التمايز والتدبير المقاصدي لتزاحم القيم في الزمن الراهن: دراسة لقيمة العدل أنموذجاً

إسماعيل الحسني*

 

مقدمة

إن كل دين وكل مذهب وكل ثقافة وكل حضارة تحمل في أحشائها بهذه الصورة أو تلك قيمة وقيماً معينة[1]، علة ذلك أنها من أقوى ما يميز الوجود الإنساني على تفاوت أبعاده وتغاير أنماطه. وبقدر ما تمثل القيمة الباعث الذي يبرر وربما يفسر إقدام الإنسان على الفعل فإنها تعني الوصف المصلحي الذي نصف به هذا الفعل أو ذاك من الأفعال الإنسانية. و أهم ما في هذا الوصف المصلحي بعده الأخلاقي، والرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام قد قال كلمة جامعة في قوله: «بعثت لأتمم حسن الأخلاق»، ومن ثم وفق الشاطبي توفيقاً كبيراً عندا قال: "الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق"[2].

ليس من غرضنا في هذا البحث تحليل المواقف المختلفة من القيم، لأننا نرى أنه من الضروري في مقدمة هذا البحث أن ننبه على أن الفعل الإنساني يتقصد صاحبه منه مصلحة مخصوصة. والمصلحة إما أنها مصدر الصلاح وتعني المنفعة، فهي من هذا الباب وصف للفعل يحصل به الصلاح، أو أنها الفعل الذي فيه صلاح بمعنى النفع مجازاً مرسلاً من باب إطلاق المسبب على السبب. فالفعل الإنساني يتقصد منه صاحبه مصلحة من المصالح، نعم لا شك في ذلك، ولكن ما العمل إذا اتصف هذا الفعل الواحد بتزاحم الصلاح والفساد، أعني أنه يتصف من جهة أولى بالصلاح، ويتصف من جهة ثانية بالفساد؟

لتنذكر بأن بعض الأصوليين سلم بواقع التعارض الذي تختلط وتشتبك في سياقاته الجهتان لأنه كما لا توجد مصالح محضة في أفعالنا لا توجد فيها أيضا مفاسد محضة. المآكل، المشارب، المناكح، المراكب والمساكن: لئن كانت كلها مصالح فإنها لا تحصل إلا بنصب أو مكابدة تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها. ويدخل تحت هذا الإطار كل الأفعال الإنسانية بما فيها الأفعال الواردة في الشريعة. و في هذا الإطار قال القرافي: "استقراء الشريعة يقتضي أن ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة ولو قلت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة وإن قلت على البعد"[3].

إن المصلحة التي تتولد عن الفعل الإنساني مصلحة متشابكة مع المفسدة وممتزجة معها في واقع الوجود الدنيوي. أعني أن المنافع تتشابك مع المضار في بنية الأفعال الإنسانية ويختلط الشر بالخير في تركيبتها. وعلى أساس واقع الامتزاج تقوم مهام الخلافة في الأرض، وعلى خلفية معطى الاختلاط جاءت أحكام الشريعة، وانطلاقاً من عنصر التشابك تنهض اختيارات الناس المختلفة وأعباء المكلفين المتعددة. فما من فعل يفرض في حكم الاعتياد إلا ويسبقه، أو يقترن به، أو يتبعه من نيل اللذات أو الآلام، قليل ذلك كان أو كثيراً. وما من مصلحة دنيوية تجري إلا ويسبقها، أو يقترن بها، أو يتبعها قسط قليل أو كثير من الآلام والمضار. يشهد على ذلك التجربة الحياتية، ويشهد على ذلك الشرع نفسه الذي لم يكلفنا بأفعال تنتج مصلحة خالصة أو مفسدة خالصة، وإنما كلفنا بأفعال فيها قدر من المصالح الذي يختلط بقدر آخر من المفاسد. دليل ذلك قوله تعالى:" ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء:35]، وقوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك:2]، وقوله صلى الله عليه و سلم: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»[4].

يفضي واقع اختلاط المصالح بالمفاسد في الفعل الإنساني إلى ضرورة رفع التعارض أو التزاحم عن طريق الجمع إن أمكن أو عن طريق الترجيح. ليس المقصود فحسب بالتعرض التعارض بين مصالح الأفعال ومفاسدها، وإنما المقصود أيضاً التعارض بين ما يعد من قبيل المصالح الناشئة عنها[5]. ولما كان غرضنا هو النظر في التدبير المقاصدي-المصلحي للعدل باعتباره فعلاً يستهدف تحقيق قيمة أخلاقية منطوية على مصالح مخصوصىة فإن طموحنا في هذا البحث مرتسم في الجواب عن ثلاثة أسئلة:

- كيف يسهم مفهوم التمايز في التدبير المقاصدي لهذه القيمة التي تعد من قبيل المشتركات التي حبذتها الإنسانية[6].

- وكيف نميز في قيمة العدل بين ما هو مطلق لا يختلف باختلاف الزمان أو المكان أو الأحوال وبين ما هو نسبي تختلف مقادير ونسب العدل في بنيته بحسب الزمان والمكان والأحوال؟

- وكيف نفهم ذهنياً وكيف ننزل واقعياً معاني العدل، سواءً في تصادمها أم في تعاضدها؟

 

أولاً العدل بين استعمالاته ومعانيه الأساسية

إن الخطوة الأولية في الجواب عن هذه الأسئلة ضبط ما نعنيه بالعدل. فهذه القيمة تستمد وجودها من قصد الشارع لها في غير ما آية من القرآن الكريم وفي غير ما حديث أو سنة أو سيرة من أحاديث وسنن وسيرة الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام[7].

 

1. استعمالات مادة ع.د.ل

نجد أنفسنا إزاء استعمالات متعددة لمادة ع. د. ل:

منها عدل في أمره عدلاً. ومعدلة بكسر الدال وفتحها. وعدل عن الطريق عدولاً مال عنه وانصرف. وعدل عدلاً من باب جار وظلم. وعدل الشيء بالكسر مثله من جنسه أو مقداره. وعدل بالضم عدالة وعدولة فهو عدل أي مرضي يقنع به.

ومنها عدلت الشاهد نسبته إلى العدالة ووصفته بها. واشتق من المصدر "العدل" الأفعال الدالة إما على التسوية في المقادير والاعتبارات أو على الحكم بالحق. إن الفعل عدل يعدل بمعنى ساوى يساوي أو وازن يوازن. وعدله بالفتح ما يقوم مقامه من غير جنسه..

ومنها العدل هو التسوية، والعدل أيضاً القصد في الأمور، وهو خلاف الجور. أو هو " عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط و التفريط"[8]. قال ابن فارس: والعدل الذي يعادل في الوزن والقدر. ومنه قوله تعالى: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا﴾. وهو مصدر في الأصل يقال عدلت هذا بهذا عدلاً".

ومنها أن العدل يطلق على الواحد وغيره بلفظ واحد. إن استعمل العدل فيما يدرك بالبصيرة قيل عدل بفتح العين وسكون الدال، وإن استعمل فيما يدرك بالحاسة كالموزون والمعدود والمكيل قيل عدل بكسر العين وسكون الدال. ومنها التعادل التساوي، وعدلته تعديلا فاعتدل سويته فاستوى. ومنها قسمة التعديل وهي قسمة الشيء باعتبار القيمة والمنفعة لا باعتبار المقدار، فيجوز أن يكون الجزء الأقل يعادل الجزء العظم في قيمته ومنفعته. ومنها العدالة، وتعني في اللغة الاستقامة.

وتعني العدالة في الاصطلاح الفقهي الاستقامة على طريق الحق باجتناب ما هو محظور في الدين، وقيل: هي صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة ظاهراً، فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات وتحريم الكلام لا تخل بالمروءة ظاهراً لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل. بخلاف ما إذا عرف منه ذلك وتكرر فيكون الظاهر الإخلال، وقيل هي ملكة في الشخص تحمل على ملازمة التقوى والمروءة. والعدل عند الفقهاء من رضي الراهن و المرتهن أن يكون المرهون بيده[9].

يبدو من هذه الاستعمالات المختلفة أن كل واحد منها يدل على قيمة محددة، ففي كل استعمال يجد المرء نفسه إزاء قيمة محددة كالإنصاف والحق والقدر والقصد والمروءة وغيرها من القيم، وهو ما سيتبين أكثر عند التدقيق في الاستعمالات القرآنية. لنعرض أولاً هذه الاستعمالات ثم لنستخرج بعد ذلك ما تنطوي عليه من معاني قيمية.

لقد وردت مادة ع. د. ل[10] في القرآن الكريم في ما نحو من خمس وعشرين موضعاً وفي إحدى عشر سورة:

- سورة البقرة: وردت مادة ع. د. ل في ثلاثة مواضع:

أولها قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة:48]، أي لا يقبل منها فدية بدل العذاب.

والثاني قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة:123]، أي لا يقبل منها فدية تنجو بها من النار.

والثالث قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة: جزء من الآية 282] فالكاتب العدل هو الكاتب بالحق من غير زيادة ولا نقصان. ومعنى " ليملل وليه بالعدل" أي بالصدق

- سورة النساء وردت هذه المادة في أربعة مواضع:

الأول قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: جزء من الآية 58][11].

والثاني قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: جزء من الآية 3] أي إن خفتم عدم العدل بين النساء فتزوجوا واحدة فقط.

والثالث قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء:135].

والرابع قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: جزء من الآية 129]، أي لن تتمكنوا من العدل التام على الإطلاق بين النساء ولو حرصتم عليه.

- سورة المائدة وردت هذه المادة في ثلاثة مواضع:

الأول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا﴾ [المائدة: جزء من الآية 95]، أي رجلان عدلان مسلمان يتصفان بمقتضيات العدالة.

والثاني قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [المائدة: جزء من الآية 106] أي شاهدين عدليين.

والثالث قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة:9]. أي أن المطلوب من المؤمنين أن يكونوا شهوداً بالعدل من غير محاباة لأحد، لا يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم وكتمان الشهادة التي تنفعهم.

- سورة الأنعام، وردت مادة ع. د. ل في ستة مواضع:

الأول قوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: جزء من الآية 1].

والثاني والثالث قوله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ [الأنعام: جزء من الآية 70]. أي حتى وإن بذلت النفس التي أسلمت للهلاك كل فدية، ولو ملء الأرض ذهباً، فلا يقبل منها ذلك.

والرابع قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: جزء من الآية 115] أي تمت كلمات الله تعالى عدلاً في أوامره وأحكامه.

والخامس قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: جزء من الآية 150] أي يجعلون لربهم عديلاً، أي شريكاً مماثلاً أو نداً من مخلوقاته.

والسادس قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ﴾ [الأنعام: جزء من الآية 152]، أي إذا قلتم أو حكمتم.

- سورة الأعراف، وردت هذه المادة أيضاً في موضعين:

الأول في قوله تعالى: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ الأعراف:159] أي يحكمون بالعدل.

والثاني في قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف:181]، أي بالحق يعدلون في أحكامهم.

- سورة النحل، وردت مادة ع.د. ل أيضاً في موضعين:

الأول قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [النحل:76] أي يأمر بالعدل بين الناس، أي يحم بالعدل في ضوء مقاييس واعتبارات يتحدد من خلالها الإنصاف وترفع النزاع بين المتنازعين[12].

 والثاني قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90].

- سورة النمل:

وردت هذه المادة في قوله تعالى: ﴿أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: جزء من الآية 60] أي يميلون عن الصواب والحق.

- سورة الشورى:

وردت هذه المادة في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: جزء من الآية 15] أي أمرت بأن أعدل بينكم في أحكام الله، أي أمرت بالتسوية بينكم.

- سورة الحجرات:

وردت هذه المادة في قوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الحجرات:9] أي أصلحوا بينهما بالعدل بتضمين المعتدي جزاء عدوانه واعدلوا إن الله يحب العادلين[13].

- سورة الطلاق:

وردت هذه المادة في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: جزء من الآية 2] أي أشهدوا شاهدين عدلين على الطلاق أو الرجعة.

- سورة الانفطار:

وردت هذه المادة في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [الانفطار: جزء من الآية 7] أي قام بالتقويم أي قوم ميله أو اعوجاجه وأقامه على حالة الاستواء.

 

2. المعاني الأساسية للعدل

يتحصل من استقرائنا للاستعمالات المختلفة لمادة ع. د. ل، وخاصة الاستعمالات القرآنية، انتظامها فيما يقارب اثنتي عشرة معنى ينطوي كل واحد منها على وصف مصلحي محدد.

  • منها معنى النسبية التي تجعل صاحبها غير قادر على العدل الكامل بين الزوجات، فلا يمكن للرجال أن يتمكنوا من العدل التام على الإطلاق بين النساء في مقادير المحبة وموازين المتعة ولو حرصوا على ذلك لقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: جزء من الآية 129].
  • ومنها معنى الموضوعية التي تحمل الناس أن يكونوا شهوداً بالعدل من غير محاباة لأحد، فلا يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم وكتمان الشهادة التي تنفعهم. إن المطلوب منهم دائماً هو العدل مع الجميع لأنه هو الأقرب لتقوى الله تعالى. أي إن المطلوب منهم أن يتصفوا بالحقانية ويقوموا تصرفاتهم في ضوء هذه القيمة فيكون رائدهم الإنصاف والقضاء والشهادة بالحق. وهكذا يعدلون بالحق في أحكامهم ومواقفهم وتصرفاتهم لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة:9]. وقوله تعالى: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف:159] وقوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف:181].
  • ومنها معنى التسوية التي تسوي بين الناس بناء على الأدلة الصحيحة والحجج الدامغة. وبدون هذا الاستدلال يقع المرء في مهاوي التسوية غير العادلة. ومن ثم إن التسوية في المساواة هي التسوية التي يشهد لها الدليل حتى لا يقع المسلم في مهاوي الكافرين والظالمين. الكافرون يساوون بين الخالق المعبود وبين المعبود عن ضلال فيعدلون بالله في الإلهية لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام:2]. ومحل التعجب في الآية: "أن الله تعالى يخلق فريقاً من الناس ويخلق معبوداتهم فلا يهتدون إليه، بل ويختلق هذا الفريق من البشر إلهية غيره. وقال تعالى: ﴿أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: جزء من الآية 60]. فتكبرهم وإعراضهم عن الدليل دفعهم إلى تسوية غير سليمة وغير موضوعية فهم يعدلون، أي يجعلون غير الله عديلاً مثيلاً له في الإلهية مع أن غيره عاجز عن ذلك[14]. والظالمون لا يساوون بين الناس أو بين أفراد الأمة: في تعيين الأشياء لمستحقها وفي تمكين كل ذي حق حقه بدون تأخير. ومن التسوية التساوي في أحكام المعاملات المالية كالتساوي في الكيل أو الوزن أو القيمة و التي بنى عليها كثير من فقهائنا أحكام البيوع[15].
  • ومنها معنى الأمانة في القول والحكم والشهادة والصلح بين الناس والمشاورة: فلا ميل عن نشدان الصواب، ولا انحراف عن سلوك الجادة. فإذا قال وعبر عن رأيه، وإذا حكم أو قدم شهادة فليكن الرأي حقاً لا افتراء فيه، حتى لو كان المقول له أو المحكوم عليه صاحب قرابة لكم لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ﴾ [الأنعام: جزء من الآية 152].
  • ومنها معنى التقويم بمعنى التعديل لما هو معوج حتى نحصل على حالة الاستواء كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [الانفطار: جزء من الآية 7] أي جعل الله تعالى أجزاء البدن تناسباً وجعله مستقيم القامة. قال الإمام بن عاشور رجمه الله: " فرع فعل " سواك" على "خلقك" و فعل "عدلك" على "سواك" تفريعاً في الذكر نظراً إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر"[16].
  • ومنها معنى الرغبة في القطع واليقين التي تستند إلى الدليل الذي يسنده شاهدي عدليين. فعلى سبيل المثال لا بد منها في إثبات الطلاق او الرجعة وذلك درء للشك وإنهاء للنزاع. لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: جزء من الآية 2].
  • ومنها معنى المماثلة التي يأخذ فيها كل واحد من الشر ما يستحقه. فلا مجال من خلال هذه القيمة للمحاباة لأن الله تعالى لا يقبل في عقابه للظالمين أي فدية بدل العذاب، أي لا فدية ينجون بها من العذاب والعقاب وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة:48]، وفي قوله تعالى أيضا : ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة:123]، فلو بذلت النفس التي أسلمت للهلاك كل فدية، و لو كانت الفدية هي ملء الأرض ذهباً، فلا يقبل منها ذلك لقوله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ [الأنعام: جزء من الآية 70].

تقتضي لفظة العدل معنى المساواة[17]، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: جزء من الآية 37] أي أن الجزاء يكون من جنس العمل، إذ لابد من المساواة في المكافأة بين الفعل وجزائه: إن خيراً فخير وإن شراً فشر، و لقوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الحجرات:9] أي أصلحوا بينهما بالعدل بتضمين المعتدي جزاء عدوانه و اعدلوا إن الله يحب العادلين الذين يقسطون في عدلهم[18].

  • ومنها معنى النزاهة التي تدفع إلى القسط مع القريب قبل البعيد، ومع الصديق قبل الخصم والعدول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء:135].
  • ومنها معنى الصدق لأن الكاتب العادل مثلاً هو الكاتب الصادق الذي يكتب ما هو حق من وقائع ومعطيات من غير زيادة ولا نقصان. لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة: جزء من الآية 282].
  • ومنها معنى الإنصاف الذي يحملنا على الائتمار بالعدل والتخلق به والحكم به في ضوء مقاييس واعتبارات ترفع النزاع بين المتخاصمين لقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: جزء من الآية 58] ولقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [النحل:76]، ولقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]. والحق أن في الحرص على هذه القيمة إبعاد للمرء عن ارتكاب الظلم، فالذي ينصف نفسه ويستشعر الخوف من عدم العدل بين الزوجات يجب عليه الاكتفاء بواحدة لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: جزء من الآية 3].
  • ومنها معنى المروءة التي تحمل على الحرص على الإشهاد وتوثيق الحقوق لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [المائدة: جزء من الآية 106] أي شاهدين عدليين عارفين يتصفان بالمروءة لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا﴾ [المائدة: جزء من الآية 95].

حاصل القول في الاستعمالات المختلفة للعدل أن ما صدق قيمة العدل هو جملة من المعاني الأخلاقية المتعددة التي يجسد كل واحد منها مصلحة من المصالح التي يرسمها العدل باعتباره مقصداً من مقاصد الشريعة الإسلامية. فعلى سبيل المثال يمثل معنى الاستحقاق مصلحة من المصالح التي يتقصدها الشارع من تشريعه لحكم المماثلة في القصاص وفي الأفعال وفي الحروب، يوجد بجانبه معاني أخلاقية مصلحية لأن العدل لا يتحدد في مجرد الاستحقاق بما يعنيه من أداء الحقوق المختلفة واسترجاع المظالم المتنوعة[19]، وإنما يتحدد بالإضافة إلى كل ذلك في معاني متعددة نحتاج من أجل دراستها ودراسة كل واحد منها - كما يقول القدماء من علمائنا إلى تمهيد فصول وتأصيل مقدمات[20]. ولهذا نكتفي في هذا المضمار بملاحظة أن هذه المعاني المتعددة بقدر ما تلح على الموضوعية والصدق والمروءة والموضوعية والأمانة والنزاهة وإحقاق الحق والإنصاف والتسوية فإن كل واحد منها متزاحم مع تقتضيه نسبية العدل الإنساني من محدودية ومن قصور يتطلبان المراجعة والتصحيح والتقويم... وكأننا هنا إزاء جهتين متزاحمتين في البناء القيمي للعدل:

  • جهة قيمية تتمثل في حرص العادل على العمل بقيم الموضوعية والصدق والمروءة والموضوعية والأمانة والنزاهة وإحقاق الحق والإنصاف والتسوية.
  • وجهة قيمية مقابلة تبرز مدى ومستوى الوعي بنسبية العدل الإنساني الممارس والمطبق لأنه مهما استفرغ في أن يكون عدله متصفاً بالموضوعية أو النزاهة أو غيرها من المعاني فإن عدله نسبي وغير مطلق[21].

يستجلى من هاتين الجهتين تزاحم قيم العدل عند التطبيق فلا توجد درجة واحدة من الموضوعية أو التسوية أو الاستحقاق أو النزاهة أو الإنصاف... وإنما الموجود عند التطبيق وفي الواقع أمران: أولهما مراتب معرفية متفاوتة من معاني العدل، والثاني متغيرات متعددة تقارن وتقترن وتلحق معاني العدل عند التطبيق.

 

ثانياً التمايز والتدبير المقاصدي لقيمة العدل

يتحقق التدبير المقاصدي لقيمة العدل، انطلاقاً من إعمال مفهوم التمايز لأننا ندبر من خلاله جملة من التمايزات: أولها أننا نميز في العدل بين ما هو مطلق وما هو نسببي، والثاني أننا نميز فيها أيضاً بين ما هو إلهي وما هو بشري، والثالث أننا نميز في معاني العدل البشري بين مراتبه وما يحفه عند التطبيق من متغيرات. وكلها تمايزات نستحضرها من أجل إنجاز موازنة دقيقة ننتهي فيها إلى الأهم والراجح بدل المهم والمرجوح.

 

1 المقصود بالتمايز وبالتدبير المقاصدي

إن ما نعنيه بمفهوم التمايز هو ذلك الوعي النقدي الذي يتمثل في الوعي بالتفاوت في المراتب المعرفية ويتجسد في الوعي بالتغاير في الأحوال الوجودية. لقد رسخ القرآن الكريم هذا الوعي النقدي كما في قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: ]179.ولقوله تعالى أيضاً: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ [الأنفــال:37].

يبدو أن المطلوب هو أن يميز المؤمنون في مراتب الناس وفي أحوالهم، وفي أوضاعهم ليكون المؤمنون على بصيرة من أمورهم. كما نجد في السنة النبوية جملة من السنن التي تفيد ضرورة التمييز في مراتب المكلفين وفي تغاير أحوالهم الوجودية[22]: بيان ذلك أننا نجد أنفسنا على سبيل المثال إزاء سؤال واحد يقارنه أجوبة مختلفة، ومنشأ الاختلاف آيل إلى اختلاف أحوال السائلين وظروفهم وأوقاتهم. فعدم العدل قد يكون هو الظلم، والظلم مراتب بعضها أعلى من بعض. أعلاها الشرك بالله، ثم وأد الأولاد خشية الفقر، ثم يليها الزنا بزوجة الجار، كما في حديث عن عبد الله بن مسعود قال: «قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك قلت: ثمّ أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت: ثمّ أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك»[23]. وإذا كان هذا في الظلم فإنه يجوز في نقيضة، كما في العدل. فمن العدل مع الله تعالى الإيمان به، نعم لا شك في ذلك، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ميز في مراتب شعب الإيمان في قوله «الإيمان بضع و سبعون- أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»[24].

نقول تدبر احتاط واستعد ودبر اقتصد في الأمر. ونقول عمل مدبر أي مخطط له. وقال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ أي يتصرِّف فيما خلق بقدرته وحكمته. والتدبير حسن القيام على الأمر والدقة في العناية به ويكون ذلك بالنظر إلى ما تؤول إليه عاقبته. و إذ لم يكن من غرضنا في هذا الباب تقديم دراسة تحليلية –تقويمية للكيفية التي تم من خلالها تدبير قيمة العدل في الفكر الغربي فلنول عنان القلم لبيان مقصودنا بالتدبير المقاصدي هذه القيمة[25].

يتسق معنى التدبير مع وظيفة من وظائف الفكر المقاصدي، و المتمثلة في السعي الدؤوب لتطبيق أحكام الشريعة والتبصر الواعي بمآلات تنزيلها[26]. قولنا بقيام التدبير المقاصدي لقيمة العدل على مفهوم التمايز لا يستمد شرعيته من كون التصادم بين القيم راجعاً إلى اتصاف العلاقة بين القيم بالتغاير والتباين[27]، وإنما يستمد ذلك من كون هذا التدبير فعلاً اجتهادياً يروم التحقيق المقاصدي لمناط معاني العدل في الواقع. وهو ضرب نفتقر فيه، بالدرجة الأولى – كما نبهنا الإمام الشاطبي رحمه الله "إلى العلم بالموضوع على ما هو عليه"، كل صورة من مجالاته المعرفية "نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد. وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها، فلا بد من النظر في كونها مثلها أو لا، وهو نظر اجتهاد أيضاً، ... فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، ولبس ما به الامتياز معتبراً في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين. فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب"[28].

إن حال القائم على التدبير المقاصدي لقيمة العدل مماثل لحال الطبيب الماهر. فهذا الأخير يحمل مريضه على ما فيه علاجه وصحته لا بحسب معارفه المجردة التي قد تحدد ما ينبغي أن تكون عليه السلامة الصحية، وإنما أيضاً بحسب ما يطرحه حاله المجسد في قوة ونوع مرضه وفيما تفرزه عاداته في حياته. فالفيصل في العلاج ليس مجرد محفوظات الطبيب ولا مجرد معلوماته عن الأدوية التي يحفظها عن ظهر قلب، وإنما الفيصل أمران مستأنفان: أولهما تشخيصه العلمي والصحيح لحالته. والثاني إرشاده إلى الأدوية المعينة بمقاديرها وكيفياتها ونسبها وأوقاتها.

بناء على هذا التدبير المقاصدي المستأنف نراعي العدل فنعطي للموضوع المطروح حقه من التقدير العدلي والعادل بدون زيادة ولا نقصان. لا نكتفي من خلال التدبير المقاصدي بمراعة ما ينبغي ان يكون عليه الواقع في هذه المسألة أو تلك، وإنما نراعي ما عليه الواقع في متغيراته وفي مراتبه. ففي الاعتقاد لا بد أن نميز بين كمال العدل الإلهي، ونسبية العدل البشري. وفي مجال الأعمال لا بد أن يكون عندنا ما يكفي من الوعي بالتمايزات المرتبية والمتغايرة.

 

2 التدبير المقاصدي والتمييز بين المطلق والنسبي

إن أول تمييز نستخلصه من النظر في قيمة العدل ضرورة التمييز فيها بين مرتبتين أساسيتين: مرتبة أولى يحكمها اعتبار مطلق، ومرتبة ثانية يحكمها اعتبار نسبي.

الاعتبار المطلق: عدل الله تعالى عدل مطلق لأنه الله عز وجل يحصي كل الأشياء، ومنها عدله لقوله تعالى: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: جزء من الآية 28][29]. ولما كان المطلوب من الإنسان أن يتخلق بعدل الله تعالى على قدر طاقته البشرية فإن الاعتبار المطلق ينبني على نوع من الينبغية المقاصدية لأن هذا الاعتبار يدل على ما ينبغي أن يكون عليه العادل في الإسلام من الاتصاف بالموضوعية والصدق والمروءة والأمانة والنزاهة وإحقاق الحق والإنصاف والتسوية. كلها معاني أو قيم أخلاقية مقاصدية يستحضرها المسلم في علاقاته مع نفسه ومع خالقه ومع غيره من البشر.

إن الإنسان، على سبيل المثال، مطالب بإعمال معنى إحقاق الحق في علاقته بالله تعالى بتوحيده وحصر العبادة له وعدم الإشراك به. فالشرك أكبر ظلم وأعظمه يمكن أن يرتكبه الإنسان لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. كما أنه مطالب في علاقته مع نفسه يبإعطائها حقها في ما يجلب لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد، و ذلك تبعاً لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه»[30]. كما أنه مطالب من خلال علاقته بغيره من الناس بإعطاء كل واحد منهم حقه. فاتصافه بقيمة إحقاق الحق هو الذي يجعل المرء بمنأى عن السقوط في مهاوي الانتماءات الاجتماعية والثقافية والولاءات السياسية والحزبية والطائفية[31]، فلا يحابي الأقارب والأباعد، ولا يتحامل على الخصوم والأعداء لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء:135]. وفي هذا السياق نقرر مع العلامة ابن خلدون أنه  كما ينشأ عن مقصد العدل صلاح العمران وبناؤه، فإنه ينشأ عن عدمه فساده وخرابه، ومن أبرز مظاهر انعدام العدل انتشار الظلم[32]. لا غرو بعد هذا إذا جارينا الأستاذ علال الفاسي عندما اعتبر العدل قيمة من القيمة المشتركة لأن "المجتمع المنظم، المتسم أفراده بالطاعة وحكامه بالعدل... هو الذي يحظى بتحبيذ الإنسان واحترامه"[33].

=الاعتبار النسبي: الاعتبار النسبي للعدل مبني على أنه يصعب ويعسر إدراك العدل لما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا"[34]. كما ينبني هذا الاعتبار على اختلاف الناس في تدبير مقادير معاني العدل، وفي تحديد نسبه التي تتزاحم أثناء تطبيقه وممارسته ونشدانه. لقد سبق أن نبهنا الأصفهاني إلى أنه قد تخرج بعض أفعال الإنسان عن العدل إلى الانظلام، أي التزام الظلم[35]، وكما يكون ذلك مذموماً يكون محموداً. فالمذموم منه في المال غبن، وفي الرأي غبن، وفي النفس والكرامة هوان ومذلة. أما المحمود منه فهو التغاضي عن حق للإنسان في المال أو في الكرامة أو في النفس. أعني أن الانظلام هنا نسبي يتعلق بمقادير وبنسب محددة وبأوقات معلومة. ولهذا يعبر عن الانظلام المحمود بالانخداع والتغافل الذي قيل فيه: العقل مكيال ثلثه فطنة وثلثاه تغافل، وهو المقصود في قول معاوية رضي الله عنه: " من خدعك فانخدعت له فقد خدعته"[36].

عندما نقوم بإعمال ما نراه وفهمناه أنه عدل في ضوء مقامات وظروف معينة، وعندما ننزله في ضوء حيثيات وسياقات مجتمعية، أقول عندما نفهم قيمة العدل فنطمح إلى تنزيلها في ضوء كل ذلك سرعان ما نمس بإطلاقيتها لأننا نجد أنفسنا نجابه مقادير ونسباً من التساوي والإنصاف والتساوي والموضوعية، كما أننا نجابه واقعاً تتداخل في سياقاته المواقف وتختلط في سبله المصالح بالمفاسد وتتضافر في بنيته المنافع بالمضار. وعليه لا بد فيها من الوعي بالتمايز حتى نستوعب مراتبها المعرفية وحتى نكون على بال من متغيراتها الوجودية. وكل ذلك نوع من التدبير المقاصدي الذي يقارب فيه صاحبه العدل الذي يدخل في مقدوره، أما العدل الكامل فلا يمكن للبشر أن يحوزه. كما لا يمكن للزوج أن يعدل عدلاً كاملاً بين زوجاته في مقادير المحبة وفي موازين المتعة. التكليف بالإعمال التام والكامل لمعاني العدل من تسوية وإنصاف ومروءة ونزاهة ... في العلاقة الزوجية التي تربط الرجل بأكثر من امرأة هو من قبيل الظلم أو التكليف بما لا يطاق، وهو مرفوع عن الإنسان المكلف في الشرع الإسلامي لقوله تعالى ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: جزء من الآية 129].

 

3 التدبير المقاصدي والتمييز بين العدل الإلهي والعدل البشري

إن الاعتقاد بأن الله تعالى عادل عدلاً كاملاً لا يدبر تدبيراً مقاصدياً بدون التمييز بين إطلاقية العدل الإلهي ونسبية ومحدودية العدل البشري. البشر يعدلون ليستفيدوا بالعدل خيراً في أنفسهم وفي مجتمعهم، ولو لم يعدلوا لم يوجد لهم ذلك الخير. أما الله تعالى فيعدل لا لأن ذاته تستكمل بذلك العدل، بل كما بين الفقيه الفيلسوف ابن رشد " لأن الكمال الذي في ذاته اقتضى أن يعدل"[37]. وهو ما يمكن تعضيده بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.

يتسق في ذهن الفقيه والمفكر، وانطلاقاً من هذا التمييز بين مرتبتي العدل الإلهي الكامل والعدل البشري المحدود والسيروي، نوعان من الأدلة: أولها نوع يفيد بأن الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء كما في قوله تعالى: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾، والنوع الثاني يفيد نفي الظلم عن الله تعالى منها: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ ومنها قوله أيضاً: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾. وقوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾، وقال أيضاً: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.

لا يوجد، انطلاقاً من هذا التمييز، تزاحم قيمي بين هذين النوعين من الأدلة. بيان ذلك أن الآيات التي تفيد القدرة والإرادة المطلقة لله تعالى في خلقه لا تعني عدم العدل الإلهي وإنما تعني سريانها على مقتضى الحكمة الإلهية. فالمقصد من الآيات التي تقرر إضلال الله لعبيده وهدايته لهم غير مستمد من قيمة الظلم، وإنما هو مستمد من الحكمة الإلهية، فالحكمة اقتضت بحسب ابن رشد خلق صنفين من المخلوقات، صنف مهيئ بطباعه للضلال وصنف مهيء أيضاً بطباعه للهداية، لذا ندرك السر في قصد الشارع من تنصيصه على النوعين السابقين من الآيات، والذي يتمثل كما قال ابن رشد في تفهيم الأمر على ما هو عليه الجمهور(…) وذلك أنهم احتاجوا أن يعرفوا بأن الله تعالى هو الموصوف بالعدل وأنه خالق كل شيء، الخير والشر لمكان ما كان يعتقد كثير من الأمم الضلال: أن ههنا إلهين: إلهاً خالقاً للخير وإلهاً خالقاً للشر، فعرفوا أنه خالق الأمرين جميعاً"[38].

يوجب التسليم بكمال مرتبة العدل الإلهي على الفقيه والمفكر القيام بقراءة تتعاضد فيها قيم الحرية والجبرية التي تستفاد من الأدلة القرآنية والحديثية. فهما من قبيل القيم المتصارعة والمتزاحمة، نعم لا شك في ذلك، و لكن الشارع قصد ذلك التزاحم، كما هو واضح من استقراء آيات القرآن الكريم[39]. وإذا تأكد قصد الشارع للشطرين من الأدلة فإن المطلوب هو الجمع التوسطي بين اعتقادي الجبر والحرية المنصوصين في الشريعة والمستنبطين من العقل[40]. بيان ذلك أن العدل صفة ذاتية لله تعالى لا تنفك عنه، إذ خلق للإنسان قوى يقدر بها على اكتساب الأشياء وأضدادها. ولا يتحقق الاكتساب إلا إذا أتى الإنسان بالأسباب التي سخرها الله تعالى في العالم المحيط به، ومن ثم إن الأفعال المنسوبة للإنسان تتم بالقوى التي خلقها الله في الإنسان من جهة، وتحصل بتحصيله الأسباب التي سخرها الله من خارجه من جهة أخرى، وهي المعبر عنها بقدر الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]. بكلام آخر تجري الأفعال المنسوبة للإنسان على هدي قدر محدود أو نظام محدود. والنظام المحدود، هو القضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده، وهو اللوح المحفوظ[41].

 

4 التدبير المقاصدي وتمايز العدل البشري

لقد سبق للإمام الشاطبي رحمه الله أن بين بيانا مرتبيا قيمة العدل. فقد ميز في العدل والظلم بين مراتب متفاوتة، فأعلى مرتبة في العدل هي العدل الذي يصل إلى حد الإقرار بالنعم لله تعالى وردها إليه، وأعلى مرتبة في الظلم هي الشرك بالله تعالى. ودونهما مراتب متفاوتة في العدل والظلم. فلا توجد مرتبة واحدة في العدل، وإنما توجد مراتب يستفرغ الإنسان المكلف وسعه في تسلق درجات سلمها، ولا زال كذلك إلى أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى سبحانه وتعالى. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "إن العدل كما يطلب في الجملة يطلب في التفصيل، كالعدل بين الخلق إن كان حاكماً، والعدل في أهله وولده ونفسه، حتى العدل في البدء بالميامين في لباس النعل ونحوه. كما أن هذا جار في ضده وهو الظلم، فإن أعلاه وهو الشرك بالله ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: جزء من الآية 13] ثم في التفاصيل أمور كثيرة، أدناها مثلاً البدء بالمياسر، و هكذا سائر الأوصاف وأضدادها، فلا يزال المؤمن في نظر واجتهاد في هذه الأمور حتى يلقى الله وهو على ذلك[42].

كما ميز الشاطبي بين مراتب المكلفين بحسب ما عليه واقعهم كخطوة أولية تسبق أي تقدير للعدل المناسب لكل واحد منهم[43]. وهكذا كلفت الشريعة المسلمين بأحكام يتساوى المكلفون جميعاً في تحمل تكاليفها. ليس في هذه الأحكام ميل إلى جهة المشقة التي لا قدرة على تحملها لأن في ذلك ظلم يتناقض مع عدل الله. كما أنه ليس فيها ميل إلى جهة الانحلال والتحرر من سلطان التكليف والمسؤولية. فالشارع يميل بصفة عامة إلى عقاب من غلب عليه الانحلال والفساد والفجور والإصرار على ذلك، كما يميل إلى العفو عمن غلب عليه الصلاح والاستقامة. وعليه إن المطلوب هو الرد المناسب إلى قيمة العدل بكل ما تعنيه هذه القيمة من معاني الموضوعية والنزاهة والاستحقاق والمروءة ... [44].

يبدو من هذا الطرح المرتبي ما يقتضيه تنزيل معاني العدل من تدبير مقاصدي قائم على التمايز، سواء كان في صورة الوعي بالمراتب أم في صورة الوعي بالتغاير في الواقع. إن معاني العدل ليست مجرد مقاييس مجردة أو مجرد معايير مطلقة، وإنما هي مقاييس نحملها معنا في ممارساتنا وندخل من خلالها إلى موضوعاتنا. فنحن نسعى إلى تطبيق معاني العدل، ونحن على بال بما يحتف بواقعنا من متغيرات ظرفية ومن إكراهات متفاوتة في اليسر والعسر. فبقدر ما تنبهنا هذه المعاني على نسبية أفعالنا فإنها تحملنا في الوقت على الترقي والسمو لأن التشوف الإنساني إلى معاني العدل مراتب. وليس في الإسلام ما يجعل التجوز والسمو في القيم بصفة عامة أمراً مذموماً. فالمؤمنون درجات في معاني العدل، وكل يعمل- كما قال الأستاذ علال الفاسي: "على أن يرتقي في معارج السالكين إلى أن يصل أعلى درجات اليقين والمحبة. وهم يقولون أن الولاية لله لا تحد مراتبها، وكل يعمل للوصول إلى أسمى منازلها دون أن ينال ذلك"[45].

إن لعناصر الواقع الزمانية والمكانية والحالية دور كبير في تنزيل معاني العدل لأن الفعل الإنساني الواحد قد يكون مصداقاً لمعنى من معاني العدل في موقع وقد يكون الفعل نفسه غير مصدق لها في موقع مغاير. فعلى سبيل ليس من العدل تسوية واقع يغلب فيه الظلم وانعدام الأمن مع واقع يغلب فيه العدل والأمن. ففي أزمنة انتشار الظلم وعموم بلوى الناس بالفتن حتى يكاد ينعدم أمن الناس على أنفسهم وأموالهم وديارهم يسود بين الناس درجات كبيرة من التوجس ومن الحذر. فهل من معاني العدل في إطار هذا الواقع تحسين الظن بالناس أم إن من العدل إساءة الظن بهم؟ قد يقول البعض: إن الظن الحسن بالناس أمر موافق للعدل معهم[46]، كما قد يقول آخر: إن إذا غلب في واقع ما العدل على الجور يكون الظن الحسن مطلوباً وموافقاً للعدل، وقد يكون من العدل الظن السيء في واقع يغلب فيه الجور على العدل[47].

إن أهم ما يمكن استخلاصه في هذا الباب أنه لا يوجد في هذا الباب عدل مطلق في الواقع الإنساني باعتباره مفهوماً مركباً يتداخل في بنائه عناصر متشابكة من الزمان ومن المكان ومن الأحداث ومن القيم[48]. وعليه إن واقع قيمة العدل لم يكن ولن يكن في يوم من الأيام بسيطاً، وإنما هو دائماً واقع دنيوي تتشابك مضاره بمفاسده، وتختلط منافعه بمضاره. وعلى هذا الواقع توجهت أحكام الشريعة فجاءت على وزانه من الابتلاء تارة بـ "الخير" الذي فيه من الشر قليلاً كان ذلك أو كثيراً، وتارة أخرى من الابتلاء بـ "الشر" الذي فيه من الخير قليلاً كان ذلك أو كثيراً. قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾.

لما صاغ الشرع الإسلامي الأمر بقيمة العدل صياغة مطلقة من غير تقدير ولا تحديد فإن تنزيلها في الواقع لا يكون على وزان واحد في كل فرد من أفراده. وكذلك نقيضها من الظلم فهو خصلة أخلاقية لما نهى عنه الشرع الإسلامي نهياً مطلقاً من غير تحديد ولا تقدير فإن النهي عنه ليس نهياً على وزان واحد في كل فرد من أفراده. فعلى سبيل المثال شتان ما بين الأمر بالعدل في عدم المشي بنعل واحدة وبين الأمر بالعدل في أحكام الدماء وغيرها. وفي ضوء الوعي بهذا التمايز يبنى الاستدلال على الأحكام الشرعية، فلا يصح بحسب الإمام الشاطبي إطلاق القول في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90] أنه أمر إيجاب أو أمر ندب حتى يفصل فيه "وذلك راجع إلى نظر المجتهد تارة، وإلى نظر المكلف وإن كان مقلدا تارة أخرى بحسب ظهور المعنى وخفائه"[49]. وهكذا لا يعني التفاوت في مراتب العدل تزاحماً يتعذر رفعه[50]، وإنما يعني إثباتاً لما هو راجح ولما هو أرجح، فقد نقول فلان عادل ونكون قد وصفناه بالعدل وأطلقناه عليه ذلك بحيث لا يشك في حصول وصف العدل له على سبيل درجة من درجات وصف العدل، ولكن إذا قلنا فلان فوقه في العدل فلا يعني كلامنا أن الأول متصف بغير العدل كالظلم[51].

لا يوجد الإطلاق في القيم بصفة عامة إلا في إدراكاتنا النظرية أو في أفهامنا المجردة، أما النسبية في القيم فتوجد حية في واقع مجسد له من جهة أولى ظروفه وحيثياته المتغايرة، وله من جهة ثانية إكراهاته ومقتضياته المتفاوتة. ولكل جهة معطيات وبينات قد تخفى على المرء بعضها أو كلها في مسألة من المسائل فيرى في رأي محدد ما يزاحم ويعارض قيمة العدل، ولكن، ومع تسارع الأيام ومع توالي المستجدات سرعان ما يرى في الرأي المنتقد منتهى العدل وقمة القسطاس. إن منشأ تغيير رأيه هو اطلاعه على ما خفي عليه في البداية من معطيات وقرائن وبينات. لقد ظهر لنبي الله موسى أن ما فعله الخضر عليهما السلام هو من التدبير المناقض للعدل. فخرقه للسفينة وقتله للغلام فعلان لا يتصفان بحسب السقف العلمي لموسى عليه السلام بمعاني الانصاف والنزاهة والموضوعية والأمانة، كما أن إقامته للجدار بدون أجر مناقض بحسب موسى لمعنى الاستحقاق.

لقد سيقت قصته في مقام بيان كمال التدبير الإلهي للعدل لقوله تعالى على لسان الخضر: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾، نعم لا شك في ذلك، ولكن يمكن للمتدبر أن يفيد منها دروساً متعددة من أبرزها أن منشأ ما يظهر من تناقض في تدبير بعض حكامنا ومسؤولينا للعدل راجع إلى عدم إحاطتنا بالمعطيات الصحيحة وبالبينات السليمة التي تجعلنا على بال من مآلات أحكامهم وقراراتهم واختياراتهم. ولهذا بين القرآن الكريم في نهاية هذه القصة أن تدبير الخضر لهذه الأفعال لا يتزاحم مع العدل، وإنما يتزاحم مع تدبير علمي معين ظهر لموسى عليه السلام. فلم يكن عنده من العلم ما يجعله مدركاً اتساق أفعال الخضر مع قيمة العدل، و هو ما بينه قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف:79-82].

 

5 التدبير المقاصدي و تمايز المماثلة العدلية 

من المعاني التي ترتسم فيها قيمة العدل المماثلة في المجازاة والانتصاف في القصاص والأفعال والحروب والعقوبات. وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل:126] ولقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: جزء من الآية 37] ولقوله تعالى أيضاً: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا﴾ [غافر: جزء من الآية 40] ولقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ [البقرة: جزء من الآية 178] ولقوله أيضاً: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:194][52]. كلها آيات قرآنية تفيد تشريع الماثلة في رد العدوان فيما تتأتى فيه المماثلة[53]، فعلى سبيل المثال ذهب جمهور الفقهاء إلى أن القاتل يقتل بمثل ما قتل فيكون الجزاء من جنس العمل. وقد استدل الشافعي بالآية على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به بان يذبح إذا ذبح ويخنق إذا خنق و يغرق إذا غرق، وهكذا، وقال مثل ذلك في الغصب والإتلاف[54].

فالعدل لا يتأتى إلا بالمماثلة في رد العدوان، فلا تكون مما دونها لأن ذلك يفوت المصلحة المقصودة ممثلة في منع العدوان والظلم وتقرير العدل، ولا تكون بما فوقها لأن ذلك إسراف لقوله تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا﴾ [الإسراء: جزء من الآية 33]. لكن هل من العدل أن يتناقض التنازل عن حق المماثلة في رد العدوان مع قيمة الرحمة ممثلة في حق العفو عن القاتل؟ نطرح هذا السؤال لأن الناس متفاوتون ومتغايرون في مدى تنازلهم عن حق المماثلة في رد العدوان، فربما، كما قال دفيد جوستون" كان الشيء المثير للاستغراب أكثر أن الناس غالباً ما يتمادون في الانتقام من أشخاص آخرين ألحقوا بهم الأذى إذا استطاعوا ذلك، ليس من المستغرب إذن أن يرد الناس بالمثل أو ينتقموا من أشخاص ارتكبوا جريمة .... إن استعداد الناس لتحمل الخسائر من أجل أن يتصرفوا بإنصاف أو يعاقبوا غيرهم على تصرف جائر يتباين إلى حد بعيد من إنسان إلى آخر و التصورات عما يعتبر رداً عادلاً تتباين بشكل بارز من ثقافة إلى أخرى"[55].

نفهم، انطلاقاً من هذا التمايز، المغزى من جمع القرآن الكريم في آية واحدة بين معنيين قيمين: قد يبدوان في ظاهر أو بادئ النظر متناقضين: الأول: معنى المماثلة في القصاص وما ينطوي عليه من الحرص على قيمة العدل، ومعنى العفو عن القاتل وما ينطوي عليه من التشوف إلى قيمة الرحمة. وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: جزء من الآية 178]. فأخذ ولي القتيل بالقصاص حق له وليس واجباً عليه لأن له بحسب الآية الكريمة العفو وقبول الصلح من أجل الاستبقاء الدائم لأواصر الأخوة الإسلامية. فما قصد "من" في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ هو ولي المقتول، والمراد بأخيه هو القاتل. فقد وصفه القرآن الكريم بوصف الأخوة تذكيراً بها وترقيقاً لنفس ولي المقتول لأنه إذا اعتبر القاتل أخاً له كان من المروءة ألا يرضى بالقود منه لأنه كمن رضى بقتل أخيه. ولله ذر الإمام ابن عاشور رحمه الله في قوله: "ليس الترغيب في أخذ مال الصلح بناقض لحكمة القصاص، لأن الازدجار يحصل بتخيير الولي في قبول الدية فلا يطمئن مضمر القتل إلى عفو الولي إلا نادرا و كفى بهذا في الازدجار"[56].

إن المماثلة في القصاص عدل وهي مقدمة، والرغبة في العفو عن القاتل رحمة به قيمة مؤخرة تأتي بعدها في أي فعل يسوء من عومل به. نعم لا شك في ذلك التقديم وفي هذا التأخير كما في قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: جزء من الآية 40] وفي قوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: جزء من الآية 43]، ولكن لا تصل القيمتان إلى حد التناقض التام الذي لا يمكن الجمع بين أطرافه. فالرحمة بالعفو عن القاتل لا تتناقض مع قيمة العدالة ممثلة في القصاص، ووجه الاتساق بينهما في هذا المضمار تحقيقهما لمقصد الحياة. فالمقصد من العفو عن القاتل[57]، ليس فحسب الرحمة به، وإنما تمكينه من حياة مستأنفة تقتضي منه شكر الله، والمقصد من القصاص إذا لم يتنازل عنه ولي المقتول ليس فحسب إبعاد الناس عن الأخذ بالثأر لأنفسهم بدون سلطان، ولا هو مجرد إبطال ما كانوا عليه من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف، وإنما هو التمكين للحياة، أعني حياة النفوس البشرية فيرتدع الناس عن قتل النفوس لأن توقع الموت هو أشد ما تتوقاه النفوس البشرية.

إن من دقائق البلاغة في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: جزء من الآية 179] أن الله تعالى جعل فيها "من الضد متضمناً لضده، وهو الحياة في الإماتة في القصاص، وعرف القصاص ونكر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعاً من الحياة عظيماً لا يقدره قدره ولا يجهل سره "[58]. وهكذا، وانطلاقاً من التطلع إلى مقصد الحياة، لا تناقض بين قيمتي العدل والرحمة. فهما في هذه الصورة قيمتان متناغمتين، فحياة القصاص متعاضدة مع حياة العفو عن القاتل، وانطلاقاً من هذا التعاضد لا تناقض بين ما تحققه الماثلة العدلية في القصاص وبين ما تحققه الرحمة أو العفو عن القاتل.

وهذا التعاضد من حسن التدبير لقيمتي العدل والرحمة لأنه إذا كان في المماثلة عدل يتحقق من خلاله التمكين لمقصد الحياة البشرية واستمراريتها فإن في العفو عن القاتل بالنسبة لمن تنازل عن حق القصاص إبقاء على حياة القاتل غير المعروف بجناية القتل. ففي التنازل عن حق المماثلة صبر، وإن في الصبر لخير[59]، لا يتجسد الخير فقط في منح الحياة للقاتل، وإنما في كونه سبباً لجلب قلوب الأعداء فتتحول العلاقة من عداوة إلى موالاة لقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34].

 

خاتمة

والحاصل من تدبيرنا المقاصدي للتزاحم الذي تنطوي عليه قيمة العدل أنه قادنا إلى استخلاص جملة من الخلاصات نعرض لأهمها فيما يأتي:

  • يتحصل من استقرائنا للاستعمالات المختلفة لمادة ع. د. ل، وخاصة الاستعمالات القرآنية، انتظامها فيما يقارب اثنتي عشرة معنى ينطوي كل واحد منها على وصف مصلحي محدد.
  • إن مقاصد قيمة العدل هو جملة من المعاني الأخلاقية المتعددة التي يجسد كل واحد منها مصلحة من المصالح التي يرسمها العدل باعتباره مقصدا من مقاصد الشريعة الإسلامية.
  • بقدر ما تلح المعاني المتعددة للعدل على الموضوعية والصدق والمروءة والموضوعية والأمانة والنزاهة وإحقاق الحق والإنصاف والتسوية يتزاحم عند تطبيقها معاني القصور والمراجعة والتقويم التي يقتضيها تنزيل العدل. بكلمة أخرى إننا إزاء جهتين متزاحمتين في البناء القيمي العدلي: جهة قيمية تتمثل في حرص العادل على العمل بقيم العدل المطلقة، وجهة قيمية مقابلة تنبه العادل على الوعي بنسبية عدله لأنه مهما استفرغ في أن يكون عدله متصفاً بالإطلاقية فإن عدله لا يتأتى له الانسلاخ عن النسبية.
  • يتحقق التدبير المقاصدي لقيمة العدل، انطلاقاً من إعمال مفهوم التمايز لأننا ندبر حملة من التمايزات: أولها أننا نميز في قيمة العدل بين ما هو مطلق وما هو نسبي، والثاني أننا نميز فيها أيضاً بين ما هو إلهي وما هو بشري، والثالث أننا نميز في معاني العدل البشري بين مراتبه وما يحفه عند التطبيق من متغيرات. وكلها تمايزات نستحضرها من أجل إنجاز موازنة دقيقة ننتهي فيها إلى الأهم والراجح بدل المهم والمرجوح.
  • يعطي صاحب التدبير المقاصدي القائم على إعمال مفهوم التمايز للموضوع القيمي المطروح حقه من التقدير العدلي والعادل بدون زيادة ولا نقصان. لا يكتفي من خلال التدبير المقاصدي للعدل على الاهتمام بما ينبغي أن يكون عليه الواقع في هذه المسألة أو تلك، وإنما يراعي ما عليه الواقع في متغيراته وفي مراتبه. فهو واقع تتشابك معاني العدل في سياقاته بكل ما ينطوي عليه من اختلاط في معطياته ومن تداخل في عناصره.
  • يقتضي التدبير المقاصدي التمييز بين إطلاقية العدل الإلهي ونسبية ومحدودية العدل البشري. البشر يعدلون ليستفيدوا بالعدل خيراً في أنفسهم وفي مجتمعهم، ولو لم يعدلوا لم يوجد لهم ذلك الخير. أما الله تعالى فيعدل لا لأن ذاته تستكمل بذلك العدل، بل لأن الكمال الذي في ذاته اقتضى أن يعدل. لا يوجد، انطلاقاً من هذا التمييز، تزاحم قيمي بين قيم الحرية والجبرية. دليل ذلك أن الأدلة التي تفيد القدرة والإرادة المطلقة لله تعالى في خلقه لا تعني جبرية الإنسان وتبعا لذلك عدم العدل الإلهي، وإنما تعني سريانها على مقتضى الحكمة الإلهية التي اقتضت خلق صنفين من المخلوقات، صنف مهيئ بطباعه للضلال وصنف مهيئ أيضاً بطباعه للهداية.
  • يقتضي التدبير المقاصدي للعدل التمييز بين مراتب للعدل يستفرغ الإنسان المكلف وسعه في تسلق درجات سلمها، ولا زال كذلك إلى أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى سبحانه وتعالى. فنحن نسعى إلى تطبيق معاني العدل، ونحن على بال بما يزاحم واقعنا من متغيرات ظرفية ومن إكراهات متفاوتة في اليسر والعسر. . فبقدر ما تنبهنا هذه المعاني على نسبية عدلنا فإنها تحملنا في الوقت على الترقي والسمو لأن التشوف الإنساني إلى معاني العدل مراتب تزاحمها أيضاً عناصر من الزمان والمكان والحال. ومن ثم لا يوجد عدل إنساني مطلق لأن إن واقع قيمة العدل لم يكن ولن يكون في يوم من الأيام بسيطاً، وإنما هو دائماً واقع دنيوي تتشابك مضاره بمفاسده، وتختلط منافعه بمضاره.
  • لا تتناقض الرحمة بالعفو عن القاتل مع العدال ممثلاً في القصاص لأن المقصد الشرعي من العفو عن القاتل، ليس فحسب الرحمة به، وإنما تمكينه من حياة مستأنفة تقتضي منه شكر الله. كما أن المقصد من القصاص إذا لم يتنازل عنه ولي المقتول هو التمكين لحياة النفوس البشرية فيرتدع الناس عن قتل النفوس لأن توقع الموت هو أشد ما تتوقاه النفوس البشرية.

اعتقد أننا نحتاج إلى هذا التدبير المقاصدي القائم على مفهوم التمايز في فقهنا المعاصر لقيمة العدل. الانطلاق منه ضروري من أجل موازنة دقيقة في واقعنا الراهن بين ما يعنيه العدل من مماثلة تمكن للحقوق وبين ما يفرضه الواقع الذي نروم تطبيق العدل في سياقه. وأهم ما في هذا الواقع جملة من التمايزات العملية[60] التي قد تقتضي أو لا تقتضي التنازل المؤقت عن رد العدوان والجنوح إلى العفو والمصالحة بسبب الظروف الحرجة والحيثيات الدقيقة التي تعيشها كثير من مجتمعاتنا العربية الراهنة. أعني إن تدبيرنا التمايزي للعدل بصفة عامة لا بد أن يكون بحسب ما هو واقع، كما تجسده معطياته المتعددة في الزمان وفي المكان.

لا بد من هذا التدبير التمايزي حتى لا نسقط في شرك تدابير جامدة[61] تجعلنا مقصرين، وباستمرار، في تدبير قيمة العدل. لقد سبق لابن القيم أن نبهنا أن هذا التقصير في التدبير المقاصدي في ابتغاء العدل من طرقه العلمية النافعة هو الذي برر وربما فسر إحداث حكامنا ما سماه هذا الفقيه الحنبلي بال"قوانين السياسية" حتى "ينتظم بها مصالح العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاعهم شر طويل وفساد عريض، و تفاقم الأمر وتعذر استدراكه"[62]. ذلك ما سبق أن قرره ابن القيم في القرن الثامن الهجري، أما نحن أبناء القرن الخامس عشر فلا يسعنا إلا أن نعترف بمقادير كبيرة من الفشل في تدبير ناجح للعدل. يبدو ذلك واضحاً في مظاهر كثيرة لعل أوضحها الظلم، ليس فحسب ظلم الغير، وإنما أولاً ظلم المسلمين أنفسهم بأنفسهم، وثانياً ظلم الإسلام نفسه بتغييب ما ينطوي عليه من معاني العدل التي لا تتأتى فحسب برفع شعارات الانتماء، على الرغم من أهميتها وحتميتها، وإنما تتأتى بالثقافة العلمية والمعرفة المنهجية ليس فقط للمنقول من نصوصنا الإسلامية واجتهاداتنا الفكرية والفقهية، وإنما لواقع البشرية المتفاوت والمتغاير. ومن أبرز العناصر المشكلة لهذه الثقافة أن يكون تدبير العالم المسلم لقيمة العدل تدبير الناظر "في المآلات قبل الجواب عن السؤالات"[63].

 

الهوامش

 


* الدكتور إسماعيل الحسني أستاذ مادة مقاصد الشريعة والفقه المعاصر، كلية الآداب، جامعة القاضي عياض، مراكش، المغرب. قدم هذه الورقة في المؤتمر الدولي الرابع لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق الذي عقد بالدوحة في 2-3 أبريل 2016.


 

[1] يعني لفظ " القيمة" في اللغة العربية القدر أو المقدار المعنوي لأمر ما أو الثمن النقدي المالي أو المادي للمتاع وللسلعة. ويدل في الاصطلاح على معاني متعددة تختلف بحسب المجالات التي يرد فيها. يدل في علم الاقتصاد المعنى المالي للثروة فيميزون بيم قيم الإنتاج وقيم الاستهلاك. وفي المجال الفلسفي تفيد القيمة المعنى الخلقي الذي يستحق أن يتطلع إليه المرء بكليته ويجتهد في الاتيان بأفعاله على مقتضاه. اقتبسنا هذه الإفادة من الأستاذ طه عبد الرحمن: ينظر تعددية القيم ما مداها؟ وما حدودها؟، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 20-21، 2002/ ص 231. ينظر أيضاً للتوسع: قنصوه، صلاح. نظرية القيمة في الفكر المعاصر. القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1981م، ص 6.

[2] الحديث رواه مالك، كتاب الموطأ، كتاب حسن الخلق، وجاء في الجامع الصغير للسيوطي: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق". وينظر أيضاً الشاطبي، الموافقات ج 2 ص 77 قال الأستاذ طه عبد الرحمن: "حد الصلاح أنه قيمة أخلاقية، بل هو رأس القيم الأخلاقية، وحد الأخلاق أنها تبحث في الصلاح". تجديد المنهج في تقويم التراث، البيضاء، المركز الثقافي العربين الطبعة الأولى، 1949م، ص 103.

[3] شهاب الدين، القرافي. شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول. القاهرة، مصر، دار الفكر، الطبعة الأولى. 1393ه-1973م، ص 78.

[4] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، رقم الحديث 6478، ج 11 ص 320.

[5] للفقهاء والأصوليين كسب معرفي مقدر في هذا المضمار: ينظر للتوسع: الحسني، إسماعيل. "نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور". منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الثانية. 2005م، ص .293 و"مقاصد الشريعة وأسئلة الفكر المقاصدي". منشورات الرابطة المحمدية للعلماء. الطبعة الأولى. الرباط، 2013م، ص 23.

[6] يكفي أن نذكر في هذا المضمار أن المفكر الغربي جون رولز نبه على أن المجتمع المنظم ليس هو فقط الذي يحقق الخير لأعضائه، وإنما هو أولاً وقبل كل شيء الذي يخضع التنظيم فيه إلى تصور شمولي للعدالة. رولز، جون. نظرية العدالة. ترجمة ليلى الطويل. دمشق: نشر وزارة الثقافة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011م، ص 31

[7] قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ [المائدة: جزء من الآية 9].  قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل» فابتدأ بالإمام العادل. وهذا واضح أيضاً في قوله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ ولقوله: ﴿ونزلنا إلك الكتاب تبيانا لكل شيء" ولقوله: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ [الحديد: جزء من الآية 24]. قال ابن تيمية: "بين سبحانه أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل... ليقوم الناس بالقسط... فالكتاب والعدل متلازمان والكتاب هو المبين للشرع. فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع"؟ ينظر: ابن تيمية. مجموع الفتاوى. الطبعة الثانية. الرباط: مكتبة المعارف، 1401ه-1981م، ج 35 ص 366. ولهذا حق لابن القيم أن جعل العدل ماهية الشريعة محصورة في العدل الشريعة، فهي كما قال “عدل كلها ومصالح كلها... فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ... فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده". ابن القيم. إعلام الموقعين. ج 3، ص 14.

[8] الجرجاني، علي بن محمد. كتاب التعريفات. تحقيق عادل أنور خضر. الطبعة الأولى. بيروت: دار المعرفة، 1428ه-2007م، ص .136. حماد، نزيه. "معجم المصطلحات الفقهية في لغة الفقهاء". منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الأولى، 1414ه- 1993م، ص 193 و195.

[9] الفيومي، أحمد. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي. مصر: مكتبة عيسى الحلبي، 1347ه- 1929م، ص 51-52.

[10] تحضر معاني العدل، إما كلها أو بعضها في ألفاظ قرآنية منها القسط كما في قوله تعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط﴾ [آل عمران: جزء من الآية 18] أي شهد الكل بأن الله تعالى مقيم للعدل بين خلقه وفي جميع أموره، وقوله: ﴿ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله﴾ [الأحزاب: جزء من الآية 5] أي ذلك هو الأنسب عدلاً. وقوله: ﴿وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾ [المائدة: جزء من الآية 43]، أي احكم بالعدل. ولقوله تعالى: ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة﴾ [سورة الأنبياء: جزء من الآية 47].

[11] نزلت يوم فتح مكة في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار، حينما أخذ علي مفتاح الكعبة منه قهراً وفتح الباب فأراد العباس أن يأخذه، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ثم أسلم عثمان لما علم أن الله أنزل في حقه هذه الآية.

[12] نزلت في عثمان، فقد كان له مولى كافراً يكره الإسلام ويأباه.

[13] نزلت في رجلين من الأنصار تنازعا في حق بينهما، واستعان كل منهما بعشيرته، فتدافعا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال.

[14] ينظر: ابن عاشور. تفسير التحرير والتنوير. ج 20، ص 12.

[15] ينظر في ذلك: ابن رشد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد. تحقيق أبو الزهراء حازم القاضي. دار الفكر، 1424ه- 2003م. ينظر: مسألة حكم من تاجر بمال الوديعة فربح. ج 1، ص 558 وأيضاً 337 وتعليل من التفاضل ج 1 ص 227.

[16] ابن عاشور. تفسير التحرير والتنوير. تونس: الدار التونسية للنشر، بدون تاريخ، ج ،30 ص 176.

[17] تقتضي لفظة العدل عند الراغب الأصفهاني معنى المساواة، إذا "اعتبرت بالقوة فهيئة في الإنسان يطلب بها المساواة، وإذا اعتبرت بالفعل فهو التقسيط القائم على الاستواء" الأصفهاني، الراغب. الذريعة إلى مكارم الشريعة. تحقيق أبو اليزيد العجمي. الطبعة الأولى. القاهرة: دار السلام، 1428ه- 2007 م، ص 249.

[18] قال الإمام بن عاشور: "الفئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فاوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخوة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما". ابن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج24 ص 262

[19] حدد قال الإمام بن عاشور، انطلاقاً من قيمة الاستحقاق "ماهية"، وذلك في قوله: "ماهية العدل تمكين صاحب الحق بحقه بيده أو يد نائبه، وتعيينه له قولاً أو فعلاً". ابن عاشور. أصول النظام الاجتماعي. ص 186.

[20] ينظر: محاولة صاحب كتاب نظرية العدالة. فعلى سبيل المثال درس جون رزلز قيمة المساواة من خلال مبادئ متعددة أبرزها مبدآن: أولهما أنه يجب أن يحصل كل شخص على حق متساو في المخطط الأكثر اتساعاً من الحريات الأساسية المتساوية المتوافق مع مخطط مماثل من الحريات للآخرين. والثاني يجب ترتيب حالات الامساواة الاقتصادية والاجتماعية ينظر للتوسع: نظرية العدالة. ص 92-93.

[21] لما تعذر أو تعسر على الإنسان تحقيق الاستقامة الكاملة روي عنه صلى عليه وسلم قوله: "شيبتني سورة هود وأخواتها". والسورة تضمنت قوله تعالى: ﴿فاستقم كما أمرت ومن معك ولا تطغو﴾ [هود: جزء من الآية 112]. الأصفهاني، الراغب. الذريعة إلى مكارم الشريعة. ص 250.

[22] من ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» متفق عليه: أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، ج1، ص63 حديث رقم (35). كما أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان، كتاب الإيمان، باب بيان أمور الإيمان، ج1، ص51، حديث رقم 9. تتفاوت شعب الإيمان: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأدناها: ما يُتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وبقي بين هذين الشعبتين: شعب متفاوتة في القرب والبعد من المرتبتين.

ومن ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيّ العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" متفق عليه: رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، ج1، ص18 حديث رقم 18، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله أفضل الأعمال، ج1 ص88، حديث رقم83.

من ذلك عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها"، قال: قلت: ثمّ أي؟ قال: "برّ الوالدين"، قلت: ثمّ أي: قال: "الجهاد في سبيل الله"، فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه " ارعاءً: رفقاً به وإبطاءً عليه. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الإيمان أفضل الأعمال، ج1، ص89، حديث رقم 85. أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتُقرأ السلام على من عرفت وعلى من لا تعرف\ متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سنان الطعام من الإسلام، ج1، ص13 حديث رقم 12. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تفاضل الإسلام ونصف أموره أفضل ج1، ص65، حديث رقم 3. وفي رواية أخرى: "أيُّ المسلمين خير، قال: “من سَلِم المسلمون من لسانه ويده\ متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل، ج1، ص13، حديث رقم 11، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تفاضل الإسلام، ج1، ص65، حديث رقم 40. وقد ذكر العلماء أن معنى الرواية الأولى: أيُّ خصاله وأموره وأحواله أفضل، وقالوا: وقع الاختلاف في الجواب من خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهمّ لِما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر كان الكفّ عن إيذاء المسلمين بالقول والفعل أفضل انظر النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج2، ص9-10. ينظر للتوسع في ذلك ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه فقه الأولويات. بيروت، الطبعة الأولى، 1422ه-2001م، ص 10 -11.

[23] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معك، ج5، ص2236، حديث رقم 5655. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأدب، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، ج1، ص90، حديث رقم 86.

[24] رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ينظر صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، رقم الحديث 58.

[25] سبق للفيلسوف الأمريكي "جون رولز" أن أسس تدبيره لقيمة العدل على أساس التمييز بين الدائرة العمة والدائرة الخاصة من حياة الإنسان. وهكذا تختص الدائرة العامة بجملة من القيم التي ينبغي أن يشترك فيها كل أفراد المجتمع، والقيم التي تدخل في نطاق العدل. بينما يجعل الدائرة الخاصة تتضمن القيم التي يختص بها كل فرد والتي تحدد تصوره للحياة الطيبة ينظر طه عبد الرحمن، تعددية القيم ص 242.

[26] قال الشاطبي: "أصل النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً... وهو مجال صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة" الموافقات، ضبط وتعليق أبو عبيدة آل سليمان، الخبر، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1417ه، 1997م، ج 4 ص 195. وننبه على أننا اعتمدنا في هذا البحث النسخة التي حققها الأستاذ عبد الله دراز، بيروت، دار المعرفة، بدون.

[27] كما بين الأستاذ طه عبد الرحمن في دراسته عن تعددية القيم ص 233.

[28] الشاطبي. الموافقات. ج 4، ص 92. وينظر أيضاً ج 4، ص 165.

[29] الأصفهاني، الراغب. الذريعة إلى مكارم الشريعة. ص 250.

[30] صحيح البخاري. كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا أوفق له. وجاء الحديث في الصحيحين برواية أخرى، هي: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: "إن لبدنك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً".

[31] ومن ثم تتعالى قيمة العدل انطلاقا من هذا الاعتبار، عن المصالح المادية والاقتصادية والمالية والتجارية. التشبع بهذا الاعتبار المطلق هو الذي يفسر قول بعض العلماء إن العدل هو الميزان الوارد في ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ [الحديد: جزء من الآية 24]. الأصفهاني. الذريعة إلى مكارم الشريعة. ص 249.

[32] قال ابن خلدون: "واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشرع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال". ابن خلدون. المقدمة. بيروت: دار الجيل العربي، بدون تاريخ، ص 318_319. ولهذا ذهب بعض العلماء المسلمين إلى تفضيل الحاكم الكافر العادل على الحاكم المسلم الجائر، فالحاكم الكافر العادل لنا عدله وعليه كفره، والحاكم المسلم الظالم له إسلامه وعلينا جوره. كما ذهب البعض إلى القول بأن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة. وانطلاقاً من مقصد العدل بما يعنيه من إحقاق الحقوق وإزهاق الباطل كان العدل أساس العمران البشري. تدور الهداية القرآنية، كما بين الأستاذ مرتضى المطهري على محور العدل ابتداء من عقيدة التوحيد إلى المعاد إلى النبوة، فالإمامة والزعامة وانتهاء بالآمال والطموحات الفردية والجماعية والمجتمعية القرآن الكريم هو الذي "بذر فكرة العدل في قلوب وأرواح الناس، ثم سقاها ونماها... إنه هو الذي طرح مسألة العدل والظلم من حيث مظاهرها المختلفة: العدل التكويني، العدل التشريعي، العدل الأخلاقي، العدل الاجتماعي". المطهري، مرتضى. العدل الإلهي. ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني. 1403ه-1983م، ص 44.

[33] الفاسي، علال. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. تحقيق إسماعيل الحسني. الطبعة الأولى. !2011م، ص 303.

[34] صحيح بن ماجة. كتاب الطهارة. رقم الحديث 278.

[35] وهو ثلاثة أضرب: انظلام في المال وهو الاستخذاء للظالم في أخذ ماله. وانظلام في الكرامة: وهو الاستخذاء في بخس منزلته من التعظيم، وانظلام في النفس: وهو استخذاء لمن يؤلمه. وكل واحد من هذه الأضرب قد يكون محموداً وقد يكون مذموماً.

[36] قال الراغب الأصفهاني: "إذا كان في مال فمسامحة، وإذا كان في النفس فعفو، وإذا كان في الكرامة فتواضع". الذريعة إلى مكارم الشريعة. ص 252.

[37] ابن رشد. الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. إشراف محمد عابد الجابري. بيروت: نشر مركز دراسات الوحدة العربية، 1998م، ص 198.

[38] المصدر السابق. ص 197.

[39] شطر من الآيات القرآنية يفيد حرية الإنسان ومسؤوليته من ذلك قوله تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾ [الشورى: جزء من الآية 30]. ولا يخفى ما يعنيه هذا الشطر من قول بالقول بالحرية المطلقة للإنسان، قول يستوجب القول بأن ثمة أفعال لا تجري على المشيئة الإلهية، وذلك متناقض مع ما أجمع عليه المسلمون من أنه لا خالق إلا الله. والشطر آخر من الأدلة يفيد أن الإنسان مجبور على أفعاله من ذلك قوله تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير﴾ [الحديد:22]. ولا يخفى مرة أخرى ما تعنيه هذه الأدلة من قول بالجبرية، قول بالجبرية يستلزم التناقض مع عدل الله الذي لا يكلف إلا بما يطيقه المكلف في الإسلام، لقوله تعالى: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ [البقرة: 184].

[40] قال الإمام بن عاشور رحمه الله: "ولكن لهم في القرب من التوسط ومن التطرف طوائف كثيرة" أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. الشركة التونسية للتوزيع، والدار العربية للكتاب، 1977م، ص 66.

[41] الكشف عن مناهج الأدلة. ص 189. وهو معنى كرره مرة أخرى علال الفاسي في قوله: “القدر إذن هو التقدير والتدبير، وليس هو وقوع شيء دون سبب، ولكن الله الذي يخلق المسببات هو الذي خلق الأسباب وجعل تلك مترتبة على هذه". الفاسي، علال. مقاصد الشريعة. ص 177.

[42] الموافقات. ج 3، ص 400.

[43] ولله ذر الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله عندما عرف الاعتدال بقوله:"إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقصان". ينظر: كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. ص 24. كما سبق للطباطبائي أن بين أن العدل إعطاء كل شيء ما ينبغي أن يعطاه. العدل في العقيدة هو الإيمان بما هو حق، والعدل في الأعمال الإنسانية هو العمل بما يسعد الإنسان وبما يحرره من العبودية لهواه ولغيره، والعدل في المجتمع أن يوضع الشخص الموضع الذي يستحقه عقلاً أو شرعاً". ينظر الطباطبائي، تفسير القرآن ج 12، ص 133.

[44] قال الشاطبي "فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين كان التشريع رداً إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه. فعلى الطبيب الرفيق أن يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله، وعادته، وقوة مرضه وضعفه؛ حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقاً في التدبير وسطاً لائقاً به في جميع أحواله" ج 2، ص 279.

[45] الفاسي، علال. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. ص 155.

[46] وقد يعضد هذا الرأي بما روي عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً» رواه البخاري ومسلم. ينظر: صحيح البخاري. كتاب النكاح، باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، رقم الحديث 5143.

[47] وقد يعضد هذا الرأي بما روي عن عمر بن الخطاب: ليأتين على الناس زمان يكون صالحوا الحي فيهم في أنفسهم إن غضبوا غضبوا لأنفسهم وإن رضوا رضوا لأنفسهم لا يغضبون لله عز وجل ولا يرضون لله عز وجل فإذا كان ذلك الزمان؛ فاحترسوا من الناس بسوء الظن" والبعض يرويه حديثاً نبوياً. ينظر الألباني، في سلسلة الأحاديث الضعيفة، جزء 1 - صفحة 288.

[48] يراجع في هذه النقطة كتابي: مقاصد الشريعة وأسئلة الفكر المقاصدي، ص 124.

[49] الشاطبي. الموافقات. ج 3، ص 396.

[50] قال الإمام الشاطبي: "المراتب- وإن تفاوتت- لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد" الموافقات ج 2، ص 58.

[51] استدل الشاطبي على ذلك بما رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن خير دور النصار أجاب بما عليه ترتيبهم في الخيرية بقوله: "خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة" ثم قال: "وفي كل دور الأنصار خير". ينظر: صحيح البخاري. كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار رقم الحديث 3789و 3790، كما استدل الشاطبي على ذلك بحديث: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير». ينظر: صحيح مسلم. كتاب القدر باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، رقم الحديث 2664. ينظر الموافقات ج 3 ص 59-60.

[52] قال الإمام بن عاشور: "إن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن، فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة، ويشمل ذلك حرمة المكان" تفسير التحرير والتنوير. ج 2، ص 211.

[53] قد تكون المماثلة في الغرض والصورة كالقصاص من القاتل ظلماً وقد تتعذر المماثلة التامة فيصار إلى المشابهة في الغرض أي مقدار الضر، ولهذا كان من مشاكل المماثلة مسألة الجماعة يمالون على قتل أحد عمداً أو على قطع بعض أعضائه، وهي مسألة اختلفت انظار الفقهاء فيها. ينظر: تفسير التحرير والتنوير. ج 25، ص 115.

[54] وخالف الإمام أبو بكر بن العربي فرأى أن الصحيح هو المماثلة التي لا تدخل في حد التعذيب، أما إذا دخلت حد التعذيب فتترك للسيف. ينظر: الرازي. مفاتيح الغيب. ج 15، ص 44. ابن العربي. أحكام القرآن ج 1، ص 114.

[55] اقتبسنا هذا النص من دراسة الأستاذ إدريس حمادي، العدالة كمساواة في بعديها العقلي والديني، المساء، 6 يناير 2016م ص 8.

[56] ابن عاشور. تفسير التحرير والتنوير. ج 2، ص 145.

[57] لا ينطبق هذا على القاتل الذي يعاود القتل لقوله تعالى: ﴿فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم﴾ \ سورة ولقوله: ﴿ومن عاد فينتقم الله منه﴾ وللفقهاء تفصيلات في ذلك يمكن أن تراجع تنظر في مظانها العلمية.

[58] رضا، محمد رشيد. تفسير القرآن الحكيم المسمى تفسير المنار. تحقيق فؤاد سراج عبد الغفار. القاهرة: نشر المكتبة التوفيقية، بدون تاريخ، ج 2، ص 114.

[59] لقوله عز وجل: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين﴾ [النحل: 126].

[60] سبق للشيخ يوسف القرضاوي أن نبه القائمين على الحركات الإسلامية بقوله: "كثيراً ما نجد الذين حرموا نور العلم ورشد الفقه يذيبون الحدود بين الأعمال فلا تتمايز، أو يحكمون عليها بغير ما حكم الشرع فيفرطون أو يفرطون، وهنا يضيع الدين بين الغالي فيه والجافي عنه" فقه الأولويات، ص 17.

[61]  قال شهاب الدين القرافي: “لا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك...الجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين". شهاب الدين القرافي، الفروق، ج 1، ص 176.

[62] ابن القيم. إعلام الموقعين. ج 4، ص 373.

[63] الشاطبي. الموافقات. ج 5 ص 233.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق