أمهات القيم السياسية في القرآن والسنَّة (2)

د. محمد بن المختار الشنقيطي

أستاذ الأخلاق السياسية

مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق

كلية قطر للدراسات الاسلامية

 

>> أمهات القيم السياسية في الإسلام (1) <<

 

لم تُسفك الدماء مدرارة في التاريخ السياسي البشري أكثر مما سُفكت في سبيل التنافس على السلطة، ولم يسل حِبْر فلاسفة السياسة في الحديث عن موضوع أكثر مما سال في موضوع من له الحق في أن يحكم. وقد أسفر مسار التاريخ الإنساني عن ثلاثة طرائق للوصول إلى السلطة:

  • القهر العسكري الذي يجعل السلطة من حق من يملك القوة ويستخدمها، ويجعل هذا المسار للقوة رجحانا على الحق، رغم أن من بدائه علم الأخلاق أن القوة لا تُكسب حقا.
  • الوراثة العرفية التي تحصر السلطة في أسرة أو عشيرة، ويسلم المجتمع بذلك بقوة الاعتياد دون مساءلة لحق تلك الأسرة أو العشيرة في الحكم.
  • التراضي والتعاقد المتأسس على اختيار من الجماعة لمن يحكمهما، بعد تداول حرٍّ ينتهي بقرار لا خضوع فيه لقوة قهرية أو عرف مسيطر.

وقد قدَّم الإسلام رؤية للجواب على السوال: من له الحق في أن يحكم. وهو جواب يتبنَّى الخيار الثالث: خيار الاختيار الحر للحكام عبر التداول والتراضي والتعاقد دون إكراه ولا إجبار. وجاءت الرؤية الإسلامية لجواب هذا السؤال بمصطلح إسلامي أصيل هو الشورى الذي ورد في قوله تعالي في وصف المؤمنين: "وأمرهم شورى بينهم."[1] وخلاصة مبدأ الشورى في مدلوله القرآني الأصلي -قبل أن تعبث به أيدي الزمان وأهواء الحكام- هو أن لا شرعية لحاكم من غير اختيار المحكومين له، وأن الحكم من غير اختيار المحكومين افتئاتٌ على الأمة وغصب لحقها في حكم نفسها. وقد ورد النص على الشورى عاما لا مخصص له، وهو ما يعني حق الجميع في الإسهام في اختيار الحكام. فاختصاص نخبة بها لا يجوز إلا إن كان نيابة صريحة أو عُرفية عن عامة الناس.

وما ورد في الكتاب الكريم من الأمر بالشورى مُجملا، ورد في السنَّة السياسية مفصَّلا. وأول ما يسترعي الانتباه هنا هو حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يترك لأمته حق اختيار قادتها. فقد جهِد النبي صلى الله عليه وسلم واجتهد لأمته نصحا، لكنه لم يُلزمها باختيار شخص بعينه قائدا لها من بعده. لذلك ورد عن علي رضي الله عنه: "قيل يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمرا تجدوه قويا أمينا لا يخاف بالله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا -ولا أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم إلى الطريق المستقيم"[2]. فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يزكِّي لأمته الأكفاء من أبنائها، لكنه يترك الأمر في أيديها بكل حرية، فهي صاحبة الحل والعقد والتأمير والعزل، كما هو واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن تؤمروا... وإن تؤمروا". كل ما في الأمر أن على الأمة أن تتداول وتتراضى ثم تتعاقد على من تختارهم قادة لها.

وقد اشتط الشيعة في دعواهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نصَّ على خلافة علي رضي الله عنه، وهذا الحديث -وهو من رواية عليٍّ نفسه- يردُّ عليهم. كما اشتط بعض من ردوا على الشيعة من أهل السنة، فادعوا أنه صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر خليفة. لكن حديث عائشة الذي استند عليه هؤلاء دليل على أن النبي صلى الله عليه قرر أن يترك للأمة خيارها في النهاية: "عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادْعِي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل أنا أوْلَى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر."[3]

فالحديث أولا ليس صريحا في أنه صلى الله عليه وسلم كان يريد تضمين الكتاب شخص أبي بكر رضي الله عنه، بل من الجائز أن يكون أراد كتابة مبادئ وإجراءات لاختيار الخليفة، لا تعيين اسم الخليفة. كما أن قوله: "ويأبى الله والمؤمنون.." يدل على أن اختيار المؤمنين قائدهم هو الأصل، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يُرد مصادرة ذلك الاختيار في نهاية المطاف. وكيف يصادر النبي صلى الله عليه وسلم –وهو الذي كان خلقه القرآن- مبدأ قرآنيا صريحا في أن الشأن العام يدار بالشورى؟!

وقد وردت أحاديث وآثار كثيرة تؤسس لبناء السلطة بالشورى، فقد قال فيه عمر رضي الله عنه: "من بايع رجلا دون مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا،"[4] "ألا من بايع رجلا دون مشورة من المسلمين فإنه لا يبايع لا هو ولا من بويع له تَغِرَّة أن يقتلا،"[5] "ألا وإنه بلغني أن فلانا قال لو قد مات عمر بايعتُ فلانا، فمن بايع امرأ دون مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له ولا للذي بايعه"[6] وقول عمر: "لا خلافة إلا عن مشورة."[7]

ومن وصية عمر رضي الله عنه -وهو على فراش الموت- للنفر الستة الذين أوكل إليهم الإشراف على عملية اختيار خليفة من بعده: "ثم اجمعوا في اليوم الثالث أشراف الناس وأمراء الأجناد فأمِّروا أحدكم، فمن تأمر من غير مشورة فاضربوا عنقه."[8] وفي رواية: "تشاوروا ثم أجمعوا أمركم في الثلاث، واجمعوا أمراء الأجناد، فمن تأمر منكم دون مشورة من المسلمين فاقتلوه."[9] وفي أخرى: "فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه"[10].

بل إن في تحذير النبي صلى الله عليه وسلم كفاية للمستكفي: "عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه"[11]. ومن المعلوم أنه بدون الشورى لن يكون أمر الناس مجتمعا على رجل واحد. ويكفي هذا دلالة على وجوب الشورى المتعلقة ببناء السلطة، وعلى إلزامية نتيجتها.

ولا يشترط الإجماع في اختيار الحاكم لتعذره عادة، وإنما يكفي حصول أغلبية. وهذا هو عمل الصحابة رضي الله عنهم. فأبو بكر اعترض على بيعته سيد الخزرج وأبرز قادة الأنصار، وهو سعد بن عبادة رضي الله عنه مدة حياته، واعترض عليها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مدة ستة أشهر، ثم بايع بعد ذلك "ولم يكن بايع تلك الأشهر."[12] كما امتنع سعد بن عبادة من بيعة عمر طيلة حياته. ولم يؤثر ذلك في شرعية خلافة الصدِّيق والفاروق، ولا أسقط وجوب طاعتهما. واعترض على بيعة عليٍّ عدد من كبار الصحابة في المدينة - حصرهم البعض في سبعة عشر - كما اعترض عليها أهل الشام، ومع ذلك " فخلافته صحيحة بالاجماع، وكان هو الخليفة في وقته، لا خلافة لغيره."[13]

فما جعل الخلفاء الراشدين حكاما شرعيين هو اختيار غالبية الناس وجمهورهم، كما لاحظه ابن تيمية، وغاب عن بال الكثيرين من فقهاء التكيف السابقين واللاحقين. يقول ابن تيمية:

"ولو قُدِّر أنهم [أي الصحابة] لم ينفذوا عهد أبي بكر في عمر لم يصر إماما... ولو أن أبا بكر بايعه عمر وطائفة وامتنع سائر الصحابة من بيعته لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الناس... وأما عهدُه إلى عمر فتم بمبايعة المسلمين له بعد موت أبي بكر فصار إماما."[14]

وقد عانى مبدأ الشورى تاريخيا من طائفتين: حكام تجاوزوه وتجاهلوه بالكامل، وفقهاء حصروه في نطاق ضيق. أما المنحى الأول فلا حاجة إلى مثال عليه، بل تكفي قراءة يوميات التاريخ السياسي الإسلامي وطرائق انتقال السلطة في ذلك التاريخ، وما ساد في عملية الانتقال تلك من حروب دموية، أو وراثة عُرفية، لا علاقة لأي منهما بمدأ الشورى والتراضي والتعاقد والاختيار الحرّ للحكام من طرف المحكومين.

وأما التكيف الفقهي الذي حصر الشورى في أفراد أو نخب ضيقة فأفرغها من مضمونها الاجتماعي ومدلولها الشرعي العام، فيكفي مثالا عليه قولُ إمام الحرمين الجويني: "ما نعلمه قطعا أن النسوة لا مدخل لهنّ في تخيّر الإمام وعقد الإمامة... وكذلك لا يُناط هذا الأمر بالعبيد وإن حازوا قصب السبق في العلوم، ولا تعلق له بالعوام الذين لا يعدون من العلماء وذوي الأحلام، ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة. فخروج هؤلاء عن منصب أهل الحل والعقد ليس به خفاء."[15] وقوله: "الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحلّ والعقد."[16] وأسوأ منه قول القاضي أبي بكر بن العربي: "إن واحدا أو اثنين تنعقد بهما الخلافة وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مُكرَه على ذلك شرعا.!"[17]

وبهذا العرض يتضح أن الإسلام يرفض القوة والغلبة طريقا إلى السلطة، كما يرفض الوراثة والأعراف في تداول السلطة، ويوجب على المسلمين أن يختاروا قيادتهم السياسية اختيارا واعيا، يتأسس على التداول، فالتراضي، فالتعاقد.

 


 

[1]  سورة الشورى، الآية 38.

[2]  عبد الله بن أحمد بن حنبل: كتاب السنة 2/541 والمقدسي: الأحاديث المختارة 2/86 وابن حجر: الإصابة 2/503 وقال محقق "السنة" د. محمد سعيد القحطاني: "إسناده حسن" وقال محقق "المختارة" عبد الملك بن دهيش: "إسناده صحيح"، وذكر ابن حجر أن الحديث "في مسند أحمد بسند جيد".

[3]  مسلم 4/1847.

[4]  البخاري 6/2505 وعبد الرزاق 5/445

[5]  البزار 1/302

[6]  ابن حبان 2/148

[7]  النسائي 4/272 وابن أبي شيبة 7/431

[8]  البيهقي في الكبرى 8/151.

[9]  عبد الرزاق 5/481.

[10]  صحح إسناده ابن حجر، انظر: فتح الباري 7/8.

[11]  مسلم 3/1480 والطبراني في الكبير 17/145 وأبو عوانة 4/412.

[12]  البخاري 5/1549 ومسلم 3/1380 وابن حبان 11/153.

[13]  النووي، شرح صحيح مسلم، 15/149.

[14] الذهبي، المنتقى من ميزان الاعتدال، 62-63. وهو اختصار الذهبي لكتاب منهاج السنة لابن تيمية.

[15] الجويني، غياث الأمم، 1/49.

[16] الجويني، كتاب الإرشاد، 357.

[17] ابن العربي: العواصم من القواصم، 148.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق