التمويل الإسلامي المعاصر (الأزمة المعرفية والتطبيقية)

عبد العظيم أبوزيد*

مقدمة

يعاني الاقتصاد الإسلامي من أزمة معرفية وتطبيقية حقيقية، فأدبياته تحفل بالمثاليات المجردة وغير المتبلورة، وتتجلى هذه الأزمة بشكل أكبر في الجانب العملي من الاقتصاد الإسلامي الذي تهيأت له فرصة التطبيق، أي ما يسمى اليوم بالتمويل الإسلامي. وتتجه أكثر الإسهامات الفكرية والمعرفية الاقتصادية في أيامنا لتبرز انفصام هذا الجانب التطبيقي عن مبادئ عن هذا النظام إلى درجة القطيعة المطلقة بين الاثنين. وهذا ولا شك أسوأ ما يمكن أن يرمى به نظام ما؛ قطيعة مطلقة بين منطلقاته النظرية وواقعه التطبيقي، حتى اضطر ذلك رجالات الاقتصاد الإسلامي ليرجعوا البصر كرتين في أصول هذه النظام وممارساته، فيدركوا وينبهوا على محل الخلل الذي أدى إلى هذه القطيعة. وإن كان من دلالة لهذا على شيء، فهو الخشية من فشل التطبيق وما يجره ذلك من آثام وأضرار متعددة الصعد. يشخص البحث أزمة التطبيق هذه ويحلل أسبابها، ويقترح سبيل علاجها. ولا شك أن تناول الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد الإسلامي بالتحليل والتعليل يحتاج إلى مصارحة وجرأة وموضوعية، ولا بد من التشخيص قبل العلاج.

 

تجليات أزمة الاقتصاد الإسلامي

  1. تعدد نماذج الصيرفة الإسلامية في العالم الإسلامي: فهناك مثلاً الصيرفة الإسلامية على الطريقة الماليزية وأخرى على الطريقة الخليجية. والحقيقة أن الذي يسوغ الخلاف الفقهي هو اختلاف المدارس الفقهية ومناهجها في الاستنباط، لا التشهي وإرادة التطويع المصلحي للنصوص والمذاهب الفقهية؛ فالمدرسة الفقهية التي تتبعها ماليزيا هي المدرسة الشافعية، وهي ذاتها المدرسة ذائعة الانتشار في البلدان العربية. والمدرسة الشافعية لا تقر أصولها الممارسات التي يختلف بها ما يسمى بالنموذج الماليزي عن النموذج الخليجي؛ فما ينسب إلى الإمام الشافعي من جواز بيع العينة أو بيع الدين كما هو ممارس باطلٌ، فشتان بين حكم على مسألة كالعينة بالصحة باعتبار ظاهرها وبين الحكم عليها بالحل، وشتان بيع تجويز بيع دين حالّ على نحو يندفع معه وقوع الربا، وهو ما أجازة الشافعية حقيقةً، وبين بيع دين مؤجل وبحسم[1]. وعليه، فإن تعدد نماذج العمل المصرفي الإسلامي يُقبل إن كان في إطار المسائل والأحكام المقبولة شرعاً، لا الأقوال الشاذة أو التي لا يوجد لها سند أو تخريج شرعي مقبول، كالعينة أو التورق المؤسساتي أو حسم الدين ونحو ذلك. وإذا ما أراد المرء أن يتتبع الأقوال الشاذة على مدى تاريخ التشريع الإسلامي، فإنه لن يعدِم وجودَ قولٍ شاذٍ يجيز له ما يشتهي جوازه، لكن العبرة بالوزن الفقهي لهذا القول ومستنده الشرعي وتلقي العلماء له بالقبول. وما يذكره الفقهاء من إمكان تعدد الأحكام بتعدد الأزمنة واختلاف الأمكنة والأحوال، كقاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" مثلاً، فهو في الأحكام المستندة أصلاً إلى العرف والعادة والمصالح كما هو معروف، كمسؤولية البائع عن نقل المبيع إلى مكان المشتري مثلاً، لا الأحكامِ الشرعية المؤصلة أو المنصوص عليها وغير المستندة في مشروعيتها إلى العرف والعادة والمصالح[2]. وعليه، فإنه يسوغ اختلاف بعض الأحكام التطبيقية الجزئية في الصيرفة الإسلامية من مكان لآخر، لا أن يكون ذلك على مستوى المنتجات وأصل العقود، فلا يوجد مسوغٌ شرعي أبداً لأن يكون عقدٌ يُتخذ حيلة على الربا، يُقدَّم به التمويل النقدي، حلالاً في مصرف وحراماً في آخر باعتبار اختلاف بيئة العمل والمكان؛ بل إن الحاجات الإنسانية ثم المصرفية الأساسية للأفراد واحدة، ولا تختلف باختلاف المكان.
  1. عدم التميز الحقيقي للمؤسسات المالية عن نظيراتها التقليدية في كثير من منتجاتها: والمطلوب هو التميز الحقيقي لا الشكلي، لأن تحريم الإسلام للربا وعقود الغرر ونحوهما إنما كان لأجل آثاره الاقتصادية والاجتماعية السلبية الكارثية في المجتمعات، لا باعتبار شكليات العقود الموصلة إلى الربا والغرر، كما أن الخمر حرمت في الإسلام لأضرارها ومفاسدها لا لطعمها أو لونها أو رائحتها أو اسمها. وبالتالي فإن البعد الحقيقي عن الربا وعقود الغرر يقع موقع اللبّ من قضية التزام المؤسسات المالية الإسلامية بالرسالة الاجتماعية. والمشكلة أنه قد وجد في العقود التي تمارسها بعض هذه المؤسسات ما لا يفترق جوهرياً عن الربا وعقود القمار والغرر.[3]

 

تحليل أسباب الأزمة الحالية التي يشهدها التمويل الإسلامي

يمكن عزو هذه الأزمة على التحقيق إلى مسببات كثيرة بعضها ما سبق وثمة أخرى غيرها، وأكثر هذه الأسباب ليس خاصاً بتجربة الاقتصاد الإسلامي، بل المظنون أن الأزمة ستتكرر تكررَ التجارب في تطبيق المعارف الشرعية العامة في وقتنا الراهن، وذلك للاشتراك في أكثر هذه الأسباب، وأهمها في نظر الباحث هو الآتي:

 

  1. طبيعة المعارف الإسلامية غير القابلة للتجزيء أو التلبس بأضدادها

من طبيعة المعارف الشرعية الإسلامية أنها منظومة متكاملة ومترابطة بعضها ببعض، فلا ينفك الجانب المعرفي الاقتصادي منها عن الاجتماعي عن السياسي، وهذا أثر طبيعي لهويتها الدينية، فلا ينجح تطبيق أحد هذه المعارف نجاحاً كاملاً إلا في مناخ إسلامي عام وشامل تطبق فيه سائر المعارف. ثم يأتي الجانب التعبدي الذي لا ينفك عن أيِّ من هذه المعارف، وتأتي التربية الدينية التي تنهض على أساس التكاليف التعبدية، من صلاة وصوم وزكاة وحج وغير ذلك، لتخلق الرادع والرقيب الداخلي في نفس المكلف، وتهيأ المناخ الملائم لنجاح التطبيق الشرعي الصحيح لهذه المعارف، فيعلم المكلف أن التفلت من المؤيدات الجزائية المادية لا ينفعه ولا يعفيه من المسؤولية الحقيقية أمام دينه.

والاقتصاد الإسلامي أعم من التمويل الإسلامي، والتمويل الإسلامي أعم من التمويل الربحي، لكن ما جرى تطبيقه من هذا العلم لا يتجاوز عتبة التمويل الربحي، ومن طبيعة التطبيق الجزئي، على فرض نجاحه، أنه لا يستقيم معه الحكم بنجاح التجربة ككل. وتفسير هذا أن مؤسسات التمويل الإسلامي القائمة مؤسسات أنشئت لغرض الربح، وهذه هي طبيعتها، ومن غير العدل أن تطالب بما ينافي طبيعتها وغرض قيامها، أو أن تحمّل تبعة عدم قيام المؤسسات المالية الرديفة التي يكفل التطبيق الشامل للاقتصاد الإسلامي قيامها. فتتحقق تحت مظلة الاقتصاد الإسلامي الرعاية المالية باختلاف مناحيها، ومنها ما يكون بإيجاد مؤسسات القرض الحسن؛ فتقرض الدولة رعاياها من بيت المال قرضاً حسناً باعتبار حاجاتهم الانتاجية أو الاستهلاكية المستعجلة، أي تتخصص هذه المؤسسسات بتقديم القرض الحسن وفق معايير موضوعة، ولا تكلَّف مؤسسات التمويل الربحية بهذا أو تلام على عدم تقديمها القروض أو المساعدات لمحتاجيها. وعليه، فإن وجود مؤسسات تمويل ربحي غير كاف لنجاح تطبيق التمويل الإسلامي أو الاقتصاد الإسلامي بشكل أعم، بل ينبغي أن توجد المؤسسات الرديفة والمكملة ليحكم على التجربة بالنجاح وتحقيق الثمرة النهائية المرجوة منها.

ومن طبيعة المعارف الإسلامية كذلك أنها معارف أصيلة ومستقلة الكيان والهوية، منفتحة على المعارف الكونية المفيدة الأخرى، فتستمد منها وتمدها، لكنها لأصالتها لا تقبل التلبيس المعرفي في المعارف المتضادة معها، على النحو الذي جرى في المطبق من منظومة الاقتصاد الإسلامي، أي التمويل، حيث تلبّس هذا الفرع المعرفي بنقائضه من أصول التمويل الوضعي الرأسمالي القائم على الربا والغرر، لما تسربت إلى التمويل الإسلامي منتجات لا تختلف من حيث الجوهر والأثر الاقتصادي عن المنتجات التقليدية، مما أدى إلى ولادة مسخ غريب عن جسم الشريعة وروحها، ويحمل في طياته أضرار ما تلبس به.

 

  1. عدم النضوج المعرفي للعلم قبل الشروع بالتطبيق

مما أسهم في وجود الأزمة في التطبيق هو عدم النضوج المعرفي للعلم، ومحاولة التطبيق قبل استكمال الإطار النظري للفرع المعرفي، بدليل تضاد التفسيرات وتناقضها في هذا الفنّ على نحو لا تقبله حتى الطبيعة المرنة للعلوم المعرفية. وتفسير هذا أن علماء المسلمين قعدوا عن الاجتهاد فترة طويلة امتدت لقرون، تطورت فيها الأحداث والمسائل كثيراً، ولا سيما التعاملات المالية، فاتسعت الفجوة بين المدون فقهياً والمسائل المستحدثة. ثم كان النظر الفقهي في المسائل المستحدثة عند قيام ما يستدعي ذلك نظراً سريعاً، لم يستكمل مقوماته، فأنتج هذا النظر الفقهي السريع وغير المنضبط فتاوى مستعجلة، ومتناقضة أحياناً، عُدَّت مضموناتها لاحقاً من بنية هذا الفرع المعرفي، مع أنها مجرد فتاوى لا أصول علمية يصلح أن يقوم على أساسها علمٌ ما. والمطلوب من علماء المسلمين ورجالات الفكر الإسلامي وإن لم يُعطوا بعد فرصة تطبيق فروع دينهم المعرفية أن يعدوا لهذه المرحلة، فيعملوا على تقنين الفقه الإسلامي مثلاً بكل فروعه الدستورية والسياسية والجنائية والاقتصادية والمالية على غرار ما جرى في قوانين الأحوال الشخصية، ليكونوا جاهزين لتلك المرحلة، فلا يؤدي الفراغ وعدم الجاهزية عند تهيؤ فرصة التطبيق إلى إحداث فوضى واضطراب ناتج عن العمل الفردي السريع الذي قد تلوثه المصالح الفردية للمعنيين بهذا العمل على النحو الذي رأينا مع سنوح فرصة تطبيق التمويل الإسلامي بمؤسساته وآلياته.

وسبيل الإعداد لذلك هو العمل المؤسساتي المنضبط والرصين وليس العمل الفردي، فتقوم المؤسسات العلمية الدولية القائمة أو أخرى جديدة بالإفادة من الثروة الفقهية العظيمة التي خلفها العلماء الأوائل، ليختاروا من أقوالهم المعتبرة ما يناسب عصرنا، أو تُستنبط أحكام جديدة على هدي الشريعة وأصولها ومقاصدها.

 

  1. الواقع غير المثمر للقاءات والمنتديات العلمية

واقع أكثر اللقاءات والمجامع العلمية والمؤتمرات أنها لم تسهم من حيث الجملة في حل الأزمة المعرفية للاقتصاد الإسلامي، ولم تؤد دورها المفترض منها.

فالمؤتمرات التي تعقد في هذا الموضوع لا يكون الغرض منها غالباً حل مشكلة قائمة، بل لغرض الدعاية والإعلان للمؤسسة المنظمة والراعية له أو لبعض منتجاتها، أو لتفخيم سجل المؤسسة بتكثير إنجازاتها، أو ربما لتصريف فائض في ميزانية تلك المؤسسة؛ فتغيب من حيث النتيجة الجدية عن أكثر الأوراق العلمية المقدمة، ولا تُراجع هذه الأوراق لغرض تقريرها المراجعةَ الصحيحة اللازمة. وقد يراد توجيه الحدث العلمي توجيهاً يهدف غرضاً مصلحياً معيناً للجهة المنظمة، لا معرفياً أو علمياً، فتستبعد الأوراق التي لا تصب في هذا الغرض وإن كانت رصينة ونافعة، وتقبل الأوراق التي تلتقي مع هذا الغرض وإن كانت ضعيفة أو جوفاء.

ثم هي من حيث التنظيم تفتقر كذلك إلى مقومات النجاح والإنتاجية، فالعلاقات الشخصية كثيراً ما تلعب دوراً في انتقاء المتحدثين، ثم يغلب على المؤتمرات والمنتديات أن تتكرر فيها ذات الأسماء، إذ يسعى المنظمون خلف الأسماء ذائعة الصيت، وهؤلاء لكثرة أشغالهم لا يكون لديهم الوقت والفراغ لتقديم ورقات جدية وجديدة، بل يكررون أنفسهم حيث حلّوا وارتحلوا، وتذهب أكثر ميزانية المؤتمر في استضافتهم، وذلك على حساب المجدين من الشباب، والمتحمسين للإسهام بالمفيد والجديد.

وكثيراً ما تكون نتائج المؤتمر قد تم صياغتها من قبل عقد المؤتمر أو في أثنائه، وقد تصاغ نتائج عبثية للمؤتمر، أو لا تكون نتائج أصلاً، لأن الهدف من المؤتمر قد يكون مجرد عقد المؤتمر لا نتائجه؛ أو قد يجري التسويف فيكتشف المؤتمرون أن الأمر بحاجة إلى مؤتمرات أخرى لمناقشة نفس القضية، ثم لا يكون مؤتمر وتدفن القضية في أرضها.

وقد يكون ثمة نتائج إيجابية للمؤتمر، لكنها تبقى على الورق ولا يصار إلى تطبيق شيء منها، فيكون المؤدى واحداً في الحالتين، وتذهب الملايين التي بُذلت في عقد المؤتمر سدى. ومن الطريف أن يكون محور المؤتمر يرتبط بإصلاح الأوضاع الاقتصادية لبعض فئات المجتمع ثم يتبين للمراقب أنه لو صرفت كلفة ذلك المؤتمر على تلك الفئات لكان أنجع وأفضل!

وهكذا فإن هذه الممارسات بمجموعها لا تخدم المعارف عموماً، ولا تخدم الاقتصاد الإسلامي بشكل خاص، لأن أكثر المؤتمرات ذات الصبغة الإسلامية تعقد الآن في موضوعات التمويل الإسلامي، وتتجلى هذه الممارسات فيها أكثر مما تتجلى في أي مؤتمرات في مواضيع أخرى، مما يؤدي إلى تعميق الآزمة وتكريس الفوضى، وربما الترويج لما هو فاسد؛ ولا سيما أنه يمكن تصنيف المؤتمرات في موضوعات التمويل الإسلامي في نوعين:

  • مؤتمرات تعقدها شركات خاصة بتنظيم المؤتمرات وذلك لأغراض تجارية، حيث يتم الاتفاق مع بعض الرعاة لتقديم الدعم المادي للمؤتمر مقابل الدعاية لهؤلاء الرعاة في خلال المؤتمر، وتتم أيضاً دعوة الفاعلين في صناعة التمويل الإسلامي وأصحاب القرار للحديث في هذه المؤتمرات، وقد تملي الجهات الراعية على الشركة المنظمة أسماء بعينها للحديث في هذا المؤتمر؛ ثم تجري الدعاية لهذه المؤتمرات والترويج لها لدى المؤسسات المهتمة بغرض مشاركتها بإرسال موظفيها بعد دفع رسم حضور مقرر. وهذه النوعية من المؤتمرات التي شاعت كثيراً في الفترة الأخيرة قد تركت آثار معرفية سلبية بالغة، لأن من شأنها أن تخضع لإملاءات الرعاة وتفرض على الفكر المعرفي اتجاهاً بعينه يمليه واقع السوق المحكوم بالربحية والمصالح المادية، كما أنها تصنع نجوم مؤتمرات لا باعتبار الكفاءة والوزن العلمي أو الإسهام الفكري، بل باعتبار الوزن السوقي لهؤلاء، وهو المحكوم بالتقاء فكرهم مع مصالح السوق.
  • ثم مؤتمرات تعقدها المؤسسات العلمية والبحثية، ومن شأن هذه المؤتمرات أن تحقق الإسهام المعرفي المنشود إذا ما أحسن تنظيمها واستغلالها، وكانت بعيدة عن النزعة التجارية والممارسات السالف ذكرها، لكن مشكلة هذه المؤتمرات أنها لم تسلم عن تلك الممارسات، وتأثرت بما روجته وأفرزته المؤتمرات الأولى من مقاربات وشخصيات.

 

  1. غياب الجهات الإشرافية على الجوانب التطبيقية

مما يؤخذ على العقل العربي الذي شكلته ظروف العرب الحالية الفردية وعدمُ الانتظام الجماعي التلقائي، مما يحوج إلى تدخل سلطات عليا تفرض التنظيم الضروري وترعاه. وهذا من أسباب تخلف العرب في هذا العصر، فأمر بالغ الأهمية كالعمل المصرفي الإسلامي ترك دون تنظيم داخلي، ولا سيما في الجانب الشرعي الرقابي، مع أن نتائج عدم تنظيمه بالغة الخطورة ولا تخفى على عاقل. ولو وقع هذه الأمر في بلاد الغرب أو أقاصي الشرق المتحضر، لشرعوا بتنظيمه منذ اليوم الأول دونما حاجة لتدخل الحكومات، ولم يعرّضوا هذا الأمر لمآله المحتوم مع ترك التنظيم، من السقوط والإنهيار نتيجة تسرب الفساد إليه وتغلغله بسبب الطبيعة البشرية الفردية.

إذ من الطبيعة البشرية للأفراد أن يجنحوا في تعاملاتهم إلى ما يحقق مصالحهم ولو على حساب بعضهم بعضهاً أو على حساب مجتمعاتهم، أو القيم والمعتقدات، أو النفع العام. وقد لا تكفي المؤيدات الدينية لدرء خطر هذه الطبيعة فيهم، مما يحتم على الحكومات بسلطتها التنفيذية أن تتدخل وتفرض مؤيدات أو وسائل دنيوية تضبط سلوكهم. وهذا التدخل يمكن أن يتخذ أشكالاً عدة، فتقوم جهات حكومية بأمر التنظيم مثلاً، أو يقتصر تدخلها على الإشراف على التطبيق وضبطه بضوابط تكفل سلامة آثاره.

وعدم تولى الجهات الحكومية لتنظيم الجانب التمويلي من الاقتصاد الإسلامي أو إشرافها عليه، وتركه للأفراد أو المؤسسات، أدّى إلى النتيجة الطبيعية من تطويع هذا الفرع المعرفي لمصالحها الخاصة، وإلى تشويهه وخلق الأزمات فيه. وفي بعض الحالات التي رعت فيها الحكومات تطبيق التمويل الإسلامي، طغى على هذه التجربة الواقع السياسي لهذا البلد، فسُخِّرت تجربة التمويل الإسلامي لأغراض سياسية مرتبطة بالمشاكل الداخلية لهذا البلد، مما أدى إلى عدم تميز هذه التجربة بالإيجابية، بل كانت في مضمونها، لا في إطارها التنظيمي، أكثر سلبيةً من غيرها.

 

  1. تسلل التسويغ بالسياسة الشرعية إلى الجانب المعرفي التطبيقي للتمويل الإسلامي

صار يتردد في أروقة المجالس الفقهية للصيرفة الإسلامية مصطلح "السياسة الشرعية" في إطار تسويغ بعض تطبيقات المعاملات المالية، على اعتبار أنها لا تجوز باعتبار الأدلة الظاهرة، أو الأقوال الفقهية المعروفة، أو مواقف المجامع الفقهية، ليمكن تجوزيها بقتضى السياسة الشرعية.

وعلى فرض سلامة ذلك شرعاً فإنه إذا كانت بعض ممارسات التمويل الإسلامي من قبيل السياسة الشرعية فإن السياسة الشرعية في أصلها تتنافى مع التأصيل المعرفي، لأن الحكم بمقتضى السياسة الشرعية يرتبط بالاستثناءات. وعليه فإن التأصيل المعرفي السليم يتنافى أصلاً مع الأحكام الاستثنائية التي قد تُفرض بمقتضى السياسة الشرعية في بعض الظروف، لأن المعرفة تقوم على الأصول العامة والراسخة مما يتنافي مع شرعة الاستثناءات، والحكمُ في أمر بمقتضى السياسة الشرعية وإن كان صحيحاً ومن أهله طارئٌ واستثناء.

ومن حيث الاعتبار الفقهي، فإن تسويغ الأفراد أو المجالس الفقهية لبعض التطبيقات بمقتضى السياسة الشرعية تطورٌ خطير وفاسد من أوجه عدة:

  • أن التصرف بمقتضى السياسة الشرعية هو للحاكم المسلم، أو الحكومة المسلمة، تقرره وفق المصلحة العامة وبمقتضى الشورى، لأنها ترتبط بإدارة الشؤون العامة الداخلية والخارجية للدولة. وتقصير الحكومة المسلمة في هذا الجانب في بعض المجالات لا يخوّل الأفراد أن يبوؤوا أنفسهم دور الحكام.
  • أن السياسة الشرعية لا تخول من يتصرف بمقتضاها تسويغَ المحرم وتسميته حلالاً، كأن يوسم منتج مالي غير شرعي بالشرعية بمقتضى السياسة الشرعية ويسمح للمؤسسات المالية الإسلامية بتقديمه؛ بل تخول السياسة الشرعية لأهلها التصرّفَ في الأمور العامة بمقتضى المصلحة، بما لا يتناقص مع أصول الشريعة ونصوصها الثابتة؛ وتعليقَ بعض الأحكام الشرعية بمقتضى الضرورة التي تبيح بشروطها المحظور أو تسلب الوجوب عن الواجب؛ أو التصرفَ بمقتضى التعزير الذي قد يصل إلى القتل في قضايا الجنايات وجرائم أمن الدولة؛ أو تقييدَ المباحات.
  • أن جهات الفتوى المصرفية الحالية ليست طرفاً مستقلاً تُضمن نزاهتُه في تقريره للمسائل بمقتضى السياسة الشرعية على فرض صحة تبوّئها لعمل السياسة الشرعية أصلاً، وذلك لأنها طرف مستفيد مما تقرره، فرواج هذه الفتاوى الميِّسرة من أهلها يغري المؤسسات المالية المستفيدة بأصحابها، مما يعود بالنفع المادي على أصحاب هذه الفتاوى، فضلاً عن وجود مؤسسات فتوى خاصة من شأن تقاضيها أجراً عن مراجعة المنتج بغية الحكم بتسويغه ألا يجعلها مستقلة على نحو يدفع تدافع المصالح.
  • تعدد جهات الفتوى بتعدد المؤسسات المالية يؤدي إلى تعارض المفتى به بمقتضى السياسة الشرعية حتى في نطاق البلد الواحد، مما يؤدي إلى وقوع الاضطراب والفوضى على نحو يلغي أي نفع قد تعود به الفتوى بقتضى السياسة الشرعية؛ فيصير الأمر أشبه بالفوضى التي يحدثها تعدد الحكام ورؤاهم في البلد الواحد.

 

  1. محدودية النقد

النقد أمر ضروري لكل جهد معرفي بشري، وهو الذي يطور المعارف ويصقلها ويخلصها من شوائبها. وتعظم أهميته للمعارف الناشئة، لأنها تكون كثيرة الأخطاء عادة، مما يستدعي كثرة التنبيه إلى محالّها.

ووجود النقد والناقدين هو من جملة الروادع التي تردع أرباب المعارف والمقائمين على تطبيقاتها من الغلو فيها أو الانحراف بها. ولو لم يوجد نقد وناقدون لوجب إيجادهم واصطناعهم صيانةً للفرع المعرفي والمصالح العامة المرتبطة به.

والنقد إما هدّام وإما بناء، والهدّام ما يفشل التجربة ويمنع من قيامها، ما دامت قائمة على أسس مقبولة في الأصل؛ وليس من النقد الهّدام ما يتوجه إلى معالجة القائم فعلاً من التجربة، أو ينبه إلى خطأ فيها أثناء قيامها، بل هذا من النقد البناء. ولا يصح عدّ النقد بناءً أو هداماً باعتبار غرض الناقد ونيته، بل باعتبار محلّه كما تقدم؛ أي فتنتفح المعارف الشرعية على كل نقد بناء ولو صدر عن مغرضين أو حتى عن غير المسلمين.

ومن السلبيات المعرفية المتصلة بالاقتصاد الإسلامي أنه لم يتلق النقد الكافي في بداياته، بل تأخر هذا النقد إلى زمن قريب بعد أن تجذرت معاملات مشبوهة في العمل المصرفي الإسلامي، حتى اكتسبت شيئاً من الشرعية العرفية بمرور الوقت وطول الصمت. ويقع اللوم أكثر ما يقع على المجامع الفقهية التي غلب عليها الصمت بينما التمويل الإسلامي في طور التكوين في المؤسسات المالية الإسلامية، فترك الأمر للهيئات الشرعية تشكل صيغ هذا التمويل. ولم يصدر عن المجامع الفقهية إلا قرارات فقهية بسيطة على مدى سنوات، وكثر في قرارات هذه المجامع التسويف والتأجيل إلى دورات أخرى في أمور بالغة الأهمية هي قيد التطبيق والممارسة في المؤسسات المالية. بل وكان في بعض الأحايين أن خرجت المجامع الفقهية بقرارات خجولة مترددة أشبه برفع العتب إذا صح التعبير، وتفتح الباب لاستثناءات محذورة[4].

ويعزى تقصير المجامع الفقهية إلى جملة أسباب أهمها:

  • وجود لوبي قوي في المجامع الفقهية من الفقهاء العاملين في المؤسسات المالية الذين لا يسرّهم أن تنقض المجامع الفقهية فتاويهم، فيحولون ما أمكن دون صدور قرارات من المجامع الفقهية بذلك.
  • ضعف معرفة أكثر أعضاء المجامع الفقهية، وفقهاء الشريعة عموماً، بفنيات المعاملات المالية المصرفية، مما يجعلهم عاجزين عن الدخول في نقاشات علمية نقدية مع الفريق الأول، وهو ما استغله الفريق الأول لصالحه أحسن استغلال، فبقي كثير من المعاملات المالية المشبوهة دون نقد أو اعتراض أو تصويب. ولحقيقة هذا الأمر تعلّل فيما تعلّل ظاهرةُ احتكار الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية واقتصار العمل المصرفي الإسلامي على مجموعة قليلة من الشيوخ، إذ ليس في مصلحة هؤلاء أن يخبر العملَ المصرفي فقهاء حقيقيون قد يشكلون عامل نقد قوي لفتاويهم في أروقة المؤسسات الفقهية.
  • ضعف المجامع الفقهية بشكل عام وطروق الوهن إليها بدءاً من طريقة وصول أعضائها إليها، ومؤهلاتهم، وقدراتهم العلمية والبدنية على الحضور والتنسيق والمتابعة، واهتمامهم وجديتهم، إلى طريقة تنظيم هذه المجامع وسير عملها، وصياغة قراراتها، ثم وزن هذه القرارات، واحترام المؤسسات المالية لها[5].
  • رفض النقد: ومن المشكلات المرتطبة بالنقد أيضاً عدم الاستعداد لتقبله، ورفضه على قلته من قبل المعنيين بالتطبيق العملي لهذا الفرع المعرفي، أي التمويل الإسلامي، وعدّه هجوماً على أشخاصهم. وهذه مشكلة نفسية تنبغي معالجتها، وهي سمة ظاهرة وللأسف على العقل العربي المعاصر، كفيلة بأن تدفن في التراب كل نافع ومفيد، وهي من آثار النشوء في بيئات دكتاتورية ألقت بظلالها على طريقة تفكير الأفراد. وجوهر هذا الأمر هو ما يتميز به العقل الغربي عن العربي، فهناك يُفرق بين نقد الفكر ونقد الشخص، ولا تحمل الأمور على المحمل الشخصي، بل تذوب الخلافات الشخصية في سبيل خدمة الفكرة وتنقيحها وتطويرها لمنفعة الجميع؛ أما هنا فتحتدّ النفوس ويُشكك في النيات ويُحمل كل نقد على العداوة أو الغيرة والحسد، فيصِرّ المخالف على مخالفته والمخطأ على خطئه، حتى قد تصير مجالس الحوار المعرفي مجالس شتم واتهامات.

 

  1. ظاهرة الإفراط أو التفريط في الفكر الديني وتأثيرها على منهجية الفتاوى المالية

كثير من الفتاوى المصرفية المالية هو أثر عن خلل وغلو في الفكر الديني من أصحابها، وهذه ظاهرة ليست بالجديدة، إذ وجد الغلو والإفراط والتفريط في الفكر الديني من قبلُ، فقدِّم مثلاً العقلُ على النقل كأثر من آثار شيوع الفلسفة التي احتيج إليها لمناظرة الملاحدة والوجوديين الذين لا يؤمنون بالنصوص الشرعية، فلا ينفع معهم إلا الجدل العقلي. لكن كان من أثر ذلك أن أعطي العقل سلطاناً فوق سلطان النصوص، فعمل روّاد هذه المدرسة (المعتزلة) على تأويل أو ردّ ما بدا عدم انسجامه مع العقل من النصوص الشرعية. وهذا إيغال وإفراط في دور العقل في تعليل النصوص وتأويلها أتبعه إيغالٌ وتفريط كذلك في سلطة النقل على العقل، فترِكت النصوص على حالها وأخذت على ظاهرها، فكان التفريط هذه المرّة في دور العقل والاجتهادِ في تأويل النصوص وإدراك مقاصد النهي والتشريع، على نحو ما فعل المذهب الظاهري.

وفي زمننا المعاصر وجد الأمران أيضاً ولكن باعتبار آخر، إذ نشأ كردِ فعل على الفكر الديني الصوفي الذي أوغل في الإبحار بما وراء معاني النصوص، دعوةٌ للوقوف على ظاهر النص بغية درء خطر تمييع النصوص الذي وجد في الفكر الصوفي بعامة. لكن اشتملت هذه الدعوة على غلو غير مقصود، حيث توسّعت في أذهان بعض أتباعها لتشمل نصوص التشريع، فأُخذت النصوصُ على ظواهرها على نحو عطّل حكمة التشريع ومقاصده. وهذا ما نراه في كثير من الرؤى والفتاوى الفقهية المعاصرة في مسائل التمويل الإسلامي، فبعضها يقوم على الحكم بحل المعاملة باعتبار استيفاء شروط الصحة الشكلية التي وردت بها النصوص دونما حاجة لاعتبار جوهر المعاملة ومآلاتها.

فالرؤى الفقهية التي تحل بيوع الذرائع الربوية كالعينة أو التورق كما يجريان الآن في بعض المؤسسات المالية الإسلامية، وتتشدد في تحقيق شكليات معينة لحلها، على الرغم من عدم تأثير هذه الشلكيات على جوهر المعاملة الذي لا يفترق عن الربا إلا باللفظ والشكل فحسب، هي رؤى تنبثق عن عقلية تؤخذ بالظاهر وتعطل روح النص ومقاصده، وهي عقلية يُخشى منها حقيقةً على التشريع الإسلامي. ومثلها تلك العقليةُ التي تفرق بين البيوع الربوية، فترى حِلَّ واحد وحرمةَ أخر على الرغم من اتحاد الجميع في الجوهر والأثر، أو تلك التي تصَوغُ بيعاً جديداً يوصل إلى نفس النتيجة من معاوضة المال بالمال بوساطة سلعة غير مقصودة لذاتها حقيقة في البيع والشراء، ثم تزعمُ حِلّه وتشنُّ حرباً على البيوع الربوية الأخرى[6]!

إن المنهج المقبول في التشريع الإسلامي هو المنهج الوسط الذي يوائم بين النقل والعقل على نحو ما يفعل القياس الشرعي، فيُجلّي دور العقل في تعليل النصوص التي تقبل التعليل، ويُلِحق الأمور بنظائرها باعتبار الاشتراك في العلة وفق عملية تنقيح المناط وتحقيقه.

 

  1. الخلل في طبيعة ارتباط الهيئات التي تمثل الجانب التشريعي بالمؤسسات المالية

تمارس الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية دوراً تشريعياً داخلياً يمثل في مجموع أدبياته أساساً معرفياً للاقتصاد الإسلامي ومؤسساته، لكن هذا النتاج المعرفي تشكل في مناخ مشبوه يستدعي حكماً عقلياً وشرعياً بالتشكك في سلامة هذا النتاج. فقد قامت العلاقة بين الهيئات الشرعية صاحبة هذا النتاج وبين الفئة التي تملك المؤسسات على أساس غريب عن فكر الشريعة، وهو الارتباط المصلحي المادي المباشر بين هاتين الفئتين، فتختار الفئةُ الثانية الفئة الأولى وتدفع لها أجراً عن إصدار الأحكام التي تلتزم بها. وهذا العمل لا يسوغ عقلاً ولا شرعاً لأنه ينطوي على مفاسد ظاهرة، إذ لا يتحقق استقلال تلك الهيئات بهذا العمل، بل تتأثر تلك الأحكام برغبة أصحاب تلك المؤسسات بالنظر إلى تدافع المصالح. ومن الوجه الشرعي، فإنه لا يجوز في فكر الشريعة أن يأخذ المتكلم بحكم الشرع أجراً من الذي يقع عليه هذا الحكم ويُلزم به، كما هو الحال في أجر القاضي، فإنه لا يجوز أن يكون من الخصوم، بل من بيت المال، بل ويحرم على القاضي أن يأخذ هدية من الخصوم لأن ذلك يفتح باب مفسدة عظمى ولو كان القاضي من أشهر الناس ورعاً ونزاهة. والحال ينبغي أن تكون كذلك في المؤسسات المالية، فإن قرارات الهيئة الشرعية تلزِم تلك المؤسسات ولو على حساب أرباحها ومكاسبها، ومع هذا نرى أن تلك المؤسسات هي التي تدفع رواتب تلك الهيئة، بل وهي التي تختارها قبل ذلك وتعينها، فمن الطبيعي أن تختار هيئات تلتقي آراؤها مع مصالحها. ويقتصر الفارق بين القاضي الذي لا يتخلف الفقهاء على منع أخذه أجراً بل هديةً ممن يقع حكمه عليه وبين الهيئة الشرعية على أن القاضي يتكلم بالحكم الشرعي في حقوق العباد، أما الهيئة الشرعية فتتكلم في الحكم الشرعي في حقوق الله تعالى من حرمة الربا والغرر وغير ذلك[7]. وهذا الفرق المحدود بين الاثنين لا يسوِّغ للهيئة جواز أخذ الأجر من الطرف الملتزم بالحكم، بل ينبغي أن يكون اختيار وتعيين وعزل الهيئة الشرعية لطرف مستقل تمام الاستقلال عن تلك المؤسسات، وما ينبغي أن يكون كذلك حق تقدير أجر الهيئة أو أي مبلغ تناله فوق ذلك إلا لطرف مستقل عن المؤسسة المالية الإسلامية. وقد ثبت عدم فعالية تدخل المصرف المركزي في بعض الدول التي وجدت فيها هيئات مركزية في الموافقة على تعيين الهيئة أو عزلها، لأن المؤسسة المالية هي التي تقترح الهيئة وهي التي تعزلها حقيقةً، وتبقى موافقة المصرف المركزي أو هيئة المركزية روتينية وغير فعّالة، ولا سيما أن أعضاء الهيئة المركزية هم أنفسهم أعضاء في هيئات شرعية لمؤسسات مالية[8].

 

  1. غلبة الجهل بالدين على العامة وضعف وعيهم الديني

من المشكلات التي يواجهها التطبيق الصحيح للاقتصاد الإسلامي ضعف الثقافة الدينية لدى عامة المسلمين، ويعزى ذلك إلى طبيعة المناهج الدراسية المعاصرة، فهي لا تعطي دارسيها تثقيفاً دينياً كافياً. وقد أدى جهل الجيل المعاصر بدينه وأساسيات أحكامه وأصوله، بل وشعور هذا الجيل بالتقصير تجاه دينه، إلى أن ضرب في أذهان هذا الجيل طوقاً من القداسة الدينية حول علماء الدين. وهذا أمر نفسي، فالنفس بفطرتها تميل إلى حب الدين وتبجيل من ينتسب إليه، ويزداد هذا الشعور عند المقصرين والواقعين في الذنوب مع سلامة فطرتهم وهو حال جلّ الناس. وهذا أيضاً في جانب آخر منه من تأثير الفلسفات الدينية الأخرى، التي تقوم على وجود ما يسمى برجال الدين، وإضفاء هالة من القداسة على أقوالهم وأعمالهم، وهو ما حاربه الإسلام وأنكره أشد الإنكار إذ لا عصمة إلا للأنبياء.

وما كان لهذا الأمر الذي نذكره من أثر سلبي على مسيرة الاقتصاد الإسلامي لو أن تجربة الأخير لم تكن مفتوحة على الانحراف بسبب طبيعة العلاقة التي تأسست بين المشرفين شرعياً على عمل مؤسساته القائمة، أي مؤسسات التمويل الإسلامي، وبين أصحاب تلك المؤسسات كما تقدم بيانه. لكن بسبب شيوع الجهل في صفوف عامة الناس بالدين، وبسبب تلك الهالة، لم يكونوا قادرين على إدراك محل الخلل في منظومة العمل المصرفي الإسلامي وممارسة النقد اللازم لإصلاح ذلك، مع شديد الحاجة إلى موقف حاسم من العامة في ظل غياب السلطات الرقابية العليا وتقصير علماءُ الشريعة بشكل عام لأمور تقدم ذكرها. ولا يُنكر أن أهم نقد مؤثر وفعّال تكترث به البنوك هو نقد العامة، لأنهم العملاء والمستهدفون بالمنتجات التي تقدمها.

 

  1. معاملة الأقوال الشاذة معاملة الأقوال المعتبرة

من آفات المعارف الشرعية في أيامنا أن صار بسبب التراجع في إتقان العلوم الشرعية لا يُحسَنُ التمييزُ بين القول المعتبر الذي يحتمل وجهاً شرعياً وبين القول الشاذ الذي ليس له محمل شرعي صحيح. وصار وجود الرأي المخالف الشاذ إذا كثر أنصاره يصّير المسألة في الأذهان من قبيل المختلف فيه، وكأنه كالخلاف الذي يجري بين المذاهب الفقهية المعتبرة! وكثرةُ أنصار القول المخالف لا يستقيم أن يفهم منها بالضرورة صلاحيةَ هذا القول وصحة اعتباره شرعاً، لأن الفئة التي قد تجتمع على هذا القول هي فئة قد ترتبط مصالحها جميعاً ارتباطاً مباشراً بهذا القول، فيكثر أنصاره دون أن يكون للقول مصداقيته أو وزنه الشرعي المعتبر. ومثال ذلك في الإطار المعرفي المرتبط بالتمويل الإسلامي القولُ المعاصر بجواز بيوع الدين وبجواز بيوع العينة بصورها المختلفة، فهذه البيوع تمجها الفطرة الإنسانية والعقل السليم والأصول الشرعية، وقد كثُر أنصارها على شذوذها لارتباط المصالح الفردية برواجها[9].

 

الخاتمة والتوصيات

ما تقدم هو أهم الأسباب التي أدت في نظر الباحث إلى حدوث أزمة معرفية وتطبيقية في الاقتصاد الإسلامي، ولا شك أن ثمة أسباب أخرى غيرها، لكن هذا هو تشخيص الباحث لمحال الخلل. وبحسب الأسباب المنصوص عليها في هذا البحث، وبحسب ما يمكن العمل عليه واقعياً من بين هذه الأسباب، فإن البحث يسجل التوصيات الآتية:

  • الأزمة المعرفية ضاربة في الجذور في مجتمعاتنا، وهي لا تقتصر على علم أو فرع معرفي بعينه، بل تشمل أكثر المعارف الشرعية وسيتجلى ذلك إن سنح لهذه المعارف ما سنح للاقتصاد الإسلامي من فرصة التطبيق. ولذا ينبغي العمل والاستعداد النظري لهذه المرحلة بتقنين الأحكام الشرعية عبر العمل الجماعي المنضبط، حتى لا تتهم الشريعة بالقصور ولا نقع في أزمة تطبيق على نحو ما شهدنا في هذا الفن.
  • ضرورة العمل المؤسساتي في تقنين تشريعات الاقتصاد والتمويل الإسلامي، وأن يكون ذلك بتضافر جهود الشرعيين والاقتصاديين والحقوقيين المستقلين، لا أن يوكل الأمر إلى الشرعيين بحسب، لأن فئة واحدة من هؤلاء لا تملك التصور اللازم والكافي لتقرير الأحكام متعددة الأبعاد والآثار. وهذا دور يمكن أن تضطلع به مراكز بحثية علمية متخصصة، أو مؤسسة دولية فقهية كالمجمع الفقهي الدولي بعد إصلاحه وضم الخبرات الأخرى اللازمة إليه، أو أن يجري ذلك بالتعاون بين تلك المراكز العلمية المتخصصة والمجامع الفقهية.
  • ينبغي إصلاح حال المجامع الفقهية بإعادة هيكلتها وتنظيمها وآلية عملها، ثم عرض التطبيقات المالية الإسلامية القائمة عليها للخروج بالأحكام الشرعية الصحيحة لها على نحو فعال وسريع إلى حين تحقق التقنين المنشود.
  • من البديهيات العقلية والمسلمات الشرعية ألا يستقيم ارتباط الهيئات الشرعية بالمؤسسات المالية ارتباطاً مادياً مباشراً، تحقيقاً للاستقلال الحقيقي في عمل هذه الهيئات وضماناً للنزاهة ودرءاً لتدافع المصالح. وقطع هذه العلاقة هي أول ما ينبغي عمله لتحقيق الإصلاح المنشود، وأي عمل إصلاحي دون ذلك لن يكون ذا أثر مع الإمعان في هذه الممارسة. وسبيل تحقيق ذلك بإحالة اختيار وتعيين وعزل الهيئة الشرعية إلى طرف مستقل عن تلك المؤسسات، دون أن يكون للمؤسسات المالية أي حق في اختيار تلك الهيئة، وأن يتم دفع أجر الهيئة أو أي مبلغ تناله بأي صفة من طريق واحد غير مباشر، كالمصرف المركزي مثلاً يقتطعه حسماً من احتياطيات تلك المؤسسات لديه.
  • مطالبة الحكومات ممثلةً بمؤسساتها المعنية، كالبنوك المركزية، بالتدخل في فرض قوانين حوكمة شرعية داخلية للمؤسسات المالية الإسلامية إن لم يمكن الحصول على اتفاق من هذه المؤسسات بخضوعها لقوانين حوكمة تضعها وتشرف عليها مؤسسة مستقلة تنشأ لهذا الغرض، وتكون ذات سلطة في منح تراخيص عمل شرعية أو سحبها عند المخالفة.

وفي ظل غياب اتخاذ خطوات على الطريق الإصلاحي الفكري المعرفي ثم التطبيقي، فإنه لن يسعنا إلا أن ننتظر حدوث أحد شيئين:

الأول: أن تقرر حكومات الدول الإسلامية التدخل بشكل فعّال بعد أن ترى آثار الفساد الناشئ عن ترك الأمر على الحالة التي هو عليها الآن، وتعمل بما لديها من أدوات ومؤيدات وسلطة تنفيذية على رفعه وإزاحته. لكن الأثر العملي لذلك لن يكون كبيراً لأن جزءاً من الأزمة يرتد إلى الجانب المعرفي على ما تقدم، ولا يقتصر على الجانب التطبيقي.

الثاني: أن ننتظر التطور الفكري التلقائي والتدريجي للعقل البشري الجمعي، الذي هو خيري بطبيعته، فيستفيد من تجاربه ومن ماضي وتجارب أسلافه في إدارك الخطأ وتمييز الخبيث من الطيب من تلقاء نفسه، ودون تدخل عوامل إرشاد خارجي أو مؤيدات أو سلطات، ليصلح أخطاءه وأخطاء أسلافه بنفسه بعد أن يدرك سبل إصلاحها واستبدالها بالصحيح النافع. لكن هذا الأمر قد قد يستغرق جيلاً آخر جديداً بالنظر إلى حجم الفساد النفسي والفكري الهائل وتراكمه على مدى زمن طويل يعود إلى عصور التخلف والظلام التي رزح تحتها المسلمون منذ بداية عصر الانحطاط، وكذا لتسللِ عاهاتٍ فكرية ونفسية إلى مواقع القوة في مناحي تطبيق بعض الفروع المعرفية في عصرنا الراهن. لكن علائم التغيير لاحت، والمتوقع ألا يستغرق الأمر أكثر من جيل واحد، وأن يكون هو جيل ناشئة عصرنا هذا.

فجيل الناشئة الجديد منفتح على كل الثقافات والتيارات والفلسفات والمؤثرات، وسيُخضِع تركة الجيل السابق المثقلة بالفوضى الفكرية والنسَقية لسلطان العقل الذي أثرته تجربة الأوائل لتمييز الغث من السمين، والصحيحِ من السقيم، فما لم يكن موافقاً للعقل والمنطق مجّه وتركه، وما كان موافقاً لهما تقبله وأخذ به[10]. والذي سيقود هذا الجيل جيلٌ جديد من العلماء والمفكرين، جيل درُب على الاحتكام إلى العقل في إطار الشرع، واطلع على تجربة الأوائل وأدرك محالّ الخلل فيها، وضرورةَ الانتظام والعمل المؤسساتي الجماعي؛ جيلٌ لم يملك لانتزاع ثقة الناس واحترامهم إلا أن يتواضع لهم ويتضلعَ بثقافة العصر وينفتحَ على النقد. هذا هو الجيل الذي يحتاجه الإسلام لتحريره معارفه من الشوائب والأزمات.

 

الهوامش

 


*  الدكتور عبد العظيم أبوزيد حاصل على دكتوراه في القانون المالي الإسلامي ويشغل حاليا خطة أستاذ مشارك بكلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة، قطر. قدم هذه الورقة في ندوة الاقتصاد والأخلاق الإسلامية التي عقدها مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق أيام 10-12 يونيو 2014.


 

 

[1] لمراجعة المسألة فقهياً ينظر انظر ابن عابدين. الحاشية. الطبعة الثانية. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1407هـ، ج4، ص 160؛ الحطاب محمد بن عبد الرحمن. مواهب الجليل. بيروت: دار الفكر. الطبعة الثانية. 1398هـ، ج4، ص 368؛ الدسوقي. الحاشية. مصر: دار إحياء الكتب العربية. طبعة عيسى البابي الحلبي، ج3، ص 63؛ الشربيني، الخطيبب. مغني المحتاج. بيروت: دار الفكر. بدون تاريخ، ج2، ص 71؛ البهوتي. كشاف القناع. بيروت: دار الفكر، ج3، ص 307؛ ابن حزم. المحلى. بيروت: دار الآفاق الجديدة، ج9، ص 6. ويمكن الرجوع اختصاراً إلى بحث "بيع الدين وتطبيقاته المعاصرة في المصارف الإسلامية". مجلة الإسلام في آسيا. الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، المجلد 5، العدد 2، 2008م.؛ "بيع العينة وتطبيقاته المعاصرة في المصارف الإسلامية". مجلة التمدن. ماليزيا، المجلد 4، 2008م. وكلاهما للكاتب، ويمكن تحميلهما من موقع www.abdulazeem-abozaid.com

[2] يقول ابن عابدين في رسالته "نشر العرف فيما بني على الأحكام على العرف": "كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان؛ بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد". رسائل ابن عابدين 17/125.

[3] من ذلك عقود التمويل النقدي بالعينة والتورق التحايلي المسمى التورق المنظم، وبيع الديون مع الحسم، وكل ذلك شائع في معاملات كثير من المصارف الإسلامية وحرمته المجامع الفقهية، وقد وجد حديثاً معاملات ترتبط بالمشتقات المالية على نحو يتضمن الغرر والمقامرة. انظر تفصيل ذلك في بحث "التمويل الإسلامي المعاصر بين شكلية العقود ومقاصد الشريعة". مجلة التجديد. الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، المجلد 12، العدد 23، 2008م. وقد نشر بالإنكليزية وترجم إلى الفرنسية في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب.

[4] من ذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في موضوع أسهم الشركات، حيث ذكر أن الأصل عدم جواز التعامل بأسهم الشركات التي تتعامل بالحرام أحياناً ثم سكت عما هو وراء ذلك؛ فصيغة هذا القرار تعكس تردداً من واضعيه، وكأنه بهذه الصياغة يفهم صحة الاستثناء بالجواز في بعض الحالات. وهذا نص القرار: "الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربـا ونحـوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة". (قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 63 (1/7) بشأن الأسواق المالية في دورته السابعة المنعقدة بجدة من 7-12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 – 14 أيار (مايو) 1992 م)، بينما كان قرار مجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة أصرح وأوضح، حيث نص على حكم التعامل بأسهم الشركات التي تنطوي استثماراتها على بعض الأنشطة المحرمة، ونص قراره: "لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالمًا بذلك".

[5]  ذكر في هذا أن قرار تحريم التورق المصرفي الذي صدر في أبريل 2009 عن مجمع الفقه الدولي رقم 179 (5/19) بشأن التورق في دورة رقم 19 المنعقدة في الشارقة لم تلتزم به المؤسسات المالية الإسلامية الممارسة للتورق، بل استمرت في ممارساتها.

[6] من ذلك أننا نرى من يهاجم العينة يقول بالتورق المصرفي، ومن يهاجم التورق المصرفي يخرج على الناس بالسلم المنظم، وجوهر الجميع ومآله واحد وهو الاسترباح عن النقد!

[7] قد يشمل عمل الهيئة الشرعية حقوق العباد أيضاً، وذلك عندما تنظر هذه الهيئة في تظلمات المتعاملين مع المؤسسة وشكاويهم؛ فيكون عمل المؤسسات المالية كمن يختار القاضي عليه ويدفع له أجراً من ماله، فينبغي ألا يجوز هذا في شرعة الإسلام.

[8] الباحث بصدد إعداد دراسة لمشروع مسودة قانون للحوكمة الداخلية للهيئات الشرعية يتحقق بتطبيقها بعون الله تعالى ضمانُ نزاهة الهيئات الشرعية، ونفعٌ ظاهر لجميع الأطراف بما ذلك المؤسسة نفسها والمتعاملين معها.

[9] لمراجعة هذه المسألة وتفصيلاتها يمكن الرجوع إلى بحث "بيع الدين وتطبيقاته المعاصرة في المصارف الإسلامية". مجلة الإسلام في آسيا. الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، المجلد 5، العدد 2، 2008م؛ "بيع العينة وتطبيقاته المعاصرة في المصارف الإسلامية". مجلة التمدن. ماليزيا، المجلد 4، 2008م. وكلاهما للكاتب، ويمكن تحميلهما من موقع www.abdulazeem-abozaid.com

[10] لعلنا نرى علائم ذلك في جيل الناشئة من خلال أبنائنا والناشئة من حولنا، حيث بدأ دور التربية العائلية يخبو أثره فيهم، وصاروا أكثر استقلالاً واحتكاماً للعقل، فلا يجدي معهم أسلوب الإملاء بل الإقناع. ويبدو هنا أن اختيار الناس للدين الحق (الإسلام) أو استعدادهم لتقبله في شتى أسقاع الأرض سيكون بعد الاحتكام إلى العقل بعد تحريره من كل المؤثرات العقدية والثقافية التي كان عليها أباؤهم وأجدادهم؛ وهذه مزية من مزايا تحرير العقل. وقد دخل معظم الجيل الجديد من الغرب نتيجة ذلك مرحلة اللادينية، فتراهم غير متدينين وغير مقتنعين بمسحيتهم بعد أن حكمت عقولهم في عصر التقدم والانفتاح بعدم عقلانيتها، ولو عرض عليهم الإسلام عرضاً صحيحاً ومقنعاً في هذه المرحلة لتقبلوه، لكن تخلفنا وواقعنا المزري جعلنا فتنة للذين كفروا عن الدين الحق.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق