نظرية الأخلاق والاقتصاد الإسلامي المرجعية الأخلاقية في التمويل الإسلامي

 

نظرية الأخلاق والاقتصاد الإسلامي

المرجعية الأخلاقية في التمويل الإسلامي

 

محمد صديق*

 

مقدمة

ممالا شك فيه أن هناك أزمة معرفية تميز هذه الحقبة التاريخية في تطور الدراسات والبحوث الاقتصادية الإسلامية، لعل أحد أسباب هذه الأزمة هو تمييع قضية الأخلاق وفهمها الفهم الذي لا يتناول إلا المعنى المقصود منها في دلالة العبارة، دون الغوص في النظام والأحكام القيمية والاعتبارات المعيارية[1] التي يمكن أن تتولد من هذه الأخلاق. 

فقد وجد الاقتصاديون الإسلاميون أنفسهم أمام اقتصاد ناجز بشقيه الرأسمالي والاشتراكي ووجدوا أن هذين النظامين يحملان قيماً تختلف عن قيم المجتمع الإسلامي كونهما نتاج ثقافة تختلف عن ثقافة هذا المجتمع، ومع ذلك فقد حافظوا على المؤسسات والهيكلية التي أنتجتها هذه الأنظمة ولكن بعد تحويلها من شكلها التصادمي مع قيم المجتمع إلى شكل توافقي عن طريق ما سمي "بالأسلمة" التي تناولت الشكل الظاهر دون الوصول إلى العمق. إذن فالمشكلة تكمن في التبعية الفكرية الغربية التي أوحت لنا أن الشكل المؤسساتي الذي أفرزته الأنظمة الغربية هو قدراً محتوماً وعلينا أن نفكر ضمن هذا الإطار المؤسساتي من أجل إيجاد ملامح لنظامنا الاقتصادي الإسلامي. ولو تأملنا في جل ما يكتب تحت عناوين الاقتصاد الإسلامي سنلاحظ أن أغلبية الاقتصاديين الإسلاميين يبرزون ذاتية الاقتصاد الاسلامي من خلال نقدهم للنظامين الاقتصاديين الرأسمالي والاشتراكي مؤكدين أن النظام الإسلامي يحوي إيجابيات كلا النظامين ولا توجد فيه سلبياتهم في الوقت الذي أثبتت التطبيقات العملية للنظام الاشتراكي عدم فعالية هذا النظام و لم يعد يرجى أي أثر للمقارنة معه، وكذلك النظام الرأسمالي الذي تطور تطورا ً فائقاً في العقد الأخير لدرجة أنه لم يعد لرأسمالية ادم سميث أي أثر على أرض الواقع، ومع ذلك فإن الاقتصاديين الإسلاميين مازالوا ينتقدون هذا الشكل من النظام الرأسمالي متجاهلين أن المفكرين الاقتصاديين الغربيين قد أشبعوا النظام الرأسمالي نقداً وساهموا في تطويره لدرجة أصبحت معظم كتابات الاقتصاديين الإسلاميين غير صحيحة من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الاقتصاديين الإسلاميين لم يلتفتوا بالدرجة الكافية حتى الآن لمتابعة كل التطورات الفكرية للنظام الرأسمالي في تطوير نموذجهم الإسلامي.

لقد دأب المفكرون الاقتصاديون الإسلاميون عند محاولة نمذجة النظرية الاقتصادية في الإسلام الاستفادة من الأدوات التحليلية التي قدمها النيوكلاسيك والكنزين مثل تابع الانتاج والاستهلاك والاستثمار معتقدين إن هذه الأدوات حيادية وأنهم يستطيعون الاستفادة منها في بناء ما أطلقوا عليه اسم توابع الإنتاج والاستهلاك والاستثمار الإسلاميين ولكنهم تجاهلوا أن هذه الأدوات التحليلية التي أنتجت من اعتماد مفهوم الرشاد الاقتصادي[2] و العقلانية الاقتصادية النابعين من نظام قيمي مختلف كانوا قد وجهوا له الكثير من الانتقادات ومازالوا يعتبرونه المميز الأساسي للفرق بين النظام الإسلامي والنظام الرأسمالي فمفهومهم للرشاد الاقتصادي يختلف بشكل رئيس عن المفهوم الغربي ومع ذلك فإنهم يأخذون الأدوات التحليلية التي نتجت عن هذا المفهوم في محاولة أسلمة لها تناولت الشكل دون الوصول إلى الجوهر، يمكننا الاستدلال على ذلك و على سبيل المثال وليس الحصر من خلال كتابات كل من الدكتور يوسف الزامل والدكتور عبد المنعم عفر.

 

الأخلاق والفكر الاقتصادي الغربي

على مدى قرن ونصف، ظل الفكر الاقتصادي يفصل بين ثلاثة أسئلة، حاول أن يقدم إجابة عن كل منها بمعزل عن الأسئلة الأخرى - السؤال الأول: يخص طباع وأمزجة الأفراد والدوافع التي تتحكم بسلوكهم وهذا بدوره قاد للحديث عن مفهوم الرشاد الاقتصادي. السؤال الثاني: يخص أنماط التنسيق بين هذه الدوافع مع الأفراد الآخرين، السؤال الثالث يخص مكانة القيم والأخلاق والاعتبارات المعيارية والقيمية عند قيام هذا التنسيق.

لقد اعتمد النموذج النيوكلاسيكي في بناء أطروحته على مفهوم الرشاد الاقتصادي، الذي يفترض أن الإنسان كائن عقلاني يسعى دائماً لتعظيم منافعه الشخصية وبهذا قدم الإجابة عن السؤال الأول، عن طريق طرحه لنظرية القرارات[3]، واعتقد منظرو هذا الفكر أيضاً أن آلية التنسيق تتم عن طريق السوق وبواسطة الأسعار، وبهذا قدموا الإجابة عن السؤال الثاني بطرحهم لنظرية التوازن العام[4] غير أن السؤال الثالث الذي يخص مكانة الأخلاق والاعتبارات القيمية والمعيارية قد بقي خارج دائرة النقاش وبقيت النظرية الاقتصادية فترة طويلة غير قادرة على تصور المشروع إلا بالطريقة نفسها التي تنظر فيها إلى الفرد.

إلا أن مع النصف الأول من عام ١٩٧٠كانت نظرية التوازن العام قد بلغت أوجها، ولاحظ اروو[5] أن نظرية التوازن العام قاصرة عن إعطاء شرح مفصل عن كيفية عمل السوق، فقد أوضح أن هناك دعامتين أساسيتين في النظرية الاقتصادية: الدعامة الأولى: هي دعامة صلبة تؤكد أن الفرد عقلاني يبحث عن تعظيم منفعته الشخصية ضمن القيود المفروضة عليه. أما الدعامة الثانية: فهي دعامة هشة لا تصمد أمام النقد تفترض أن آلية التنسيق تتم عن طريق السوق ولكن حتى يستطيع أن يعمل السوق بشكل صحيح فإن الأمر يستلزم الأخذ بعين الاعتبار نظام القيم والأخلاق والقانون فهو يتحدث مثلاً عن الثقة[6] باعتبارها الزيت الرئيسي والمحرك لكل الأنشطة الرأسمالية فيؤكد على أنه يتوجب أن يكون هناك سلطة تضبط قواعد السوق وتوجهه، هذه السلطة يمكن أن تكون باطنية[7].

كنظام القيم أو مفروضة[8]  كالقانون، أو مقبولة وموافق عليها اجتماعيا ً كالعرف في الوقت نفسه فإن الفكر الرأسمالي تطور تطوراً ملحوظاً مع المدرسة الفرنسية، واستطاع لأول مرة في عام 1989 ومع ظهور العدد 40 من المجلة الاقتصادية التي تحمل عنوان Economie des Conventions نشرت فيه عدة مقالات لعلماء اقتصاد واجتماع وفلسفة أعادوا الاعتبار إلى الأخلاق والأحكام القيمية وإدراجهما في التحليل الاقتصادي فأحدث ذلك ثورة حقيقة في النموذج النيو كلاسيكي وبدأ منظرو هذا التيار بالحديث عن نموذج اقتصادي جديد تماماً في قطيعة شبه كاملة مع النموذج الاقتصادي الليبرالي الحديث.

لقد برهنت هذه النظرية أن إدخال الأحكام القيمية بمعنى ما هو صح وما هو خطأ في التحليل الاقتصادي سوف تغير المفاهيم الأساسية في علم الاقتصاد. وكانت هذه هي المحاولة الأولى للإجابة عن التساؤلات الثلاثة الأنفة الذكر بنفس الوقت فقد أكدوا أن دراسة السلوك الإنساني هو اشكال بحد ذاته فهو لا يخضع لقانون طبيعي قابل للتفسير والتعليل وإنما يخضع إلى مجموعة من الأنماط الاتفاقية[9].

فليس صحيح أن التوازن في السوق على سبيل المثال يتم عن طريق الأسعار كما يعتقد منظرو الفكر الليبرالي وكما يعتقد أيضاً منظرو الفكر الاسلامي وإنما التوازن يتم عن طريق نظام خاص من القواعد تحدد لنا ما هو مسموح وما هو مرغوب وما هو ممنوع وما هو محرم وما هو إجباري.

لقد أحدثت هذه النظرية ثورة علمية حقيقية في داخل النظرية النيو كلاسيكية وذلك أولاً: بتغيير الوحدة المدروسة الخاضعة للتحليل، ففي الماضي كنا ندرس السلع والخدمات واليوم أصبحنا ندرس العقود، فالسوق أصبح مجموعة من العقود بين جانبين وكنا في الماضي نتحدث عن السعر كآلية في تحديد التوازن والآن نتحدث عن القواعد والقانون كآلية في التحديد، وفي الماضي كنا نهتم بالتوازن بين العرض والطلب والآن نهتم باستخدام أفضل استراتيجية ممكنة اخذين بعين الاعتبار الاستراتيجيات الممكنة للآخرين.

 

التمويل الإسلامي: التطبيق العملي للأخلاق الاقتصادية الإسلامية

تسمح لنا دراسة التمويل الإسلامي اختبار فرضية وجود هيكلية خاصة يمكن أن تشكل دعامة رئيسية من دعائم الاقتصاد الإسلامي ويعتبر التمويل الإسلامي التطبيق الوحيد للاقتصاد الإسلامي في الواقع العملي فبالرغم من وجود نصوص اقتصادية كثيرة في المصدر التشريعي الرئيسي (القرآن والسنة) ولكن مع ذلك لم تظهر تطبيقات عملية في البلاد الإسلامية إلا من خلال التمويل بدون فائدة كنموذج بديل عن التمويل التقليدي فعن طريق العلاقات التعاقدية بين المدخرين والمستثمرين التي قدمها نموذج التمويل الإسلامي تظهر القيم الأخلاقية والتي تتمثل في تقوية التعاون والتضامن والتعاضد بين أفراد الأمة والجماعة فيما بينهم وكذلك فإن فكرة تقاسم الربح والخسارة، فإنها تقضي على أي احتمال للخصومة والعداوة بين أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب العمل، كما لم يعد رأس المال وسيلة للاغتناء ولكن كأساس حقيقي للمشاريع الإنتاجية.

 إن دراسة التمويل الإسلامي تفرض علينا التساؤل بين توافقية الأهداف الأخلاقية المرتبطة بالتشريع الإسلامي وبين الأهداف الاقتصادية الربحية للمشاريع؟ إلى أي حد هناك نوع من الانسجام والتطابق؟

 

للإجابة عن هذا السؤال يتوجب علينا التمييز بين البنك الإسلامي عن البنك التقليدي بالنقاط التالية

يمثل البنك الإسلامي بالنسبة للاقتصاديين المؤسسين للاقتصاد الإسلامي حجر الأساس والبرهان على إمكانية وجود اقتصاد حديث وإسلامي يخضع من ناحية لقواعد أخلاقية تشريعية مستمدة من الشريعة الإسلامية ومن ناحية أخرى للقواعد التجارية في المشاريع الاستثمارية ويتميز عن البنك التقليدي بأنه يقوم على المشاركة أما بشكل مباشر حيث يتولى الاستثمار في المشاريع المملوكة للأفراد أو بشكل غير مباشر فيقوم بتمويل جزءً من المشروع بصفته شريك في الاستثمار ويتقاسم الخطر مع الزبون وكذلك الربح والخسارة بينما البنك التقليدي فهو لا يلعب إلا دور الدائن والممول للمشاريع وبالإضافة إلى ذلك فإن البنك الإسلامي يتميز عن التقليدي فيما يلي:

  • أولاً: قوم بتعزيز المبادئ والقوانين والقيم الإسلامية وتطبيقاتها في التمويل عن طريق استخدامه للأدوات التمويل الخاصة والمستمدة من الشريعة الإسلامية مثل المشاركة والمرابحة والمضاربة والإجارة
  • ثانياً: لبنك الإسلامي يسمح لكل المسلمين توظيف الأموال وتملك الرساميل بطريقة لا تتنافى مع تعاليم الشريعة الإسلامية التي حرمت معدل الفائدة (الربا)
  • ثالثاً: لبنوك الإسلامية تقوم بتجميع كل المدخرات الغير مستخدمة والغير انتاجية ووضعها في خدمة الاستثمار في بلدان العالم الإسلامي لتساهم في تنميتها وتطويرها
  • رابعاً: لبنوك الإسلامية تفرض نمطاً خاصاً من القيم وذلك بفضل دورها في توزيع الثروات ومكافحة الاستغلال الاقتصادي
  • خامساً: فضل النظام القيمي في التشريع الإسلامي فإن البنوك الإسلامية تخضع لنظام الرقابة الأخلاقية التي تحدد لها ما هو المسموح وما هو المندوب وما هو المحرم ففي النظام الرأسمالي أي نشاط إنتاجي يلبي طباً معيناً يصبح مرغوباً حتى ولو كان نشاطاً إباحياً أو ضاراً في الصحة كالكحول والمخدرات ولكن في النظام الإسلامي السؤال الأكثر أهمية هو فائدة هذا النشاط للإنسان والمجتمع والأمة. فهو يضع في المقدمة تحقيق رفاهية المجتمع كاملاً ويقف على مسافة متساوية من جميع الشركاء سواءً كانوا من المدخرين الصغار أو المهنيين أو التجار والحرفيين
  • سادساً: النظام التمويلي الإسلامي نظاماً لا يساهم بأي آثار تضخمية ذلك أن البنوك الإسلامية لا تخلق النقود وتساهم في استقرار سعر العملة وثبات أسعار صرفها الشرط الضروري لتحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة.
  • وأخيراً، لا شك أن التشريع الإسلامي بما يملكه من قواعد أخلاقية تضبط السلوك الإنساني في كافة علاقاته الداخلية والخارجية مهيأ أكثر من أي نظام آخر لتقديم نموذجه الاقتصادي كاملاً ومتكاملاً مع كافة نواحي الحياة الأخرى للفرد والمجتمع والأمة بل الإنسانية جمعاء ولكن هذا الأمر مرهون بالأخذ بعين الاعتبار الأخلاق في التحليل الاقتصادي وإعادة النظر في كل ما كان يعتقد به سابقاً من المسلمات. عندها يمكن أن نصل إلى دراسات رصينة تساهم في تقدم البحث في الاقتصاد الإسلامي.
 

 

*  الدكتور محمد صديق عميد كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة سليمان الدولية بتركيا ورئيس الجمعية الدولية للإغاثة والتنمية في فرنسا. قدم هذه الورقة في المؤتمر الدولي الثالث لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق المنعقد في بروكسيل – بلجيكا في 14-15 مارس 2015.

 

الهوامش

[1] Les jugements de valeur et les considérations normatives

[2] La rationalité économique

[3] La théorie de la décision

4 La théorie de l’équilibre générale

[5] AROW 

[6] La confiance

7 Intériorisée

[8] Imposé

[9] Les cadres conventionnels 

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق