رضوان رشدي

الدكتور رضوان رشدي*

[ تم تقديم هذا البحث في مؤتمر مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق المنعقد بالدوحة في 23 مارس 2019]

تمهيد

لاشك أن الوضع العام لنظام الجشع المصلحي اقتصادا، والتسلط السياسي على المستعمرات القديمة تجزيئا واستغلالا مع تجذر الأنانية الذاتية في التعامل مع ثروات الأرض، ليشي بتهديد حقيقي للكوكب وأجياله المستقبلية،  وكأن الدفع الفلسفي المعاصر الذي تماهى مع الإعلاء من النزعة الغرائزية للإنسان جنسا وتطورا مع التشكيك النيتشوي للقيم قد جعل فلسفة الأنوار التي أعلت من القيم الإنسانية وجَعْل الإنسان ذاتا يدور الكون عليه، قد أفل وهجها وتوارت خلف صيحات الأقوى المستصغر للضعيف سياسة واقتصادا.

وفي الواقع الإسلامي ذاته، وجدنا النزعة المحاكماتية الطائفية المهددة لكيان الإنسان -وإن كان مسلما- طاغية في الوقت الحاضر مع غياب للعقل وحضور باهت للتأسيس الفقهي المقاصدي الذي بذل فيه العلماء المقاصديون جهدا كبيرا على مر عصور زمنية متطاولة، مما يقتضي مواجهة التهديد القضائي الظاهري بمنظومة شرعية مقاصدية تعلي من قدر الإنسان وحقوقه المشروعة.

والأسئلة الذي تنثال علينا هاهنا:

  • ألا يمكن اعتبار التأسيس الفلسفي الذي طرحه فلاسفة الأنوار كسبينوزا وهيجل وكانط وأوجيست كونت... سندا قويا لإعادة التشكيل القيمي للعقلية الغربية؟
  • ما النواظم القيمية المستخلصة من تلكم الفلسفة الأنوارية لصياغتها مناهج وبرامج تعليمية تؤسس لجيل العقل والقيم الإنسانية؟
  • ما الأسس الفلسفية المعاصرة التي جعلت العقلية الغربية منسلخة عن قيم فلاسفة الأنوار؟
  • أليس من الممكن توجيه نقد وجودي للفلسفة المعاصرة باستصحاب الأسس العلمية الناقضة المهدمة لكيانها، لاسيما مسألة الجينوم وعلاقته بأفول التطورية؟
  • لم لا تطرح مسألة الحفاظ على الإنسان وجودا وعدما في الشريعة الإسلامية لتكون سندا لإعداد ميثاق عالمي إنساني؟
  • ألا يمكن استخلاص القيم الإسلامية الكلية المناهضة للعقلية التجزيئية المحاكماتية المهددة للإنسان وحقوقه الشرعية؟
  • ما النظرة الفلسفية المؤسسة لمقاصد الشريعة بحيث يحدث التقارب المنهجي فيها بين رؤيتها التجريدية وفلسفة الأنوار؟

إنه ما أحوجنا حقيقة إنما هي مسألة ابثعات القيم المتوارية زمنا وإعادة إحيائها من جديد لتكون عناصر تجريدية قيمية تساهم في إصلاح النظام العالمي وإنقاذ الكون من اندراس القيم وصعود النزعات الذاتية وما فيها من نشر كلي للفساد المهدد للكوكب.

 

أولا : أدواء معاصرة تشخيصا وتفكيكا فلسفيا

 

  1. تشخيص نسبي لصور العنف العالمي غربا

إن المتأمل في صفحات القرن الماضي وهذا القرن وما حبل به من مآس يعسر محوها أو نسيانها، ليجد كيف انزاح الإنسان الغربي خاصة من القيم الإنسانية وانساق وراء إمبريالية غزاة بيض اجتاحوا أوطانا لقارة سوداء هادئة، فبدأوا بنهب الأرض واستعمارها واستنزاف خيراتها وقتل معارضيها واستقدام الإنسان الأسود عبدا مهانا مستعبدا مكبلا بأغلال القهر وأصفاد الاسترقاق إلى بلد غير بلده الأصلي ليكون خادما طيعا لهوى الأسياد البيض الذين أتوا به من هناك، حيث " تم تصدير عشرين مليونا منهم نحو القارة الأمريكية. وبما أن متصيدي السود كانوا يحصلون على (عبد) من بين العشرة الذين يتم قتلهم خلال مقاومة اصطيادهم... فإن  النخاسة كلفت أفريقيا ما بين مائة ومائتي مليون من القتلى."[1]

وأمر السود واستعبادهم أرقاء عند أسيادهم البيض أمر هين، إذا ما قورن باجتثاث لون آخر وهو اللون الأحمر الذي لحقت به أكبر إبادة بشرية في التاريخ. فهؤلاء الهنود الحمر أصلاء في الأرض الأمريكية ولم يكونوا دخلاء أبدا، ولكنهم أبيدوا عن آخرهم ليستوطن القادمون البيض الأرض ويستغلوها أبشع استغلال..."حيث تمت إبادة ستين مليونا من بين ثمانين مليونا من الهنود من جراء الأشغال الشاقة والأوبئة  الفتاكة أكثر مما جاءت  عن طريق السلاح".[2]

إن استئساد النزعة الاستعمارية وتضارب المصالح المادية في الغرب ولدا تطاحنا مريرا لم تشهد له الإنسانية مثلا، كنشوب حربين كونيتين كلفتا الإنسانية خسائر بشرية ومادية قل نظيرها، فالحرب العالمية الأولى لم تقم إلا في أوربا، ولم تنشأ إلا حين تطورت النزعة الغربية الاستعمارية لتبلغ خسائر الدول في الحرب العالمية الأولى أكثر من سبع وثلاثين مليون جندي بينهم أكثر من ثمانية ملايين قتيل. ولم يكف العقل الغربي الاستعماري استحصادَ الملايين من الأرواح جراء جشعه وبعده عن إنسانيته، بل إنه جر العالم لحرب كونية أخرى لم تقم إلا في أوربا ثانية بأسباب واهية، وكانت هذه الحرب العالمية الثانية " من الحروب الشموليّة، وأكثرها كُلفة في تاريخ البشرية لاتساع بقعة الحرب وتعدّد مسارح المعارك والجبهات، شارك فيها أكثر من مائة مليون جندي، فكانت أطراف النزاع دولاً عديدة والخسائر في الأرواح بالغة، وقد أزهقت الحرب العالمية الثانية زهاء سبعين مليون نفسٍ بشريةٍ بين عسكري ومدني..". وفي هذه الحرب لم يتوان أصحاب البيت الأبيض من إمطار مدن يابانية بقنابل ذرية أبادت يابانيين أبرياء، إذ"القنابل الذرية الملقاة على (هيروشيما) و(ناغازاكي) خلفت أزيد من مائتي ألف قتيل وحوالي مائة وخمسين ألف جريح في حالات متفاوتة الخطورة."[3].

وبعد تلك المآسي، وكأن البشرية قد دخلت زمن (الأمركة) وهيمنة السوق والتوجس من القيم، كما أشار إلى ذلك سيمون وايل بقوله:" نعرف جيداً أن أمركة أوروبا بعد الحرب، تشكل خطراً بالغا، ونعرف جيداً ما سنفقده لو تحققت هذه الأمركة . فأمركة أوروبا ستقود بلا شك ، إلى أمركة الكرة الأرضية كلها .. وستفقد الإنسانية ماضيها ." [4] وكتب (ميشيل البرت): إن " الأمر المطلق " أو الفعل الضروري بذاته " ، هو إفراغ المسألة الفلسفية من القصدية " الغائية " . هذه هي في النهاية ، الغاية الأخيرة من وحدانية السوق." وتتجلى وحدانية السوق بالوصول إلى عتبات الإمبراطورية وهي : " الخليج العربي" لأنه محاط بأحواض البترول الأغزر في العالم، وسيبقى لعشرات السنين " عصب التنمية الغربية ". فوق هذه العتبات ، تحقق لوحدانية السوق أحدث نصر ، إذ جرى تدمير العراق ، عبر حرب خاضتها الولايات المتحدة بتأثير جماعتي ضغط في الولايات المتحدة دفعتاها لفتح نار المعركة، وقد حددهما ألين بيريغيت بأنهما : اللوبي اليهودي ولوبي رجال الأعمال ."[5]

والسؤال الذي يطرح ذاته هاهنا، هو : هل المحرك لمنطق الهيمنة هذه إنما هو محصور في النزعة النفعية المحضة دون أن تكون مسندة برؤية فلسفية تحركها، أم أن هناك أفكارا لذاك الاستئساد؟

نعم يشير (نيد ليبو ريتشارد) إلى أن منطق الهيمنة وإثبات ذات القوة والاقتدار النفسي عامل حقيقي لنشوب الحروب الطاحنة، والتاريخ الإنساني شاهد على هذه العلة، ففي دراسة قيم القادة والنخب من صناع السياسات. في إسبانيا وفرنسا وألمانيا، كان دافع الهيمنة الإقليمية أو الدولية يتجاوز بكثير موارد الدولة في عهد شارل الخامس، وفيليب الثاني، ولويس الرابع عشر، ونابليون، والقيصر فيلهلم، وهتلر، وتنطبق الحال نفسها على اليابان التي كانت قوة صاعدة خلال النصف الأول من القرن العشرين ." [6] وفضلا عن علة التفوق والاستئساد تأتي علة الانتقام لتكون حافزا كذلك لخوض حروب، ذلك أن الحروب الانتقامية هي أيضا حروب تتعلق بالأفكار. فقد كانت الأطراف البادئة في إحدى عشر من بين اثني عشر حربا انتقامية تعلم أنها في موقف عسكري أضعف من خصومها عند المواجهة المباشرة، لكن هذا لم يمنعها من خوض الحرب، وبالتالي فليس من المستغرب أنها خسرت جميع الحروب باستثناء واحدة، كما فقد مزيدا من الأراضي نتيجة ذلك." [7]

لذلك فإننا نعتقد أن الانزياح من منظومة القيم التي جعلت الإنسان سيدا على الكون لتجعله داخلا رحاب التشييء وطاحونة الإنتاج بدعوى العلم، هو تهديد حقيقي للذات البشرية فضلا عن الكون الذي يعيش فيه، ذلك أنه على الرغم مما ادعوه من أن " العلم وإن كان في تملصه من سيطرة الوصاية الدينية للعصر الوسيط سار ببطء، إلا أنه استمر في السير والتحرر منذ النهضة فاتحا آفاقا جديدة، ولكن صراعات وأزمات جديدة أيضا أثرت بعمق على قيم الإنسان ومكانته وكرامته في العالم الحديث والمعاصر. [8] ف" نظرية كوبرنيك " كانت صدمة مدمرة للنظام اللاهوتي فقد كان اعتقاد اللاهوتيين، لا فقط بالمعنى الفيزيقي الحرفي، لكن بالمعنى المجازي أيضا، أن الكون يدور حول الإنسان ومسكنه الذي هو الأرض، فكان الإنسان هو المركز الفيزيقي للكون، وهو تقريبا مركز الرعاية والاهتمام من الله ... لكن بعد (كوبرنيك) بدأت الشكوك تساور عقول الناس، حتى أكثر الناس تدينا وحماسا للدين." [9]

 

  1. الجذور الفلسفية

إذا نحتنا في عمق الرؤية الفلسفية للإنسان الغربي المعاصر وجدناه مستمسكا بالفلسفة الداروينية المبنية على الصراع وانتخاب الأجناس بعد تناحر شرس بينها،  "ففي التناحر على البقاء بين الكائنات الحية، التي تقطن الأرض وبيان أن هذا التناحر، نتيجة مرهونة على تكاثرها بنسبة رياضية، وفقا لمذهب مالتوس التي يطبقها على عالمي الحيوان والنبات على السواء، ذلك أن ما يذهب به الفناء من الأفراد التي يخلقها كل نوع، أكثر مما يستطيع البقاء عادة، فيقع التناحر بين العضويات، ويستمر أثره في الأحياء، لأثبت بعد ذلك أن كل فرد إذا طرأ عليه أي تحول مفيد، مهما يكن ضئيلا، بحيث يعده لأحوال حياته المتغايرة المعقدة فإنه يصبح من البقاء أوفر حظا، وأعظم نصيبا من بقية الأفراد، فتنتخبه الطبيعة وتخصه بالبقاء."[10] ومن ثم فالرجوع إلى الخلف إنما هو تبيان للأصل الأول الخالي من أسباب القوة والاقتدار، والزمن الآتي هو زمن الصراع الذي به تنبثق جودة الأجناس المنتخبة، لذلك كان دارون يلمح في المستقبل ميادين مفتوحة لبحوث أكثر أهمية سيقوم علم النفس فيها على أسس جديدة، ليسطع الضوء على أصل الإنسان وتاريخه." [11] لاسيما وإن وجود التحول في العالم العضوي، واللاعضوي معا، إنما كان نتيجة سنن طبيعية، وألا سر للمعجزة في شيء من ذلك."[12]

نعم اعتبرت نظرية التطور أقوى محاولة لرد علم الأحياء إلى الفيزياء والكيمياء، أي رد الطبيعة الحية الحيوانية والإنسانية، وما تتسم به من خصائص وملكات إلى القوانين التي تحكم المادة في تحليلها الفيزيائي والكيميائي الأصم." [13]، لكنه فضلا عن جعل الإنسان نسخة متحولة نتيجة امتلاك وسائل الصراع والانتخاب، فإن النظرية قد خرجت من نطاق العلم إلى اتجاه فلسفي إيديولوجي حضر خاصة في تثبيت منطق الهيمنة بخوض الحروب الطاحنة التي بها يصل المجتمع إلى التطور وبقاء الأصلح و" القضاء على الأفراد غير الصالحين، وإبقاء الأفراد الصالحين في الدولة، وقد استخدمت نظريته لتوطيد دعائم الاستعمار ولتبرير التمايز الطبقي على أساس من التفاوت الفطري بين الأفراد والأقوام."[14] وما ذاك إلا بتأجيج الوسيلة الأساسية للانتخاب وهو ديمومة الصراع،  وهو ما يبرر الزعم القائل بتفوق بعض الشعوب والأمم مثل الأنكلوساكسونية والآرية. وهو ما تبلور في الأيديولوجيا النازية مع هتلر الذي طبق الفكر التطوري بصرامة على أفكاره وحاول الاستفادة من قوانين التطور من خلال قواعد الصحة النازية: إبادة المعوقين والمتخلفين عقليا وأفراد الأجناس الدنيا في السلم التراتبي لبني الإنسانية. كذلك نجد الفكر الصهيوني طبق البقاء للأقوى والأصلح من خلال الموقع الدارويني والنبتشوي.[15]

وعلى ذكر النيتشوية، فهي مبنية على التشكيك في منظومة الأخلاق أولا، ومساءلتها نقضا والإتيان على قواعدها أساسا،  فنحن كما يقول نيتشه :" في حاجة ماسة إلى نقد للقيم الأخلاقية، علينا أولا أن نضع قيمة هذه القيم هي ذاتها مرة واحدة موضع سؤال، وهذا من شأنه أن يستوجب معرفة بالشروط والظروف التي تولدت عنها، والتي في كنفها تطورت وتحورت ... الخلاق بوصفها استتباعا، بوصفها عارضا، بوصفها قناعا، بوصفها نفاقا، بوصفها مرضا، بوصفها سوء فهم، ولكن أيضا الأخلاق بما هي سبب، بما هي وسيلة علاج، بما هي منبه، بما هي عائق، بما هي سم." [16]

والسعادة لن تتأتى حقيقة إلا لهؤلاء الأقوياء الذين اتسموا بالقوة وصفاء العرق، إذ أن  " الفارق الرئيس الذي بفضله كان يشعر النبلاء أنهم أناس من مرتبة عليا. صحيح أنهم في غالب الحالات، وربما بعد التفوق في القوة فحسب، إنما أطلقوا على أنفسهم هكذا أسماء بوصفهم الأقوياء والأسياد وأولي الأمر أو بموجب أبرز أمارة على ذلك التفوق ... ولكن أيضا بمقتضى خصلة فريدة في طباعهم. هم يلقبون أنفسهم مثلا الحقانيون وأولهم النبلاء الإغريق." [17] ... وإنما يشعرون تحديدا بأنهم " السعداء" وليس عليهم أن يصنعوا سعادتهم تكلفا وهم يختلسون النظر إلى أعدائهم، وليس عليهم، كما في بعض الأحيان، أن يقنعوا أنفسهم بذلك أو يكذبوا كذابا، ذلك هم لم يكونوا يعرفون بوصفهم أناسا كملوا وبالقوة طفحوا وكانوا بالضرورة فاعلين، كيف يفصلوا السعادة عن الفعل ... وهل كل ذلك إلا بعين الضد من السعادة التي على طبقة العاجزين والمقموعين والمتقرحين الرازحين تحت المشاعر المسمومة والمضمرة العداء الذين لا تأتي السعادة إليهم إلا خدرا وذهولا وسكونا وسلما وسبتا واستجماما للروح ومدا للأعضاء، وباختصار هي لا تأتيهم إلا انفعالا."[18]

ومن ثم فالعاجز الحقود هو من ألد الأعداء حقيقة، فطريقة التقويم النبيلة الكهنوتية يكفيها في عرفه أن يصيبها الخجل متى تعلق الأمر بالحرب... " إن الكهان كما هو معلوم هم أشر الأعداء، ولكن لماذا؟ لأنهم أكثر الناس عجزا. ومن العجز يتولد عندهم الكره، مرعبا وموحشا روحيا ومسموما كأشد ما يكون."[19] لذلك فإن التصور النيتشوي هو مبني على الإعلاء من قدر المتفوق والإزراء بالمستضعفين والابتعاد عن رحمتهم لأنه " ما من خطيئة إلا هذه الخطيئة ... غير من اللازب أن يقطع دابر المتسولين لأن في الجود عليهم من الكدر انتهارهم وحرمانهم... أين تجلى الجنون في الأرض بأشد مما تجلى بين المشفقين؟ بل أي ضرر لحق بالناس أشد من الضرر الناشئ من جنون الرحماء؟ ويل لكل محب ليس في محبته ربوة لا يبلغها إشفاق الرحماء. قال لي الشيطان يوما أن للرب جحيما هو جحيم محبته للناس وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخيرا: لقد مات الإله وما أماته غير رحمته."[20]، بل إن الله في حد ذاته ما هو إلا افتراض ومن ثم فالحقيقة التي تجاوز الحس الظاهر غير كائنة واقعا ... يقول هاهنا على لسان زرادشت :" إن الله افتراض وأنا أريد ألا يذهب بكم الافتراض إلى أبعد مما تفترض إرادتكم المبدعة ... إن الله افتراض وأنا أريد ألا يتجاوز بكم الافتراض حدود التصور، فهل تستطيعون أن تتصوروا إلها؟ فاعرفوا من هذا أن واجبكم هو طلب الحقيقة فلا تطمحوا إلى ما لايبلغه تصور الإنسان وبصره وحسه. أمسكوا بتصوركم كيلا يتجاوز حدود حواسكم."[21] والذي يتجلى واقعا إنما هو الإنسان المتفوق الذي انتخبته الطبيعة من جنس متفوق فغدا آسرا الكون بقوته ... نعم " لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا يسرحون أبصارهم على شاسعات البحار، أما الآن فقد تعلمتم الهتاف باسم الإنسان المتفوق."[22]

لاشك إذن أن سيرورة الفكر الإنساني والزمن وما أعلن عنها في حينها أنها حقيقة علمية أبرزت إلى الوجود مثل تلكم التصورات التي حصرت الوجود الإنساني في الحس المادي ورقيه من طور (القردية) إلى الإنسانية إنما يكون بتجويد الأجناس وصفائها من الاختلاط ليكون الإنسان ذا إرادة القوة والاقتدار ... لكنه غرب " عن هذا الفيلسوف أن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها، ومهما كرت القرون وتعاقبت الأجيال لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات ولا للنبات أن تجتاز حدود مملكة الحيوان ولا للحيوان أن يجتاح مملكة الإنسانية. لقد كان نيتشه من المعتقدين باستحالة الأنواع حين صرخ بلسان زرادشت وهو يخاطب الحشد في الساحة العمومية:" لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى، على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته." ولكنه بالرغم من هذا يصرح بأن هذا النوع القردي وهو الإنسان لم ينسلخ عن أصله فكيف زين له خياله أن في هذا النوع إنسانا فائقا لا يزال كامنا منذ البدء ينتظر قدوم فيلسوف في أواخر القرن التاسع عشر يستجلي هذا الجبار ويبعثه بإرادة جديدة تتسلط لا على الحاضر والمستقبل فحسب بل على ما مر وتوارى أيضا في عاصفات الأحقاب ... [23]

إن الانحسار في الحس والتعامل مع الأشياء وكأنها الحقيقة ذاتها دون التطلع إلى الكوجيطو الديكارتي قد جعل العقل الغربي داخلا سرداب المادة ومنسلخا عن معرفتها والغاية من وجودها، وكأن الوجود هو الظاهرة ذاتها سابقة عن معرفتها  " فإذا كان وجود الظواهر لا ينحل إلى ظاهرة وجود، وإذا كنا لا نستطيع أن نقول شيئا عن الوجود إلا باستشارة ظاهرة الوجود، فإن العلاقة الدقيقة التي تربط بين ظاهرة الوجود وبين وجود الظاهرة ينبغي أن تتقرر قبل كل شيء....فإذا اعتبرنا الوجود ظهورا يمكن تحديده في تصورات لا أنه شرط الانكشاف، فإننا قد فهمنا أولا أن المعرفة لا يمكنها وحدها تفسير الوجود، أعني أن وجود الظاهرة لا يمكن أن يرد إلى ظاهرة الوجود."[24]

لذلك فالواقع عند (سارتر) محصور في الظاهرة التي هي كما تظهر في الواقع دون إدراك قبلي لها، ومن ثم فهو غير متفق مع (باركلي) بقوله :" إن الوجود هو كون الشيء مدركا، أو ما سيفعله هسرل بعد أن قام بالرد الظاهراتي فنعت "النوئيما" بأنها غير واقعية وقال إن " وجودها هو إدراك." مستدلا بأن العدم دليل على أن الوجود الظاهراتي إذا انعدم، انعدم إدراكه لأنه لن يستند إلى موجود صلب، ومن ثم وجود المعرفة لا يمكن أن يقاس بالمعرفة ... إنه ينبغي أن يكون وراء الظاهرة ، ومن ثم فالوعي هو حقيقة: الوجود العارف بما هو كائن لا بما هو معروف. ومعنى هذا أنه يخلق بنا أن ندع أولية المعرفة، إذا شئنا تأسيس هذه المعرفة نفسها."[25]

وخروجا من ثنائية الجوهر والعرض التي قعدها فلاسفة الأنوار وكذا الحكماء المسلمون بالتدقيق في العرض المادي المنبثق عن جوهره، يؤكد سارتر على الوجود الظاهرتي دون النظر إلى تلك الثنائية بقوله :" بل ثم موجود لا ينقسم ولا ينحل وليس جوهرا يحمل صفاته كأنها موجودات أقل، بل موجود هو وجود من كل ناحية."[26] فلا عجب أن يكون الوجود هو الذي يحدد ماهية الشيء إمعانا في جعل العقل مطوقا بظاهر الشيء، ولئلا ينفسح الفكر والشعور والتأمل في المعرفة، بل إن الشعور باللذة في عرفه إنما هو بعد الخضوع لضرورة الواقع.

ثم إن هذه اللذة إنما تم تحديدها في التصور الفرويدي باللذة الحسية الشهوية المرتبطة بالأنا الذي هو مستودع الليبدو، ومن ثم فالغرائز الجنسية لا تكون فعالة إلا داخل الأنا ... وأي صراع بين غرائز الأنا والغريزة الجنسية هو مفض حتما إلى مرض نفسي، لاسيما وإن الأمراض النفسية لا تتأتى إلا حين يطرأ الصراع الغرائزي بين الأنا والغريزة الجنسية.

و المعضلة العويصة أمام التحليل النفسي أنه "لم يمكنا حتى الآن من إثبات وجود أية غرائز أخرى غير الغرائز الشهوانية."[27] التي هي غرائز الحياة عند فرويد ومن ثم فإنها يجب ألا تقابل غرائز الموت كالسادية  ... يقول هاهنا:" لقد كانت النقطة التي بدأنا منها هي المقابلة الواضحة بين غرائز الحياة وغرائز الموت ... ولقد اهتدينا منذ أول الأمر إلى وجود عنصر " السادية" أو القسوة في الغريزة الجنسية، وعرفنا أن هذه " السادية" يمكن أن تستقل بنفسها وأن تصبح شكلا ممن أشكال الانحراف، فتسيطر على الحياة الجنسية ... ولا يمكن أن نذهب إلى الظن بأن هذه " السادية" ليست في الواقع إلا غريزة الموت التي أرغمت، بتأثير الليبدو النرجسي على الخروج من "الأنا" متجهة نحو الموضوع، وهي بذلك تعمل على خدمة الوظيفة الجنسية؟." [28]

من خلال ما تقدم يظهر جليا أن تشكيل العقلية الغربية المعاصرة إنما طرأ ببناء فلسفي ميال نحو القوة والاقتدار والصراع وحصر المعرفة في الحس دون غيره فضلا عن الإعلاء من التأجيج الغرائزي الشهوي الجنسي في مزايلة تامة لقيم الأنوار وفلسفة الإنسان التي تماهت مع الفطرة وصفائها وقوة العقل والقيم والواجب والتناغم مع الصفاء الديني دون اتكاء على نسق كنائسي خرافي.

 

  1. العنف شرقا تشخيصا وامتدادا فلسفيا

بمنهج تشخيصي يبدو لنا أن منطق الترويع والعنف والإرهاب المؤسس على التكفير حاضر في الشرق، وكلما حضر ذاك التوجه في بلد من البلدان فإنه لابد وأن نجد القتل مستشريا فيه، وكأن القتل صنوان للفكر التكفيري المتمدد في تلك البلدان كباكستان وأفغانستان والصومال ونيجيريا والعراق وسوريا والسعودية، ويكفي أن نتذكر أن باكستان قد خسر أكثر من سبعين ألفا من أبنائه في غضون ثلاثة عشر سنة، وآخرها هجوم وحشي نفذه مسلحون على مدرسة تضم أكثر من مائة وثلاثين تلميذا في مدينة (بيشاور) شمال غربي باكستان.[29]

والمقام لا يسمح لسوق فضائع هذا التوجه وإرهابه على المستوى الواقعي، لاسيما وإن بلدانا قد شهدت حركية دائبة لإرهاب جماعي لأبرياء كانوا تحت سيطرة ذانك التوجه تعذيبا وتجويعا وتقتيلا وتفجيرا وحصارا وإحراقا وإنزالا للبراميل المتفجرة على البلدات والقرى الآمنة.

ونحن لا ننفي أن علة الاستبداد السياسي مفضية لتلك المفاسد، غير أن قوة الدفع لذلك الاستبداد إنما هي كامنة في انغراس عقائد في دخائل الإنسان الذي تشربها، فغدت سلوكيات واقعية تنفي المخالف وتستأصله، لاسيما وإن ثنائية الحق والباطل راجحة عند هؤلاء على ثنائية الخطأ والصواب.

وإذا شئنا أن نلامس الأسس العقدية والفكرية الكلية لهذا التوجه التكفيري فإن المقاربة التاريخية قد تعيننا في إيضاح ماهية هذا التوجه، لاسيما وإن المرتكزات المعتمدة لدى التوجه (الإمامي) وكذا (الجهادي) إنما هي المرتكزات التي اعتمدتها طائفة الخوارج في التوجه إلى الآخر تقاضيا ومحاكمة فضلا عن إظهار تعبد سطحي خال من المعنى على المستوى الشخصي. 

وحيث إن هؤلاء لم يتمرسوا بالقواعد الأساسية لفهم النصوص الشرعية فإنهم مالوا نحو التعامل مع النص تعاملا ظاهريا سطحيا حرفيا سرى في مجال الفقه والعقائد، إذ غالبهم ينتهج التجسيم والحشو للذات الإلهية فضلا عن استنباط أحكام غريبة عن القواعد العلمية الكبرى التي أسسها أرباب المذاهب.

وفضلا عن السطحية الحرفية في فهم النصوص، فإن جوهر هذا الفكر الخارجي إنما هو مقاضاة الآخر ووضع الفعل الإنساني على بساط المحاكمة وفق رؤيتهم للأشياء، وكأن ما اعتقدوه قطعيا وهو ظني نسبي أصبح معيارا لمقاضاة الآخر ومحاكمته... لذلك فالألفاظ المتداولة عندهم يندرج غالبها في هذا الإطار، كتردادهم بأن فلانا ضال مضل مبتدع كافر... وكلها تؤدي بالضرورة لقناعة استئصالية للمخالف واستباحة لحقه في التعبير والوجود الفكري. 

ومن نظر في قضايا الاعتقاد الأصلية وجدها قد ثبتت بأدلة قطعية الدلالة والثبوت، وهي أصول الاعتقاد وليست محتاجة لأحاديث الآحاد، وهذه هي أصل الدعوة التي كانت تصل إلى البلدان والنواحي بطريق الاستفاضة والتواتر...[30]

وحيث إن صاحب الشريعة إنما هو النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يقر به مسلم أن الدين اكتمل في حياته، ولن يزاد فيه من قبل أي كان، وما طرأ بعد موته، لن يؤسس عقيدة أخرى مصاحبة للعقيدة الأم التي انبثقت من القرآن وسنته قولا أو فعلا أو تقريرا متواترا ... لكن الذي طرأ إنما هو بزوغ عقائد أقرها التاريخ لا النص القرآني أو الحديث المتواتر ... ومن ثم فهناك خلل منهجي في استصحاب حوادث التاريخ لتأسيس عقائد.

وحين يؤسس المرء صرحا عقديا متساوقا مع ميولاته الوجدانية، لابد وأن يستدعي نصوصا نقلية مسوغة لما يعتقده بداهة، وكأن الصرح العقدي يبدو شرعيا باستدعاء تلك النصوص واستحضارها، بل إنها الأس الحقيقي لاستمالة الآخر ودعوته لما يعتقده.

ففيما يخص المذهب العقدي الشيعي واستقراء للمصادر المعتمدة التي بُني عليها صرحه كأمالي الصدوق وأصول الكافي وتقريب المعارف للحلبي وغيرها... يلفي أن جل عقائدهم إنما هي مستقاة مما طرأ لآل البيت من محن، لاسيما مقتل الإمام الحسين، فكان التاريخ هاهنا سيدا على فعال الناس من بعد، وأضحت العقائد مؤسسة على فعل تاريخي محض، نُظر إليه قدرا مقدورا، وأضحت الحوادث التاريخية دينا، وارتقى الشخص إلى منزلة هي أعلى من النص القطعي، مع العلم أن البداهة تقول بأن مصدر العقائد إنما هي نصوص قطعية دلالة وثبوتا.[31]

وستتأجج المسألة حين تجعل الإمام عليا خليفة شرعيا وحيدا وأولا، ظُلم باستخلاف أبي بكر في سقيفة بني ساعدة واستخلاف عمر بعده ... وقد تتخذ مسارا تصاعديا حين تُقَيد الأمة الشاهدة على الأمم بسلسلة وراثية تدخل في إصرها وغلها اضطرارا بنصوص دينية نسبية خالية من القطعية دلالة وثبوتا.

وإنني أتفق نسبيا مع بعض القواعد التي طرحها (العسكري) في معالم المدرستين حين قال:" وأما السنة التي رويت لنا سيرة وحديثا في روايات كثيرة، فإن الله لم يحفظها من التحريف، كما يتضح ذلك جليا في اختلاف الروايات النبوية التي بأيدي جميع المسلمين اليوم، ولتعارض بعضها مع بعض. وأدى الاختلاف في الحديث الشريف إلى أن يهتم بعض العلماء بمعالجته، وألفوا كتبا مثال: تأويل مختلف الحديث، وبيان مشكل الحديث، وبيان مشكل الآثار، ومن جراء اختلاف الأحاديث، اختلف المسلمون في فهم القرآن وتشتت كلمتهم أبد الدهر... من كل ما ذكرنا يظهر جليا أن المسلمين في هذا اليوم وبعد كل ما مر على الإسلام من تيارات فكرية، بحاجة شديدة إلى دراسات مستفيضة لأقوال الفرق الإسلامية وتمحيص ما لديها، خلافا لما يراه بعض المسلمين الغيارى الذين يرون السكوت عن كل ذلك أولى، حفظا لوحدة المسلمين."[32] لكنه حين أراد أن يثبت ولاية إمامة علي وأبنائه أو وصيته، لم تكن النصوص القرآنية معتمدا خالصا صريحا لما يعتقده، مما جعل الاعتضاد لإيضاح معاني النصوص لن يكون إلا بالاستناد على الروايات الحديثية التي نظر إليها نظرة المرتاب آنفا. ففي ولاية علي في القرآن، يقول: نصت الأحاديث السابقة على ولاية علي على المؤمنين بعد رسول الله، وهذا بعينه ما عنته الآية الكريمة :" إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون." [33] قال المؤلف : توهم من قال ذلك، أي من نفى أن التنصيص هاهنا ليس لواحد بل إنه موجه لجمع  ـ  فإن الذي لا يجوز إنما هو استعمال اللفظ المفرد وإرادة الجمع، أما العكس فجائز وشائع في المحاورات..[34]

   وحين أراد أن يستدل على أن أولي الأمر هم علي والأئمة من ولده، قال :" أثبتت الروايات المتضافرة المتواترة السابقة أن عليا هو مولى المؤمنين، وولي أمره بعد رسول الله ص، كما أنها تفسر المراد من أولي الأمر في الآية الكريمة :" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم."[35] وهكذا فانتزاع نص قرآني واحد من سياقه واعتصاره وتجميع نصوص حديثية لتسويغ عقيدة، مع التسليم أن هناك نصوصا حديثية طالها الوضع والافتئات إنما هو يدل على مغمز في تلك العقيدة.

وحيث إن القرآن لم يتناول التنصيص على أبناء علي رضي الله عنه تصريحا أو تلميحا أو تلويحا، فإن المعتمد إنما هو اعتصار نصوص ظنية وسوق أحاديث مشكوك في صحتها سندا... والذي يهمني هاهنا هو أن المذهب العقدي إنما هو مبني على المفاصلة وهي اعتماد المذهب على التعدي في علاقته بالآخر لا اللزوم، بحيث إنه يفرض على الأمة تبني ما أسسه من عقائد، وفي حالة الحياد أو الرفض ينعت المخالف بالكفر والحكم عليه بالردة وما يستوجب ذلك من إبعاد وتعذيب وقتل وما شاكل...والمذهب العقدي الشيعي عند التحقيق حابل بنصوص المفارقة الحدية التي تتوجه إلى المعترض بالتكفير والشرك إذا لم يتناغم معه في أصوله، وهناك نصوص عدة سيقت لتكفير الصحابة، لاسيما أبي بكر وعمر باعتبارهما ممن سبقا عليا رضي الله عنه في الولاية دون استحقاق، يقول (الحلبي) شارحا خطبة علي بعد قتل عثمان حينما قال :" وقد أهلك الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمن ما كانوا، ومات هامان، وهلك فرعون، وقتل عثمان، ألا وإن بليتكم قد عادت كيوم بعث الله فيكم نبيكم." يقول: فكنى عن الأول بهامان، وعن الثاني بفرعون، وصرح بذكر عثمان لارتفاع التقية عنه في أمره.[36] ومن تلك النصوص الداعمة للتكفير، ما نسب لعلي قوله في خطبة الوسيلة:" ولئن تقمصها دوني الأشقيان، ونازعاني فيما ليس لهما بحق وهما يعلمان، فركباها ضلالة واعتقادها جهالة، فلبئس ما عليه وردا." [37] وفي كتاب الإيمان والكفر، يسوق (الكليني) حديثا منسوبا لأبي جعفر يقول فيه :" إن عليا صلوات الله عليه باب فتحه الله، من دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا." [38]

ولا ننس أن الكفر والشرك أعلى رتبة للاتهام التي تفضي إلى إحلال الدم والقتل، مما يدل على المزايلة والمفاصلة الكلية وما يترتب عنهما من مفاسد التشظي والتمزيق لعرى الأمة الموحدة، وهذا التكفير يتعدى إلى سلوكيات يظن صاحبها أنها يسيرة فتأخذ حمولة الكفر، كمن اعتقد في عرفه تفضيل أبي بكر الصديق على علي، فيتوجب آنذاك وسمه بالكفر استنادا على نص منسوب للنبي صلى الله عّليه وسلم:" من فضل أحدا من أصحابي على علي فقد كفر." [39]  

لاشك إذن أن الصرح العلمي للتشيع إنما بني على أنقاض أمور طرأت في تاريخ الأمة تستوجب الكشف عنها لمعالجة الخلل الذي طرأ في تلك اللحظات، ذلك أن استصحاب الدراسة التاريخية للوضع السياسي الذي عاشه أصحاب رسول الله فترة الخلافة الراشدة، ثم كيف اعوج النظام السياسي من شورى جامعة إلى تسلط قبَلي ممتد عن طريق عصبية الدم، ضرورة علمية لتنحسم مأساة إخضاع الأمة وتقييدها بنصوص التوريث السياسي الظنية.

وفي التوجه السلفي أرجعنا علة التكفير عنده لمنطق التاريخ دون النص، حيث إن البداية كانت مع مسألة خلق القرآن، وهي مسألة متهافتة عند التحقيق، لأنها ليست أصلا من أصول الدين كما قال ابن قتيبة في كتابه "الاختلاف في اللفظ" بعد أن استهل مقدمته ببيان مكانة العلماء قبل المحنة وما طرأ لهم بعدها، يقول هاهنا :" لا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا، ولا يتضع فيه إلا من وضعوا، ولا تسير الركبان إلا بذكر من ذكروا، إلى أن كادهم الشيطان بمسألة لم يجعلها الله تعالى أصلا في الدين ولا فرعا، في جهلها سعة، وفي العلم بها فضيلة ... فنمى شرها، وعظم شأنها، حتى فرقت جماعته، وشتت كلمتهم، ووهنت أمرهم، وأشمتت حاسديهم، وكفت عدوهم مؤنتهم بألسنتهم وعلى أيديهم، فهو دائب يضحك منهم، ويستهزئ بهم، حين رأى بعضهم يكفر بعضا، وبعضهم يلعن بعضا،... وقد بلي بالفريقين المستبصر المسترشد، يعني به: الواقف الشاك، وبإعناتهم وإغلاظهم لمن خالفهم، وإكفاره وإكفار من شك في كفره."[40] وضبطا لامتدادات هذه المسألة والغلو الذي طرأ فيها وجدنا علماء قرروا فيها قواعد عاصمة من زيغ غلاة الحنابلة، كالعز بن عبد السلام حين قال:" القرآن كلام الله صفة من صفاته، قديم بقدمه، ليس بحروف ولا أصوات، ومن زعم أن الوصف القديم هو عين أصوات القارئين، وكتابة الكاتبين، فقد ألحد في الدين، وخالف إجماع المسلمين، بل إجماع العقلاء من غير أهل الدين، ولا يحل للعلماء كتمان الحق، ولا ترك البدع سارية في المسلمين، ويجب على ولاة الأمر إعانة العلماء المنزهين الموحدين، وقمع المبتدعة المشبهين المجسمين."[41] وهو يقصد المشبهة الذين ادعوا مناصرة الإمام أحمد بحمل الصفات الإلهية محمل الحس، فسقطوا في تشبيه الذات الإلهية بغيرها من الذوات مدعين الاستواء جلوسا، وكلامه سبحانه تلفظا بصوت وأضراس ولهوات، فكان بذلك انفتاح الباب على مصراعيه لعلة عقدية مازالت ممتدة إلى الآن وهي علة التشبيه والتجسيم. ويؤكد على سقوط بعض الحنابلة في علة التجسيم إمام حنبلي وهو ابن الجوزي في كتابه دفع شُبه التشبيه بأكف التنزيه حيث يقول:" ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي وابن الزاغوني، فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات، وعينين وفما ولهوات وأضراسا وأضواء لوجهه هي السبحات ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين. وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس، وقالوا: يجوز أن يمس ويمس، ويدني العبد من ذاته، وقال بعضهم: ويتنفس. ثم يرضون العوام بقولهم: لا كما يعقل."[42]

ومن أمثلة السقوط في علة التجسيم ما ساقة عبد الله ابن الإمام أحمد من نصوص في كتابه السنة تحمل بذور الحشو والتجسيم. [43]

  وخلافا للتوجه الشيعي الذي سلم به جمهرة الشيعة كلهم وأيقنوا بنصوصه الظنية إيقانا تاما واستسلموا لسطوة النصوص التي لا تعضدها الآيات القرآنية، وجدنا علماء سنة ينتقدون ما ذهب إليه غلاة الحنابلة من الحشو والتجسيم.[44]

وفي المفاصلة في المذهب العقدي السلفي وجدنا نصوصا عدة وردت في كتاب السنة لابن الإمام أحمد بن حنبل تسم المخالف بالكفر في حالة ما إذا اعتقد اعتقادا مخالفا لما دأب عليه المشبهة، بل إن النصوص تنضح باتهام المعترض بأشنع الأوصاف ومحاكمته بالقتل، مع العلم أن مسألة خلق القرآن لم تعضد بنصوص في القرآن، ولم يرد فيها حكم في كتاب الله. وخوفا من التطويل سأسوق بعضا من نصوص المفاصلة لمعرفة مفاسد الاختلاف العقدي وما يجلبه على الأمة من تمزيق. يقول هاهنا: " حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا زهير بن نعيم السجستاني البابي ثقة، سمعت سلام بن أبي مطيع يقول: الجهمية كفار لا يصلى خلفهم."[45]

حدثني أحمد بن سعيد أبو جعفر الدرامي، سمعت أبي سمعت خارجة يقول: الجهمية كفار بلغوا نساءهم أنهم طوالق، وأنهن لا يحللن لأزواجهن، لا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، ثم تلا(طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) إلى قوله:( الرحمن على العرش استوى) فهل يكون الاستواء إلا بجلوس.[46]

وعن سفيان بن عيينة، قال: من قال القرآن مخلوق كان يحتاج أن يصلب على ذباب يعني جبل... وقيل لوكيع في ذبائح الجهمية قال: لا تؤكل هم مرتدون. و"سألت معتمر بن سليمان فقلت يا أبا محمد : إمام لقوم يقول القرآن مخلوق أصلي خلفه، قال ينبغي أن تضرب عنقه.[47] وعن عبد الرحمن بن مهدي : أنا لا أرى أن أستتيب الجهمية. وعنه: لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد من الجهمية إلا سألته عن القرآن فإن قال مخلوق ضربت رأسه ورميت به في الماء."[48] "عن المسعودي القاضي سمعت هارون يقول: بلغني أن بشرا المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله علي إن أظفرني به إلا قتلته قتلة ما قتلتها أحدا قط."[49]

تلك نصوص تجعل متبعي المذهب لا يؤمنون بتقبل المخالف لهم عقديا، إذ يكفي أن يؤاخذ الفرد بشبهة "يزعم" حتى تقام المحاكم في حقه وتنصب المقاصل لقتله، وهو إرهاب حقيقي استشرى مع التوجه الجهادي الذي يتناغم مع أصول التشبيه والتجسيم. والواقع يدل على سهولة الحكم على الناس بالردة والتكفير من قبل (السلفية الجهادية) والإبداع في التمثيل بالجثث وإحراقها باستدعاء فتاوى النسق الحنبلي التاريخاني، مما يستلزم من قبلنا التأكيد على صحة طرحنا في التوجه إلى عقائد التاريخ والنحت فيها عموديا لبيان اهتزازها وتهالكها لاسيما وهي مناقضة لما عليه جمهرة المسلمين من صفاء عقدي مرتبط بأصول إيمانية مرتبطة بعمل صالح مستتبع.

 

ثانيا: نحو كلمة سواء

 

2-1: رؤية إسلامية غائية مقاصدية

إن المتأمل في صنيع أناس المقاصد يلفي أن الغاية من وراء فعلهم إنما هو الاستقراء واستجماع الأفراد الجزئية وصولا إلى قواعد كلية جامعة، إذ لم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص ؛ بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعموميات والمطلقات والمقيدات والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة وواقع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه"[50] وذلك أن الفروع الفقهية يعسر استقصاؤها والإحاطة بها على وجه التفصيل، فكان لزاما على العلماء تمهيد قواعد واستخراج أصول تتنظم مجموعة أحكام في علقها، فاستفرغوا جمام الذهن في استقراء كلي للنصوص الشرعية وإجماع الفقهاء، تيسيرا على المفتي إذا لم يهتد إلى وجه الارتباط بين الفرع وأداته[51]…يقول الزركشي فيً المنثور في القواعد:" ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة هو أوعى لحفظها وأدعى لضبطها وهي إحدى حكم العدد التي وضع لجلها."[52]

ثم إنهم لاحظوا أن الغاية والقصد التي من أجلها وضعت تلك الشريعة في كلياتها إنما هي تحصيل مصالح الإنسان وإسعاده في الدنيا والاخرة، وكأن المقاصد الشرعية تسعى إلى تحقيق الغاية من الوجود الإنساني وهو أن يكون حرا محققا لمبدأ الاستخلاف المبني على الكرامة وسيادة الإنسان على الكون فضلا عن تحقيق ذاته وصلاحها ... يقول الطاهر ابن عاشور :" واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد."[53]  

وحيث إن المنهج البنائي القرآني المرتبط بتشكيل الذات الإنسانية عندنا راجح عن المنهج القضائي المرتبط بالشريعة[54] فإننا رأينا أن المقاصد البنائية للقرآن توضح بجلاء كيف أن الحفاظ على الإنسان مقصد كبير سواء على مستوى الفرد ذاته أو الدولة والمجتمع، يقول الطاهر بن عاشور:" إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم، قال تعالى:" وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ. (النحل: (89فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية والجماعية والعمرانية، فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر.

وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع."[55]

وهكذا فالحفاظ على إنسانية الإنسان ذاتا ومجتمعا ودولة وجودا وعدما مقصد أساسي في التصور الإسلامي، ونقصد بإنسانية الإنسان ماهيته التي بها كان إنسانا ولم يكن شيئا آخر، فالمقادير الكمية والكيفية التي خلقه الله تعالى عليها شكلت منه كائنا مخالفا لكل ما سواه، وهي مقادير تحمل معنى العموم إذ هي موزعة بين جميع الإنسان، فمعنى الإنسانية إذن يحمل بعدا جماعيا يتجاوز الإنسان الفرد إلى الإنسان النوع، واختلال تلك الماهية باختلال مقاديرها يفضي إلى اضطراب في حقيقة هذه الإنسانية في بعدها الفردي وبعدها الجماعي على حد سواء... وحفظ إنسانية الإنسان إنما يكون بحفظ مقوماتها التي تشكل حقيقتها، وهذه المقومات هي في معرض تعددها تجتمع عند ما يكون به الإنسان إنسانا في بعديه المادي والروحي على حد سواء، وهي في تفصيلها قد تتلخص في أربع مقومات أساسية هي الفطرة متمثلة في عناصر التكوين الإنساني ماديا ومعنويا، وغائية الحياة التي تشعر الإنسان بحقيقة حياته وقيمة وجوده والإحساس بالكرامة والعزة الذي بدونه يكون الذل والمهانة والحقارة، والحرية التي تثمر الشعور بالذات وتدفع إلى الفعل. فأيما مقوم من هذه المقومات انهدم في الكيان الإنساني يكون قد انهدم بانهدامه جزء من إنسانيته، فإذا ما انهدمت جميعا تلاشى المعنى الحقيقي للإنسانية وانهدم ما يترتب عليها من تكاليف."[56]

لذلك فالإحسان إلى الناس شرعا هو مبني على جلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم، يقول العز بن عبد السلام:" الإحسان إلى الناس إما بجلب مصلحة أو درء مفسدة، أو بهما، وكذلك إحسانك إلى نفسك." [57]بل إن الدولة في حد ذاتها إنما هي وسيلة لتحقيق تلكم المصالح، يقول هاهنا:" وبالجملة فالولايات كلها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحمل الشهادات وأداؤها وسماعها والحكم بها، كل ذلك وسيلة إلى جلب مصلحته المبنية عليه أو درء المفسدة الناشئة عنه .... والإساءة إلى الناس إما بجلب مفسدة أو دفع مصلحة أو بهما، ولا فرق في ذلك بين الرعاة والرعايا.." [58] لذلك كان اختيار الأنسب للتسيير السياسي للدولة ضرورة شرعية وقصد كلي عند العز بن عبد السلام، ذلك أن الشارع :"  نهى عن الولايات من لا يقوم بإتمامها من جلب المصالح ودفع المفاسد، وإنما نهي عن الولايات في حق الضعفة مع ما فيها من الإحسان بجلب المصالح ودرء المفاسد لما تشتمل عليه من مفاسد الإعجاب والكبر والتحامل على العداء والبغضاء ..."[59]

وحيث إن الشرعية الدستورية قد خفت وهجها لدى جمهرة عديدة من الفقهاء، فإننا لاحظنا أن بعض الفلاسفة المسلمين قد نقبوا في التراث اليوناني لمعرفة أصول الحكم وقواعد التسيير السياسي فضلا عن الشرعية السياسية التي فقدت بقوة السيف والعصبة. من هؤلاء: فيلسوف قرطبة أبو الوليد بن رشد حين اختصر جمهورية أفلاطون بطلب من الأمير أبي يحيى، فكان كتابه: الضروري في السياسة، وهو الكتاب الذي جر عليه نكبته، لأنه لامس أصولا ما كان لحكام الأندلس حينها أن يستسيغوها. فابن رشد لم يحاكم ولم تصادر كتبه ولم تحرق بسبب " الدين" الذي اتخذه خصومه غطاء، ظلما وعدوانا، كما جرت بذلك عادة المستبدين وسدنتهم، وإنما حوكم بسبب هذا الكتاب الذي أدان فيه الاستبداد بدون هوادة.[60]

ومن صور إدانة ابن رشد لتسلط هؤلاء: مقارنته بين المدينة الإمامية المبنية على قيم الحرية والعدل والإنصاف وبين مدينة الغلبة المؤسسة على الاستبداد والتسلط ... يقول هاهنا:" وليس الأمر كذلك في مدينة الغلبة، إذ لا يطلب السادة فيها للعامة غرضا، وإنما يطلبون أغراض أنفسهم وحسب، ولهذا فالتشابه الذي بين المدن الإمامية ومدن الغلبة إنما كثيرا ما يكون في تحول أجزاء الإمامية الموجودة في هذه المدن إلى طبقة غالبة تزيف من مقصدها الإمامي، كما هو الحال في الأجزاء الإمامية الموجودة في المدن الحاضرة في أيامنا هذه." [61]   ثم هو يرجع مسألة التسيير السياسي إلى النزعة الأخلاقية واختلاف تشرب الناس للقيم بقوله:" وإنما كانت هذه السياسات متباينة ومتعددة لتباين أخلاق النفس. ولهذا يلزم ضرورة أن تكون دالة على أخلاق النفس، ويكون السبب في كونها على هذا التعدد ليس شيئا غير تعدد النفوس لأن الجزء الغضبي هو الذي يرغب في الكرامة، فإذا زاد على ذلك صار غلبة. وأما حب اللذات واليسار فهو ضرورة من الجزء الشهواني. وأما المدينة الجماعية والسبب في وجودها، فهو اختلاف أخلاق النفس، وما طبع عليه إنسان من النزوع نحو خلق من هذه الأخلاق." [62]  ومن ثم تتحول السياسة بتحول الأخلاق كما طرأ في العهد الراشدي وما استتبع بعد ذلك من حكم الغلبة والتسيد، وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحول السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية، من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية. ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر." [63]

ومن منهج وصفي تشخيصي نجد ابن رشد يؤسس للحكم الراشد بقواعد نطرح بعضها اختصارا، من بينها أن السياسة علم تقتضي تخصصا ودراية بأصولها وهي مندرجة ضمن العلم المدني ويضم المعارف التي من شأنها أن يعلمها، والمقصود الأول منها هو العمل، وهي جزءان: الأول هو " علم الأخلاق" وموضوعه تدبير النفس بهدف الحصول على كمالاتها، والثاني موضوعه تدبير المدينة بهدف الحصول على كمالاتها، وهو علم السياسة.[64]

وفي ديدن السياسة يقرر ابن رشد أن تكون النساء فيها مثلهن مثل الرجال، بقوله ابن رشد:" قلت إن للنساء من جهة أنهن والرجال نوع واحد في الغاية الإنسانية فإنهن بالضرورة يشتركن وإياهم فيها وإن اختلفن عنهم بعض الاختلاف ... وأما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرها فذلك بين من حال ساكني البراري وأهل الثغور. ومثل هذا ما جبلت عليه بعض من النساء من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة."[65]

والمدينة الجماعية أو الديمقراطية هي التي يستقل أهلها بأنفسهم ويديرون شؤونهم حسب ما يقرره كبراؤهم ورؤساء بيوتهم .." بين أن البيت في هذه المدينة هو المقصد الأول، والمدينة إنما هي من أجله، ولذلك كانت المدينة أسروية في معناها الكامل ... ولعل أغلب هذه المدن الموجودة اليوم هي جماعية. والرجل الذي هو فيها سيد حقا هو من كانت له قدرة تدبير، بها يمكن كل واحد من بلوغ شهوته ويحفظها له. وهذه المدينة هي التي ترى العامة فيها أنها أحق بالحرية، لأن كل واحد منهم فيها يعتقد ببادئ الرأي، أنه أحق بأن يكون حرا." [66]

لاشك إذن أن تأثير ابن رشد على تشكيل العقل المدني الإسلامي كان كبيرا، بل إن التأثير سيمتد إلى العقل الغربي، وذاك ما تنضح به أقاويل فلاسفة الأنوار خاصة، يقول الجابري:" إن إلحاح فيلسوفنا على الدور الرئيسي الذي للأوليات البديهية في عملية المعرفة، وأيضا في القول بخلود العقل الهيولاني كعقل للنوع الإنساني، إلحاح لا نملك معه إلا أن نتذكر نظرية ديكارت في الأفكار الفطرية. كما أن ربطه الاتصال والسعادة القصوى بالمعرفة بحيث نقترب من الاتصال بمقدار اتساع معارفنا أمر يذكر بل يستبق مباشرة نظرية سبينوزا في الموضوع. أما إذا استحضرنا – في إطار هذه المقارنة- ذلك الفصل الذي أقامه ابن رشد بين الفلسفة، أي العلم، وبين الدين، فإننا لا نملك إلا أن نتذكر الفصل الذي أقامه " كانت" بين العلم والأخلاق ... خصوصا إذا عرفنا أن اسم ابن رشد قد بقي حاضرا في الأوساط الفلسفية الأوربية إلى القرن الثامن عشر وأنه قد تردد مرارا في المراسلات التي جرت بين كانت وهردر.[67]

وهنا يتبين لنا بجلاء تناغم المعرفة القيمية مع السلطة السياسية الشرعية في الفلسفة الإسلامية بحيث إنه لا تناقض بين المعرفة الدينية الفردية وتجسيدها من قبل السلطة السياسية الشرعية التي مهمتها تنزيل العدالة وتجسيد العدل والإحسان واقعا، وذاك ما يؤكده أحمد داود أوغلو بقوله:" يعتبر مفهوم العدالة مصطلحا رئيسيا يدل بوضوح على الرسالة الجوهرية للدولة الإسلامية، فالهدف من الدولة هو تحقيق العدالة باسم الله على الأرض. ويرى بعض الفقهاء المسلمين أن العدالة أكثر أهمية للدولة من كون مجتمعها مجتمعا مسلما. ففكرة العدالة فكرة جوهرية في تبرير السلطة السياسية.  ... وهناك صلة نظرية بين تدبير الخالق الواحد" والمدينة الفاضلة: في فلسفة ابن باجة السياسية، وتكشف هذه الصلة عن هذا التفاعل الوثيق بين كمال الفرد كخليفة لله والحياة الاجتماعية السياسية."[68] لذلك فانتفاء الصراع القيمي السياسي مبدأ حقيقي عند المفكرين، في حين الفصل بينهما فصل بين التجريد القيمي والتجسيد السياسي، لاسيما وإن " المصدر المعرفي يمثل في علاقته بالإطار السياسي/القيمي محور هذه القضايا المتصارعة. وفي حقيقة الأمر فإن المصدر المتصارع هو الاختلاف بين معنى الحقيقة في نظرية المعرفة الغربية المعتمدة على تجزئة الحقيقة، مما يؤدي إلى علمنة المعرفة من ناحية، ومعناها طبقا لوحدة الحقيقة في نظرية المعرفة الإسلامية  التي تعود إلى " الحق" العليم" سبحانه وتعالى كما ورد في القرآن."[69]

وكلما كان التضاد بين التصور التجريدي الأخلاقي وتنزيلاته السياسية الواقعية كلما كان منطق القوة والإخضاع حاضرا و"يعد دور مكيافلي أبرز دور في إعادة اكتشاف تلك المفاهيم، لأنه بلور مفهوم القوة السياسية كعملية مستقلة بذاتها ليس لها أي علاقة إطلاقا بأي شرعية أو تبرير غير سياسي، ولكنها تتصل بأصل فكرة القوة والغرض منها فقط. وأصبح الاتجاه المكيافلي هو السائد في الحقبة الحديثة بالنسبة لمفهوم القوة السياسية، وأصبح أساسا للتبريرات القائمة على مبدأ الوحدة أو التعدد لتبرير الدولة العلمانية، على الرغم من أن بعض الاتجاهات الأخرى حاولت الجمع بين القيم والقوة مثل " سبينوزا" الذي ربط الوجود كله بالرب أو روسو الذي ربط بين معنى القوة السياسية والدلالات الأخلاقية."[70]

2-2: رؤية تنويرية إنسانية متساوقة مع قيم إسلامية

 حيث إن علة الاستبداد كانت متجذرة في أوروبا، بتسلط نظم موناركية مآزرة بأنساق لاهوتية خادمة لتسلطهم وتسيدهم فإن العقل الغربي سيتم تشكيله من قبل فلاسفة أعلنوا الارتكاز على الصفاء الديني المزايل للأعراف الدينية المؤسسة من قبل القساوسة والمجمعات الكنسية، وفي هذا الإطار نجد (جون لوك) مقعدا أصول الحكم الرشيد، وكأنه متناغم مع الطرح الرشدي في الضروري في السياسة، كإعلانه أن "قيود الاستبداد وإن كانت مستحكمة فإنها واهية، و ليس يغني في تقييد المبصرين الذين احتفظوا بروية كافية للتحقق من أن السلاسل لباس خشن مهما بالغ أصحابها في صقلها وطلائها.... وأنا لا أجد الكتاب المقدس أو دليل العقل ينصان على ذلك، ومع هذا فهؤلاء الناس يريدون إقناعنا بأن العناية الإلهية قد أخضعتنا لإرادة الحاكم المطلقة." [71] لاسيما إذا اكتسب شرعيته انطلاقا من توريث سياسي ضارب لمبدأ المساواة ...إذ " ليس ثمة سنة طبيعية أو شريعة إلهية تنص على الوريث الشرعي في كل حال من الأحوال التي قد تنشأ، لذلك استحال تعيين صاحب الحق بالخلافة وبتولي السلطة تعيينا ثابتا...و يعتبر " هوكر" الحصيف أن هذه المساواة بين البشر من الأمور البديهية التي لا يتطرق إليها شك. ولذلك يجعلها الأساس الذي تقوم عليه فريضة التحاب بين البشر، وهي فريضة تبنى عليها واجبات الواحد منهم نحو الآخر ويستنبط منها قواعد العدالة والمحبة الكبرى. "[72] ومن ثم فالقيم الأخلاقية لب البناء الحقيقي للدولة لاسيما قيمة المساواة، لذلك نجد (لوك) واضعا قواعد قانونية في الحفاظ على إنسانية الإنسان بألا تهدر كرامته أو تسلب حقوقه في تناغم حقيقي مع علماء المقاصد المسلمين إذ إن "العقل يعلم البشر جميعا لو استشاروه أنهم جميعا متساوون وأحرار، فينبغي ألا يوقع أحد منهم ضررا بحياة صاحبه أو صحته أو حريته أو ممتلكاته لأن خالق البشر كافة صانع واحد قدير على كل شيء لا تحد حكمته وهم عبيد لرب واحد عظيم بثهم في الأرض بإرادته لكي يقوموا على شؤونه لا شؤونهم ... فكل امرئ مجبر على المحافظة على ذاته وعلى التزام مقامه الخاص، وبناء على الحجة نفسها هو ملزم بالمحافظة على سائر البشر ما وسعه ذلك ما لم يتناف ذلك مع مبدأ المحافظة على الذات ... فلا يسلب حياة امرئ آخر أو يلحق بها أذى أو يسيء إلى ما من شأنه أن يؤدي إلى حفظها أو إلى حريته أو صحته أو جسده أو أملاكه، إلا في معرض الاقتصاص من مجرم."[73]

فلا شك أن تكون قيمة الحرية أعلى قيمة إنسانية عند (لوك) بحيث إنه قد اعتبر المساس بها هو إعلان الحرب على من مست حريته ...ذلك أن " من يحاول أن يخضع امرئا ما لسلطته المطلقة إنما يشن الحرب عليه، إذ يكون ذلك بمثابة إعلان العزم على السطوة على حياته. لأنه يمكننا أن نستنتج بحق أن من يتوصل إلى السيطرة علينا قسرا لابد أن يصنع بنا ما شاء متى استتب له ذلك ويقضي علينا إذا حلا له الأمر. فمن أراد السيطرة التامة على امرئ ما فإنما يريد إكراهه عنوة على ما يتناقض مع حقه بالحرية أي يجعله عبدا له." [74]

وتأكيدا للقواعد القيمية التي طرحها (لوك)، نجد (جان جاك روسو) سائرا في الطريق ذاتها المناهضة للاستفراد والتسيد وإهدار قيمة الحرية في تلك اللحظات،  كإحداثه خلخلة في التصور السائد المرتبط بقدسية الحاكم باعتباره قائدا لقطيع قائلا:" بما أن الراعي أعلى من قطيعه طبيعة، فإن رعاة الناس الذين هم رؤساء لهم، أعلى من شعوبهم طبيعة، وهكذا كان يرى الإمبراطور كليغولا على رواية فيلون، مستنتجا من هذا القياس أن الملوك كانوا آلهة أو أن الشعوب كانت حيوانات." [75] لذلك فالطاعة حقيقة إنما هي لسلطة انبثقت عن اختيار سياسي وليس عن امتلاك القوة ...لأن " القوة لا تخلق الحق، وبأننا غير ملزمين بغير الطاعة للسلطات الشرعية."[76] لاسيما وإن ما يتوهمه الناس في حكم المستبد أن الاستقرار السياسي أو الوحدة الجامعة أرجح من المناهضة القوية ضده، لكن ذاك الاعتبار هو مجرد وهم ..." وقد يقال إن المستبد يضمن السكون المدني لرعاياه، وليكن ذلك، ولكن ما يكسبون من ذلك إذا كانوا يكدرون بالحروب التي يسوقهم إليها طموحه وبطمعه الذي لايشبع وبمظالم عماله أكثر مما بتفرقهم؟ وما يكسبون من ذلك إذا كان هذا السكون من بؤسهم؟ وقد تقضى حياة سكون في السجون المظلمة أيضا." [77]

فالقيمة الأساس هاهنا إنما هي قيمة الحرية السياسية التي هي ماهية الإنسان وسر وجوده "وإذا تنزل الإنسان عن حريته يعني تنزلا عن صفة الإنسان فيه وتنزلا عن الحقوق الإنسانية، وعن واجباتها أيضا، ولا تعويض يمكن لمن تنزل عن كل شيء، وتنزل كهذا يناقض طبيعة الإنسان، ونزع كل حرية من إرادة الإنسان هو نزع كل أدب من أعماله، ثم إن من العهود الباطلة المتناقضة اشتراط سلطان مطلق من ناحية وطاعة لا حد لها من ناحية أخرى." [78] لذلك فالاسترقاق والاستعباد مخالف للجوهر الإنساني في الوجود، بل إن الأسير في الحرب هو حر وإن ادعى الغالب أن حريته تسلب بسبب مغلوبيته وانهزامه ...  يقول روسو :" ولا يحق قتل العدو إلا عند تعذر استرقاقه، وحق استرقاقه لا يتأى إذن من حق قتله، وتعد إذن مبادلة جائرة تلك التي يحمل بها على اشتراء حياته بحريته مع انه لا حق للغالب على الحياة ...ويكون حق الاسترقاق باطلا، لا لأنه غير شرعي فقط، بل لأنه مخالف للعقل خال من كل معنى أيضا، فكلمتا الاستعباد والحق متناقضتان، متنافيتان مبادلة."[79]

ولئلا تسلب الحريات لابد من عقد اجتماعي يؤسس لحكم تصان فيه كرامة الإنسان وحريته ..." والشعب عند غروسيوس إذن شعب قبل أن يهب نفسه لملك، وهذه الهبة نفسها عقد مدني ينطوي على تشاور عام. ولذا يصلح درس العقد الذي يكون به الشعب شعبا قبل درس العقد الذي يختار به الشعب ملكا، وبما أن ذلك العقد أقدم من الآخر بحكم الضرورة فإنه أساس المجتمع الحقيقي.... والذي يخسره الإنسان بالعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحق مطلق في كل ما يحاول وما يمكن أن يحصل، والذي يكسبه هو الحرية المدنية وتملك ما يجوز وما يجب "[80]  وهذا الميثاق في جوهره خادم لمبدأ المساواة فبدلا من نقض المساواة الطبيعية يقيم، على العكس، مساواة معنوية وشرعية مقام ما قدرت الطبيعة أن تضعه من تفاوت طبيعي بين الناس، وأن الناس إذ يمكن أن يتفاوتوا قوة وذكاء فإنهم يتساوون عهدا وحقا."[81] ومن ثم فالسيادة إنما هي ممارسة الإرادة العامة التي لا يمكن أن يُتنازل عنها في عرفه. بل إن (سبينوزا) يؤكد على انغراس تلك القيم في النفس الإنسانية طبيعيا دون الالتجاء إلى طقوس الرهبان أو تعاليمهم المتناغمة مع سطوة الغالب سياسيا ... يقول هاهنا:" والحقيقة أن نصوص الأنبياء والحواريين نفسها هي التي تشهد أكثر مما يشهد العقل نفسه بأن كلام الله الأبدي وعهده والدين الحق مسطور على نحو إلهي في قلب الإنسان أي في الفكر الإنساني، وهذا هو الميثاق الحقيقي الذي طبعه الله بخاتمه."[82] ومن ثم فقيمة العدل والإحسان لن تتجلى واقعا إلا حين يتم تجسيدها عن طريق الدولة الشرعية، وكأن سلطة اللاهوت هي سلطة تابعة للسلطة السياسية الراشدة ..." وأن الممارسات الشرعية وأفعال التقوى الظاهرة يجب أن تتفق مع سلامة الدولة ومصلحتها ..وينتج عن ذلك أن الحكم الإلهي يقوم عندما يأخذ العدل والإحسان قوة القانون والأمر. ولا فرق عندي مطلقا بين دعوة الله إلى العدل والإحسان وأمره بهما عن طريق النور الطبيعي أو عن طريق الوحي ... فإذا بينت الآن أن العدل والإحسان لا يأخذان قوة القانون والأمر إلا بحق الدولة، كان من السهل أن نستنتج أن الدين لا يكتسب قوة القانون إلا بإرادة من لهم الحق في الحكم وأن الله لا يباشر حكما خاصا على البشر إلا بوساطة أصحاب السلطة السياسية ." [83] ذلك أن تنظيم (الدولة) فإن (ما هو إلهي) ينتقل إلى مجال الواقع، وهذا الواقع تتسرب فيه الدولة، ووجود العنصر الدنيوي يجري تبريره في ذاته ولذاته، لأن أساسه هو (الإرادة الإلهية)، ناموس الحق والحرية. والتصالح الحق الذي به يحقق (ما هو إلهي) ذاته في نطاق الواقع يوجد في الحياة الخلقية والتشريعية في (الدولة)، وهذا تنظيم حقيقي للحياة الدنيوية." [84] ونشوب الصراع إنما هو صراع في الحقيقة بين السياسة والأخلاق عند كانت، ومن ثم وجب تقييد السلام وإثباته بميثاق دولي، يقول هاهنا:" :" وهنا أيضا يقع النزاع بين السياسة والأخلاق (باعتبار الأخلاق مذهبا في القانون)، وفي هذا النزاع يجد معيار الإفصاح عن المبادئ استعمالا ميسورا كذلك، ولكن بشرط أن يكون القصد من الميثاق الذي يؤلف بين الدول تدعيم السلام فيما بينها أولا ثم فيما بينها وبين الدول الأخرى، لا أن يكون القصد منه الغزو والفتح."[85]

وكلما ارتقى الإنسان إلى المعرفة تجذرت فيه قوى التواصل وتحقيق السلام وهو ما اكد عليه هابرماس من أن الفعل التواصلي ضرورة إنسانية لاسيما حين تتخذ شكلا مؤسساتيا. ف" الإطار المؤسساتي لنسق العمل الاجتماعي يوجد في خدمة تنظيم العمل إلى المدى الذي تدور فيه المسألة حول التعاون وتقسيم العمل، وحول توزيع المواد، وبالتالي حول تثبيت الفعل العقلاني الهادف في علاقة تفاعل. من شأن شبكة الفعل التواصلي أن تخدم الحاجات الوظيفية لنسق العمل الاجتماعي، غير أن هذا العمل يجب أن يدعم في الوقت ذاته مؤسساتيا، لأن الحاجات المفسرة لا تجد كلها إشباعا تحت ضغط الواقع، ولأن دوافع الفعل العارمة اجتماعيا لا يمكن أن تقاوم كلها بالوعي، وإنما فقط بمساعدة القوى الانفعالية. والإطار المؤسساتي يتألف لذلك من معايير ملزمة لا تسمح فقط بحاجات مفسرة لغويا، وإنما أيضا توجهها، تحولها وتقمعها.[86]

والمتأمل في مقاصد ميثاق الأمم المتحدة التي تؤكد على حفظ السلم والأمن الدولي، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام، ثم تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك إطلاقا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء، وتقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها، ويفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر [87]... ليجد على المستوى التجريدي فحسب حضورا عميقا للقيم الإنسانية والمقاصد الشرعية التي تحمي الإنسان والدول من مخاطر الاحتراب والتطاحن ومفهوم البقاء للأقوى. وذاك ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بقوله:"مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، المتمثلة في عدم استخدام القوة وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية وعدم التدخل والتعاون وتقرير المصير والمساواة في السيادة بين الدول الأعضاء، تبقى أساسا للعلاقات الدولية. ويأتي في صميم الميثاق، احترام حقوق الإنسان وضمان التقدم الاجتماعي كرائز حقيقية للسلام."[88]

 

خاتمة

البحث خاتمةً دار في فلك غائي مبني على ابتعاث قيم جامعة بين تصوري الذات والآخر وجعلها مناهضة للقيم الظاهرية الحسية التجسيدية التي أفضت إلى الصراع واقتدار القوة دون اعتبار لإنسانية الإنسان ومركزيته في الوجود.

وحين سيق منهج تشخيصي نسبي للأدواء المعاصرة، أظهرنا بجلاء ارتكاس العقل الحدي الصراعي في حمأة التناقض الصارخ مع النواظم الجامعة والجسور التواصلية مع الإنسان الآخر، لتتجلى لنا ضرورة ابثعات قيم متوارية زمنا وإعادة إحيائها من جديد لتكون عناصر تجريدية قيمية تساهم في إصلاح الصرح الأخلاقي وإنقاذ النظام العالمي. ومحاولة تشخيص الأدواء المعاصرة وتفكيكها فلسفيا لم يكن عبثا لاسيما وإن هناك ناظما رابطا بين الفعل تجسيدا وبين التنظير الفلسفي تجريدا.

ففي صور العنف العالمي غربا وقفنا عند أفول القيم الإنسانية وكيف انساق الإنسان الغربي وراء إمبريالية غازية اجتاحت قارات وأوطانا عدة، ويكفي أن نشير إلى أن متصيدي السود كانوا يحصلون على (عبد) من بين العشرة الذين تم قتلهم خلال مقاومة اصطيادهم...لتكلف النخاسة أفريقيا ما بين مائة ومائتي مليون من القتلى...مع الوقوف عند الإبادة لستين مليونا من بين ثمانين مليونا من الهنود الحمر فضلا عن نشوب حربين كونيتين كلفتا الإنسانية خسائر بشرية ومادية قل نظيرها، لاسيما إمطار اليابانيين بسلاح نووي ، كل ذلك كما أشار (نيد ليبو ريتشارد) إلى أن منطق الهيمنة وإثبات ذات القوة والاقتدار النفسي كان عاملا حقيقيا لنشوب الحروب الطاحنة فضلا عن الحروب الانتقامية المؤسسة على الأفكار كذلك.

لذلك فإننا نعتقد أن الانزياح من منظومة القيم التي جعلت الإنسان سيدا على الكون لتجعله داخلا رحاب التشييء وطاحونة الإنتاج إنما كان بانسياق وراء الاقتدار وإرادة القوة  التي كانت متساوقة مع وحدانية السوق والتوجس من القيم وإفراغ المسألة الفلسفية من القصدية كما رآها (ميشيل البرت).

إننا حين نحتنا في عمق الرؤية الفلسفية للإنسان الغربي المعاصر وجدناه مستمسكا بالفلسفة الانتخاب الطبيعي المبني على الصراع وصفاء الأجناس واصطفاء بعضها بعد تناحر ، وبقاؤها بنسب رياضية إنما هو متناغم مع قوة تناحرها، ومن ثم فالرجوع إلى الخلف إنما هو تبيان للأصل الأول الخالي من أسباب القوة والاقتدار، والزمن الآتي عند دارون إنما هو زمن الصراع الذي به تنبثق جودة الأجناس المنتخبة. لكنه فضلا عن جعل الإنسان نسخة متحولة نتيجة امتلاك وسائل الصراع والانتخاب، فإن النظرية قد خرجت من نطاق العلم إلى اتجاه فلسفي إيديولوجي حضر خاصة في تثبيت منطق الهيمنة بخوض الحروب الطاحنة التي بها يصل المجتمع إلى التطور وبقاء الأصلح... وقد استخدمت تلك النظرية لتوطيد دعائم الاستعمار وتبرير التمايز الطبقي على أساس من التفاوت الفطري بين الأفراد والأقوام." وهو ما تبلور في الأيديولوجيا النازية مع هتلر، بل إن الفكر الصهيوني قد طبق البقاء للأقوى والأصلح من خلال الموقع الدارويني والنبتشوي.

وعلى ذكر النيتشوية، فهي قد شيدت على أنقاض منطق الانتخاب و الإعلاء من قدر المتفوق والإزراء بالمستضعفين والابتعاد عن رحمتهم، ولم يمت الإله إلا برحمته...

    إن الانحسار في الحس والتعامل مع الأشياء وكأنها الحقيقة ذاتها دون التطلع إلى الكوجيطو الديكارتي قد جعل العقل الغربي داخلا سرداب المادة ومنسلخا عن معرفتها والغاية من وجودها، وكأن الوجود هو الظاهرة ذاتها السابقة عن إدراكها ومعرفتها ومن ثم فالواقع عند (سارتر) إنما هو محصور في الظاهرة التي هي كما تظهر في الواقع دون إدراك قبلي لها، فلا عجب أن يكون الوجود هو الذي يحدد ماهية الشيء إمعانا في جعل العقل مطوقا بظاهر الشيء ولئلا ينفسح الفكر والشعور والتأمل في المعرفة، بل إن الشعور باللذة في عرفه إنما هو بعد الخضوع لضرورة الواقع. ثم إن هذه اللذة إنما تم تحديدها في التصور الفرويدي باللذة الحسية الشهوية المرتبطة بالأنا الذي هو مستودع الليبدو، ومن ثم فالغرائز الجنسية لا تكون فعالة إلا داخل الأنا.

لقد ظهر جليا أن تشكيل العقل الغربي المعاصر إنما طرأ ببناء فلسفي ميال نحو القوة والاقتدار والصراع وحصر المعرفة في الحس دون غيره فضلا عن الإعلاء من التأجيج الغرائزي الشهوي في مزايلة تامة لقيم الأنوار وفلسفة الإنسان التي تماهت مع الفطرة وصفائها وقوة العقل والقيم والواجب والتناغم مع الصفاء الديني دون اتكاء على نسق كنائسي خرافي.

وفي تشخيص للعنف شرقا وامتداداته الفلسفية بدا لنا أن منطق الترويع والعنف والإرهاب المؤسس على التكفير كان حاضرا هناك، وكلما حضر ذاك التوجه العقدي في بلد من البلدان كلما كان القتل مستحرا فيه، وكأن القتل صنوان للفكر التكفيري المتمدد في تلك البلدان كباكستان وأفغانستان والصومال ونيجيريا والعراق وسوريا والسعودية، ويكفي أن نتذكر أن باكستان قد خسر أكثر من سبعين ألفا من أبنائه في غضون ثلاثة عشر سنة.

ونحن لا ننفي أن علة الاستبداد السياسي مفضية لتلك المفاسد، غير أن قوة الدفع لذلك الاستبداد إنما هي كامنة في انغراس عقائد في دخائل الإنسان الذي تشربها، فغدت سلوكيات واقعية تنفي المخالف وتستأصله، لاسيما وإن ثنائية الحق والباطل راجحة عند هؤلاء على ثنائية الخطأ والصواب.

وإذا شئنا أن نلامس الأسس العقدية والفكرية الكلية لهذا التوجه التكفيري فإن المقاربة التاريخية قد تعيننا في إيضاح ماهية هذا التوجه، لاسيما وإن المرتكزات المعتمدة لديه تشيعا أو تسننا إنما هي المرتكزات التي اعتمدها أرباب التقاضي والمحاكمة للآخر بخروج من الذات أولا وترقب الفعل السلوكي دون نحث في الإرادة الدافعة للفعل المتجلي واقعا.

وحيث إن هؤلاء لم يتمرسوا بالقواعد الأساسية لفهم النصوص الشرعية فإنهم مالوا نحو التعامل مع النص تعاملا ظاهريا سطحيا حرفيا سرى في مجال الفقه والعقائد، إذ غالبهم وباستقراء حثيث انتهج حمل الصفات محمل الحس ونظر إلى الذات نظرة حشو وتجسيم.

وفضلا عن الرؤية الحرفية في فهم النصوص، فإن جوهر هذا الفكر الخارجي إنما هو إلباس الصرح العقدي النسبي لبوسا قطعيا لاسيما وإن من نظر في قضايا الاعتقاد الأصلية وجدها قد ثبتت بأدلة قطعية الدلالة والثبوت، وهي أصول الاعتقاد وليست محتاجة إلى من يعضدها، لكن الذي طرأ إنما هو بزوغ عقائد أقرها التاريخ لا النص... ومن ثم فهناك خلل منهجي في استصحاب حوادث التاريخ لتأسيس عقائد حدية.

ففيما يخص المذهب العقدي تشيعا وجدنا أن أس التصور العقدي إنما هو مستقى مما طرأ للآل من محن، لاسيما حدث كربلاء، فكان التاريخ هاهنا سيدا على فعال الناس من بعد، وأضحت العقائد مؤسسة على فعل تاريخي محض، نُظر إليه قدرا مقدورا، وأضحت الحوادث التاريخية دينا، وارتقى الشخص إلى منزلة هي أعلى من النص القطعي، مع العلم أن البداهة تقول بأن مصدر العقائد إنما هي نصوص قطعية دلالة وثبوتا.

 وحيث إن القرآن لم يتناول التنصيص على التوريث تصريحا أو تلميحا، فإن المعتمد في تلك الرؤية العقدية إنما هو اعتصار نصوص ظنية. والذي أهمنا حقيقة إنما هو الرؤية الحدية المفاصلية التي تعتمد على التعدي في علاقتها بالآخر لا اللزوم، بحيث إنه يفرض على الأمة تبني ما أسسه من عقائد، وفي حالة الحياد أو الرفض ينعت المخالف بالكفر والحكم عليه بالردة وما يستوجب ذلك من إبعاد وتعذيب وقتل وما شاكل...ومن خلال النحث عموديا في هذه الرؤية العقدية وجدتها حابلة بنصوص المفارقة الحدية التي تتوجه إلى المعترض تكفيرا وشركا إذا لم يتناغم معه أصولا. ولا ننس أن الكفر والشرك أعلى رتبة للاتهام التي تفضي إلى إحلال الدم والقتل، مما يدل على المزايلة والمفاصلة الكلية وما يترتب عنهما من مفاسد التشظي والتمزيق لعرى الأمة الموحدة.

وفي التوجه العقدي تسننا أرجعنا علة التكفير عنده لمنطق التاريخ دون النص، حيث إن البداية كانت مع مسألة خلق القرآن، وهي مسألة غير معتمدة كأصل من الأصول العقدية، لكن الذي ترتب عنها إنما هو بروز علة عقدية حملت الصفات الإلهية محمل الحس، فانفتح الباب على مصراعيه أمام علة مازالت ممتدة إلى الآن وهي علة التشبيه والتجسيم.

وفي المفاصلة الحدية في الرؤية التكفيرية هاته وجدنا نصوصا عدة تسم المخالف بالكفر في حالة ما إذا اعتقد اعتقادا مخالفا لما دأب عليه المشبهة، بل إن النصوص تنضح باتهام المعترض بأشنع الأوصاف ومحاكمته بالقتل، مع العلم أن مسألة خلق القرآن لم تعضد بنصوص في القرآن.

وفي محور ثان أسميناه نحو كلمة سواء، حاولنا سوق رؤية إسلامية غائية مقاصدية دأب عليها رجال المقاصد الذين دققوا في الغاية والقصد التي من أجلها وضعت تلك الشريعة في كلياتها وهي تحصيل مصالح الإنسان وجودا وعدما وإسعاده دنيا وآخرة، وكأن المقاصد الشرعية تسعى إلى تحقيق الغاية من الوجود الإنساني وهو أن يكون حرا محققا لمبدأ الاستخلاف المبني على الكرامة وسيادة الإنسان على الكون.

وحيث إن المنهج البنائي القرآني المرتبط بتشكيل الذات الإنسانية عندنا راجح عن المنهج القضائي المرتبط بالشريعة، فإننا رأينا أن المقاصد البنائية للقرآن توضح بجلاء كيف أن الحفاظ على الإنسان ذاتا وفكرا واختيارا مقصد كبير على مستوى الفرد ذاته أو الدولة والمجتمع...لذلك فالإحسان إلى الناس عند العز بن عبد السلام إنما هو الذي بني على جلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم.

وحيث إن الشرعية الدستورية قد خفت وهجها لدى جمهرة عديدة من الفقهاء، فإننا لاحظنا أن بعض الفلاسفة المسلمين قد نقبوا في التراث اليوناني لمعرفة أصول الحكم وقواعد التسيير السياسي فضلا عن الشرعية السياسية التي فقدت بقوة السيف والعصبة. ومن هؤلاء: فيلسوف قرطبة أبو الوليد بن رشد في كتابه: الضروري في السياسة، وهو الكتاب الذي جر عليه ويلات لأنه لامس أصولا ما كان لحكام الأندلس حينها أن يستسيغوها

ومن صور إدانة بن رشد لتسلط هؤلاء: مقارنته بين المدينة الإمامية المبنية على قيم الحرية والعدل والإنصاف وبين مدينة الغلبة المؤسسة على الاستبداد والتسلط... ثم هو يرجع مسألة التسيير السياسي إلى النزعة الأخلاقية واختلاف تشرب الناس للقيم،  وإنما كانت هذه السياسات متباينة ومتعددة لتباين أخلاق النفس. ولهذا يلزم ضرورة أن تكون دالة على أخلاق النفس، ويكون السبب في كونها على هذا التعدد ليس شيئا غير تعدد النفوس... ومن ثم تتحول السياسة بتحول الأخلاق كما طرأ في العهد الراشدي وما استتبع بعد ذلك من حكم الغلبة والتسيد كما يقول ابن رشد... لاشك إذن أن تأثير ابن رشد على تشكيل العقل المدني الإسلامي كان كبيرا، بل إن التأثير سيمتد إلى العقل الغربي، وذاك ما تنضح به أقاويل فلاسفة الأنوار خاصة

وفي استعراضنا لرؤى فلاسفة الأنوار وجدناها إنسانية متساوقة مع القيم الإسلامية، لاسيما وإن علة الاستبداد كانت متجذرة في أوروبا، بتسلط نظم موناركية مآزرة بأنساق لاهوتية خادمة لتسلطهم وتسيدهم فإن العقل الغربي سيتم تشكيله من قبل فلاسفة أعلنوا الارتكاز على الصفاء الديني المزيل للأعراف الدينية المؤسسة من قبل القساوسة والمجمعات الكنسية، وفي هذا الإطار نجد (جون لوك) مقعدا أصول الحكم الرشيد، وكأنه متناغم مع الطرح الرشدي في الضروري في السياسة، لقد وجدنا (لوك) واضعا قواعد قانوينة في الحفاظ على إنسانية الإنسان بألا تهدر كرامته أو تسلب حقوقه أو تنتقص حريته خاصة وأن قيمة الحرية أعلى قيمة إنسانية عند (لوك) بحيث إنه قد اعتبر المساس بها هو إعلان الحرب على من مست حريته، في تناغم حقيقي مع علماء المقاصد المسلمين إذ إن "العقل يعلم البشر جميعا لو استشاروه أنهم جميعا متساوون وأحرار، فينبغي ألا يوقع أحد منهم ضررا بحياة صاحبه أو صحته أو حريته أو ممتلكاته لأن خالق البشر كافة صانع واحد قدير على كل شيء لا تحد حكمته وهم عبيد لرب واحد عظيم بثهم في الأرض بإرادته لكي يقوموا على شؤونه لا شؤونهم كما قال هو.

وتأكيدا للقواعد القيمية التي طرحها (لوك)، نجد (جان جاك روسو) سائرا في الطريق ذاتها المناهضة للاستفراد والتسيد وإهدار قيمة الحرية في تلك اللحظات،  كإحداثه خلخلة في التصور السائد المرتبط بقدسية الحاكم باعتباره قائدا لقطيع فالقيمة الأساس هاهنا إنما هي قيمة الحرية السياسية التي هي ماهية الإنسان وسر وجوده...

ولكيلا تسلب الحريات لابد من عقد اجتماعي يؤسس لحكم تصان فيه كرامة الإنسان وحريته،  والذي يخسره الإنسان بالعقد الاجتماعي عند روسو إنما هو حريته الطبيعية والحق المطلق في كل ما يحاول وما يمكن أن يحصل، والذي يكسبه هو الحرية المدنية وتملك ما يجوز وما يجب. ومن ثم فالسيادة إنما هي ممارسة الإرادة العامة التي لا يمكن أن يُتنازل عنها في عرفه. لأنها الجامعة لأشتات القيم الإنسانية، بل إن (سبينوزا) يؤكد على انغراس تلك القيم في النفس الإنسانية طبيعيا دون الالتجاء إلى طقوس الرهبان أو تعاليمهم المتناغمة مع سطوة الغالب سياسيا... وينتج عن ذلك أن الحكم الإلهي يقوم عندما يأخذ العدل والإحسان قوة القانون والأمر. ولا فرق عند سبينوزا مطلقا بين دعوة الله إلى العدل والإحسان وأمره بهما عن طريق النور الطبيعي أو عن طريق الوحي.

ذلك أن النور الطبيعي يفرض على الإنسان تعاضدا وتوادا وتواصلا مع الاخر لتحقيق مصالحه خلافا لمنطق القوة والاحتراب وكلما ارتقى الإنسان إلى المعرفة تجذرت فيه قوى التواصل وتحقيق السلام وهو ما اكد عليه هابرماس من أن الفعل التواصلي ضرورة إنسانية لاسيما حين تتخذ شكلا مؤسساتيا...

إن المتأمل في مقاصد ميثاق الأمم المتحدة التي تؤكد على حفظ السلم والأمن الدولي، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام، ثم تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك إطلاقا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء، وتقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها، ويفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر... ليجد على المستوى التجريدي فحسب حضورا عميقا للقيم الإنسانية والمقاصد الشرعية التي تحمي الإنسان والدول من مخاطر الاحتراب والتطاحن ومفهوم البقاء للأقوى.

فيديو

 

 

*الدكتور رضوان رشدي: حاصل على دكتوراه في الإسلام والإبداع الفني من جامعة القاضي عياض بمراكش، عمل أستاذاً مؤطرا لطلبة الدكتوراه بمراكش، خريج دار الحديث الحسنية بالرباط، عضو هيئة تحرير مجلة  (رهانات) الفكرية، ورئيس مركز ابن رشد للدراسات والأبحاث الإنسانية .حضر العديد من المؤتمرات العلمية، وشارك ببحوث علمية، كالمشاركة ببحث محكم عنوانه: موروث الطاعة الفارسي والتعصب القبلي وأثرهما في امتداد نية الاستبداد في العقل الأخلاقي العربي، قدم في المؤتمر الدولي السادس للعلوم الاجتماعية بدولة قطر برعاية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتاريخ: 18-20 مارس  2017.

 

الهوامش

[1]  روجيه غارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ترجمة محمد سبيلا، تمارة المغرب: منشورات الزمن، طبعة 1996، ص 144.

[2]  المرجع نفسه.

[3]  نقلا عن ماري دولا غورس حرب مجهولة  335.

[4]  روجيه غارودي، الولايات المتحدة طليعة الانحطاط  كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين، ترجمة مروان حموي، دار الكتاب، ص 2.

[5]  المرجع نفسه.

[6]  ريتشارد نيد ليبو، لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والمستقبل، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص 225.

[7]  المرجع نفسه.

[8]  نعيمة دريس، رؤية العلم الحديث للعالم والإنسان وضرورة أخلاق تطبيقية للعلم، الأخلاقيات التطبيقية، جدل القيم والسياقات الراهنة للعلم، إشراف: خديجة زنتيلي، تونس: كلمة للنشر والتوزيع، 2015، ص 213.

[9]  ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح، القاهرة: مكتبة مدبولي، طبعة 1998، ص 103.  

[10]  تشارلز داروين، أصل الأنواع، ترجمة إسماعيل مظهر،  بيروت وبغداد: مكتبة النهضة، ص 121.

[11]  المرجع نفسه، ص 776.

[12]  المرجع نفسه، ص122.

[13]  صلاح محمود عثمان، الداروينية والإنسان، نظرية التطور من العلم إلى المعرفة، طبعة 2001، ص 90.

[14]  حاتم نصر الشرياني، موسوعة الخلق والنشوء، المنصورة: مكتبة الإيمان، 2003، ص 49.

[15]  عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، لبنان: دار الفكر المعاصر، سوريا دار الفكر ط1، 2002، ص 104. 

[16]  فريدريك نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني، سلسلة ديوان الفلسفة، تونس: دار سيناترا، 2010، ص38.    

[17]  فريدريك نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق، ص49.

[18]  المرجع نفسه، ص60.

[19]  المرجع نفسه، ص 54-58.

[20]  فريديرك نيتش، هكذا تكلم زرادشت ترجمة فيليكس فارس، بيروت: المكتبة الأهلية، طبعة 1938، ص 115-116

[21]  فريديرك نيتش، هكذا تكلم زرادشت، ص 111.

[22]  المرجع نفسه، ص111.

[23]  فليكس فارس في مقدمة تحقيقه لهكذا تكلم زرادشت ص 13-14.

[24]  جان بول سارتر، الوجود والعدم، بحث في النطولوجيا الظاهراتية، ترجمة عبد الرحمن بدوي، بيروت: منشورات دار الآداب، طبعة 1966، ص21.

[25]  المرجع نفسه، فقرة: الكوجيتو السابق على النظر ووجود الإدراك. ص 22

[26] المرجع نفسه، ص21.

[27]  سيجموند فرويد، ما فوق اللذة، ترجمة إسحاق رمزي، دار المعارف، الطبعة الخامسة، 1994. ص88.

[28]  المرجع نفسه، ص 91-92.

[29]  مكتب باكستان اليوم للبحوث والإعلام، الباب الثاني (باكستان والمؤتمرات والمنظمات الدولية)، ص 159.

[30]  قد ثبت في صحيح البخاري (فتح 1/566) ومسلم (1/403 برقم 573) أن ذا اليدين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى الظهر أو العصر ركعتين: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال له: لم أنس ولم تقصر الصلاة، ثم قال للناس: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم." فقول الصحابي ذو اليدين خبر آحاد لم يفد عند النبي صلى الله عليه وسلم القطع بل إنه أفاد الظن والعمل به مما يجعل خبر الآحاد مقبولا في العمليات دون الاعتقاديات الجازمة.

[31]  رضوان رشدي، الخلاف العقدي وأثره على وحدة الأمة وامتدادها الإصلاحي، الدار البيضاء: مطبوعات الرحاب، طبعة 2016، ص12.

[32]   مرتضى العسكري، معالم المدرستين، القاهرة: مكتبة مدبولي، الطبعة الخامسة 1414ه، 1993م، ص18.

[33]  سورة المائدة، الآية 55.

[34]  العسكري، معالم المدرستين، ص 504

[35]  سورة النساء، الآية 59.

[36]  الحلبي تقي بن نجم، تقريب المعارف، تحقيق فارس تبريزيان، ص228.

[37]  المرجع نفسه، ص229.

[38]  محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، بيروت: منشورات الفجر، الطبعة الأولى، 2008، 1428، ج2، ص 215.

[39]  الأمالي الصدوق، بيروت لبنان: منشورات الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى 1430ه، 2009م. ص465.

[40]  ابن قتيبة الدينوري، الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، تقديم عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1412، 1991. ص20.   

[41]  نقلا عن الكوثري زاهد، العقيدة وعلم الكلام، دار الكتب العلمية، ص 449.

[42]  دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لابن الجوزي، بيروت لبنان: دار الإمام الرواس، الطبعة الرابعة 1428ه، 2007م. ص 97.

[43]  من النصوص الظنية المسوقة في كتابه كما في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، المطبعة السلفية، مكة، الحجاز 1349. في الصفحة الخامسة :" فهل يكون الاستواء إلا بالجلوس؟"، وفي الصفحة الثمانين:" إذا جلس الرب على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد."، وفي الصفحة الواحدة والسبعين:" إنه ليقعد على الكرسي فما يفضل منه إلا قيد أربع أصابع." وفي الصفحة الخامسة والثلاثين: " رآه على الكرسي من ذهب يحمله أربعة: ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء دون فراش من ذهب." وفي الصفحة الرابعة والستين:" كيف كلم الله موسى؟ قال: مشافهة: أي شفة لشفة." وفي الصفحة الثالثة والستين" قالت بنو إسرائيل لموسى:" بماذا شبهت صوت ربك ـ حين كلمك ـ من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد حين لا يرجع." وفي الصفحة الثانية والأربعين بعد المائة:" إن الرحمن ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون، حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش." وفي الصفحة الموالية:" السماء منفطر به، قال: مثقلة به ممتلئة به." وفي الصفحة السابعة والستين:" كتب الله التوراة لموسى بيده، وهو مسند ظهره إلى الصخرة، في الألواح من در يسمع صريف القلم ليس بينه وبينه إلا الحجاب." وفي الصفحة الثامنة والستين:" إن الله لم يمس بيده إلا آدم خلقه بيده، والجنة والتوراة كتبها بيده، ودملج الله لؤلؤة بيده فغرس قضيبا فقال امتدي حتى أرضى وأخرجي ما فيك بإذني، فأخرجت الأنهار والثمار." وفي الصفحة التاسعة والأربعين بعد المائة:" أبدى عن بعضه." وفي الصفحة الرابعة والستين بعد المائة:" ويده الأخرى خلو ليس فيها شيء." و" حتى يضع يديه في يده." وفي الخامسة والستين بعد المائة : "يمس بعضه" و "خذ يحقوى" وفي الصفحة السابعة والستين بعد المائة : " حتى يضع بعضه على بعض" و" حتى يأخذ بقدمه." وفي الصفحة التاسعة والأربعين بعد المائة :" أوحى الله إلى الجبال: إني نازل على جبل منك، فتطاولت الجبال، وتواضع طور سيناء وقال: إن قدر لي شيء فسيأتيني، فأوحى الله إني نازل عليك لتواضعك ورضاك بقدري." وفي الصفحة التاسعة والستين:" أن بورك من في النار، قال : الله، ومن حولها: الملائكة." في الصفحة السابعة والسبعين بعد المائة :" ينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي... فيتمثل الرب فيأتيهم، والرب أمامهم حتى يمر."

[44]  ففي كتاب دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الجليل الإمام أحمد لتقي الدين أبي بكر الحصني الدمشقي، المكتبة الأزهرية للتراث ص9، نجده يضع قواعد في فهم نصوص الصفات خلافا لما دأب عليه المشبهة كقوله مثلا في قوله تعالى:" وجاء ربك."  قال القاضي أبو يعلى، قال الإمام أحمد: المراد به قدرته وأمره وقد بينه في قوله تعالى:" أو ياتي أمر ربك." يشير إلى حمل المطلق على المقيد وهو كثير في القرآن والسنة والإجماع، وفي كلام علماء الأمة لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى. ومثله حديث النزول وممن صرح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك لأن الانتقال والحركة من صفات الحدث والله عزوجل قد نزه نفسه عن ذلك . ومن ذلك قوله تعالى ( على العرش استوى) فإذا سأل العامي عن ذلك فيقال له : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة... وإنما أجاب الإمام ربيعة بذلك وتبعه تلميذه مالك لأن الاستواء الذي يفهمه العوام من صفات الحدث وهو سبحانه تعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى:" ليس كمثله شيء" وإنما قيل السؤال بدعة لأن كثيرا ممن ينسب إلى الفقه والعلم لا يدركون الغوامض في غير المتشابه فكيف بالمتشابه."

[45]  عبد الله بن أحمد بن حنبل، السنة، مكة: المطبعة السلفية، 1349هـ، ص 5.

[46]  المرجع نفسه، ص6

[47]  المرجع نفسه، ص 10.

[48]  المرجع نفسه.

[49]  المرجع نفسه، ص 13.

[50]  إبراهيم ابن موسى الشاطبي، الموافقات، كتاب المقاصد ج2، ص52.

[51]  رضوان رشدي، ضوابط الفتوى والضرورة، مطبوعات الرحاب، طبعة 2010، ضبط الفروع الفقهية بقواعدها، ص 30.

[52]  محمد بن بهادر الزركشي، المنثور في القواعد، تحقيق : فائق أحمد محمود، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، طبعة 1405، ج1، ص65.

[53]  محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تقديم حاتم بوسمة، دار الكتاب اللبناني، طبعة 2011، ص 17.

[54]  نحن نعتقد مثل أناس عديدين أن العدل وإقامته من لب الضروريات التي إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وإن الحاكمية وتنزيل القوانين الإلهية الضابطة للفعل الإنساني على الأرض قصد كبير عند العلماء والفقهاء الذين يريدون من المجتمع الإنساني أن يتناغم مع المجتمع الكوني في السجود لخالقه تعبدا وانصياعا لأوامره واجتنابا لنواهيه ... هذا رأي نتفق معه لامحالة، لكنه لا يحدد جوهر المقاصد الكلية للقرآن ولا ينفذ لاستجلاء هيمنته على الوجود الإنساني، بل إن حصر الشريعة في الأحكام الجزئية ونفي الدلالة الكلية لها هو خلل منهجي في تصورنا يقتضي النحت عموديا في المفاهيم السائدة كالمقاصد الشرعية والشريعة، مع العلم أن القرآن وغاياته بنائية بالأساس وليست حاكمة على الفعل البشري فحسب. ينظر كتابنا: المقاصد القرآنية البنائية للإنسان والحضارة، مطبوعات الرحاب، الدار البيضاء.

 [55]  محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، تونس: الدار التونسية للنشر، 1984، الجزء الأول، ص38.

[56]  عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية 2008، ص84-86.

[57]  العز بن عبد السلام، الفوائد في اختصار المقاصد، تحقيق إياد خالد الطباع، دمشق: دار الفكر ، طبعة 1996، ص 49.  

[58]  العز بن عبد السلام، الفوائد في اختصار المقاصد، ص44.

[59]  المرجع نفسه، ص76.

[60]  محمد عابد الجابري، ابن رشد سيرة وفكر: دراسة ونصوص، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، طبعة 1998، ص67.

[61]  ابن رشد. الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. ترجمة أحمد شحلان، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. 1998. فقرة 283، ص181.

[62]  المرجع نفسه ص 179، فقرة 288، محور السياسات وطبائع النفوس.

[63]  المرجع نفسه، ص184، فقرة 301.

[64]  الجابري ، مرجع سابق، ص244.

[65]  ابن رشد، مرجع سابق، فقرة 140، 141، ص 125.

[66]  المرجع نفسه، فقرة 274، ص175.

[67]  الجابري، ابن رشد سيرة وفكر، ص216.

[68]  أحمد داود أوغلو. الفلسفة السياسية، ترجمة إبراهيم البيومي غانم، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، طبعة 2006، ص36.

[69]  المرجع نفسه، ص37.

[70]  المرجع نفسه، ص45.

[71]  جون لوك. الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، بيروت: اللجنة الدولة لترجمة الروائع، 1959، ص37 .

[72]  المرجع نفسه، ص170. 172.

[73]  المرجع نفسه، ص173.

[74]  المرجع نفسه، ص180.

[75]  جان جاك روسو. العقد الاجتماعي، ترجمة: عادل زعيتر، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الثانية 1995، ص 37.

[76]  المرجع نفسه، ص40.

[77]  المرجع نفسه، ص35

[78]  المرجع نفسه، ص36.

[79]  المرجع نفسه، ص40.

[80]  المرجع نفسه، ص41 -50

[81]  المرجع نفسه، ص51.

[82]  باروخ سبينوزا. رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم حسن حنفي، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة 2005، ص 328.

[83]  المرجع نفسه،  ص423.

[84]  فرديريك هيجل. فلسفة الدين، الأعمال الكاملة، محاضرات فلسفة الدين، الحلقة الثامنة أدلة وجود الله، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الكلمة، طبعة 2004، ص27.

[85]  إيمانويل كانت. مشروع السلام الدائم، ترجمة عثمان أمين، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1952، ص119.

[86]  يورغن هابرماس. المعرفة والمصلحة، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، طبعة كولونيا 2001، ص 321. 

[87]  نقلا عن موقع الأمم المتحدة، http://www.un.org/ar/sections/un-charter/index.html

[88] تصريحه في 21 فبراير 2018 ، نقلا عن  موقع الأمم المتحدة https://news.un.org/ar/tags/mythq-lmm-lmthd.

 

لائحة المصادر والمراجع

  • الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية لروجي غارودي، ترجمة محمد سبيلا، منشورات الزمن، طبعة 1996، تمارة المغرب.
  • ابن رشد سيرة وفكر: دراسة ونصوص، للجابري محمد عابد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت طبعة 1998.
  • أصل الأنواع، لتشارلز داروين، ترجمة: إسماعيل مظهر، ( بيروت، بغداد: مكتبة النهضة).
  • أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني، منشورات الفجر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2008.
  • الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة لابن قتيبة الدينوري، تقديم عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 1412، 1991.
  • الأمالي للصدوق: منشورات الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1430ه، 2009م. 
  • التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر 1984. 
  • تقريب المعارف الحلبي لتقي بن نجم الحلبي، تحقيق فارس تبريزيان، دون سنة الطبع.
  • الحكم المدني، لجون لوك، ترجمة ماجد فخري، اللجنة الدولة لترجمة الروائع بيروت 1959.
  • الخلاف العقدي وأثره على وحدة الأمة وامتدادها الإصلاحي، لرضوان رشدي مطبوعات الرحاب، البيضاء، طبعة 2016.
  • دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لابن الجوزي دار الإمام الرواس بيروت لبنان الطبعة الرابعة 1428ه، 2007م.
  • دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الجليل الإمام أحمد لتقي الدين أبي بكر الحصني الدمشقي، المكتبة الأزهرية للتراث.
  • الدين والعقل الحديث، لولتر ستيس، ترجمة إمام عبد الفتاح، مكتبة مدبولي، القاهرة، طبعة 1998. 
  • الداروينية والإنسان، نظرية التطور من العلم إلى المعرفة، لصلاح محمود عثمان طبعة 2001.
  • السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، المطبعة السلفية، مكة، الحجاز، طبعة 1349.   
  • رؤية العلم الحديث للعالم والإنسان وضرورة أخلاق تطبيقية للعلم، لنعيمة دريس، الأخلاقيات التطبيقية، جدل القيم والسياقات الراهنة للعلم، إشراف: خديجة زنتيلي، كلمة للنشر والتوزيع تونس، 2015.
  • رسالة في اللاهوت والسياسة، لباروخ سبينوزا، ترجمة وتقديم حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، طبعة 2005.
  • الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. لابن رشد، ترجمة أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1998.
  • ضوابط الفتوى والضرورة، لرضوان رشدي مطبوعات الرحاب، طبعة 2010.
  • العقد الاجتماعي، جان جاك روسو، ترجمة: عادل وعيتر، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت لبنان، الطبعة الثانية 1995.
  • فلسفة الدين، لفرديريك هيجل، الأعمال الكاملة، محاضرات فلسفة الدين، الحلقة الثامنة أدلة وجود الله، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الكلمة، طبعة 2004.
  • الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، لعبد الوهاب المسيري، لبنان: دار الفكر المعاصر، سوريا دار الفكر طبعة 2002.
  • الفلسفة السياسية، لأحمد داود أوغلو، ترجمة إبراهيم البيومي غانم، مكتبة الشروق، الدولية، القاهرة، طبعة 2006.
  • الفوائد في اختصار المقاصد للعز بن عبد السلام ، تحقيق إياد خالد الطباع، دار الفكر دمشق طبعة 1996.  
  • في جنيالوجيا الأخلاق، لفريدريك نيتشه، ترجمة فتحي المسكيني، دار سيناترا، تونس 2010، سلسلة ديوان الفلسفة.   
  • لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والمستقبل، لنيد ليبو ريتشارد، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي.
  • ما فوق اللذة لسيجموند فرويد، ترجمة إسحاق رمزي، دار المعارف، الطبعة الخامسة، 1994.
  • مشروع السلام الدائم لإيمانويل كانت ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1952.
  • معالم المدرستين، لمرتضى العسكري مكتبة مدبولي القاهرة الطبعة الخامسة 1414ه، 1993م.
  • المعرفة والمصلحة، ليورغن هابرماس، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، طبعة كولونيا 2001.   
  • مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور تقديم حاتم بوسمة، دار الكتاب اللبناني، طبعة 2011.
  • مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة  لعبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي الطبعة الثانية 2008.
  • المنثور في القواعد، للزركشي محمد بن بهادر تحقيق فائق أحمد محمود، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، طبعة 1405.
  • الموافقات لإبراهيم بن موسى الشاطبي، دار ابن القيم، طبعة 2003.  
  • موسوعة الخلق والنشوء، لحاتم نصر الشرياني، المنصورة: مكتبة الإيمان، طبعة 2003.
  • هكذا تكلم زرادشت، لفريديرك نيتش، ترجمة فيليكس فارس، المكتبة الأهلية بيروت، طبعة 1938.
  • الوجود والعدم، بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية، لجان بول سارتر ترجمة عبد الرحمن بدوي، منشورات دار الآداب – بيروت، طبعة 1966.  
  • الولايات المتحدة طليعة الانحطاط  كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين، لروجيه غارودي، ترجمة مروان حموي، دار الكتاب.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق