نظرات في دمج العلوم الطبيعية والاجتماعية في العلوم الشرعية

أ. وِم (سليمان) فَان آل*

 

مقدمة

إدماج العلوم الطبيعية في العلوم الشرعية ليست فكرة جديدة اخترعها المتأخرون ولا ابتدعوها، ولا من غير كتاب الله وسنة رسوله استمدوها. بل أصَّل هذه الفكرةَ ودعا إليها الكتاب الكريم والنبي المصطفى الرحيم. هذه الحقيقة برزت لكل من قرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمعن وتدبر وغاص في كتب علمائنا التي لا ساحل لها. يتبين له من خلال التتبع والاستقراء أن هذه الأفذاذ فهموا أهمية عملية الادماج فقاموا بها حق القيام، لا هم توانوا فيها وما كادوا. نعم، ما كانت هذه النظرة الشاملة إلى العلوم الشرعية والعلوم الأخرى لتخوفهم! كيف، وهم أرباب الفهم أولى الحجر وأصحاب عقول عاملة فهامة. الناظر في كتب القدماء سرعان ما يجد كأساً أدهقته صفاء القلب والروحِ والدينُ والشريعةُ، وحوضاً دثقته نقاوة العقلِ والفهمِ والعلومُ الاجتماعية والطبيعية، كالبحرين يلتقيان ليس بينهما برزخ فالتقيا واندمجا أيما اندماج!

ولبث إدماج العلوم المختلفة في الكتب الشرعية الأمر الجاري عند علمائنا، إلى أن مرت بالأمة الإسلامية فكرة جديدة – هي بمنهج داود الظاهري أقرب -. فأخرج هؤلاء العلوم الطبيعية والاجتماعية من مفهوم العلوم الإسلامية أو العلوم التي لها ذات صلة بالإسلام. ونحن – وإن لم نزعم أن معادات بعض العلماء لبعض العلوم لم تقع في الزمن القديم – إلا أننا نرى أن رفض فكرة الادماج لم يكن موجوداً ولا منتشرا بالصورة التي نلاحظها اليوم. ظن ظاهرية الجدد ومن صار فريستهم أنها مضادة للإسلام. ولم يعلموا أن عين هذه الفكرة القاصرة من أسباب تأخر هذه الأمة فظهرت ضعضعة المرض على وجهها ووهن العظم منها. جعلوا الأمة عقيماً في ربيع حياتها مع أنها تحمل من كل خير سببه وأصله.

لعمري إن تركنها الأمر على ما هو عليه اليوم سنجد أمة غير متكاملة، قوية اللسان ضعيفة الأبدان، تكثر الكلام وتتوقف عند الأحلام. "مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا، تِلْكُمُ الدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارً!"[1] نحتاج إلى أمة تبحث عن الحلول لمشاكل الحياة كلها: الروحية، الاقتصادية، الصحية، العقلية، التي تتعلق بالبيئة والفرد والمجتمع. أمة لا تتوانى في المشاركة مع أصحاب الفكر السليم الذين لهم نظرة شاملة للحياة.

فلا يجوز لنا أبدا أن ننتظر حتى تنقضي هذه الفورة أو تنصرم هذه الوهلة! بل علينا أن نأخذ هذا الأمر بقوابله ونتسابق إلى الخيرات وإلى فتح الأبواب التي أغلقتها رويبضة الشباب المسلم، أحداث الأسنان يتكلمون في أمور العامة!

 

  1. حقيقة الإدماج

  • لغة

قال ابن منظور: "الدُّمُوج: الدخول. الجوهري: دَمَجَ الشيء دُمُوجًا إذا دخل في الشيء واستحكم فيه. وكذلك: اندمج وادَّمج، بتشديد الدال، وادرمَّجَ. كل هذا إذا دخل في الشيء واستتر فيه. وأدمجت الشيء إذا لفَفْتَه في ثوب. والشيء المدمج المدرج مع ملامسته. وفي الحديث: »من شق عصا المسلمين وهم في إسلام دامج فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه»[2].

  • اصطلاحاً

الادماج اصطلاحاً لا يبعد كثيراً عن معناه اللغوي: هو إدخال العلوم الطبيعية والاجتماعية في الدراسات الشرعية حتى تستحكم وتستتر فيها بحيث أن تصير جزءاً من الكل. ويتبين من خلال هذا أن هذا الادماج لا بد أن يكون لطيفاً متوازناً من غير إفراط ولا تفريط حتى لا يلاحظ المستمع أو القارئ أن المحضر أو الكاتب مزج بين علمين مختلفين. وما أجمل قول الشاطبي رحمه الله: "إن كل علم اقتضى الوقت والحال بالنسبة إلى طلب الشرع تقديمه فهو المقدم، وما اقتضى تأخيره فهو المؤخَّر. وتفصيل هذه الجملة لا يخفى على ذي معرفة بمراتب العلوم في نظر الشارع. نعم ما يُخاف اندراسه وذهابه – وهو من الأكيد في الجملة – فلا بد من القيام به، لئلا تفوت المنفعة به عند الحاجة إليه"[3].

  • علوم إسلامية وغير إسلامية

إن كثيراً من الناس يقسمون العلوم إلى علوم إسلامية وغير إسلامية، والعلوم الإسلامية هي: علوم الغاية وعلوم آلة أو تبعية عندهم. وفي الحقيقة أتعجب من ذلك، هل العلوم الأخرى – غير الإسلامية – إلا جزء من كتاب الله أو سنة نبيه، وأنا لا أذهب إلى أن القرآن والسنة أصل كل علم – كما ذهب إليه أبو حامد الغزالي رحمه الله - ولكني على اعتقاد خالص أن القرآن شجع على – وأرشد إلى – كل علم نافع يكون سبباً في تحقيق ضروريات الإنسان من حفظ لحرية التدين، والروح، والنسل، والعقل، والمال والشرف. فإذا كان العلم الذي يُطلب يؤدي هذه الوظيفة فهي إسلامية. لا أن الإسلام اخترعه ولكن لأن الإسلام يرحب بالخير كله فتتسرب إليه وتتستر فيه هذه العلوم والخبرات المختلفة المتنوعة المشرب وتصير جزءاً منه ما لم تعارض المبادئ الإسلامية. فأرى أن العلوم تنقسم إلى قسمين:

  1. شرعية: كالتفسير، وشرح الحديث، والفقه والأخلاق وما توظف من أجل فهم هذه العلوم: كالنحو، وأصول الفقه ومصطلح الحديث، قواعد التفسير وغير ذلك وهذه تنقسم إلى فرض كفاية وعين.
  2. إسلامية: وهي كل علم أشارت إليها الآيات أو الأحاديث ولم تؤصلها، أو أصلت جزءاً منها وترك لها مجالاً للتطور والبحث والتفاصيل: كالطب، وعلم الفلك، والجغرافيا، وعلم الطبيعة وعلم النفس، والحساب واللغات والأنثروبولوجيا وغير ذلك كثير!

بإمكاننا إذن أن نُقَسِّم العلوم إلى علوم شرعية محضة وهي ما أصلها الشارع، وعلوم إسلامية وهي العلوم التي حث الإسلام عليها بطريقة أو بأخرى. وسنرى من خلال هذا البحث أن النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع العلوم والأخلاق الموجودة بطرق مختلفة.

والخلاصة أن كل علم يؤدي وظيفة الحفاظ على عناصر الإنسان وروح الأمة ولم يكن سبباً في الإفساد ولم يحث على الخلق السيئ فإن الإسلام امتصه وجعله جزءاً من كينونته. فلذلك يجوز لنا أن نسمي العلوم المحضة علوم دينية أو إسلامية وإن لم تكن شرعية. وفيما يلي بيان للعلوم التي تطرقت لها الآيات القرآنية:

  • عناصر الإنسان

آيات وأحاديث عن القلب، الحب، التوكل، الطمأنينة، الخشية، الرضا، الخوف، الإحسان، الدعاء، الروح، الخشية، الرجاء، الإيثار، والبخل والكرم، والغضب والعفو والصفح...

 

    الحدود                                                                                 السياسة                                                                                                                     

الآيات والأحاديث عن الحدود والتعزير، والإجرام           الإمامة والشورى، والطاعة، حق المواطنين، السياسة

 

تقسيم العلوم عند ابن خلدون[4]

 

ففي الصورة الأولى أشرنا إلى وجود الآيات والأحاديث التي تشير إلى هيكل الإنسان كإنسان مكون من روح وعقل وجسد وبيئة. وفي الصورة الثانية أشرنا إلى وجود آيات وأحاديث يذكر فيها الأركان التي تبنى عليها عناصر الإنسان والتي تحافظ على أمنه وصحته البدنية والعقلية والمالية وحياته ووجوده. ولم أذكر المواضع التي تجد فيها هذه الآيات إذ هي معروفة لديكم ولعلها يجمعها جامع ذو نفس طويل في كتاب مستقل! والآيات الكثيرة تشير تصريحاً أو تلميحاً إلى أهمية هذه العلوم في حياة الإنسان، فكان كل من طلب هذه العلوم في الحقيقة عاكفا على تفسير للقرآن أو شرح للحديث!

 

2. القرآن وفكرة الإدماج

بينا فيما سبق أن القرآن أشار إلى علوم متنوعة. القرآن وأسلوبه دلالة على جواز ومكانة ادماج العلوم إلى العلوم الشرعية. كيف لا، والقرآن – إن صح التعبير – هو المتن وكل ما سواه شرح له. والمتن أقصر من الشرح، فإذا ملأت أصناف العلوم مكاناً في أصل المتن فكيف لا يتطرق لها شرحاً وتعليقاً، تدقيقاً وتحقيقاً؟! وبعبارة أخرى: كيف يكون أصل المتن شرعياً والشرح غير إسلامي؟

فلا تعارض بين العلوم والشريعة. ولن أشير هنا إلى الثورة العلمية التي أقامها مفكرو أوروبا على الكنيسة وأربابها، إذ لو سمحنا لأنفسنا أن نرتقي ذروة هذا الموضوع لما استطعنا، وهو ليس بزبدة بحثنا. ولعلنا نلخص هذا المقطع من التاريخ بالإشارة إلى أن المفكرين كانوا محقين في حمل هذه الثورة العلمية - التي انبثقت من عقول سليمة أبت أن تُستعبد - على أرباب الكنيسة. ما من صاحب عقل سليم إلا ويأبى التقليد المحض والتبعية كالإمعة. وقعت الثورة بعد أن لاحظوا التناقضات الواضحة بين ما قدمته الكنيسة من أفكار من وجه، وما أثبتتها العلوم من وجه آخر. فكان الشعار: من أراد العلم فليتخلص من الدين!

أما هذا التعارض فلم يكن موجوداً عند المسلمين، فإنهم من أول وهلة أُرشدوا إلى التعلم والبحث عن حقائق الإنسان. أولُ ما أوحيَ إلى محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾. لم يقل الله اقرأ لربك أو عن ربك، بل باسم ربك. فمهما تعلمت فهو راجع إلى علمه سبحانه فلا تمنعن علماً دون علم[5] ولا تحقرن علماً دون علم إذ البحث عن الحقائق إنما هو في الحقيقة البحث عن علم الخالق والأسرار التي – إن اكتشفت – دلت على رب حكيم عليم خبير. ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ أصله الضعف فأنى يتعلم من غير توفيق رباني! ثم أتبعه بـ: ﴿اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾ أي: كلما قرأت ودرست العلوم رأيت كرم ربك من وراء إحسانه وإتقانه وعنايته بالكون والإنسان. ولا تتوقف عن البحث والدراسة لأنك مهما وجدت حسنه وعظمته من وراء دراستك فربك أكثر كرما من هذا! ثم قال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ إذ الإنسان الذي كان أصله علقاً خلق ضعيفاً يتعرض تماماً كأبيه آدم للنسيان، فأرشد الإنسان إلى أن يقيد علمه، إذ نادراً ما يكون الاِعتماد على ضبط الصدر خالياً من الخطأ، فإذا أضيف ضبط الكتابة إلى ضبط الصدر، صار خيراً على خير. ﴿عَلَّمّ الإِنْسَانَ مَا لَم يَعْلَمْ﴾ فلا تعاد علماً دون علم إذ ما تجهله أكبر مما تعرفه وما كنت معادياً له فيما سبق – كالإيمان بالله والرسالة المحمدية – صار الآن علماً تتعلمه وتستمع إليه، وهكذا يخلق الله ما لا تعلمه فلا تنكرن شيئاً!

والجميل أن هذه الآيات أنزلت على إنسان كريم لم يعرف كتابة ولا قراءة، فأكد الله سبحانه بذلك أن التعلم لا يقتصر على القارئ والكاتب فحسب، بل كل الناس مخاطبون بذلك على جميع مستويات الحياة، سواء أكان أمياً أم لم يكن. وما أن أنزل الله هذه الآيات إلا وأتبعها بأختها: ﴿يَأَيُّهَا المُدَّثِّرْ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكّ فّكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر، وَالرُّجزَ فَاهجُرْ، وَلَا تَمنُن تَستَكثِر، وَلِرَبِّكَ فَاصبِر﴾ فجاءت هذه الآيات آمرة بالعمل، سواء أكان عملاً متعلقاً بالناس: ﴿قم فأنذر﴾، أم برب الناس: ﴿وربك فكبر﴾ أم بالنفس والبيئة: ﴿وثيابك فطهر﴾ وسواء أكان عملاً متعلقاً بالفعل كالأشياء المذكورة أم بالترك مثل: "والرجز فاهجر." فاستوعبت هذه الآيات مع قلة عددها جميع أنواع العلوم على كثرتها.

المسلمون الأوائل فهموا من خلال تلك الآيات والقرآن كله أن البحث عن أسرار الكون والإنسان لن يبعدهم أبداً عن الخالق بل سوف يقربهم إليه ويحببه إليهم. صار القرآن بآياته الكثيرة المتنوعة مرشداً مشجعاً يدفعهم إلى كل علم نافع وإلى الإعراب عن لطائف البارئ في خلقه سبحانه. لم يجدوا تناقضا بين العلم والدين وما خافوا من أن تعارض العلوم عقيدتهم. علموا أن المنهج العلمي منهج لمعرفة كيفيات المادة، وإذا ما خرج الأمر عن دائرة المادة فقد خرج عن دائرة العلم. العلوم تبحث عن الكائنات، وليس شيء منها يبحث عن مبدئها الأول وغايتها القصوى. ومشكلة التعارض بين الدين والعلم، إنما نشأت في أوروبا بعيدة عن الجو الإسلامي، إنها تصور نزاعاً في بيئة بعيدة كل البعد عن الروح الإسلامية التي حثت الإنسانية على التعليم والتعلم[6].

نعم، إن منزلة العقل والعلم والبحث عن الحقائق والسير في الأرض للكشف عن أسرار الكون، والنظر في خلق السماوات والأرض والإنسان، والأغذية والثقافات، واللغات والحساب، والبيئة والروح، لها مكانة رفيعة في الإسلام. لم يسد القرآن باب الفكر والتأمل والبحث والتدقيق ومن أبلغ الآيات الدالة على هذه الحقيقة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ، أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾[7]. طلب الخالق جل وعلى من أي إنسان أن يتفكر في خالقه ومقصده في الحياة بعيدا عن تأثير العقل الجمعي وعن الخوف من الناس أو المجاملة لهم. فيتفكر مع صديق حميم موثوق به أو لوحده فقط. علماؤنا راعوا العقل فجعلوه مناط التكليف، محور الثواب والعاقب وأساس النقل. فالإيمان في الإسلام ليس بالشيء الذي يخرج عن منطقة العقل ودائرة التفكير. بل لا يجوز على المسلم أن يتبع الظن والوهم، معطلا الأدوات التي وهبه الله إياها لتحصيل المعرفة الصحيحة: "ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً"[8]. على كلٍ: ساح المسلمون في الأرض باحثين، باسم الإسلام محققين مفتشين كاشفين حتى نبشوا طين المعرفة من الحفرة وأنبطوا ماء كل علم من أرضه فكشفوا عن غطائها وحطوا نقابها. اختاروا من كل علم نفسيه وتركوا ثروة عليمة هائلة. أدمجوا هذه العلوم في كتب التفسير والحديث والفقه وصنفوا المصنفات الكثيرة المتنوعة.

 

  1. السنة وفكرة الإدماج

إن الفهم الصحيح لحديث: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[9] أصل من أصول الفهم الصحيح لإدماج العلوم والثقافات المختلفة في العلوم الشرعية[10]. ما أرسل الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين فحسب. أرسله رحمة للعالمين وهادياً للناس أجمعين. ومن آثار رحمته أنه لم يأت ليدمر كل سوى ما جاء به، بل حافظ على قيم وتراث غيره واعترف بفضل من سبقه في مواطن كثيرة مختلفة. ما كان لمثل هذا القائد العظيم لينظر إلى العالم من أمثال هذه المعايير الضيقة الموجودة بين أظهرنا اليوم. كان محمد صلى الله عليه وسلم من أوائل الناس الذين اعترفوا بحق الغير. كان سباقاً إلى تكوين مجتمع يحافظ فيه على الثقافات المتعددة وحرية التدين. إن الدولة الإسلامية كانت نموذجاً مثالياً لكل ناظر صحيح العقل، عميق الفهم. أصّل محمد صلى الله عليه سلم منهجه بقوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» لم يقل في هذه المقولة أنه أتى ليدمر سائر الأخلاق بل وضح أشياء نعتبرها أساساً في التعامل مع العلوم والثقافات الأخرى. من خلاله نفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رد علم غيره ولا تصرفاته إذا رأى أنها توافق المبادئ الإسلامية وكانت كريمة جعلها جزءاً من تصرفات وعلوم المسلمين. ونفهم من خلال الحديث:

أولاً: أنه بُعث ليتمم

هناك فرق بين الإتمام والتكميل، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث ليكمل، بل ليتمم. والإتمام يطلق حيث جاء آخر أجزاء الشيء المتتابعة بعضها وراء بعض. بحيث يقال لذلك الشيء: "إنه ناقص إذا لم تترتب أجزاؤه تلك كلها". فإذا ما انضم إليها أجزاؤها الأخرى – حتى آخر جزء – نقول: تم ذلك الشيء. والتكميل يَرِدُ على المعنى التام فَيُكَمِّلُهُ. إذن الكمال أمر زائد على التمام، يقابل نقصان الأصل. والكمال يطابق نقصان الوصف بعد تمام الأصل[11]. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هناك شيئا اسمه أخلاق وأنه قد أُصّله ولكنه يحتاج إلى إتمام، وهذا الإتمام هو ما جاء به.

ثانياً: لا يتمم إلا مكارم الأخلاق

نفهم منه أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما أتى ليتخرع الأخلاق السيئة ولا ليؤيدها أو ينص عليها. بل لن يتمم إلا مكارم الأخلاق. فما لم يكن كريما لا يؤيده ولا يؤصله. إنما أتى ليتمم مكارم الأخلاق.

ثالثاً: هناك أكثر من خلق

النبي صلى الله عليه وسلم نبه على أمر مهم: هناك أكثر من خُلُق. وهذا يرجع إلى أعراف الناس وقيمهم وتصرفاتهم وعلومهم. ولم يدعِ أن هناك خلقاً واحداً لا يُقبل سواه. لم يقتصر على بيان أن هناك أكثر من خلق بل عبر عنها بأنها أخلاق كريمة وأنها يؤيدها. فيفهم من خلال هذا أنه يؤيد أعراف الناس ويعترف بها ما دامت كريمة.

رابعا: الإدماج من خلال تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم

  • تصرفات لم يُسبق إليها: من جملة هذا: توريث النساء، حق النساء في طلب الخلع...إلخ.
  • أيد الخلق الموجود ولم يغير منه شيئاً، بل جعله جزءاً من دين المسلمين وعرفهم ومعاملتهم:

في كثير من الأحوال قبل النبي صلى الله عليه وسلم الأخلاق الحسنة، ومن الأمثلة على ذلك:

- المصافحة: قال صلى الله عليه وسلم: «قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة»[12] فلم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بقبول المصافحة فحسب بل بين أنه يترتب عليها تكفير السيئات إذ هي مما تثبت الود وتؤكد المحبة.

- تشجيع الأحباش على اللعب: لعب الأحباش في المسجد على طريقتهم المعروفة: يرقصون، يقفصون ويذكرون، ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم بل شجعهم على ذلك وقال: "دونكم يا بني أرفدة."[13] فصار عقبة في طريق من رد على من قال أن الإسلام لا يقبل إلا العادات العربية!

- حفر الخندق: حينما حوصرت المدينة بحث النبي صلى الله عليه وسلم عن حل للدفاع عن المدينة فجاءه سلمان وقال: "يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا."[14] فما أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا لم يتردد وقرر أن يحفروا خندقا حول المدينة. والشاهد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع سلمان الفارسي يقول: "كنا" وهو يشير إلى عبدة النار، لا إلى أصحاب دين سماوي، ومع ذلك لم يرد هذه الفكرة. بل تجلت عظمة هذا الدين. "وهكذا نرى كيف تتراكم الخبرات داخل الأمة الواحدة نتيجة تجميع كل العناصر والقبائل والأجناس والبلاد تحت راية واحدة"[15].

- سدل الشعر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم. فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد"[16]. قال الحافظ في الفتح[17]: "في رواية معمر " وكان إذا شك في أمر لم يؤمر فيه بشيء صنع ما يصنع أهل الكتاب." ثم قال[18]: "والذي جزم به القرطبي: أنه كان يوافقهم لمصلحة التأليف. ويحتمل أيضاً - وهو أقرب - أن الحالة التي تدور بين الأمرين لا ثالث لهما إذا لم ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء كان يعمل فيه بموافقة أهل الكتاب لأنهم أصحاب شرع بخلاف عبدة الأوثان فإنهم ليسوا على شريعة." قلت: وقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وافق عبدة النار في حفر الخندق.

  • أيد أصل الخلق وزاد عليه زيادة في الكرم

- صوم عاشوراء: لم يؤيد النبي صلى الله عليه وسلم الخلق الحسن فقط، بل كان في بعض الأحيان يزيد في هذا الخلق ليظهر كرامة هذه المعاملة الموجودة عند غيره ومن ذلك صوم يوم عاشوراء. فحينما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم عن سبب صومهم في هذا اليوم – وهذا وحده يكفي دلالة على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بثقافة الغير – وبينوا أنهم يصومونها فرحا[19] بنجاة موسى. فلم يجد بُدًّا من أن يصوم هذا اليوم ولا أنكره، بل صام يوماً زائداً لأنه أولى بموسى من غيره، زيادة في الكرم.

  • أيد أصل الخلق وغير منه شيئاً لأنه لم يكن كريماً

أحياناً كان يؤيد أصل الخلق ولكنه غير التفاصيل وبعض الفروق الدقيقة. هكذا حافظ على مبادئ الزواج ولكنه منع زواج المقت والشغار. علم بحاجة الناس إلى البيع والشراء ولكنه منع بيع الحصاة والتعامل بالربا لأنها تنافي الكرامة. نهى عن الحلف بغير الله ولكنه أجاز الحلف بالله وحده.

  • نهى عن بعض الأخلاقيات ولم يحافظ عليها ولا على جزء منها

- السب: نهى القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم عن السب مثلاً، ولم يحافظ على شيء منها: ﴿لا تسوبوا الذين يدعون من دون الله﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي." وأخبر أن ربه قال: "لا تسبوا الدهر". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا!" فالخلق السيء في أصله والثقافة غير الكريمة لم يؤيدها ولم يحفظ عليها ولا على جزءا منها.

والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع علوم وثقافة الغير – رداً وإدماجاً ينحصر فيما يلي:

- قدم أخلاقا جديدة كريمة

- أيد أخلاقا موجودة ولم يغير منها شيئاً

- أيد أخلاقا موجودة وزاد عليها في الكرم

- أيد أصل الخلق وغير منه ما لم يكن كريماً

- نهى عن الخلق السيء ولم يحافظ على شيء منه

ولم يفرق بين ثقافة المسلم وغير المسلم. فإذا كان الأمر كذلك، فلا حجة لمن زعم أن العلوم الطبيعية والاجتماعية لا تطلب لأنها لم تفصل في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأصّلها وفصّلها غير المسلمين! وهنا نضرب بعض الأمثلة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي البيئة والنفس والروح والبدن والفرد والمجتمع في مواقف كثيرة. فهي تدل على أن أصول هذه العلوم كانت موجودة في زمنه إلا أنه لم يسمها باسمها المتداول اليوم.

  • الاستئذان للزنا

عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شاباً أتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء." وفي رواية أخرى: "اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه – الزنا"[20]. ومما يستفاد من هذا الحديث:

- حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على شعور وعقلانية السائل إذ نهى الناس عن زجره وهدأهم، مع أن السؤال كان شأنه غريب وكبير، يسأل الصحابي عما هو معلوم من الدين بالضرورة أنه حرام.

  • الناحية النفسية حينما طلب منه أن يقترب منه صلى الله عليه وسلم، فشعر الصحابي أن النبي صلى لم يطرده بسبب سؤاله، فيطمئن إليه ويفتح مخه وتفكيره.
  • طلب منه أن يجلس، حتى يستعد للجواب وينصت للمجيب ولا يشتغل بغيره.
  • جاءه من الناحية المنطقية حينما طلب منه أن ينعكس هذه الفكرة على نفسه والمحرمات من نسائه. فكان الجواب منطقياً.
  • أعرب النبي صلى الله عليه وسلم عن عاطفته فوضع يده عليه.

وبعد أن اهتم النبي بالناحية النفسية والعقلية والمنطقية والعاطفية أتى من الناحية الدينية المحضة فدعا له. وكانت النتيجة بعد مراعاة عناصر وأجزاء الحياة ومكونات الإنسان إيجابياً، كان الرجل من أبعد الرجال عن الشهوة المحرمة والزنا!

  • الاحتلام في ليلة باردة

يقول عبد الله بن عمرو بن العاص – كما رواه البخاري في صحيحه -:  "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح. فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً"[21]. ومما يستفاد من هذا الحديث:

  • لم يرتهن النبي صلى الله عليه وسلم عقل عبد الله بن عمرو بن العاص إذ قام بعملية منطقية قياسية لم يسبق إليه فتعجب من عقله وفهم وأقر ما فعله وضحك!
  • أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن المنظار الطبي يراعي في الأحكام الشرعية.
  • القرآن يفسر حسب الأحوال والأوضاع إذ أن علم الله لا يتقيد بعلم البشر.
  • رخصة التيمم عند الضرورة

وقال جابر بن عبد الله "خرجنا فِي سفر فأصاب رجلاً منا حَجَر، فَشَجَّهُ في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله أُخْبِرَ بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم اللَّهُ ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العِي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر- أو يعصِب- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر حسده."[22] ومما يستفاد من هذا الحديث:

- بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم يراع الطب والبيئة قد يكون قاتلاً من حيث لا يدري.

- بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من سؤال أهل التخصص وألا يجتهد الإنسان في مجال لا علم له فيه، كالطب في هذا الموضع مثلاً.

  • تلقيح النخل

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصاً " تمراً رديئاً" فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم"[23]. ومما يستفاد من هذا الحديث:

- اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في غير تخصصه ليُشَرِّع، حتى يعلم من أتى بعده أن الاجتهاد فيما لم يتخصص فيه الإنسان قد يؤدي إلى الإفساد. والإفساد هنا إنما تعلق بالنخل، وفي المثال السابق بحياة الإنسان!

- أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن التعامل الدقيق مع البيئة والطبيعة يُحتاج فيه إلى تخصص وخبرة.

- نسب النبي صلى الله عليه وسلم العلم إلى من له علم بعلوم الطبيعية حينما قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".

  • أحب صفة الرحمن

وروى البخاري في صحيحه - عن عائشة رضي الله عنها -: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ " قل هو الله أحد " فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "سلوه: لأي شيء يصنع ذلك؟". فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله تعالى يحبه". ومما يستفاد من هذا الحديث:

  • أقر النبي صلى الله عليه وسلم عملية الاستنباط من كتاب الله والعمل به ما لم يخالف معلوماً من الدين بالضرورة أو عقيدة صحيحة.
  • يراعي النبي صلى الله عليه وسلم شعور هذا الصحابي ومحبته لعالم الغيب، فأكد على أهمية مراعات النفس وما تهواها من الخير، وهو باب من علوم النفس.

 

  • إن لنفسك عليك حق

روى البخاري - عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما – قَالَ: "آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً: فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الْآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ:" إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ " فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ سَلْمَانُ ". ومما يستفاد من الحديث:

- كان الصحابة يحبون التوازن بين الروح والبدن والبيئة وصلتهم بالرب والعباد.

- أكد النبي صلى الله عليه وسلم أهمية الإحسان إلى عقل الزوجة وبدنها، وحق الرب والعبد.

  • البدوي يبول في المسجد

ذكر الطيبي في مرقاة المفاتيح[24] عن أنس رضي الله عنه، قال " بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْ مَهْ ‏.‏ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ‏"‏ ‏.‏ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ ‏"‏ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ‏"‏‏.‏ قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ"‏[25]. ومما يستفاد من هذا الحديث:

- أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أهمية لمشاعر وعقلية البدوي.

- تفكر النبي صلى الله عليه وسلم في البيئة، إذ لو زجره الناس لانتشر البول في كل مكان.

- أخذ النبي صلى الله عليه وسلم صحة البدوي بعين الاعتبار، إذ لو عنفوه لحبس البول وهذا يؤدي إلى الأمراض الكثيرة.

- حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على عورة الرجل، إذ لو حاربوه لقام عريانا بين الناس.

- جاء النبي صلى الله عليه وسلم من الناحية المنطقية حين قال إن المساجد لا تصلح إلا للذكر...

- في نهاية المطاف دعا الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم وأظهر محبته له – كما جاء في غير هذه الرواية.

  • مراعاة شعور الأمهات

يروي أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"[26]. ومما يستفاد من الحديث:

- يراعي النبي صلى الله عليه وسلم البيئة حتى في أعماله الروحية.

- يراعي النبي صلى الله عليه وسلم مشاعر المرأة.

- يتعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس ويجعل نفسه مكانهم.

- يفكر النبي صلى الله عليه وسلم في صحة الطفل الذي لا يتوقف عن البكاء.

- يراعي النبي صلى الله عليه وسلم البيئة حيث قد ينزعج بعض الناس بسبب بكاء الطفل.

إن دلت هذه المواقف على شيء فإنما تدل على إدماج العلوم المختلفة في خطاب رسولنا الكريم وتعامله مع الناس والمجتمع. وهناك أمثلة كثيرة غير هذه يظهر من خلاله مراعات النبي صلى الله عليه وسلم للثقافات والعلوم والأوضاع والأحوال المختلفة في موضع واحد كحمل أمامة على كتفيه في الصلاة، وحفيده الذي يبول على بطنه، وإرشاده عائشة إلى أهمية الإنشاد للأنصار في زفافهم وسؤاله زواره عن مقرهم وقراهم ... الخ.

 

4. العلماء الربانيون والإدماج

يتبين لقارئ كتب من سبقنا أن السابقين أدمجوا العلوم الكثيرة المتنوعة في كتبهم. يفسرون القرآن ويشرحون الأحاديث ويتطرقون لعلوم الطبيعة والرياضة والنجوم والأنثروبولوجيا والجغرافيا ... إلا أننا نرى أنهم جادلوا أهل الظاهر – أو بعض الفضلاء من العلماء - المغلقين أفق المعرفة، ويدافعون عن عملية الإدماج، ومن هؤلاء:

  • فخر الدين الرازي

وفخر الدين الرازي رحمه الله هو المثل من الدرجة الأولى الذي يضرب به في هذا المقام. أدمج العلوم كلها في تفسيره. فوجد بعد موته وحين حياته من رد عليه وانتقص من شأن تفسيره"فقال ابن تيمية: "فيه كل شيء إلا التفسير!" وقال أبو حيان ردا على ابن تيمية: "جمع الرازي في تفسيره أشياء كثيرة لا حاجة بها في علم التفسير". وقال السبكي: "فيه مع التفسير كل شيء"[27]. ومن العجيب أن الرازي علم أن سيكون من الناس من يرد على نظريته الشاملة المبتكرة لتفسير القرآن فقال: "وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه...أن الله ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور، وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزا لما ملأ الله كتابه منها...ولا معنى لعلم الهيئة إلى بالتأمل...فإذا كان الأمر كذلك، ظهر أنه تعالى إنما أنزل القرآن لهذه الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة"[28]. وها هو الرازي يكافح من جديد عن علم الفراسة فيقول: "الثالث: إن أصول هذا العلم مستندة إلى العلم الطبيعي وتفاريعه مقررة بالتجارب، وكان مثل الطب سواء بسواء، فكل طعن يذكر في هذا العلم فهو بعينه متوجه في الطب!"[29]

  • ابن الأثير

فها هو الإمام المؤرخ عز الدين ابن الأثير يقول: "ولقد رأيت جماعة ممن يدعي المعرفة والدراية ويظن بنفسه التبحر في العلم والرواية يحتقر التواريخ ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها، ظنا منه أن غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار. وهذا حالة من اقتصر على القشر دون اللب، وأصبح مخشلباً جوهره. ومن رزقه الله طبعاً سليماً وهداه صراطاً مستقيماً علم أن فوائدها كثيرة، ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة"[30].

  • أبو حامد الغزالي

وهكذا نجد الباحث عن أمراض النفوس وعلاجها، الفذ حجة الإسلام الغزالي، في مقدمة كتابه الأخير: منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين – وهو يشير إلى من انتقدوه في كتابه إحياء علوم الدين – يقول: "واحتوت على دقائق من العلوم، استعصت على أفهام العامة، فقدحوا فيها وخاضوا فيما لم يحسنوه منها، فأي كلام أفصح من كلام رب العالمين وقد قالوا: "أساطير الأولين"؟ ألم تسمع إلى قول زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم حيق يقول مضمناً:

إني لأكتم من علمي جواهرــــــــه        كي لا يرى الحقًّ ذو جهل فيَفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حســـــــــــن         إلى الحسين وأوصى قبله الحسنـــــا

يا رب جوهر علم لو أبــــــــوح به        لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنــــــــــــــــــا

ولاستحل رجال مسلمون دمي        يرون أقبح ما يأتونه حسنـــــــــــــــــــــــــا[31]

  • ابن الصلاح والنووي

وقاوم الإمامان ابن الصلاح والنووي – مع غزارة علمهما وشرفهما وولايتهما – من أجاز الاشتغال بعلم المنطق، كما أشار إلى ذلك الإمام الأخضري في السلم المنورق:

والخلف في جواز الاشتغــــــــال     به على ثلاثة أقــوـــــــــــــــــــــــــال

فابن الصلاح والنواوي حرما     وقال قوم ينبغي أن يُعلمـا

والقولة المشهورة الصحيحة      جوازه لكامل القريـــــــــــــــــحــة

ممار السنة والكتـــــــــــــــــــــــــــــــاب       ليهتدي به إلى الصـــــواب

قال الشيخ محمد بن محفوظ بن المختار الشنقيطي في شرحه لهذه الأبيات: "الذي يظهر أن هذه الأقوال التي ذكرها الشيخ هنا إنما تجري في حكم الفن العام، أما ما ألفه علماء المسلمين خالياً من الشوائب فلا ينبغي أن يكون في جوازه خلاف لأنهم ما صنفوه -رحمهم الله- إلا ليتعلم ويعلم، ولذا قال ابن بونه: "قلت نرى الأوقال ذي المخالفة، محلها ما صنف الفلاسفة"[32]. فكأنه بين أن الإمام النواوي لو رأى السياق الجديد لعلم المنطق لما عاداه ولرحب به أي ترحيب.

  • الشاطبي

والإمام الشاطبي يعاني من ذلك من جميع النواحي فيقول: "فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد ولا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك إلا أني أوافق المعتاد وأعد من المؤلفين لا من المخالفين فرأيت أن الهلاك في أتباع السنة هو النجاة وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور فقامت علي القيامة وتواترت علي الملامة وفوق إلي العتاب سهامه ونسبت إلى البدعة والضلالة وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة"[33].

  • الحارث المحاسبي

انتقد الإمام أحمد الحارث المحاسبي وحذر من كتبه وحضور جلساته حتى قال أن كتبه بدعة وضلالة. وذلك لأن الإمام أحمد كان شديدا على من دخل في علم الكلام وكان لا يحب أن تكتب الكتب أو توضع على الأبواب الفقهية مخافة أن يترك الناس الاشتغال بالكتاب والسنة. ومع ذلك لم يلق لما تقوله الناس والإمام أحمد بالاً واستمر في كتابة علم السلوك، يؤصله ويوضحه بغير مثال سابق، حتى صار من بعده عالاً عليه، كأبي طالب المكي والغزالي في إحياء علوم الدين[34]. والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى.

 

  1. العمل في الميدان

  • نشر فكرة الإدماج بالدروس والخطب في المساجد

لا يمكن أن نبني منظمة كبيرة تدمج العلوم الطبيعية في العلوم الإسلامية إلا إذا تتقبل الأمة – أو أكثر أفرادها – فكرة الإدماج ابتداء. فقبل أن نعكف على عملية الإدماج في الجامعات لا بد من تهيئة الناس من خلال الكتب والدروس والخطب والندوات ولابد من العمل في الميدان من قِبَل الدعاة والمحاضرين والخطباء والمفكرين. فأنا كخطيب جمعة وأستاذ في الجامعة ألتقي بأناس من مستويات مختلفة، وأُسأَل على الدوام عن حكم دراسة الطب والقانون، البيولوجيا، الأنثروبولوجيا والجغرافيا وما إلى ذلك من المواد المتنوعة. لأن الذي قد يبدو بالنسبة إلينا بديهياً قد يكون أمراً غامضاً بالنسبة إلى غيرنا. وأنا كنت – في بداية إسلامي - ممن يعادي فكر الإدماج والنظرة الشاملة إلى الإسلام. نعم، ما أسهل الانتماء إلى المظاهر والقشور وما أصعب الفكر الناضج. فما السبب في الاعوجاج في الفكر والدافع إلى مجانبة الحق؟ إنها دعوة الظاهرية الجدد التي أثرت على كثير من الشباب والشابات إلى درجة أن كثيراً منهم تركوا دراسة العلوم بعد أن وصلوا إلى آخر السنة الدراسية أو كادوا. وسبب هذه الحيرة أنهم لا يجدون الأئمة والدعاة قريبين من ذكر أهمية هذه الدراسات، وإن عثروا على من يدعوهم إلى دراسة العلوم المحضة فيكون هذه الداعية في أغلب الأحيان جاهلاً بالعلوم الشرعية، فلا يثق به "المتدين". يسمع من ظاهِرُهُ التدين يدعو إلى دراسة العلوم الشرعية - لا غير - من ناحية، ومن الناحية الأخرى يجد من ظاهره "عدم التدين" ينبهه على أهمية دراسات العلوم! فيرتبكون ويتخذون – في رأيهم – طريق الورع والبعد عن الشبهات. فتضيع بسبب ذلك الأمة ومستقبلها في كثير من جوانب الحياة.

فإن أردنا مستقبلاً إيجابياً للشباب المسلم فلا يجوز لنا أن نقبل أن تقتصر فكرة الإدماج وفهم أهميته على أصحاب الشهادات والدراسات العليا والعلماء فقط، وإلا فلن تفيق هذه الأمة أبداً من غفلتها ولن تجد قوة بعد ضعفها، إذ لا أتصور أن العالم أو طالب العلم يتفرغ ليصير طبيباً ومحامياً وفناناً وعالم نفس أو اجتماعي في نفس الوقت. فلا بد أن يكون هو بمثابة المحرك، يدفع الناس إلى الأمام ويرشدهم إلى المشاركة الإيجابية في المجتمع. ولكن، كيف ذلك؟

 

أولا: تصنيف كتب تؤصل فكرة الإدماج

يكتب الداعية المسلم كتاباً يُدمج فيها العلوم الطبيعية والاجتماعية إلى العلوم الإسلامية. وقد كُتب مثل هذه الكتب ولكنها تحتاج إلى زيادة بحث كلما تقدم الزمان وكثرت الاكتشافات العلمية. ولا أنسى أن أذكر أهمية الترجمة لهذه الكتب إلى اللغات الأخرى إذ عالَم الكتب العربي غني بالكتب بخلاف السوق باللغات الأخرى. فنحتاج إلى عناوين مثل:

  • الفوائد الطبية للصلاة
  • الفوائد البدنية للصوم
  • أهمية الذكر في ضوء علوم النفس
  • أثر "الرضا بما قسم الله" على السعادة
  • الإسلام والعنصرية
  • السواك: فقهه ومنافعه الطبية
  • الإسلام والبيئة

إلى غير ذلك من العناوين الكثيرة.

ولابد للكاتب أن يراعي مستوى القراء، لأننا لا نريد أن تجلب هذه الكتب أصحاب الفكر العالي والفهم الواسع فقط. وأنا وجدت كثيراً من الكتب التي كتبها المعاصرون بعيداً عن مستوى الشاب المسلم "غير"[35] المثقف. فلذلك تجدهم قريباً من كتب الظاهرية الجدد، كتبت بلغة سهلة ميسرة في متناول الجميع. ولا أقصد أبداً أن نتنازل عن مستوى الكتب العالية فإنها تكتب لأصحاب الشهادات بلغة أخرى. من البلاغة أن توصل الكلام ولو بكلمة واحدة، ومن الحكمة أن تراعي أحوال ومستويات المخاطبين.

 

ثانيا: التطرق للعلوم الأخرى في الدروس التقليدية

هذا يحتاج من الداعية أن يعكف على قراءة كتب في مجالات مختلفة وباللغات المختلفة من باحثين ومفتشين مسلمين وغير مسلمين. ثم يزاوج العِلمَينِ في دروسه حتى يعتاد المحاضرون على ذلك ويرون أن هذين العلمين بمثابة العلم الواحد. وفيما يلي بعض الأمثلة حتى تتضح الصورة:

  • تفسير القرآن

في تفسير قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ وقال سبحانه في موضع آخر من كتابه: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾[36] يقول مثلاً: نلاحظ هنا أن الله قدم الفاكهة على اللحم ومن المعلوم أن ترتيب الألفاظ القرآنية لا يكون هملاً، بل هو لسبب علمه الحكيم الخبير. تنتظر الآية منا أن نتباحثها ونفهمها. ومن العجيب أن الطب الحديث صرح بأن تناول الفاكهة قبل الوجبة الغذائية له فوائد صحية. لأن الفاكهة تحتوي على سكريات بسيطة سهلة الهضم وسريعة الامتصاص، وتمص الأمعاء هذه السكريات في مدة قصيرة – تقدر بالدقائق – فيرتوي الجسم وتزول أعراض الجوع ونقص السكر...في حين أن الذي يملأ معدته مباشرة بالطعام المتنوع يحتاج إلى ما يقارب ثلاث ساعات حتى تمتص أمعاؤه ما يكون في غذائه من سكر، وتبقى عنده أعراض الجوع لفترة أطول. ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان – كما أخبر أنس بن مالك رضي الله عنه: "يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتُميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء"[37]. فسبحان من علم هذه الأسرار ودفع الإنسان إليه قبل أن علم الإنسان سببه: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

  • شرح الحديث

ورد في شرح صحيح مسلم – كتاب السلام – حديث: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقه عسلا!" فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيته عسلا فلم يزدده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: "اسقه عسلاً!" فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك." فسقاه فبرأ!" يقول مثلاً: من العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ذلك في وقت لم تصل المكتشفات العلمية إلى ما وصلت إليه اليوم. ولقد نشرت مجلة BMJ الإنجليزية الشهيرة دراسة أجرتها على 169 طفلاً مصاباً بالتهاب المعدة والأمعاء. وجد الباحثون أن الإسهال الناجم من التهاب المعدة والأمعاء استمر 93 ساعة عند الذين لم يعطوا العسل، في حين شفي الذي أعطوا العسل في وقت أقصر. فسبحان من علمه رسوله سبحان القائل: ﴿وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[38].

  • في الفقه

ورد في كتاب مواقيت الصلاة مثلاً: قال الله عز وجل: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ والذكر يؤدي إلى طمأنينة القلب كما قال سبحانه: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. فكأن الله سبحانه أراد الصلاة لأنها تؤدي إلى طمأنينة القلب. فالسؤال الذي يطرح ما علاقة الصلاة بطمأنينة القلب؟ إن توقيت الصلوات الخمسة بما يتوافق مع بزوغ الفجر وشروق الشمس وزوالها وغيابها وغياب الشفق تتوافق مع العمليات الحيوية للجسم، مما يجعلها كالمنظم لحياة الإنسان وعملياته الفيزيولوجية. فعند أذان الصبح والذي يعتبر بداية بزوغ ا لفجر يبـدأ إفـراز الكورتيزون في الجسم بالازدياد كما يتلازم مع ارتفاع في ضغط دم الجسم مما يشعر الإنسان بالحيوية والنشاط في هذا الوقت. وفي وقت الفجر تكون نسبة غاز الأكسجين مرتفعة في الجو ونسبة مرتفع من غاز الأوزون أيضاً والذي ينشط الدورة الدموية والجهاز العصبي والعضلي.

 

ثالثا: الاطلاع الواسع والقراءة الواعية

لابد للداعية من قراءة كتب في مواضيع مختلفة مثل:

  • الإعجاز العلمي في القرآن والسنة لنايف منير فارس، دار ابن حزم، لبنان، 2006م.
  • الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية للدكتور أحمد مصطفى متولي، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2005م.
  • من آيات الإعجاز العلمي الحيوانات في القرآن الكريم للدكتور زغلول النجار، دار المعرفة، لبنان، 2007م، ط.3 وكتبه في الإعجاز كثيرة ومعروفة.
  • الإعجاز العلمي في السنة النبوية للدكتور صالح بن أحمد رضا، مكتبة العبيكان، الرياض، 2001م.
  • موسوعة التطور الحضاري للتربية الإسلامية – 5 مجلدات – للدكتور سعيد إسماعيل علي، دار السلام، مصر، 2010م.
  • الأمراض الجنسية للدكتور نبيل الطويل، مؤسسة الرسالة، 1975، ط.2.
  • الغذاء والتغذية تحت إشراف عبد الرحمن عصيفر، منظمة الصحة العالمية 1997م.
  • معجزة الاستشفاء بالعسل الغذاء الملكي، حقائق وبراهين، الدكتور محمد علي البار.
  • الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء في الفقه الإسلام، الدكتور محمد منصور، دار النفائس، عمان، 1999م ط2.
  • ماذا قدم المسلمون للعالم، للدكتور راغب السرجاني، مؤسسة اقرأ، مصر، 2010م، ط.5.
  • علم النفس في التراث الإسلامي، تحت إشراف الدكتورين: محمد عثمان نجاتي وعبد الحليم محمود السيد، دار السلام، مصر، 2008م.
  • نحو ثقافة إسلامية أصيلة، للدكتور عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، 2002م، ط.2.
  • السنن الإلهية في الأمم والأفراد في القرآن الكريم، الدكتور مجدي محمد عاشور، دار السلام، مصر، 2006م.
  • موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، آيات الله في الآفاق، الدكتور محمد راتب النابلسي، دار المكتبي، سورية، 2010م، ط.5.
  • موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، آيات الله في الإنسان، الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، دار المكتبي، سورية، 2010م، ط.5.

وأرى أن الدكتور محمد النابلسي قد أجاد وأفاد وصار نموذجاً لمن يريد إدماج العلوم في الدراسات التقليدية، وهذا واضح في سلسلته في الأسماء الحسنى، وتفسيره، فجزاه الله خير الجزاء!

ويقرأ قراءة متأنية في كتب غير المسلمين مثل:

  1. Spark, How exercise will improve the performance of your brain., Dr John Ratey and Eric Hagerman
  2. The Shallows , How the internet is changing the way we think, read and remember[39]:

ويقرأها استعداداً للدروس التالية:

  • دورة حفظ فكتاب الله
  • شرح الأحاديث عن حق الجسم
  • شرح آداب طالب العلم
  1.  In Praise of Slow, Carl Honoré[40]:

تنفع في الدروس عن قيمة الوقت، وشرح حديث العجلة من الشيطان، وأهمية الطمأنينة في حياة الإنسان ...

  1. Pornified, Pamela Paul[41]:

يقرأ هذا الكتاب استعداداً للكلام عن الإباحية وغض البصر، وعن أشراط الساعة وأهمية الزواج وخطورة الزنا. وعن قيمة المرأة في الإسلام وشرح حديث: خيركم، خيركم لأهله.

  1. Affluenza, Oliver James[42]:

يجهز من خلاله الدروس عن أمراض القلوب، أسباب الشقاوة، حب الدنيا وحديث الواديين، وتفسير الآية: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.

  1. The science delusion, Rupert Sheldrake[43]

يتطرق له في دروس العقائد: في صفة الوجود وشرح أسماء الله: العليم، الخبير، اللطيف، البصير ... وكذلك في تفسير الآية: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾.

  1. The emperor’s new drug, exploding the Antidepressant Myth, Irving Kirsch[44], and: The heart speaks, Dr. Mimi Guarneri[45]:

في شرح حديث قاتل النفس وأسباب قتل النفس والهموم والغموم وحينما يقرأ في كتاب إحياء علوم الدين عن أمراض وأقسام القلوب...وأهمية الصحة وخطورة العكوف على المخدرات والأدوية الكثيرة في: تداووا تصحوا.

  1. What’s gotten into us, Mckay Jenkins[46], and : Deep nutrition, MD Catherine Shanahan[47]

يرجع إليها في تفسير الآية: "كلوا من الطيبات واعملوا صالحا." وشرح الحديث: "وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟

 

خاتمة

الادماج له أصل متين في القرآن والسنة وعند أولي العلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدمج علوما مختلفة في وقعة واحدة كما أخذ صلى الله عليه وسلم العلوم المختلفة بعين الاعتبار. وهذا فضلا عن أن القرآن والسنة أرشدا إلى كل علم نافع وإن لم يدخلا في تفاصيل كل علم على حدة. والواضح أنه لا بد من العمل في الميدان حتى تنتشر فكرة الادماج لأن الأمة بحاجة إلى كتب تؤلف، وخطب تلقى، ودروس تحضر ومن الضروري أن يكون لدينا موسوعة علمية وأن يكون هنالك تعامل بين الجامعات الإسلامية والمتخصصين وهذا في غاية الأهمية. والحقيقة أني كنت في بداية هذا البحث أفكر في تأسيس جامعة ثقافية عالمية ثم تبين لي أننا لا نحتاج إلى جامعات جديدة لنشر فكرة الإدماج بل علينا أن نوصل هذه الفكرة إلى الجامعات الإسلامية حتى نتمكن من إدماج العلوم المختلفة في العلوم الشرعية. وهذا بالإضافة إلى أنه لا بد من تكوين الأكاديميين والمدرسين في الجامعات ليحضروا دورات مكثفة في التعامل مع العلوم الأخرى والطرق الأمثل لإدماجها في دروسهم ومحاضراتهم. وفي العموم يتوجب عل كل داعية، وطالب علم أو عالم أن يقرأ الكتب قراءة مثقفة ويكون له اطلاعا فكريا واسعا. وفي العموم ستبقى هناك قضايا مهمة يجب الانتباه إليها ودراستها نذكر منها على سبيل المثال: تعامل الفقهاء مع الحقائق التي أثبتتها العلوم، المبادئ الإسلامية التي لا يجوز أن نتجاوزها في عملية الادماج، حاجة الفقيه والمفتي إلى العلوم المختلفة، الدراسة الموضوعية الشاملة للآيات القرآنية المتعلقة بالعلوم المختلفة، الدوافع التي شجعت القدماء إلى كتابة بعض الكتب كابن خلدون، ابن بطوطة، وأصحاب كتب التاريخ إلى غير ذلك من القضايا ذات العلاقة. هذا وفي الختام أستغفر الله وأتوب إليه، هو وليي، عليه توكلت وهو خير الحافظين.

 

الهوامش

 


* الأستاذ الشيخ وم (سليمان) فان آل أستاذ علم اللاهوت بالجامعة الإسلامية روتردام في هولندا.  قدم هذه الورقة في ندوة الأخلاق الإسلامية والتربية التي عقدها مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بجامعة أوكسفورد في بريطانيا أيام 22-24 أبريل 2014.


 

[1]  نسبه ابن أبي الدنيا إلى عيسى عليه السلام في كتاب الزهد، أثر 347.

 [2]ابن منظور. لسان العرب. ج 15، ص 1419.

[3]  الشاطبي، إبراهيم. فتاوى الإمام الشاطبي. تحقيق وتقديم الدكتور محمد أبو الأجفان. الطبعة السابعة. الرياض، المملكة العربية السعودية: مكتبة العبيكان، 2007م.

[4]شمس الدين، عبد الأمير. الفكر التربوي عند ابن خلدون وابن الأزرق. بيروت: الشركة العالمية للكتاب، 1991م، ص 56.

[5] اللهم إلا العلوم المحرمة كالكهانة والسحر والتنجيم.

[6] انظر ما قاله الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود في بحثه شخصية المسلم الذي ألقاه في "مجمع البحوث الإسلامية" الرابعة. كما أشار إليه الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الدين في عصر العلم. الطبعة الثالثة. لبنان: مكتبة وهبة، 2001م، ص 30.

[7] سورة سبأ:46.

[8] سورة الإسراء:36.

[9] أخرجه الإمام أحمد في مسنده، حديث: 8729.

[10] وحجية العرف وشرع من قبلنا مذكورة في كتب أصول الفقه.

[11] الكفوي، أبو البقاء. الكليات. الطبعة الثانية. مؤسسة الرسالة، ص. 163-296، 1413.

[12] سنن أبو داود. حديث 5213.

[13] صحيح البخاري. حديث 2750.

[14] صحيح البخاري.

[15] انظر فكرة حفر الخندق للدكتور راغب السرجاني، http://islamstory.com/ar/%D8%AD%D9%81%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%86%D8%AF%D9%82، آخر زيارة: 02/02/2014، 07:48

[16] صحيح البخاري. حديث: 5573.

[17] كتاب اللباس. باب الفرق.

[18] المصدر السابق.

[19]  انظر صحيح البخاري، حديث: 2004.

[20] مجمع الزوائد - الصفحة أو الرقم: 1/134 رجاله رجال الصحيح.

[21] صحيح البخاري، تحت حديث 338، معلقاً غير مجزوم به، ووصله أبو داود والحاكم كما أشار إليه الحافظ في الفتح.

[22] انظر مستدرك الحاكم. ج 1، ص 177 وصححه ووافقه الذهبي.

[23] ذكره ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه وغيرهم بروايات مختلفة. وقد بوب له النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال: "باب وجوب امتثال ما قاله: شرعاً دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سيبل الرأي."

[24]  كتاب الطهارة، باب تطهير النجاسات، حديث رقم: 492.

[25] الحديث رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم والمعنى للبخاري كما أشار إليه الطيبي رحمه الله.

[26]  البخاري في صحيحه، حديث: 677.

[27] نقلاً مما أورده الدكتور الخالدي في كتابه: تعريف الدارسين بمناهج المفسرين. الطبعة الثانية. دمشق: دار القلم، 2006م، ص 489.

[28] التفسير الكبير. إعداد مكتب تحقيق دار إحياء التراث العربي.الطبعة الرابعة. لبنان: دار إحياء التراث العربي، 2001م، ج 5، ص 274.

[29] الرازي، فخر الدين.  الفراسة. تقديم الدكتور عبد الحميد صالح حمدان. لبنان: عالم الكتب، 2022م، ص 12.

[30]الكرم، عز الدين. الكامل في التاريخ. تحقيق: الشيخ خليل محمود شيخا. لبنان: دار المعرفة، 2002م، م.1، ص 8.

[31] الغزالي، أبو حامد. منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين. تحقيق: الدكتور مصطفى محمود الحلاوي. الطبعة الثالثة. لبنان: دار البشائر الإسلامية، 2001م، ص 56.

الغزالي، أبو حامد. منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين. تحقيق: الدكتور مصطفى محمود الحلاوي. الطبعة الثالثة. لبنان: دار البشائر الإسلامية، 2001م، ص 56.

[32] الشنقيطي، محمد. الضوء المشرق على سلم المنطق للأخضري. تحقيق: عبد الحميد بن محمد الأنصاري. لبنان: دار الكتب العلمية، 2007م، ص 39.  

[33] الشاطبي. الاعتصام. تحقيق الشيخ أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. البحرين: مكتبة التوحيد، 2000م، ج 1، ص 18.

[34] انظر: المحاسبي، الحارث. رسالة المسترشدين. تحقيق الفهامة الشيخ أبي غدة. الطبعة الخامسة. حلب: دار السلام، 1983م، ص 20-25.

[35] أرى أن الذي اختار الآخرة الدائمة على الدنيا الفانية مثقف من الدرجة الأولى: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، ولكني استعملت هذه اللفظة تجاوزا.

[36] أصله من كتاب: متولي، أحمد. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية. القاهرة: دار ابن الجوزي. ص 501-502.

[37] رواه الترمذي برقم: 694.

[38] انظر: فايز، نايف. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. رسالة ماجستير (كما في التفاصيل الآتية)

[39] ISBN: 9781848872271

[40] ISBN : 0-676-97573-9

[41] 978-0-8050-8132-9

[42] سبق الإشارة إليه.

[43] ISBN : 978-1-444-72793-7

[44] ISBN : 9780465022007

[45] ISBN : 139780743296779

[46] ISBN : 9781400068036

[47] ISBN : 10 :0615228380

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق