ولقد أحسن ابن تيمية تعريفه حين قال :" هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ". وأما الجهاد بمعنى القتال فهو استثناء شرع للضرورة. ووفقا لهذا المُلاحٓظ التصحيحي يمكن اعتماد ما حققه ابن القيم من :" أَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ إِمَّا بِالْقَلْبِ، وَإِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا بِالْمَالِ، وَإِمَّا بِالْيَدِ، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ".

هذا وقد حدث لتعريف الشهادة ما حدث للجهاد من حصرها بالاصطلاح في المقتول على أرض المعركة ضد الكفار إعلاء لكلمة الله مع أن صحيح السنة صريح في رفض هذا الاختزال. ففي الحديث الذي أخرجه مسلم برقم : 1915 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تعدون الشهيد فيكم، قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، قال ابن مقسم: أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: والغريق شهيد.

كما ترجم البخاري أحد أبواب كتاب الجهاد من جامعه بلفظ حديث أخرجه مالك من رواية جابر بن عتيك " أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت " فذكر الحديث وفيه" ما تعدون الشهيد فيكم ؟ قالوا: من يقتل في سبيل الله " وفيه"  الشهداء سبعة " سوى القتل في سبيل الله، فذكر زيادة على حديث أبي هريرة الذي عند مسلم وغيره الحريق، وصاحب ذات الجنب، والمرأة تموت بجمع. وتوارد مع أبي هريرة في المبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم. وهذا مما حرك همة العلماء للكتابة في أسباب الشهادة كما للسيوطي والشوكاني والغماري مثلا. وهنا ينبغي الكشف عن الجامع بين الجهاد والشهادة و كيف استخلصهما الاختيار الفقهي في عصر التمذهب وتدويناته لمعنى اصطلاحي ضيق. فإذا كان الجهاد عندهم قتالا فالشهادة قتلة حتى انتشر إطلاقهم  ليُشيع عند العامة أن المقاتل هو المجاهد وأن المقتول هو الشهيد. ولا يخفى ما في هذا من توجيه سُلّم القيم المجتمعية إلى ترتيبات قتالية قد لا تخدم مقاصد الجهاد ولنا في ما آلت إليه الدولة العثمانية أو الاتحاد السوفييتي تجربة ظاهرة على فشل عسكرة الأمم نفسيا وماديا دون إقامة الوزن بالقسط لميادين الجهاد المتنوعة. فأن يكون إنسان ما مستعدا للموت في سبيل فكرة يعتقدها أو حتى موته بالفعل من أجلها لا يجعل منها حقيقة ولا يمنحها فضلا كما لا يدل أن صاحبها على صواب. و هذا من معنى أنه لا يقال فلان شهيد. فليس القتل من يمنح فضل الشهادة وإنما كون الموت واقعا في سبيل الله حتى رُوي عن علي ابن أبي طالب قوله : " كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد غير أن الشهادة تتفاضل " فكذا من بذل وسعه في سبيل الله فهو مجاهد وليس المجاهدُ كل من قاتل وإنما القتال في سبيل الله سبب من أسباب استحقاق وصف مجاهد. وعلى هذا فقد تكفل الوحي بنسج ما يحفظ لمراتب القيم المجتمعية سُلّمها ضمن حركة الجهاد وأسس لذلك دعائم الحصانة عبر إجاباته المعرفة بما هو الأفضل من الأعمال خصوصا عند التزاحم أو التنازع.  وقد حاول غير واحد من علمائنا فهم هذه الإجابات واستخراج ما قد يحقق قاعدة الانسجام والتوازن ويدفع عنها شبح التعارض والاضطراب. كما هو اجتهادهم في مثل ما روي عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمانٌ بالله)، قال: ثم ماذا؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، قال: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرورٌ).وفي رواية: (إيمانٌ بالله ورسوله)  أو عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: (الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: (أنفَسُها عند أهلها، وأعلاها ثمنًا)، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: (تُعين صانعًا، أو تصنع لأخرق)، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعُفت عن بعض العمل؟ قال: (تكُفُّ شرك عن الناس؛ فإنها صدقةٌ منك على نفسك). أو عن عبدالله بن مسعودٍ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: (الصلاة لوقتها)، قال: قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قال: قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، فما تركت أستزيده إلا إرعاءً عليه.

وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث وغيرها التي اختلفت فيها أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال: بأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال أو باختلاف الأشخاص، فمن الأشخاص من يكون الصيام أفضل له، ومنهم من يكون الجهاد أفضل له، وذلك يكون بحسب الحال وتقلباتها، وبحسب استعداد الشخص المعين وقدرته. وقد يكون الجهاد في وقت أفضل الأعمال، وقد يكون في وقت آخر غيره أفضل منه. وهذه الأحاديث دليل على أن الأعمال مراتبُ في الفضل، بعضها أفضل من بعض، ولا شك أن الإيمان بالله ورسوله أعظمها، بل لا يصح شيء من الأعمال بدونها، وكذا الصلاة أفضل من الجهاد في سبيل الله؛ لأن تارك الصلاة  قد يكفر عند بعضهم فهي عمود الدين، وهي لازمة للمكلف في كل أحيانه، وأما تقديم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، فلأن الجهاد في سبيل الله الذي بمعنى القتال متوقف على إذن الوالدين في حال كونه فرض كفاية، فإذا تعين  تحركت مرتبته لتعلو وتفضل. كما يكون الجهاد في دفع الجهل و تحصيل الدين أصلا وفرعا أهم وأوكد من الجهاد في دفع العدو بالقتال وإن كان كل منهما واجبا شرعا.

وإذا كان أبو الحسن الندوي قد حذّر من الغلو في التفسير السياسي لنصوص الوحي فإن تفسيرها على أساس الصراع مع المخالف والحرب ضده مزلق ينبغي التنبه له كذلك لأن في توقيه " صيانة للحقائق الدينية، والمفاهيم الإسلامية من التحريف، ومن إخضاعها للتصورات العصرية الغربية، أو المصطلحات السياسية والاقتصادية، والتجنُّب عن تفسير الإسلام تفسيرًا سياسيًّا بحتًا، والمغالاة في تنظير الإسلام، ووضعه على مستوى الفلسفات العصرية، والنظم الإنسانية، لأن الحقائق الدينية هي أساس للإسلام الدائم، والأصل الذي منه البداية وإليه النهاية، وإليها كانت دعوة الأنبياء، وفي سبيلها كان جهادهم وجهودهم، وبها نزلت الكتب السماويَّة. والحذر من كلِّ ما يقلِّلُ من قيمة الصلة بين الله والعبد والإيمان بالآخرة وأهميتها، ويُضعف في المسلم عاطفةَ امتثال أمر الله وطلب رضاه، والإيمانَ والاحتسابَ والقربَ عند الله تعالى، وهذا التحوُّل يُفقدُ هذه الأمة شخصيتها وقوتها، وقيمتها عند الله، وكذلك الحذرُ من كلِّ ما يُقلِّلُ من شناعة الوثنية العقائدية، والشرك الجليِّ والعادات والعبادات الجاهليَّة، والاكتفاء بمحاربة النظم والتشريعات والحكومات غير الإسلامية، فإنَّ ذلك يتَّجه بهذا الدين عن منهجه القديم السماويِّ إلى المنهج الجديد السياسي. فمن الأخطاء المنهجية تضخم هذا التفسير السياسي لنصوص الكتاب والسنة بعيدا عما قرره علماء الأصول أعني أصول الدين وأصول التفسير وأصول الحديث وأصول الفقه وأصول اللغة. كما أن الحكم على وقائع السيرة والتاريخ وفق منظار العصر بأن تجعل أنماط السلوك الملاحظ في العلاقات الاجتماعية الحديثة تنسحب على الماضي فتفسره هو أيضاً غلطة منهجية أخرى.

 

تفاعل أحكام الجهاد مع الواقع:

إن وعي هذه المحاذير يستلزم تفصيل حكم وجوب الجهاد عموما والقتال بخاصة فهو يخضع في حقيقته إلى اعتبار تقلبات العلاقات الدولية والأوضاع الداخلية مما يجعل سلم القيم يرتبط بالواقع ويتحرك بحركته وفي هذا يقول القرطبي: "وقد يكون الجهاد في بعض الأوقات أفضل من سائر الأعمال، وذلك في وقت استيلاء العدو وغلبته على المسلمين، كحال هذا الزمان، فلا يخفى على من له أدنى بصيرة أن الجها اليوم أوكد الواجبات، وأفضل الأعمال؛ لِما أصاب المسلمين من قهر الأعداء، وكثرة الاستيلاء شرقًا وغربًا، جبر الله صدعنا، وجدَّد نصرنا" [انظر: المفهم (1/276) حديث (65، 66، 67)]. وإذا أجاز هذا العالم تحريك درجة القتال في سُلّم الأفضليات فإنه لا يستقيم استعماله كلمة الأفضل ها ههنا إذ من مقتضاها جواز ترك القتال والانصراف إلى غيره من الواجبات و كيف يتجه ذلك مع القول بتعين القتال في هذه الحال؟ والحقيقة أنه حتى قضية غزو بلاد الكفر كما يقول القرضاوي أو التوغُّل في أراضيهم مرة كل سنة التي ذكرها الفقهاء، واعتبروه فرض كفاية على الأمة ممثَّلة في خلفائها وأمرائها الذين تولَّوا المسئولية عن أمورها هذا الغزو المفروض: إنما يخضع للظروف وتغيُّرها....فهو يرى: أن إيجاب غزو الأعداء كل سنة، إنما يخضع في الواقع لفقه السياسة الشرعية، وهو فقه يتَّسم بالرحابة والمرونة، والقابلية للتطوُّر وتعدُّد وِجهات النظر، لأنه يقوم أساسا على فقه المقاصد والمصالح، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفي هذه الألوان من الفقه مجال واسع للاجتهاد الإنشائي، والاجتهاد الانتقائي، واختلاف التنوع، وتعدُّد الأنظار والرُّؤى، دون نكير من فريق على آخر، ما دام يحترم الثوابت، ويرعى الأصول الشرعية، والضوابط المرعية. و هذا ما يجعل الحاجة إلى تحديد الثابت في سلم الواجبات وضبط ألفاظ درجاته كالإيمان و الجهاد الضروري وتمييز ذلك من المتحرك النسبي كبِرّ الوالدين والقتال تزداد إلحاحا على الاجتهاد التجديدي كما أن تعيين من له صلاحيات تحريك هذا النسبي هو المخرج الشرعي من حالات القتال العبثي والإسراف في القتل.

المرحلية والتدرج والتنوع في نصوص الجهاد:

لم يختلف العلماء في أن القتال قبل الهجرة كان محظورًا على المسلمين، بنصوص كثيرة في كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى: {فاعف عَنْهُمْ واصفح} [المائدة13:] وقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96 ] وقوله: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } [آل عمران: 20] وقوله: { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله }[الجاثية: 14]  وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان63:  ] وأمثال هذه الآيات كثير تدل على أن المؤمنين كانوا منهيّين عن قتال أعدائهم، وهناك نص صريح بالكف عن القتال وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس} [النساء: 77].

لقد ذكر غير واحد من العلماء كابن تيمية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر مأموراً أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده، فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن ويجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا}. و كان مأموراً بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال، ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار. فلما فتح الله مكة وانقطع قتال قريش ملوك العرب، ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت، وأمره بنبذ العهود المطلقة؛ فكان الذي رفعه ونسخه ترك القتال. وأما مجاهدة الكفار باللسان، فما زال مشروعاً من أول الأمر إلى آخره، فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم). و كان ينصب لحسان منبراً في مسجده يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول آيات القتال، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على صحة الإسلام، وإبطال حجج الكفار من المشركين وأهل الكتاب؟ لقد كان المسلمون في مكة قليلا مستضعفين ولو وقع بينهم وبين المشركين حرب أو قتال لأبادوهم عن بكرة أبيهم، فشاء الله أن يكثروا وأن يكون لهم أنصار وأعوان، وأن يرتكزوا قاعدة آمنة تحميها الدولة، فلمّا هاجروا إلى المدينة المنورة أذن لهم بالقتال بعد أن قويت شوكتهم وكثر عددهم. كما كانت الغاية تدريب نفوس المؤمنين على الصبر امتثالًا للأمر، وخضوعًا للقيادة، وانتظارًا للإذن، وقد كان العرب في الجاهلية شديدي الحماسة، لا يصبرون على الضيم، وقد تعودوا الاندفاع والحماسة، والخفة للقتال عند أول داع، فكان لابد من تمرينهم على تحمل الأذى، والصبر على المكاره والخضوع لأمر القيادة العليا، حتى يقع التوازن بين الاندفاع والتروي، والحميّة والطاعة، في جماعةٍ هيأتهم إرادة الله لأمر عظيم. وفي المجتمع العربي ذي النخوة والنجدة، كان صبر المسلمين على الأذى- وفيهم الأبطال والشجعان الذين يستطيعون أن يردوا الصاع صاعين- يثير النخوة، ويحرك القلوب نحو الإسلام مما يحدث إضعافا للعدو ويكسب المسلمين دعما وتأييدا كما حصل هذا بالفعل في المحاصرة في الشعب عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم، كي يتخلوا عن حماية الرسول صلى الله عليه وسلم واشتد الاضطهاد على بني هاشم، ثارت نفوس لم تؤمن بالإسلام، أخذتها النخوة والنجدة حتى مزّقوا الصحيفة التي تعاهد فيها المشركون على المقاطعة، وانتهى ذلك الحصار المشئوم. و أيضا كان المسلمون في مكة يعيشون مع آبائهم وأهليهم في بيوت تجمعهم، وكان أهلوهم المشركون يعذبونهم ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم إلى الشرك والضلال، فلو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك، لكان معنى هذا أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة، وليس من مصلحة الدعوة أن تثار حرب دموية داخل البيوت، فلما أحدثت الهجرة وانعزلت الجماعة أبيح لهم القتال ثم فرض دفعا وطلبا. ولا يخفى أن الحروب الأهلية مفسدة يجب سد ذرائعها وهي مستنقعات يحسن أعداء المجموعة المؤمنة والمستضعفة العوم فيها وتعويمها ليصطادوا مستقبلها الحالم ويئدوا من كان من أبنائها ذا طموح في تغيير الأوضاع القائمة.

هل نسخ شيء من الجهاد؟

هكذا فسرت الآيات وربطت بالظروف الواقعة وبمعايير القوة والضعف والمصلحة للخلوص بعد ذلك عبر نظرية النسخ  إلى إلغاء المرحلية والتدرج والتنوع عند إعمال فقه الجهاد ليستقر قتال الطلب على ذروة سنام الإسلام بتخييراته بين قبول الإسلام أو الجزية أو الحرب على خلاف في قبول الجزية من غير أهل الكتاب والمجوس. ويحسُن هنا التذكير بأنه لا خلاف في أن سورة التوبة (براءة) هي ختام ما نزل من القرآن الكريم فيما يتصل بأحكام القتال، حيث ورد فيها العديد من الآيات البينات المحكمات  كقوله تعالى :{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ}[ التوبة:5] و قوله: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقوله: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة:36] مما اقتضى معرفة وقع هاته الآيات الشهيرة بآيات السيف على ما ورد قبلها من الآي في موضوع القتال والتي تفرض تأويلا ما بحسب الموقف المتبنى من قضية النسخ وتحقيق انطباق نظريته بشروطها على مجموعة نصوص الوحي من  مثل قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [النساء:77] وقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39-40] وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90] وقوله تعالى:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61] وقوله تعالى:{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] وقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] وغير ذلك من الآيات حيث اعتُمِد الاختيارُ الفقهي بأن آيات السيف توجب على المسلمين التوجه إلى قتال الكفار وإن لم تٓبْدُ منهم عداوة، واعتبرت ناسخة لكل ما جاء في القرآن من آيات تدل على عدم تعٓيُّن البدء بالقتال. وأظهر ما يكون ذلك في توسع ابن جزي في القول بنسخ معنى مائة وأربع عشرة آية في أربع وخمسين سورة من القرآن بآية السيف وحدها. وذكر الزركشي وغيره ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف: أنها منسوخة بآية السيف بأنها ليست كذلك بل هي من المُنسّٓأ، بمعنى أن لكل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبداً، وإلى هذا أشار الشافعي في الرسالة، إلى النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة، ثم ورد الإذن فيه، فلم يجعله منسوخا، بل من باب زوال الحكم لزوال علته؛ حتى لو فاجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي. ومن هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] كان ذلك في ابتداء الأمر، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه. ثم لو فرض وقوع الضعف كما اخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) عاد الحكم، وقال صلى الله عليه وسلم: ( فإذا رأيت هوى متبعا، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ). وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه: ما يليق بتلك الحال، رأفة بمن تبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجـا ومشقة؛ فلما أعز الله الإسلام أظهره ونصـره، أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبــة الكفار بالإسـلام، أو بأداء الجزيــة ـ إن كانوا أهل كتاب ـ أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب.

ويعود هذان الحكمان ـ أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة (استخدام السيف) عند القوة بعود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخاً لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته. [البرهان 2/173 ] و تعقبه القرضاوي قائلاً:" وهذا التفسير من الزركشي للنسخ بآية السيف يحسن أن يقبل إذا أخذناه في حالة الجهاد الواجب، مثل جهاد العدو إذا احتل أرضاً وعجز المسلمون عن مقاومته، كما في حالة احتلال روسيا للجمهوريات الإسلامية، وضمها قسرا إلى الاتحاد السوفيتي، وإدخالها رغم أنفها وراء الستار الحديدي. فهنا نقول: الجهاد لمقاومة هذا العدو (منسأ) ومؤجل حتى تتاح الفرصة, وتواتي القوة لمقاومته والتحرر من نيره، أما تفسير الإنساء هنا بأنه في حالة الضعف نكف أيدينا عن الناس، وفي حالة القوة نقاتل العالم كله: من قاتلنا ومن كف يده وألقى إلينا السلام، فهذا ما نرفضه، لأنه ينافي الآيات الأخرى في سورة البقرة وفي سورة النساء وفي سورة الأنفال وفي سورة الممتحنة وغيرها بل في سورة التوبة نفسها حتى بعض الآيات التي قيل فيها: إنها آية السيف مثل قوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة:36] لأن الآية هنا تأمر بالرد بالمثل. وهذا من العدل المشروع الذي لا يختلف في شرعيته اثنان. وهل من المنطق أن نقول لأعداء الاسلام المحاربين: نحن لا يجب علينا أن نقاتلكم الآن، لأننا ضعفاء عسكرياً ولا نملك من الأسلحة ما تملكون، ولكن حينما نملك مثل ما تملكون أو قريباً منه: سنقاتلكم جميعاً؟!

هل يسوغ أن نقول هذا للناس: إننا تركنا قتالكم لضعفنا، ويوم نقوى ففرض علينا أن نغزوكم في عقر داركم حتى تسلموا أو تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون؟ إننا إذا قلنا هذا فقد أغرينا العالم كله بحربنا والوقوف ضدنا والتضامن لصد خطرنا وإيقاف زحفنا.!! وسيقول الناس عنا: إن أخلاقيات المسلمين غير ثابتة، فهم يبيحون لأنفسهم في حالة القوة ما لا يبيحون في حالة الضعف. ولا يمكننا أن نطمئن إلى المسلمين في معاهدة أو مصالحة، لأنهم يحترمون ذلك ما داموا عاجزين، فإذا قدروا تغير الحكم، وأباح لهم دينهم ما كان محظوراً عليهم في التعامل مع الآخرين. وهذه ـ ولاشك ـ سمعة سيئة للإسلام وأهله، تضرّ بهم وبدعوتهم. ووجاهة التعقيب ظاهرة خاصة في عصر أسلحة الدمار الشامل التي لو استخدمت لأتت على الرطب واليابس. غير إن ما خلص إليه القرضاوي من رفض مطلق قتال الطلب لا أحسب أنه سيتابع عليه والذي يتوجه هو اقتراح تفسير مقصده بوجوب تحقيق الأمن وتحرير الشعوب من الاستبداد والاضطهاد والإكراه على الكفر "فليس القتال في الإسلام للإكراه على الدين أو لمحو الكفر وإن تساهل البعض في تفسير حركة الفتوحات به ولا يخفى ما في ذلك من استنطاق للموتى بل الدين اختيار ورضا، ولا اختيار أو رضا مع الإكراه، والآيات الواردة بالأمر بالقتال ينبغي حملها على حال الاعتداء، أو التحفز للاعتداء، حلف للسلم يفرض بقوة السلاح فلا يسوغ لدولة الإيمان أن تنتظر حتى تُغزى؛ فإنه ما غُزي قوم في عقر دارهم إٕلا ذلوا". ( تفسير محمد أبو زهرة. ج2، ص 949 ). و فقه الجهاد يقصد إلى تغيير علاقات الهيمنة والاستضعاف و موازين قوى الاستكبار وتجفيف منابع التنشئة عليها لإقامة القسط عند تبادل المنافع وتنازع المصالح كما قال الله تعالى:{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز}.

وعليه فإنه يُعلم مما سبق ما للموقف من النسخ و تطبيقه من آاثار على نظرية الجهاد وخطط تجديده، ولو حققنا النظر في بعض الشروط التي ذكروها لوقوع النسخ على آية بعينها لما أمكن التسليم لهم به فمثلا قوله تعالى :{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].  قال ابن عطية : "وقوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية، هي أوَّل آية نزلت في الأمر بالقتال. قال ابن زيد والربيع : معناها: قاتلوا مَن قاتلكم وكفُّوا عمَّن كفَّ عنكم، ولا تَعتدوا في قتال مَن لم يُقاتلوكم، وهذه الموادعة منسوخةٌ بآية براءة، وبقوله: {قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]، وقال ابن عبَّاس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: معنى الآية: قاتلوا الذين هم بحالة مَن يقاتلكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، فهي مُحكَمة على هذا القول، وقال قوم: المعنى لا تَعْتدوا في القِتال لغير وجْهِ الله كالحميَّة وكسْب الذِّكر". (تفسير ابن عطية "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" ج1 ص 262). فمع وجود الخلاف في نسخ هذه الآية كما في نقل ابن عطية جاء الأمر فيها بالقتال مقيدا بأن يكون في سبيل الله مما يقتضي توصيف هذه السبيل ومحصورا في الذين يقاتلون خصوص المسلمين  كما يفيده لفظ "كم" المفعول به مما يوجب تحديدهم. وفِي موازاة هذا الأمر ورد النهي عن الاعتداء لاستقرار ذمه شرعا لدخوله في معنى الظلم المجمع على تحريمه وقد أُكد بالخبر الثابت الذي لا يزول عن الله أنه سبحانه لا يحبه وَهُو  مما لا يقبل النسخ . كما إن مجرد تأخر دليل شرعي على غيره مما هو من موضوعه ليس كافيا في دعوى النسخ حيث لا مجال فيه للرأي والاجتهاد بل لابد أن يصرح النقل الصحيح به. و قد نبه ابن العربي إلى عدم تحقق بعض شروط النسخ في المدعى فقال: " وأمّا قول من قال إنها منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] فدعوى فإن شروط النسخ معدومة فيها". (أحكام القرآن، ص 876 ) من هنا يمكن القول  إن معرفة الخلاف العالي والنازل و تمييز المتشابه من المحكم فيما هو ناسخ أو منسوخ أصل يُبنى عليه تجديد النظر في أحكام الجهاد،       وحيث ساغ القول المختلف عند السلف ساغ عند الخلف.

 

خلاص الجهاد بيد الدولة:

 ولاضطراب القول في تطبيقات النسخ على ما ورد من أحكام القتال سعى غير واحد من العلماء إلى جمع الأدلة والتوفيق بينها بأن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتل الكفار أبداً أو يُجابوا إلى الهدنة أبداً. و هذا مخرج وجيه بالنظر إلى الاختلاف الواقع في هذا الموضوع مع خطورته و عظم الآثار المترتبة على الرأي المختار فيه بحيث لا يصلح أن يُترٓك القولُ فيه والعمل بعيدا عن سلطة الدولة وسياساتها. ومعنى هذا أن تتبنى الدولة الجهاد برنامجا لنهضتها وأن تنظم دواوين المقاتلين وترعاهم وتربيهم على عقيدة قتالية شعارها «في سبيل الله». و قد لوحظ هذا الملمح في حكمة تأخر تشريع القتال وارتباط ذلك بقيام دولة الإسلام الحرة في المدينة. فهذا الاختيار الفقهي يقضي بأن القتال والدعوة إليه مسئولية الإمام وولي الأمر، ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يدعو إلى الجهاد وقتال الكفار إلا بإذن ولي الأمر، الذي جعله الله وقاية وسِتْرًا بين المسلمين وبين عدوهم، للحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه في حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:( إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ)  وقد علق النووي على هذا الحديث بقوله: " الْإِمَامُ جُنَّةٌ: أَيْ: كَالسِّتْرِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْنَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ، وَيَتَّقِيهِ النَّاسُ، وَيَخَافُونَ سَطْوَتَهُ، وَمَعْنَى يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ: أَيْ: يُقَاتَلُ مَعَهُ الْكُفَّارُ، وَالْبُغَاةُ، وَالْخَوَارِجُ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ مُطْلَقًا". ويقول ابن قدامة: " وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ ".ويقول البهوتي الحنبلي معلقا على كلام ابن قدامة وشارحًا : وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِ النَّاسِ وَبِحَالِ الْعَدُوِّ وَنِكَايَتِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ. وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم} [النساء:59] وقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه} [النور:62]. فينبغي توجيه الاختيار الفقهي إلى منح الدولة حق احتكار قرار الحرب وترجيح المسالمة ما أمكنت كما أن التفرقة بين أحكام قتال أفراد الكفار وقتال دولتهم  مطلب يستدعي بحثا ودرسا للفقه السياسي يعتمد الاجتهاد الانتقائي الرصين المتحرر من ضغط واقع الحداثة وما بعدها من جهة وإملاءات الساسة ورغباتهم من جهة أخرى، ولا تجد عالماً انعتق من التقليد المحض إلا وله ترجيحات واختيارات مبناها على كفاءته في تحقيق أدلة الشرع المعتبرة واستيعاب طرائق إعمالها في الواقع. ولا يلزم من هذه الاختيارات ان يكون العالِم تفرد بها عن غيره من أهل العلم وقد يقع منه ذلك لاعتبار ما، غاية ما في الأمر أنه بذلك متبع للدليل ومستأنس بمن قال بمثل رأيه منهم ما أمكنه. ولا ينبغي التبديع حينئذ وتضييق ما حقه السعة.

إن نظرية الجهاد تعتمد على التفرقة في الموقف بين الفرد و دولته. فالمفروض في عدوان الفرد   وظلمه لغيره أن تسهر الدولة على منعه أو أن يتحرك مِن المقيمين فيها مَن يأمر بالمعروف وينهى عن هذا المنكر وأما تسلط الدولة على شعبها بالظلم والتعذيب والإكراه على الكفر فينبغي ألا يكون قضية داخلية تقف أمامها دولة الإيمان والأخلاق مشلولة منغلقة على نفسها مؤثرة سلامة حدودها. ويكون هذا التدخل لرفع هذه الحالة واجبا ولو بالقتال عند القدرة وعجز الأفراد عن دفع عدوان الدولة الصائل. وهذا ما يتعين حمل قتال الطلب عليه وكونه عندئذ فرض كفاية يستقيم ورأي الجمهور. ويظهر به مقصد تحرير إرادة أفراد الشعب وتحقيق الأمن العام للجميع وفق ميزان العدل. فقتال الطلب قد يكون وسيلة استباقية تقطع انتشار الظلم والعدوان مطلقا سواء كان ضحيته مسلما أو سواه فالحق في العيش وفي الأمن لا يقبل الدينونة ولا الشخصنة. وما شهده التاريخ البعيد والقريب يؤيد أن الخطأ ليس في تشريع قتال الطلب وإنما هو في تفسير مقاصده مع تعسر أو حتى تعذر الإلمام بأسبابه وبواعثه في بيئات مختلفة يطبعها التعقيد وقلةُ مصادر تبيُّن الأخبار بل وضعفُها في الأغلب عند ما يتاح هذا التبين.

 

[gallery order="DESC" columns="4" ids="3178,3179,3180,3181"]

 

وهو كره لكم:

في آية مدنية يشير قول الله تعالى:{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا     وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم و الله يعلم وأنتم لا تعلمون} إلى الحالة النفسية السائدة لدى معشر المؤمنين عند فرض القتال وأنه كان كرها لهم بشهادة الكتاب فكيف آل الأمر إلى أن صار حبا لهم؟ إن الذي وردت به هذه الآية إنما هو فك الارتباط بين الموقف العاطفي وما يوجبه دليل المصالح وأن القول الفصل في ذلك هو لله العليم. ومعنى هذا أنه عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم، وفي قوله تعالى والله يعلم قوة أمر. فليس في الآية لوم أو عتب لكرههم القتال وإنما إرشاد لما يتعين اعتباره من الخير الذي فيه، و لعل في توجُّه الخطاب بصيغة الجمع ما يشير إلى أن فعل القتال يتحقق بالجماعة لا بالآحاد وحينئذ يتأكد ما ألمحنا له من احتكار الدولة قرار إعلانه. وإذا صح هذا الفهم للآية انطبع على سياسات الدولة في إعلامها التربوي لتجعل عاطفة المجتمع تبتعد عن حب القتال من ناحية وتضبط تنظيماته بالإعداد له وقيادة حركاته من ناحية أخرى. ولا تطّرد هذه السياسة على الجهاد بأنواعه كلها بل هي خاصة بالقتال كما هو موضوع الآية. غير إن الانسداد السياسي الذي ترزح فيه بلدان ما بعد الاستعمار العربية يمنعها من التقدم نحو ملء هذا الفراغ الجهادي أو من فتح الأفق نحو المسؤولية القتالية تحت راية الإسلام المعلنة، وهذا ما يضغط على حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها إلى الدرجة التي تأخذ تناقضاتها الاجتماعية إلى التعبير عن نفسها في صور من العنف الأهلي المنذر بالانفجار العام و قد جرى شيء منه جزئيا في بعض من تلك البلدان التي عملت استراتيجية الأعداء عبر وسائل صناعة الرأي العام والخاص و التأثير فيه على عزلها عن محيطها الحاضن والداعم للقتال والمقاومة كما في صورة العراق أو غزة مثلا. إن غياب الدولة التي تتبنى الجهاد وتنظم برامجه وفق مقاصد تشريعه هو من أقوى أسباب فوضى تطبيقاته في عالم تضمحل فيه القيم الخلقية ويشتد فيه الاستعباد. وهذا الانحراف في حركة الجهاد عن ضوابطه الخلقية ومقاصده السياسية لا يرجع في غالب مظاهره العصرية إلى خلل في وعي مفهومه الذي جاء به الوحي بقدر ما يرجع إلى استغلال جيوسياسي له في لعبة الأمم و تحويله إلى أداة من أدوات الهيمنة والإضعاف في الصراع الدولي فصار خاضعا لأهواء الناس لا للمنظومة التي شرع في إطارها. والذي لا يتردد فيه عالم أن هذه الصور وإن لُبّست ثوب الجهاد فإنه منها برآء. وفي الواضحات من أنواع الجهاد و ميادينه مندوحة للصادقين من عباد الله عن القتال الأعمى. و سيبقى الجهاد بمعناه الصحيح ماض إلى يوم القيامة.

الفيديو

 

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق