د. فتحي حسن ملكاوي

فتحي حسن ملكاوي*

 

مقدمة

شهدت نهاياتُ القرن العشرين وبداياتُ القرن الحادي والعشرين، حديثاً متنامياً عن القيم العالمية، سوَّقت له جهاتٌ ثلاث متداخلة ومتضايفة في جهودها: أوَّلُها دولٌ كبرى امتلكت القوة، فسَعَتْ للهيمنة على العالم مدَّعية أنَّ ما تملكه من القيم هو قيم عالمية؛ وثانيها شركاتٌ اقتصادية حاولت أن تُنَمِّط السلوك البشري في الإنتاج والاستهلاك، وفق وُعُود العولمة أو إكراهاتِها؛ وثالثُها مؤسسات الأمم المتحدة التي أخذت تفرض على الشعوب والأمم منظومات قيمية، مستخدِمةً القوى التي تملكها الجهتان الأولى والثانية. وبذلك تحولت موازين القوى في العالم -بعد ما تحقق لها في الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية- إلى الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية.

وأصبح مصطلحُ القيم واحداً من المفردات التي يستعملها كلُّ الناس، في كلِّ المجالات؛ فالصراعُ بين القوى المهيمنة في العالَم يتمُّ تسويغُه بالسَعْي لنشْر قيم الحريَّة والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ والجشعُ في التنافس الاقتصادي بين الشركات الكبرى في العالم يتمُّ تبريرُه بالسعي لإشاعة قيم السوق، المتمثلة في تحرير التجارة وتحقيق معايير الجودة؛ والتطرُّفُ الديني والطائفي والعرقي يتم تسويقُه بالحرص على قيم الهوية، في مواجهة تيارات الاستلاب والتحرُّر التي تُرَوِّج لقيم العولمة، إلخ.

لذلك لا عجبَ أنْ أصبحَ موضوعُ القيم مادةً للبحث والدراسة، يستقطب اهتمامَ الباحثين من مختلف المذاهب والإيديولوجيات، ومن مختلف الحقول والتخصصات المعرفية؛ فهو موضوعٌ أثيرٌ في البحوث الفلسفية، والدراسات السياسية، وهو موضوعٌ مركزيٌ في علوم الدين وعلوم الاقتصاد والاجتماع، والدراسات الثقافية، والحضارية، إلخ، هذا فضلاً عن أنَّ موضوعَ القيمِ يتعلق بالفطرة الإنسانية، ويضربُ بعيداً في عمق التاريخ البشري، سواءً اعتمدنا على النص الديني في معرفة هذا التاريخ، أو اعتمدنا نصوص التاريخ البشري المدوَّن.

ومع كلِّ هذا الاهتمام فإنَّ البحث الجادَّ سوفَ يقودُ إلى ملاحظة أنَّ القيمَ قد تعرَّضت في مناسبات عديدة إلى قدر كبير من التهميش، مما يؤكِّدُ الحاجةَ إلى الكشف عن العوامل التي أدَّت إلى ذلك، وبيانِ دورِ المعتقدات والإيديولوجيات، إضافةً إلى بيان موقعِ القيم من دعاوى الإطلاق والنسبية، وخصائصِ التغيُّر والثبات.

وبعد أن كانت الشعوب تتمتع بخصوصيات ثقافية أو دينية تعدُّها خصوصيات مُقدَّسة، أخذت هذه الخصوصيات تُخلي مواقعَها أمام "الشرعية الدولية" بوصفها "مرجعية" لا سبيل إلى تجاوزها. وبعد أن كانت الشرعية الدولية قرارات سياسيةً وعسكرية، أصبحت قرارات تتعلق بحقوق الإنسان، والثقافة السكانية، والمجتمع المدني، وحقوق المرأة، ومفهوم الأسرة، إلخ. وبذلك أصبح مفهوم القيم العالمية واحداً من موضوعات الحرب الفكرية التي ترافق أشكال الحرب الأخرى، بهدف كسب العقول والقلوب، وتدور رحاها في ميادين التعليم والإعلام والمؤتمرات الإقليمية والدولية، وتحاول فيها القوى الكبرى في العالم أن تنشر مبادئها وقيمَها، وتفرضَها على الكيانات الضعيفة.

ومن المشكلات الكبرى التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية أن هذه المجتمعات لم تتمثل عملياً المرجعية الإسلامية للقيم، ففقدت بذلك "قوة القيمة" واستسلمت في كثير من الأحيان للسلطة القهرية التي تمثلها "قيمة القوة".

وتحاول هذه المداخلة أن تلقي بعض الضوء على المرجعيات التي تستند إليها أطراف الصراع في هذه الحرب بصورها السياسية والاقتصادية والفكرية، والتذكير بالمرجعية الإسلامية للقيم في مجتمعاتنا، ليس لأنَّها تتفوق في مشروعيتها الدينية عند المسلمين وحسب، وإنَّما لأنَّ القيم التي تأتي بها هذه المرجعية هي القيم التي تحقق للإنسان كل ما يصبو إليه من هدى وخير، وتبتعد به عن المتاهات التي تقوده إلى الهلاك والدمار.

وتتضمن الورقة معالجة عدد من المسائل التي اختلطت فيها المفاهيم تحت ضغط الإكراهات المشار إليها أعلاه، ومنها على وجه التحديد: مرجعية القيم، وتعددية القيم، وما ينتج عن هذه التعددية من تعارض أو تفاضل أو تكامل، بالإشارة إلى أشكال المعالجة في كل من دائرة الفكر الفلسفي في سياقه الغربي على وجه الخصوص، ودائرة الفكر الإسلامي المستمد من تدبُّر القرآن الكريم.

 

أولاً: مرجعية القيم في التفكير الفلسفي الغربي

حين نختار أن نبحث في الفكر الفلسفي من حيث تحديدُه لمرجعية القيم سنجد تنوُّعاً واضحاً لمرجعيات متعددة؛ منها ما يعتمد العقل، أو الحدْس، أو رأي الأمير الحاكم، أو حكم الأغلبية، أو ميل النفس وشهواتها، وقد تفاعل الفكر الفلسفي في هذه المسألة في بعض الأحيان بالمرجعية الدينية، قبولاً واستئناسا أو رفضاً واستبعاداً.

وعلى كلِّ حال فإنَّ الحديث عن مرجعية القيم في البعد الفلسفي حديث قديم، يعود في التاريخ البشري المدَوَّن إلى عهد الإغريق واليونان، وحضارات وادي النيل وبلاد الرافدين، وبلاد الصين والهند، وغيرها. واحْتلَّ موضوع القيم والأخلاق في التراث الإسلامي موقعاً مهِمَّاً. لكن استئناف العقل الأوروبي فاعليَّتَه اعتباراً من القرن الرابع عشر الميلادي، ثم سيطرة القوى الأوروبية على معظم أنحاء العالم فيما بعد، ولَّد مركزية أوروبية-غربية في سائر مجالات البحث والدراسة، فكان ما نال التراثَ الأوروبي "اليوناني" من جهود التحليل والإحياء، أكثر بكثير مما نال التراثَ الإنساني في الحضارات الأخرى.

وقد توزَّع فلاسفة اليونان على عدد من المذاهب في مرجعية القيم. بين المثالية المطلقة والواقعية العملية، واختلطت الرؤى الفلسفية بكثير من الأساطير التي تتصل بتعدد الآلهة والصراعات الدموية التي كانت تقوم بينها، كما تخيلها مؤلفو هذه الأساطير. ومن المألوف أن يَرِد في هذا السياق حديث عن الفلسفة الأخلاقية لكل من سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وأبيقور، وغيرهم من فلاسفة اليونان القدماء، لكننا سوف نضرب الذكر صحفاً عن هؤلاء، مفضِّلين الإشارة إلى عدد من الفلسفات الأخلاقية التي سادت اعتباراً من القرن السادس عشر ولا تزال أساساً للفلسفات المعاصرة. وليس من السهل في سياق هذه المداخلة تتبع مقولات الفلسفة الأخلاقية عند جميع الفلاسفة في هذه الفترة، لذلك نلجأ إلى الاختيار.

 

  1. مرجعية الأمير- مكيافيلي

تتصل مسألة مرجعية القيم بالجهود الحثيثة التي سعت إلى الفصل بين الأخلاق والسياسة، ولعلّ أبرز تنظير لهذا الفصل ما قدَّمه نيقولاي مكيافيلي (1469-1527م) في كتاب "الأمير"، لذلك لا عجب أن يكون هو الكتابَ الأثير لكثير من الطغاة، من أمثال موسيليني، وهتلر، ولينين، وستالين[1].

ناقش مكيافيلي دور الدين، ممثلاً بالكنيسة والبابا، في الحروب الداخلية والخارجية في إيطاليا، ولاحظ أن الدين لم يكن أكثر من وسيلة لحشد الناس باسم العقيدة، ومن ثم لجمع المال والقوة، وأنَّ كثيراً من الاضطرابات والفتن كانت تثور بسبب أطماع الأساقفة. ورغبتهم في الوصول إلى العظمة والجلال بقوة السلاح[2].

وفي تسويغه لمبدأ "الغايةُ تبَرِّر الواسطةَ يقول مكيافيلي: "وذلك لأننا إذا نظرنا للأمور نظرة صحيحة لوجدنا أنَّ بعض ما يبدو فضائل قد يهلكُنا لو طبَّقْناه، والبعضَ الآخر الذي يبدو من الرذائل قد يسبب سلامة الإنسان وسعادته"[3].

صحيح أنَّ الأمير لا بد أن يتَّصف ببعض الفضائل البشرية من الصدق والوفاء بالعهود، لكنَّه مضطر أن يتعلم كيف يتصرف كالحيوان عند الحاجة: "ولهذا السبب كان الأمير مضطراً إلى أن يعْلمَ جيداً كيف يتصرف كالحيوان، فهو يقلد الثعلب والأسد، ... على المرء إذن أن يكون ثعلباً ليواجه الفخاخ، ويكون أيضاً أسداً ليخيف الذئاب. ... فعلى الأمير إذن ألا يحفظ عهداً يكون الوفاء به ضد مصلحته، وألا يستمر في الوفاء بوعد انتهت أسباب الارتباط به. وقد يكون هذا المبدأ مبدأً شريراً، لكن هذا يصدق فقط في حالة ما إذا كان جميع البشر من الأخيار... فلم يفشل أيُّ حاكم في اختلاق الأعذار المقبولة التي يبرِّر بها عدم الوفاء بالعهد"[4].

 

  1. مرجعية الكنيسة عند تبنِّيها المنطق الأرسطي - ارسطوطاليس

كان من السائد في القرون الوسطى الأوروبية أن تحوز أعمالُ أرسطوطاليس الاهتمامَ الأكبر لدى المثقفين والفلاسفة، لا سيما الكنيسة التي جعلت الفلسفة اليونانية أساساً لتفسير الأسفار المقدسة. وربَّما كان ذلك بتأثير جهود توما الأكويني (‏1225-‏1274)‏ الذي عمل على دمج فلسفة أرسطو بتعاليم الكنيسة.‏ وكان من أهم أعمال أرسطو التي تبنتها الكنيسة كتب المنطق الستة التي تعد القانون الذي يضبط عمل العقل؛ أي كتاب "الأرجانون".

 

  1. المرجعية التجريبية - فرانسيس بيكون

نهض الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626م) بمهمة كبيرة لمناقشة أفكار أرسطو، ونقْضِ قانونه، وطوَّر قانوناً جديداً سمَّاه "الأرجانون الجديد"، يقوم على نوع جديد من الاستقراء العلمي التجريبي الذي يجعل التجربة أساساً للتقدم العلمي والسيطرة على الطبيعة. وقد وصف بيكون منهجه هذا بالقول:

"منهجي هو أن نُرْسي درجات متزايدة من اليقين، أن نستمرَ في الأخذ بشهادة الحواس، ونساعدها ونحصِّنها بنوع من التصويب، ونرفضَ بصفة عامة العملية العقلية التي تتلو الإحساس، بل نفتح مساراً جديداً للعقل أكثر وثوقاً يبدأ مباشرة من الإدراكات الحقيقية الأولى للحواس نفسها... لقد استفحل الداء وضاع كل شيء، وأصبح العقل من خلال عادات الحياة اليومية ومداولاتها محشواً بمذاهب فاسدة وأوهام فارغة. هنالك يسهم فن المنطق، الذي وصل للإنقاذ متأخراً وأسقط في يده، يسهم في تثبيت الأخطاء لا في كشف الحقيقة"[5].

وقد قدم "بيكون" منهجه هذا للذين "لا يقنعون بالركون إلى المعرفة التي تم اكتشافها بالفعل، ويأمُلون في مزيد من الاختراق ... لكي يقهروا الطبيعة ... لكي يعرفوا معرفة يقينية برهانية، فَلْتَنْضمُّوا إليّ كأبناء حقيقيين للمعرفة، حتى نعْبر الأفْنِية الخارجية للطبيعة... فنفتحَ منفذاً في النهاية إلى غرفها الداخلية..."[6].

وفسَّر "بيكون" مشكلة عدم تقدُّم العلوم، فهي عنده: "اعتقادٌ أو تصور عميق الجذور ... مفاده أنَّ مما يحطَّ قدر الذهن البشري أن يظل عاكفاً ومكِبَّاً على التجارب وعلى الأشياء الجزئية، التي هي موضوعات للحس ...، لا سيما وأن هذه الأمور تقتضي في العادة جهداً في البحث، وأنها لا تليق بالتأمل، ولا بالحديث، ولا بالممارسة، ... ولم يقتصر الأمر على تجاهل التجربة وإساءة تطبيقها، بل تم نبذ التجربة وازدراؤها"[7].

ودعا فرانسيس بيكون إلى الثقة بأن الفلسفة الطبيعية القائمة على التجربة الحسية "هي أقوى علاج ضد الخرافة وأسلم غذاء للإيمان. لذا فقد استحقت أن تُقدَّم للدين بوصفها أخلص خدمة، إذ إنَّ أحدَهما يُظهر إرادةَ الربِّ، والآخرَ يُظهر قدرتَه... ولا عجب أن تقَدُّمَ الفلسفة الطبيعية قد أُوقِفَ منذ اختطف الدين". وييستفيض فرانسيس بيكون في وصف أسباب الأمل في تقدم العلوم، مستنداً إلى الفلسفة الطبيعية والمنهج التجريبي، وحتى إلى بعض نصوص الكتاب المقدس، ويستنكر على رجال الدين الجهلة تفسيراتهم الخاطئة لهذه النصوص التي أساءت إلى العلم وإلى الدين[8].

 

  1. المرجعية العقلية - ديكارت

للعقل مرجعيَّتُه في تحديد القيم والفضائل لدى الكثير من الفلاسفة في القديم والحديث، وقد كان للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650م) مكانةٌ مهمة في تاريخ الفلسفة الأخلاقية، عندما اعتمد المنهج العقلي الصرف في إثبات الحاجة إلى الإيمان والفضيلة. فقد بيَّن ديكارت أنَّ مهمَّتَه في كتاب "تأملات ميتافيزيقية" هي مهمة فلسفية تهدف إلى البرهنة على وجود الله بطريقة عقلية محضة، "لأن الإيمان بالله والخوف منه هو الذي يؤدي إلى الإيمان بالدين واليوم الآخر والفضيلة، وبدون هذا الإيمان ستكون قيمة الرذيلة أعلى من قيمة الفضيلة"[9]. لكن عقلانية ديكارت هذه ارتبطت بالمنهج الذي حدَّده في كتابه "مقالٌ في المنهج" الذي يرى أنَّ المنهج مجموعة من القواعد العقلية التي يكون سلوكُها دون خطأ كافياً للوصول إلى اليقين. والمنهجُ عند ديكارت يتكون من أربعة مبادئ أهمها المبدأ الأول الذي أعطى للفلسفة الديكارتية صفتَها الأساسية: العقلانية، ونص هذا المبدأ هو: "ألا أقبل شيئاً ما على أنه حق، ما لم أعرف يقيناً أنَّه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهوُّر، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أُدخِل في أحْكَامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتـميّز، بحيث لا يكون لديَّ أيُّ مجال لوضعه موضع شكّ"[10]. وهو بهذا يقرِّر أنَّ العقل هو النور الطبيعي الذي يمكِّن الإنسان ليس من حلِّ مسائل العلم فحسب وإنما حلّ مسائل الحياة العملية كذلك.

 

  1. المرجعية اللاعقلانية - نيتشه

استعاد بعض فلاسفة أوروبا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فيما كتبوه عن القيم والأخلاق، صورَ التعدد في المرجعيات اليونانية للقيم، بما في ذلك بعض الأساطير، كما فعل الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900م) في كتابه "مولد التراجيديا"، التي نشرت في عام 1872[11].

تقول الأسطورة اليونانية إنَّ الإله زيوس أبٌ لولدين الأول "أبولون"، وهو إله العقل، والثاني هو "ديونيسوس" وهو إله الخمر والموسيقى والنشوة. والحياة التي تحاول المزج بين الأبولونية والديونيسية، وتدعم التوازن الهش بينهما لا تتحقق في الواقع. والحياة الحقيقية الديونيسية هي المأساة التي تتولد من الخمر والموسيقى والجنون والموت. وأفكار سقراط وتلاميذه التي تجمع العقل والأخلاق معاً، هي الشيطان الذي يمنع من وصول المأساة إلى نهايتها. ولا غرابة أن يكون مصير نيتشه هو الجنون قبل أن يموت.

 

  1. مرجعية الأخلاق البروتستانتية - ماكس فيبر

لم تكن المرجعية الدينية للأخلاق غائبة عن الفكر الفلسفي الأوروبي، ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى كتابات ماكس فيبر (1864-1920م) في مقاربته الاجتماعية للموضوع، ولا سيما كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، حيث نظر إلى واقع الطوائف الدينية في أوروبا وأمريكا، ولا سيما الكاثوليكية والبروتستانتية، فلاحظ أنه: "إذا عدنا إلى الإحصائيات المهنية في بلد تتعايش فيه طوائف دينية متعددة، نلحظ بصورة متواترة، واقعاً أثار العديد من المرات نقاشات حادة في الصحف والكتابات الأدبية، والمؤتمرات الكاثوليكية في ألمانيا، يتلخص هذا الواقع في أنَّ رجال الأعمال وأصحاب الحيازات الرأسمالية، وكذلك ممثلي الشرائح العليا المصنفة من اليد العاملة، وفوق ذلك، الملاك التقني والتجاري ذا الثقافة الرفيعة في المؤسسات الحديثة هم بأغلبية كبيرة من الطائفة البروتستانتية"[12].

ويفسر "فيبر" ذلك بالقول "إنَّ اختيار المشاغل وبالتالي القطاع الوظيفي أمر تحدِّده خصوصيات الذهنية التي تتأثر بظروف الوسط المحيط، يعني هنا، نمط التربية التي يرسخها المناخ الديني لدى الطائفة، أو الوسط العائلي"[13]. ويرفض تفسير ذلك بما يذكره بعض المؤلفين من فرق بين أخلاق البروتستانتية والكاثوليكية، والقول بأنّ الأولى فضّلت الاستمتاع بالحياة وما يتطلبه ذلك من مجازفة، بينما اختارت الكاثوليكية الزهد بالثروة، وعدم الركون إلى العالَم الدنيوي. وبدلاً من ذلك يطيل في تحليل نشأة الجماعات البروتستانتية في تشكيلات اجتماعية واقتصادية لا تعطي للعضو فيها قيمة إلا من خلال ما يثبت هو وجوده الاقتصادي، وهو ما يسميه "فيبر" بالروح الرأسمالية[14].

 

  1. مرجعية الوضعية المنطقية - أوجست كونت

كان للمنهجية التجريبية التي دعا إليها فرانسيس بيكون دورٌ مهم في تقدم العلوم الطبيعية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي تطور الإيمان بالعلم أساساً للتقدم، مما حدا بالباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية اعتماد هذه المنهجية، وتطبيق المنهج العلمي التجريبي على الظواهر الاجتماعية، وكان من أشهر هؤلاء أوجست كونت (1798-1857م) الذي أطلق على فلسفته اسم "الوضعية"، على اعتبار أنَّ ما يحتاج إليه الإنسان هو العلم الوضعي الذي يكشف لنا القوانين اللازمة للسيطرة على الطبيعة. وما أن جاء مطلع القرن العشرين حتى كسبت المنهجية الوضعية مجموعة من العلماء من مختلف التخصصات الذي شكَّلوا ما عرف ب "مدرسة فِينَّا". ونظراً لظروف الحرب العالمية الثانية فقد هاجر كثير من أفرادها من أوروبا إلى الولايات المتحدة، حيث تعمقت مبادئ هذه الفلسفة وأصبحت أساساً للقانون والسياسة والاقتصاد إضافة إلى العلوم الطبيعية وسائر العلوم الأخرى. ورفضت الفلسفة الوضعية الميتافيزيقا رفضاً قاطعاً، ولا سيما البحث في أية أشياء لا تقع في مجال الحس، مثل الجوهر، والعدم، والعلة الأولى، والمثل العليا، والقيم الأخلاقية والجمالية.

فالأخلاق في الفلسفة الوضعية هي موضوع علم من العلوم، يختص بالعادات والأعراف والقيم والمثل المعتمدة لدى مجتمع معين. والأخلاق مِنْ ثَـمَّ واحدةٌ من ظواهر الواقع الاجتماعي التي يمكن دراستها دراسة علمية تجريبية.

هذه سبعة نماذج من المرجعيات القيمية التي عرفها الفكر الفلسفي الغربي في العصر الحديث، وكلّها كما نلاحظ ذات مرجعية بشرية أرضية في المجمل، تتراوح بين المثاليات العقلية، والتجربة الحسية، وتأليه العقل أو إلغاؤه. وفي الغالب تأخذ موقفاً متطرفاً في أحد طرفي إحدى الثنائيات، دون مجال للجمع أو التكامل بين الطرفين. حتى عندما يكون للدين مكانٌ فيها فإنَّ مكانه لا يتجاوز كونه موضوعاً للدراسة، وظاهرة اجتماعية تدرس كما تدرس بقية الظواهر.

 

ثانياً: مسألة تعددية القيم وضرورة المرجعية

مقولة تعددية القيم ترى أنَّ الحياة المنشودة تكتنفها قيم متعددة، وقد تكون متضاربة؛ ليس لأنَّها تتصف بالذاتية ولا بالنسبية، وإنما لعدم وجود طريقة واحدة للجمع المتوازن بينها أو لقياسها. فكيف يمكن أن تلتقي الحرية بالمساواة، أو الحياة بالعدل، أو الحياة بالحرية، أو العدل بالعفو، أو المعرفة بالرحمة؟!

من المهم أن نلاحظ أنَّ التعددية هي فكرة مختلفة عن النسبية الأخلاقية، فالنسبية، في أعلى مستوياتها، تذهب إلى عدم وجود مسلمات أخلاقية، وإلى أن الأحكام القيمية تُبنى على وجهات نظر معينة (شخصية أو ثقافية)، لا يتفوق أيٌ منها على الآخر. أما التعددية فهي على النقيض من ذلك، هي في جوهرها وجهة نظر كونية، يدعمها قبول بعض الناس بها على أنها قيم إنسانية مشتركة، لكنَّ هذه القيم متميزة بصورة واضحة عن غيرها، ولا تقبل القياس بنفس المقاييس[15].

وتشرح موسوعة ستانفورد في الفلسفة Stanford Encyclopedia of Philosophy فكرة تعددية القيم بقدر من التفصيل[16]. وتبدأ بالربط بين التعددية الأخلاقية والتعددية السياسية؛ فالتعددية السياسية، هي وجهة نظر ترتبط بالليبرالية السياسية، فهناك نظمٌ قيميةٌ مختلفة في العالم، لها مواقفها واختياراتها، وتختص بتحديد أيِّ نوع من القيود تضعها الحكومات على حرية الناس في التصرف وفقاً لنظمها القيمية. وثمة درجات ثلاث في تحديد صورة التعددية السياسية، الأولى ترى أنَّ جميع منظومات القيم صحيحة، وهي على قدم المساواة، مما يوجب احترامها، والصورة الثانية الأقل شأناً من الأولى ترى أن جميع منظومات القيم يجب أن يتعامل معها بالتسامح، وربَّما الصورة الأكثر شيوعا أن بعض هذه الأنظمة (تلك المعقولة) يجب أن يتعامل معها بالتسامح.

وتقرر الموسوعة أنَّ النقاش حول مسألة التعددية في الأخلاق، هو نقاش حول مسألة بنيوية، فهو لا يعني التمييز بين النسبية والموضوعية والذاتية؛ إذ يمكن للمرء أن تكون لديه تعددية في القيم ويكون موضوعياً أو ذاتياً؛ واقعياً أو مثالياً. إن مسألة تعدد القيم أو أُحاديتِها تختص بعدد القيم التي على النظرية الأخلاقية أن تتعامل معها. فالتعددية الأخلاقية تختص بوجود قيم مختلفة، مثل قيم السعادة، والحرية، والصداقة، وغيرها، وعدم إمكانية اختزال هذه القيم المتعددة إلى قيمة عظمى واحدة.

وهناك طرق مختلفة يمكن أن نفكر في القيم من خلالها؛ أي إنَّ هناك تقاطعاً بين عدد من النظريات الأخلاقية. لكنَّ ثمة جدلاً حول قوة الحجة التي تميز هذه الطرق عن بعضها. إنَّ مصطلح "قيمة" كما يظهر في "تعددية القيم" هو مصطلح محايد، ومع أنَّ هناك طرقاً مختلفة للتفكير فيما يُعدّ قيمة، فإنَّ هذا الاختلاف لا يحدد بالتالي تقسيماً محدداً لطرق التفكير في الأخلاق.

فإحدى طرق التفكير ترى القيمة متحققة في صورة الخير في هذا العالم، مثل الصداقة والمعرفة والجمال وغير ذلك، والمهم إعطاء القيمة للأمور التي تُعَدَّ خيراً. وأن طريقة التعامل مع هذا الخير طريقة مفتوحة، وهذا ما نسميه "منهج الخير في القيم"، ومعظم المؤمنين بتعددية القيم يستعملون هذا المنهج.

وهناك طريقة أخرى ترى القيمة بصورة مختلفة، تستعمل مصطلحات القوانين والمبادئ وليس مصطلحات الخير، فصفة التعددية تَظهر في هذه الطريقة في سؤال: هل هناك تعددية في المبادئ، أم إنّ هناك مبدأ واحداً أسمى؟ ومن هنا تظهر فكرة مقابلة لتعددية القيم وهي واحدية القيم value monism[17].

والمؤمنون بواحدية القيم يدَّعون أنَّ هناك قيمة واحدة فقط في نهاية المطاف. فهم يرون أنَّ هذه القيمة الواحدة هي الرفاهية، أو اللذة، أو السعادة، أو أي شيء من هذا القبيل. فأصحاب فلسفة المنفعة -مثلاً- يرون أنَّ كلَّ القيم المفترضة مثل الصداقة والمعرفة وغيرها، هي قيم وسيلية تتحدد فائدتُها بقدر إسهامها في تحقيق السعادة. أما المؤمنون بتعددية القيم فيرون أنَّ هناك حقاً العديد من القيم المختلفة، وأنَّ هذه القيم لا يمكن اختزالها في قيمة عظمى. ويلاحظ أصحاب رؤية واحدية القيم ميزة البساطة، فعندما تتحدد القيمة العليا نكون قد حسمنا الأمر. ولكن هذا يُعد تبسيطاً مخلاً للأمر، لأنَّه قد لا يفيد في تعرُّف البنية الحقيقية لحياتنا الأخلاقية، وكذلك فإنَّ نظرية "تعددية القيم" تواجه صعوبة في فهم الكيفية التي تتعلق القيم الأساسية ببعضها وكيفية المقارنة بينها.

وتختم الموسوعة المشار إليها نقاشها المطول للموضوع بالقول: إنَّ النقاش بين فكرة تعددية القيم أو واحديتها لا يتَّسم دائماً بالوضوح الكافي، فقد لخص مدخل تعددية القيم في الموسوعة بعض جوانب النقاش، وشرح بعض مسائله. وتبين أنَّ على القائلين بتعددية القيم أن يكونوا واضحين فيما إذا كانوا تعدديين أصوليين أم معياريين، وعلى أي أساس يبنون معياريتهم. وكذلك فإنَّ على القائلين بواحدية القيم أن يدافعوا عن ادعائهم بأن هناك حقاً قيمةً عليا واحدة. وقد ركز الكثير من النقاش بين الطرفين حول مسألة أن التعقيد في الخيار الأخلاقي يعني أنَّ القيم هي حقاً متعددة، وهي مسألة يدَّعِي على أساسها القائلون بواحدية القيم أنها مصدر الخطأ في الرؤية التعددية، بينما يُصِرُّ التعدديون على أنّ الظاهر من تعدد القيم يعكس حقيقة متعددة (pluralist reality). وأخيراً يبقى على التعدديين أن يوضحوا كيف تتم المقارنة بين القيم، والدفاع عما يترتب على التعدد من فكرة واسعة الانتشار تقول بعدم القدرة على القياس أو المقارنة بين القيم المتعددة.

وعلى كلّ حال فإنَّ فلاسفة الغرب يختلفون في نظرتهم إلى ظاهرة تعدد القيم، ففي حين يرى ماكس فيبر الجانب السلبي في هذه الظاهرة بوصفها من إفرازات العقلانية الحديثة، نظراً لأن كل قيمة تعد مقدسة عند أصحابها، فلا مجال للتفاضل، ولا بد من الصدام، فإنَّ ثمة فلاسفة آخرين ينظرون إلى الظاهرة بطريقة مختلفة تماماً، ومن هؤلاء على سبيل المثال "إسيياه برلين Isaiah Berlin" الذي يرى تعدد القيم صفة إيجابية تقع بين المجتمعات، وبين الجماعات داخل المجتمع الواحد، وحتى بين الأفراد في الجماعة الواحدة، وتشكل ظاهرةَ غِنَىً؛ لإنَّ لكل منها موضوعيتها عند أصحابها. فالاعتراف بها والتعايش معها هو المتاح، رغم ما يتولد عن الاختيار بين القيم المتعارضة من حسرة على ما يفوت من الحرمان من القيمة الأخرى[18].

ويجمع بين هاتين الطريقتين في نظرة الفلاسفة الغربيين إلى التعددية القيمية، السلبية والإيجابية، عدم شعورهم بالحاجة إلى استدلال عقلي أو ديني لدفع التعارض.

في الدائرة الإسلامية، تبدو مسألة تعددية القيم مشكلة عندما تغيب المرجعية المناسبة في فهم هذه التعددية والتعامل معها. فالقيمُ والأخلاق –في سياق تعددية القيم- لا تقتصر على ما كان معروفاً من قضايا الصدق والأمانة والوفاء وأمثالها من الفضائل العامة، التي تتعلق بسلوك الفرد مع نفسه ومع الآخرين، وإنَّما تشمل -بالإضافة إليها- فئاتٍ من القيم الخاصة بالحياة المدنية؛ من مسؤولية اجتماعية، واحترام الآخرين، وقيم الولاء والانتماء العامة في دوائره المختلفة على مستوى الشعب والأمة والإنسانية، كما تشمل القيم المهنية المتعلقة بالتعامل مع أشياء البيئة وحسن تنظيمها واستثمارها. وعلى هذا الأساس تعددت المجالات التي ظهرت فيها فئات القيم، فثمة قيمٌ للحكم في السياسة، وقيمٌ للأسرة في المجتمع، وقيمٌ للإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد، وقيمٌ علمية "أكاديمية" في التعليم، وقيمٌ في التعامل مع البيئة، وقيمٌ إنسانية في التعامل مع الآخرين، وهكذا.

وعند تحليل موقع القيم في الحياة العامَّة، نلاحظُ أنَّ قضايا القيم والأخلاق في كثير من المؤسسات تُذْكَرُ في سياقيْن، وكلاهما يتعلَّقان بالنصوص التشريعية؛ الأول عند تحديد رؤية المؤسسة ورسالتها وأهدافها العامة، وترد في نصوص إنشائية عامة، والثاني عند تحديد مواد الأنظمة والتعليمات الخاصة بالعقوبات والإجراءات التأديبية المترتبة على مخالفة العاملين في المؤسسة لتلك التعليمات، وتأتي في نصوص إجرائية محددة. ونحن نرى ضرورةَ القيام بتحويل جذري في طبيعة الاهتمام بالبعد القيمي والأخلاقي، من الاتجاه السلبي الذي يركِّز على معالجة المخالفات عند وقوعها، إلى اتجاه إيجابي يركِّز على تعليم القيم بطريقة تَمنعُ وقوعُ المخالفات. وهذا يَعْنِي أنَّ الإعلاءَ من شأن القيم في الحياة العامة، سوف يتطلَّب من مؤسسات المجتمع اتخاذَ الإجراءات المتنوعة التي تعزِّزُ التوجُّهَ الإيجابي في التفكير بالقيم والتعامل معها، وتُعِينُ في بناء مُنَاخ أخلاقي في المؤسسة يُسْهِمُ فيه التشريع والتوجيه، ويسودُ فيه الالتزام بالسلوك القيمي من جميع أفراد البيئة الاجتماعية والمؤسسية، وتتعاضدُ فيه القدوةُ الحسنة في مختلف مستويات المسؤولية. وهذا المناخ الذي يدعو إلى الالتزام بالمعايير القيمية والأخلاقية ويشجع عليها، هو الذي يُضَيِّقُ فُرَصَ وقوع المخالفات ويقلِّلُ منها.

ومن السهولة أن نلاحظ أنَّ الألفاظ القرآنية ذات العلاقة بالقيم تقع في مستويات مختلفة من العموم والخصوص؛ وتسوغ تصنيف القيم في فئات حسب معايير متعددة. ويمكن النظر إلى تعددية القيم بطرق مختلفة. فقد نرى التعدد في طرق تصنيف القيم في فئات مختلفة، وفي كل فئة عدد من القيم ذات الصلة بمجال محدد، مثل القيم الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، والقيم السياسية... إلخ.

  • فالحقُّ، والعدلُ، والخيرُ، والإحسانُ، والتقوى هي قيمٌ عليا حاكمة رئيسية، بينما الحياءُ، والبِّر، والصبر، والعفو، والوفاء هي قيمٌ مشتقة فرعية.
  • والعَدلُ، والشورى، والحريَّة، قيمٌ في البناء السياسي للأمَّة؛ والتكافل، والكرم، والصدقة، قيم في البناء الاجتماعي للأمة؛ بينما الشجاعة، والحلم، والصدق، هي قيمٌ في التزكية النفسية للأفراد.
  • وقد يكونُ التصنيف على أساس التمييز بين قيم الأمر وقيم النهي.
  • وقد يكون التصنيف على أساس القيم الواجبة والقيم المندوبة.
  • وقد تكون "مقاصدُ الشرع" الخمسة نظاماً مناسباً لتصنيف القيم، تندرج تحت كل منها قيم فرعية منبثقة عنها.
  • والإسلام هو "الدين القَيِّم" و"دين القَيِّمة"، وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم ست مرات، الأمر الذي يسوِّغُ القولَ بأنَّ دينَ الإسلام هو دينُ القيم الفاضلة، والثابتة. ومن ثَمَّ فإنَّ نظامَ القيم في الإسلام هو نظامُ الإسلام بصورته الكلية العامة: عقيدة، وعبادة، وشريعة، وأخلاقاً.

لكنَّ أيَّ تصنيف للقيم لا يُلْغِي حقيقةَ التداخل والترابط بين المعاني والدلالات المختلفة للقيم والفضائل، بِحَسب زاوية النظر إلى فئات القيم أو إلى أيِّ قيمة مفردة، فقد ترتفع قيمةُ العدل لتصبحَ إطاراً لكلِّ القيم الأخرى، وقد ترتفع قيمةُ التقوى لتكون هي المستوى الأعلى. وإذا أخذنا "التوحيد" بوصفه قيمةً إسلامية، فسيكون -من غير شك- هو القيمة العليا.

ويمكن أن نرى التعدد في كثير من نصوص القرآن الكريم عندما نجد دلالة لفظ "خير" تفاضلاً بين عملين أحدهما من الفضائل والآخر من الرذائل، كما في الآية القرآنية الآتية وما يماثلها: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة:263].

وقد نرى هذا التعدد في القيم بين عملين كلاهما من الفضائل، أو بين درجتين من الفضيلة، كما في قوله سبحانه: ﴿ِإنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير﴾ [البقرة:271)]، أو في قوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:280].

ويرد التفاضل بين القيم في كثير من الأحاديث النبوية، من أشهرها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير.»[19].

وتتضمن كتب التراث التي بنيت على نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، الكثير من المعالجات لمسألة تعدد القيم؛ فكتاب "الجامع لشعب الإيمان" للحافظ البيهقي (ت403هـ) هو شرح مفصل للحديث الشريف: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة..."[20] ولا شك في أنَّ كلَّ شعبة اجتهد البيهقي في بيانها هي فضيلة من الفضائل، أو قيمة من القيم.

وقد نرى التعدد في مستويات كل قيمة من القيم وتدرجها في عدد من المراتب. فكتاب ابن قيم الجوزية "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نسعين"[21] مثلاً كلُّه في المنازل والمراتب والمدارج أو الدرجات. وانتظم الكتاب في مائة فصل، كلُّ فصل منها منزلة من منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وكلُّ منزلة تقع في عدد من المستويات أو المدارج. فالهداية عشر مراتب[22]. والصدق على ثلاث درجات[23]. و"الدين كله خُلُق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين... وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان...الصبر والعفة والشجاعة والعدل... والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خُلُق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خُلُق الحياء الذي هو توسط بين الذل والقِحَة، وعلى خُلُق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خُلُق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة"[24]. "ومن منازل إياك نعبد: منزلة الإحسان...وهو على ثلاث درجات. الدرجة الأولى الإحسان في القصد بتهذيبه علماً، وإبرامه عزماً، وتصفيته حالاً. الدرجة الثانية: الإحسان في الأحوال وهو أن يراعيها غيرةً ويسترها تظرفاً ويصححها تحقيقاً. الدرجة الثالثة: الإحسان في الوقت وهو أن لا تُزَايلَ المشاهدةَ أبداً، ولا تخلطَ بهمتك أحداً، وتجعلَ هجرتَك إلى الحق سرمداً"[25].

والتنافس أو التزاحم بين القيم كان موضوعاً لكثير من الأحداث والقصص التي ترويها مصادر التراث الإسلامي. ومن ذلك ما يُروى عن عبد الله بن المبارك الذي كان مجاهداً في الثغور، حيث بعث برسالة إلى صديقه الفضيل بن عياض الذي كان مجاوراً يتعبد في الحرمين، والرسالة هي أبيات من الشعر تبين اختيار ابن المبارك لقيمة الجهاد في الميدان، على قيمة العبادة في الحرمين التي اختارها ابن عياض.

وثمة حالات كثيرة يظهر فيها التزاحم في قيمتين كلاهما خير، ويلزم تقديم أحدهما، أو في قيمتين كلاهما شر، ويلزم دفع أحدهما، فلا بد من مرجعية للاختيار، وفي هذا يقول ابن تيمية: "فإنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى يُقدمَ عند التزاحم خيرَ الخيرين ويُدفعَ شرَّ الشرَّيْن"[26].

كما تظهر الحاجة إلى مرجعية القيم في أداء سائر تكاليف الشريعة، المبنية على تحقيق المقاصد، وفق التدرج في أولوية هذه المقاصد. وفي هذا يقول الشاطبي: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلْق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجِيَّة، والثالث أن تكون تحسينية"[27]. والتنوع في المقاصد عند الشاطبي هو تعبير عن التنوع والتعدد القيمي؛ حيث يؤكد أنَّ "المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية... تقوم بمصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت، وتنقسم إلى ضرورية عينية، وإلى ضرورة كفائية... ومقاصد تابعة، تختص بحَظِّ المكلَّف، لتحصيل له ما جُبِل عليه من نَيْل الشهوات والاستمتاع بالمباحات"[28].

 

ثالثاً: مرجعية القيم في الرؤية الإسلامية

سوف نجتهد في بيان المرجعية الإسلامية للقيم من النصوص القرآنية، في ألفاظها ومعانيها؛ فمجمل هذه النصوص القرآنية هو دستور للقيم والأخلاق، يحقق ما نصبو إليه من معاني الالتزام القيمي والأخلاقي، ويجيب عن الأسئلة التي أثارتها الدراسات ذات الصلة بالموضوع، قديماً وحديثاً، ويحسم الجدل الذي أثاره علماء العقيدة والكلام والفلسفة والقانون وغيرها، من مسلمين وغير مسلمين.

جاء مفهوم القيمة في القرآن الكريم في مجال الهداية الكلية للبشر، بواسطته نزول الوحي بالكتاب على الرسول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ [الكهف:1-2]. والدين في مجمله هو الدين القيم الذي يستحق ألا يتوجه الإنسان بوجه لغيره، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:30]. وإذا أراد الإنسان أن يسلك الطريق المستقيم، فها هو في هذه الملة الإبراهيمية الحنيفية: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين﴾َ [الأنعام:161].

والقِيَمُ جمع قِيمَة، وجذْرُها قَوَمَ، ووردت مشتقاتها في القرآن الكريم حوالي ستمائة وتسع وخمسين (659) مرةً، منها: قامَ وأقَام وقيام وقائم وقَيُّوم وقِيَم وقَيِّم وقَوَام وتَقْويم...إلخ[29].

فإذا تأمَّلْنا في الدلالات المختلفة لمجمل الألفاظ القرآنية هذه فإنَّنا سنجدُها تتركَّز في أربعة مجالات من الدلالة، تتضافرُ وتتعاون في إعطاء الدلالة الكلِّية للقيمة والقيم في الاصطلاح القرآني، وهذه المجالات الأربعة هي: الفائدة والخيرية والوزن، والثبات والاستقرار والتماسك، والمسؤولية والرعاية، والاستقامة والرشد والصلاح.

وهكذا فإن جماع المعاني اللغوية في أصولها القرآنية تشير إلى أنَّ العالَم كلَّه قائم على نظام، تتقوَّمُ به أشياؤه وظواهره، وأنَّ حياة الإنسان في الكون تتقوَّمُ بمنظومة من القيم، تحدد تصوراته وعلاقاته وأعمالَه الظاهرة والباطنة. فكما أنَّ "رؤية العالم" عند المسلم تتضمن "نظاماً في الاعتقاد" ينشئ تصورات الإنسان وعباداته، و"نظاماً في المعرفة" ينشأ التشريعات والعلاقات، فكذلك تتضمن هذه الرؤية "نظاماً للقيم" تتحدد به دوافع السلوك والعمل.

ومع أنَّ هذه الرؤية هي رؤيةٌ أصيلة ذاتُ مرجعية قرآنية، فإنَّ بعض الفلاسفة قد عبّروا عن رؤيتهم للحكمة البشرية، في النظام الكلي للفلسفة، بصورة قريبة من تلك الرؤية القرآنية. وقد تمثل ذلك في تقسيمهم "التقليدي الشائع الذي يحدد الفروع الأساسية للفلسفة في ثلاثة مباحث هي: الأنطولوجيا أو البحث في طبيعة الوجود وحقيقته، والإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة، والأكسيولوجيا وهي البحث في ماهية القيم وحقيقتها ودلالتها"[30]. كما فصلوا في مبحث القيم وحددوه في ثلاثة عناصر هي: الحق والخير والجمال[31].

لكن مراجعةَ التراث الإسلامي تكشفُ عن غياب مصطلح "القيم" بالدلالة المعاصرة لهذا اللفظ. ويَصْدُقُ ذلك على تراث الفقه والأصول، وتراث التاريخ والرجال، وتراث التربية والتصوُّف، وغير ذلك. وربَّما يكونُ السببُ في ذلك أنَّ علماء الأمَّة استخدموا مصطلحات أخرى بصورة تشتمل على ما نُصَنِّفُه اليومَ تحت عنوان القيم؛ فمصطلحات الفضائل والشمائل والأخلاق، كانت تغطي مساحات كبيرة من خصائص السلوك البشري. أما دوافع هذا السلوك فكانت ترتبط بأركان الإسلام وأركان الإيمان، ومفاهيم التقوى والعبادة والجزاء؛ وكلُّ ذلك جَعَلَ موضوعات القيم هي موضوعات الإسلام، بِوَصْفِهِ عقيدةً وشريعةً ونظامَ حياة، يُنَظِّمُ شؤون الفرد والمجتمع، وتتكامل فيه متطلباتُ العمل للدنيا والآخرة.

ويمكن القول بأنَّه ليس ثمة طريقة في البحث عن مرجعية إسلامية للقيم أفضل من مرجعية القرآن الكريم، فالتدبُّر في آيات القرآن الكريم يظهر لنا أن النوع الإنساني يتميّز عن غيره من المخلوقات، بمنظومة من القيم التي تحقق متطلبات الاستخلاف في الأرض، وحمل الأمانة، وإقامة العمران. وقد توصل الإنسان بخبرته في الحياة على هذه الأرض إلى أن منظومة القيم هذه هي كذلك من متطلبات الاجتماع الإنساني والعيش المشترك، فلكل تجمع نظام ومعايير وقيم يرتضيها المجموع، وهي قيم تتَّسق مع الفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها، وهي مكوِّن من مكوناتها، ترتبط بالكرامة الإنسانية، في الرؤية الدينية. لذلك لا نجد ما يمنع من الحديث عن القيم في المرجعية القرآنية بأنها "قيم عالمية"، حتى لو صاغت بعض الفلسفات القديمة والحديثة رؤيتها للقيم وتطورها بأنها قيم عالمية، نتيجة لتجارب البشر وحاجاتهم، من غير مرجعية دينية.

وربما يصح أن نقول أن المرجعية الدينية للقيم تعطي قدراً من الاطمئنان إلى فعل الخير الذي تؤدي إليه هذه القيم، فاستقامة أمور الناس ترتبط بحضور قيم معينة، حتى لو شاب تديُّن الناس بعض شوائب الإثم. لذلك ينبغي التأكيد على أنَّ قيمة التديُّن نفسَها إنما تكمن فيما تحققه من القيم التي يشترطها. فالعدل –مثلاً- أساس استقرار الملك مهما كان دين الناس. يقول ابن تيمية: "وأُمورُ النَّاسِ تَسْتَقيمُ في الدُّنيا معَ العَدْلِ الذِي فيهِ الاشتراكُ فِي أَنواعِ الإِثْمِ أَكثرُ مما تستقِيمُ معَ الظُّلمِ في الحقُوقِ وإِنْ لَم تَشتَركْ في إثْمٍ؛ وَلِهَذَا قِيل: إنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الدَّولةَ العَادِلةَ وَإِنْ كَانتْ كَافِرةً؛ ولا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانتْ مُسْلِمةً.  وَيُقَالُ الدنيَا تَدُومُ معَ العَدْلِ وَالكُفْرِ، وَلَا تَدُومُ مَعَ الظُّلْمِ وَالإِسْلَام ... وَذَلِكَ أَنَّ العَدْلَ نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا أُقِيمَ أَمْرُ الدُّنْيَا بِعَدْلِ قَامَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمَتَى لَمْ تَقُمْ بِعَدْلِ لَمْ تَقُمْ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِهَا مِنْ الإِيمَانِ مَا يُجْزَى بِهِ فِي الآخِرَةِ"[32].

وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر بأنِّ المجتمعات التي عُرفت بانتسابها إلى دين معين لا يعني أنَّها تشتق قيمَها من مرجعيتها الدينية، وإن أدَّعت ذلك. وقد يكون من المناسب التذكير بالضجة التي أثارتها مجلة أيرش تايمز في عددها الصادر 9 حزيران 2014م في قسم الأديان والمعتقدات، حين نشرت مقالةً كتبها Patsy McGarry بعنوان إيرلندا أقرب البلدان للتعاليم الاقتصادية الإسلامية. تحدث فيها عن نتائج دراسة أجراها باحثان من جامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية، هما حسين العسكري وشهرزاد رحمان. ونقل الكاتب بعض البيانات التي ذكرها العسكري في مقابلة له مع بي بي سي البريطانية. استخدم الباحثان ما سموه مؤشر الالتزام الإسلامي ‘Islamicity index حيث بحثا عن مثاليات الإسلام في عدد من مجالات الحياة في المجتمع: الإنجاز الاقتصادي، الحوكمة، الحقوق الإنسانية والسياسية، والعلاقات الدولية... في 208 بلداً من بلدان العالم. وتوصلت الدراسة إلى أنَّ الدول الإسلامية ظهرت في نتائج الدراسة بصورة سيئة جداً، واتَّهم هذه الدول بأنَّ الصفة الدينية (الإسلامية) التي تدَّعِيها هي أداة للسيطرة. وقال: يجب أن نؤكِّد أنَّ كثيراً من الدول التي تدَّعي الإسلام هي دول ظالمة، وفاسدة، وغير متطورة، وغير "إسلامية" بأي معنى يمتد إليه الخيال.

وقد اعتمد الكاتب في أحكامه هذه على النتائج التي أظهرتها دراسة "العسكري ورحمان"؛ إذ بيّنت أنَّ الدول العشر الأولى حسب ترتيب الالتزام بالقيم الإسلامية في مجال العدالة الاقتصادية: هي إيرلندا، والدنمارك، ولكسمبورغ، والسويد، والمملكة المتحدة، ونيوزيلندا، وسنغافورة، وفنلندا، والنرويج، وبلجيكا. ولم تظهر أي دولة إسلامية ضمن أول 25 دولة من حيث الالتزام بالقيم الاقتصادية القرآنية، ولم تظهر أية دولة عربية ضمن أول 50 دولة. وفي المؤشر الكلي للالتزام الإسلامي الذي يتضمن المعايير القانونية والحكم، والحقوق الإنسانية والسياسية، والعلاقات الدولية، إضافة إلى العوامل الاقتصادية، جاءت ترتيب الدول العشر الأولى على الوجه الآتي: نيوزيلندا، لكسمبورغ، إيرلندا، أيسلندا، فنلندا، الدنمارك، كندا، المملكة المتحدة، أستراليا وهولندا.

وخلص الكاتب إلى القول: عندما يكون في أي دولة أو مجتمع: حكام غير منتخبين، فاسدون، طغاة، وتسود فيها ممارسات عدم المساواة أمام القانون، وعدم تكافؤ الفرص في التنمية البشرية، وتغيب حرية الاختيار، ويوجد الثراء والفقر جنباً إلى جنب، وتلجأ الأطراف المتنازعة إلى العدوان في تسوية النزاعات، وتنتشر صور الظلم من أي نوع، فهذا يدل بالبداهة على أن المجتمع ليس مجتمعاً إسلامياً[33].

وفي التعليق على هذه الدراسة يمكننا القول إنَّ هناك دراساتٍ عديدة، غير هذه الدراسة، تبين أنَّ كثيراً من الدول "غير الإسلامية" تمارس من القيم التي يسعى الإسلام إلى تحقيقها أكثر بكثير مما يتحقق لمواطني البلاد الإسلامية، لا سيما قيم العدل، والمساواة، والالتزام بالقانون، وتكافؤ الفرص، والمصالح الاقتصادية والأمنية... إلخ. ورغم أنَّ النتائج المعلنة في هذه الدراسات تنسجم مع الانطباعات العامة لدى غالبية القراء المسلمين، وغير المسلمين، عند النظر إلى مظاهر التخلف في البلاد الإسلامية. إلا أنَّه ليس من السهل الحكم على صدق التصميم البحثي لهذه الدراسات من الناحية العلمية.

 

رابعاً: التكامل بين المطلق والنسبي في الرؤية الإسلامية

تمخَّض عن أفكار الحداثة والتنوير في أوروبا مجموعة من المبادئ، منها: مبدأ "النسبية في القيم"، الذي يعنى حرية الاختيار، وهو أمر يتَّصف بالتغير، ولا يعرف الثوابت والمطلقات. وهذا المبدأ يفترض جواز اختلاف القيم (أو ضرورة اختلافها) باختلاف الوسط الثقافي في الأماكن المختلفة، وباختلاف الزمان والمرحلة التاريخية، ومتطلبات التطور، التي لا تعود فيها بعض القيم صالحة، ويلزم استبدال قيم جديدة بها، وباختلاف طبيعة المجتمع وأفراده، وما يروْنَه صالحاً لهم، محققاً لحاجاتهم.

وحقيقة الأمر أنَّ للقيم بُعْدَيْن متلازمين: البعد الأول يمثل القيم في أصلها الثابت الذي يرتبط بالفطرة البشرية، والمشتركات الإنسانية، وقاعدة التعارف والتآنس. وهو البعد المطلق من القيم الذي يُفترض أن يتحكَّم في فكر الناس وسلوكهم وعلاقاتهم، والبعد الثاني يمثل القيم في مجالات تطبيقاتها المتغيرة في الزمان والمكان والإنسان[34].

والعلاقة بين البعدين تشبه علاقة المادة ذات التركيب المحدد الثابت، مع الوعاء الذي توضع فيه، فإنَّ تغيُّر شكل الإناء وحجمه لا يغيِّر من طبيعة المادة، ولا حجمها، فاختلافُ مجال التطبيق العملي للقيم في الواقع المتغير للناس مكاناً وزماناً، لا يعْنِي تغيير القيم المرجعية التي يستند إليها الناس في سلوكهم وعلاقاتهم. ويبقى وصف المطلق والثابت للقيم عند تنْـزيلها على الواقع النسبي المتغير.

لقد عملتْ فكرةُ النسبية على تهميش القيم وإفقادها قوتها المرجعية في التفكير والتنظير؛ التي تعد "قوة القيمة". ومع افتقاد القوة المرجعية للقيمة، أصبحت النسبية سلطة قهرية تبرر التحلل من أية معايير؛ فأصبحت هذه السلطة تعبيراً عن "قيمة القوة".

ويسهمُ التمييز بين قيم الغايات وقيم الوسائل في فهم مسألة النسبية في القيم؛ فقيمُ الغايات قيمٌ مطلقة توصف أحياناً بالقيم المركزية أو القيم العليا، وهي لا تختلف باختلاف الزمان أو المكان أو الأحوال، وهي تُطلب لذاتها لا لغيرها، وتتحدَّدُ في الدراسات الفلسفية بمثلث القيم العليا: الحق والخير والجمال. وتتحدد في الدراسات الدينية حسب توجهات الفرق الكلامية بـ: التوحيد والنبوة والمعاد. وتتحدد في بعض الدراسات الحضارية بـ: التوحيد والتزكية والعمران، وهكذا. أمَّا قيمُ الوسائل فإنَّها تكون وسيلةً لتحقيق قيمة أخرى أعْلى منها في العادة، وهذه القيم ذات طبيعة نسبية تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، فالثروةُ مثلاً قيمةٌ مهمة، لكنَّها لا تُجْمَعُ لذاتها، وإنَّما لما توظَّف من أجله من غايات قد تكون نبيلة وقد لا تكون. والعلمُ قيمةٌ، واكتسابه لا يكون لذاته، وإنَّما يُكتسب لغايات أخرى، منها مثلاً توظيفه في تطبيقات صناعية تيسر سبل حياة الإنسان، وهكذا.

ومع أن الصفة المطلقة للقيمة لا معنى لها دون الإنسان الذي سوف يلتزم بها، فإنَّه لا معنى لها كذلك دون أن ندرك قوتها واستقلالها، ومن ثم صفة التعالي والإطلاق فيها، وهذه الصفة ذاتها هي التي تجعل الإنسان ينجذب إليها ويسعى نحوها، فيراها غاية وجوده، وبها يكون منتهي سعادته. ومن ثَمَّ فإنَّ "قيمة القيمة" إنما تتحقق بسعي الإنسان إلى تمثُّلها، في حدود قدرته، وبدون هذا الإنسان فلا قيمة للقيمة ولا حاجة لها. ومن هنا تأتي صفة النسبية الملتصقة بالقيمة عندما ننظر إليها متحققة في الواقع المحسوس. وعندما يقرر الله سبحانه أنَّ أمْراً ما "خيرٌ" من أمْرٍ آخر، فإن حقيقة القيمة إنما يكون في وزنها عند التطبيق، وعندما يقدَّرُ وزنُها في ضوء تعدد المستويات التي تتحقق فيها، فثمة مستوى "خير" من مستوى آخر. فالصدقة خير لا شك فيه، لكن الصدقة التي يتبعها نوع من الأذى ليست خيراً، بل كلمة المعروف والدعاء خير من تلك الصدقة.

أما القيمة المطلقة اللامتناهية بدون حدود، فهي ليس لعالم البشر في الدنيا، وإنما هي لله سبحانه: فهو الذي جعلها قيمة، وبأسمائه وصفاته سبحانه، نستطيع أن نحكم لها بالإطلاق غير المحدود؛ فالكمال له وحده. وسعيُ الإنسان للتحقُّق بها قدر استطاعته، إنما هو سلوك السالكين إليه والمسترشدين بهدايته. فإقامة العدل المطلق لا تكون في الدنيا بل تكون في الآخرة، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء:47].

فهذا الجمع التكاملي بين المطلق والنسبي في وصف القيم في الإسلام هو تعبير عن صفة الإسلام نفسه، فهو ليس معتقدات نظرية مطلقة وحسب، وإنما هو "نظام اعتقاد، ونظام معرفة، ونظام قيم"، تتحقق في الواقع الاجتماعي للإنسان، وإذا قلنا إنَّ الإسلام عقيدة وشريعة كما يقول الشيخ محمود شلتوت[35] فإنَّ العقيدة هي المبادئ التصورية للإيمان، والشريعة هي الأحكام والنظم التي شرعها الله لضبط سلوك المؤمن، وعلاقته بربه، وبأخيه الإنسان، وبالكون والحياة. ومن هنا يأتي التكامل كذلك بين البحث النظري المعرفي من جهة، وما يرتبط به من قواعد السلوك العملي، من جهة أخرى، وهو تكامل بين الإيمان والعمل، وتكامل بين الفكر والتطبيق.

 

خامساً: التلاعب بالقيم وازدواجية المعايير القيمية

ما الذي يجعلُ القَبُول بقيمة معينة والالتزام بها أمراً سائداً أو نادراً؟ وما علاقة ذلك بطبيعة تلك القيمة، ومصدرها؟ ألا نجد في عالمنا المعاصر أنَّ القيم هي تحقيق المصالح الخاصة بفرد، أو فئة، أو مجتمع، دون النظر إلى انعكاسات ذلك على الآخرين؟ وكيف يستوي -في بعض العقول البشرية- أنْ يكون تحقيق تلك المصالح عند فئة، وحرمان الفئات الأخرى منها قيماً معتبرة في الحالتين؟

من المعايير الأساسية في تحديد مفهوم القيم، وما يرتبط بها من معايير أخلاقية، صلتها بالضمير البشري، وبالفطرة البشرية، وعندها سوف يبقى الحق حقاً، والخير خيراً. ولكن إذا كان الصدق فضيلةً وخلقاً نبيلاً عند عقلاء الناس، أفلا يُعدّ الكذب والمكر والخديعة عند بعض السياسيين وسائل للوصول إلى أهداف غير نبيلة، تنتهي أحياناً بـ"جرائم ضد الإنسانية!"

كتب المفكر الأمريكي المعارض "ناعوم تشومسكي" يقول: "في الحقيقة ربَّما يكون أهم المبادئ الأخلاقية الأساسية هو مبدأ العالمية universality؛ بمعنى أنَّه إذا كان أمر معين صواباً بالنسبة لي، فإنَّه لا بد أنْ يكون صواباً بالنسبة لك، وإنْ كان خطأ بالنسبة لك، فلا بد أنْ يكون خطأ بالنسبة لي. وأيُّ نظام أخلاقي جدير بالنظر فلا بد أن يكون هذا المبدأ في القلب منه. لكنَّ هذا المبدأ هو في موضع الإهمال في الوقت الحاضر، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ خذ مثلاً جورج دبليو بوش، الذي صادف أنَّه الرئيس الأمريكي حالياً. فإذا طُبِّقت المعايير التي طبقت على مجرمي النازية في نورمبرغ، فإنَّ هذا الرجل يجب أن يعدم شنقاً حتى الموت، ومع ذلك فإنَّ هذا الأمر يصعب تصوره، ولا يسمح حتى بمناقشته؛ لسبب واضح أنَّنا لا نطبق على أنفسنا المبادئ التي نطبقها على غيرنا. هناك كلام كثير عن الإرهاب وكم هو شنيع! لكنه إرهاب مَنْ؟ إرهابُنا ضدَّهم؟ أعني هل هذا أمر يمكن التفكير فيه؟ لا! إرهابُنا يُعدّ أخلاقية عالية! ويُعدّ دفاعاً عن النفس! أما إرهابُهم ضدَّنا فهو أمرٌ فظيع وشنيع! إنَّ محاولة الارتفاع إلى مستوى الحد الأدنى من الأخلاق، والدخول في مجال الخطاب الأخلاقي أمر في غاية الصعوبة، لأنَّ ذلك يعني القبول بمبدأ "العالمية". وتستطيع أن تجرب بنفسك إلى أيِّ حدٍّ يمكن القبول بذلك، على المستوى الشخصي أو في الحياة السياسية، ذلك أمر نادر جداً!"[36].

ويظهر التلاعب بالقيم بصورة واضحة في لغة بعض السياسيين وفي استدعائهم لشعارات معينه في بعض الظروف وإلباسها لباس القيم الإيجابية التي تستحق التضحية من أجلها. ويشترك في صياغة نصوص خطب هؤلاء السياسيين في كثير من دول العالم خبراء في الإعلام وعلم النفس واللغة، إضافة إلى الخبرات السياسية. ونظراً لأن لغة الخطب هي لغة براغماتية تحاول تمرير رسائل معينة، وتحقيق أغراض محددة، لذلك لا غرابة أن تجد فيها تلاعباً في القيم يحول القيمة من معنى إيجابي إلى استخدام سلبي، فيحول القيمةَ الإيجابية للأمن مثلاً إلى قيمة سلبية للإرهاب، والقيمة الإيجابية للحرية إلى قيم سلبية للأمن. إنّ تحليل لغة الخطاب السياسي سوف يجد الكثير من الكذب وأنصاف الحقائق، والمراوغة في تجنب الموضوع الأساسي.

وفي هذا المجال درس أحد الباحثين القيم التي يستند إليها أو يريد بناءها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأبن في خطابه السنوي الذي يسمّى: "خطاب الاتحاد"، مبيناً ما هي القيم التي يتم استدعاؤها في الخطب، وكيف شيدت هذه القيم؟ كيف يمكن تصنيفها؟ كيف هي البنية اللغوية للمعنى القيمي المتضمن إضفاء الشرعية؟ واعتمد الباحث على منهج تحليل الخطاب ونقده. والكتاب يتناول أدوات البرغماتية اللغوية التي تطبق في الشرعية السياسية، مثل المقاربة، والاستعارة، والتوكيد. وكشف تحليل المؤلف أن الرئيس المذكور كان ينطلق في خطاباته من ثلاث قيم إيديولوجية كان يستخدمها في صنع السياسة الخارجية: الأمن والإرهاب والحرية. وبيَّن كيف كانت هذه القيم تتحول في خطب الرئيس المذكور من أبعادها الإيجابية إلى أبعادها السلبية، في صورة نموذجية للتلاعب بالقيم[37].

 

سادساً: أمثلة على بعض طرق التعامل مع ظاهرة تعددية القيم في المرجعية الإسلامية

  1. محمد عبد الله دراز، ودستور الأخلاق في القرآن

واحد من الأمثلة المناسبة في بيان مرجعية القيم في الرؤية الإسلامية يتصل بالعمل المميز الذي قام به "محمد عبدالله دراز" في كتابه: "دستور الأخلاق في القرآن"، ففيه يستعرض "دراز" جهود علماء المسلمين من مختلف المذاهب والمدارس الفقهية والفلسفية والصوفية والتاريخية، وجهود غير المسلمين من المستشرقين في مختلف العصور، فيما يختص بدراسة القيم والأخلاق في القرآن الكريم، ثم يستنتج حالة القصور الواضح في هذا الميدان، ويقول: "وهكذا لم ينهض أحد –فيما نعلم- حتى الآن باستخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعِهِ، ولم يحاول أحد أن يقدم لنا مبادئها، وقواعدها في صورة بناء متماسك، مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وتلكم هي المهمة التي انْتُدبنا للوفاء بها هنا، بقدر ما تطيقه وسائلنا"[38].

وقد جرى التنويه بقيمة هذا دراسة "دراز" في مقام آخر[39] فيما اعتبره كاتب هذه السطور نموذجاً فريداً للتأصيل الإسلامي لعلم الأخلاق. وعلى الرغم من أن دراسة دراز ربما تكون كافية لمناقشة معظم المسائل التي لا يزال يثيرها الباحثون من المسلمين وغير المسلمين حول طبيعة القيم والأخلاق، ومرجعيتها، وتنوُّعها، وتدرُّجها، فسوف نكتفي بإشارات عابرة إلى كتاب "دراز" مع الأمل أن يتوفر أحد الباحثين على العناية بهذا الكتاب بما يستحقه من اهتمام بحثي في دراسة مستقلة.

كان كتاب "دراز" هذا دراسة مقارنة لمفهوم الأخلاق في النص القرآني، والنظريات المختلفة التي ظهرت في جهود الفلاسفة الغربيين في مختلف الحقب الزمنية من التراث اليوناني القديم، والدراسات الدينية المسيحية، والوضعية الأوروبية، حتى الأربعينيات من القرن العشرين، وهي السنوات التي كتب فيها "دراز" أطروحته في جامعة السوربون، وصدرت في هذا الكتاب.

وبعد أن يقرر "دراز" أن القرآن الكريم يشتمل على فلسفة دينية متكاملة، فإنه يبين أنَّ كتابه "دستور الأخلاق في القرآن" هو جهده الذي خصصه لبيان أسس النظرية الأخلاقية، فالقرآن: "لا يكتفي في الواقع بأن يضع قاعدة السلوك على وجه أكثر شمولاً وتفصيلاً، كما لم يفعله أي تعليم عملي، فقد وجدناه يرسي تحت هذا البناء الضخم قواعد من المعرفة النظرية أعظم متانة وأشد صلابة." ثم يتساءل عن المرجعية التي تستند إليها القيم التي تحددها "شريعة الواجب القرآني" ومصدر السلطان الذي تتمتع به هذه الشريعة، ويجيب: "بأن التمييز بين الخير والشر هو إلهام داخلي مركوز في النفس الإنسانية، قبل أن يكون شرعة سماوية، وبأن الفضيلة –في نهاية المطاف- إنما تتخذ مرقاتِها من طبيعتها الخاصة، ومن قيمتها الذاتية، وبأن العقل والوحي –على هذا- ليسا سوى ضوء هاد، مزدوج، لموضوع واحد، وترجمة مزدوجة، لواقع واحد أصيل، تمتد جذوره في أعماق الأشياء"[40].

وإذا كان مرجعية القيم في نظر "دراز" تستند إلى "الدستور" الثاوي في القرآن الكريم، وإلى الفطرة البشرية التي جاء هذا الدستور لهدايتها، فليس لكائن مَنْ كان مِنْ أهل العلم أو الحُكْم أن يدَّعي مرجعيةً خاصة له، وليس لأحد كذلك أن يدَّعي أنَّ خبرة تاريخية يمكن أن تكون هي المرجعية. صحيح أن الخبرة التاريخية ربما تعبر عن فهم الأجيال المسلمة للإسلام، لكن هذا الفهم ليس هو الإسلام نفسه، فليس لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم عصمة تعطيه المرجعية، وليس لجيل من أجيال المسلمين بعد جيل رسول الله، هذه العصمة ليدعي هذا الجيل مرجعية معينة.

إنّ الإسلام يبني تكاملاً قيمياً فريداً يطلق عليه "دراز" مصطلح "الازدواج"، حين يجمع بين "الصيغة المجردة لقاعدة عامة، والتحليل الدقيق للحالة الخاصة"، فبهما معاً تتكامل متطلبات الهداية لما على الإنسان أن يختاره. إنه تركيب بين المثل الذي يأتي من الأعلى، وظروف الواقع التي يمكن لهذا المثل أن يتجسد فيه، فالمثل الأعلى هو المطلق الموضوعي، والواقع هو النسبي والذاتي. وقد زود اللهُ سبحانه الإنسانَ بالقدرة على هذا التوحيد والتقريب بين طرفي المعادلة، والربط التكاملي بين عناصرها، بالاعتماد على الضمير البشري المهتدي بالوحي، وبذلك يتحقق ما يسميه دراز "الازدواج بين ثبات القانون الأزلي وجدة الإبداع الفني"[41].

إن الإلزام الخلقي في القرآن الكريم يقوم على مراعاة هذه الحقيقة المزدوجة: ويتمثل ذلك في دلالة قوله سبحانه: فاتقوا ما استطعتم، فهي تجمع بين المطلق والنسبي، بين الموضوعي والذاتي. فالمؤمن يتوجه إلى الله سبحانه طاعةً لأمره، ولكنَّ سعيه العملي سيكون محكوماً بوُسْعه وطاقتِه وبظروف الواقع الذي يعيشه، فهذه هي الطبيعة البشرية كما أراد الله لها[42]. فكما أنَّ للقيمة موضوعيةً لا بد أن تؤخذ بالحسبان، فللإنسان الذي سوف يلتزم بالقيمة ذاتيةٌ لا بد أن تؤخذ بالحسبان كذلك. والحكم القيمي إنما يتحقق من النظرة المتكاملة بين الأمرين.

 

  1. طه عبد الرحمن

يرى طه عبد الرحمن أنَّ سبب وصول العالم إلى الحديث عن مشكلة "تعدد القيم" هو غياب المرجعية الغيبية التي تَبني التوافق والانسجام بين القيم؛ إذ ينتج عن هذا الغياب النظر إلى العالم بطريقة عقلانية بحتة سوغت التعارض بين العقل والدين، ومن ثم "التسيُّب العقلي" وهذه العقلانية أفسحت المجال للحرية الفردية (أو الليبرالية) التي تفصل بين القيم الإجرائية التي تتولاها الدولة في الجانب السياسي، والقيم الجوهرية ذات البعد الأخلاقي ومرجعيته الدينية. وعلى هذا الأساس يأتي الحديث عن صدام الحضارات في صورة من صور التعددية القيمية، غير القابلة للحوار، ودعاة هذا الصدام يرون فيه وسيلة لتكريس القيم الغربية والاحتفاظ بهيمنة الغرب على بقية العالم.

ويقترح طه عبدالرحمن بناء تصور جديد لتعدد قيمي جديد، يسميه "تعددية القيم المتصادقة"، في مقابل "تعددية القيم المتصادمة"... ذلك أنَّ تعددية التصادق يمكنها أن تقينا من "الآفات الثلاث التي دخلت على تعددية التصادم المعاصرة وهي: آفة التسيب العقلي الحداثي، وآفة التسلط السياسي الإيديولوجي، وآفة التطرف الثقافي الاستراتيجي"[43].

وبعد أن يناقش طه عبد الرحمن مقولات بعض الفلاسفة في التعامل مع التعددية القيمية يتحول إلى نقد المبادئ التي تقوم تستند إليها هذه التعددية في الفكر الغربي وهي ثلاثة مبادئ: مبدأ التعارض بين العقل والدين، ومبدأ التعارض بين السياسة والأخلاق، ومبدأ التطابق بين الثقافة والأخلاق. مقترحاً في ذلك تأسيس العقل على الإيمان، وتأسيس السياسة على الخير، وتأسيس الثقافة على الفطرة[44].

وفي مكان آخر من أعمال طه عبدالرحمن يقرر: "أن ممارسة الأخلاق قد تتبع أحد الطريقين: إما طريق الإلزام الذي هو عبارة عن جملة من الأوامر والنواهي التي تفرض من خارج على إرادة الإنسان، وإما طريق الاعتبار الذي هو عبارة عن جملة من المعاني والقيم التي يستنبطها الإنسان مما يشهده من أفعال ويتلقاه من أقوال، وهو يرى أن الاعتبار هو الطريق الأنسب، الذي يعتمد على ثلاثة أركان: هي الجمع بين العقل والشرع لتأسيس أخلاق كونية مؤسِّسة ومتعدِّية وشاملة، والجمع بين العقل والقلب لتأسيس أخلاق عُمْقِية للتطهير والتأهيل والتجديد، والجمع بين العقل والحس لتأسيس أخلاق حركية تتصف بالانفتاح والاجتماع"[45].

 

سابعاً: منظومة القيم العليا في الرؤية الإسلامية

اجتهد كاتب هذه السطور في بيان مرجعية القيم في الرؤية الإسلامية بالاستناذ إلى الهدى القرآني، والمبادئ الكبرى التي يقود إليها هذا الهدى، ففصَّل فيما ما سمّاه المرحوم العلواني ب"منظومة القيم الحاكمة"، وحدَّد عناصرَها في ثلاثة مفاهيم قيمية كبرى هي: التوحيد، والتزكية، والعمران[46]. ورأى أنَّ هذه القيم الثلاث تكوِّن معاً مرجعيةً مقاصدية لبيان غاية الحقِّ من الخلق، ومنظومةً معيارية للقيم التي تنبثق عنها سائر القيم الرئيسية والفرعية في دين الله. ولكن هذه المنظومة القيمية هي، في الوقت نفسه، تعبير عن حقائق الأمور ووقائعها، وليست شيئاً خارجاً عنها أو مفروضاً عليها.

وحين نعدّ هذه القيم الثلاث "منظومة" فإنّنا نهدف إلى تأكيد الصلة الوثيقة فيما بين مفردات هذه المنظومة، وملاحظة تكاملِها في تغطية المجال الذي تعمل فيه. فمع أنَّ التوحيد هو رأس الأمر في التفكير الإسلامي، وجوهر التجربة الدينية –حسب اصطلاح المرحوم إسماعيل الفاروقي- وأساس البناء في الحضارة الإسلامية، فإنَّ قيمته -في حياة الإنسان- ربما تبقى حبيسة التجريد الفكري والتصور الغيبي، إذا لم تنبثق عنه التزكية في قلب الإنسان ومشاعره، وفي معاملات الإنسان وأنماط سلوكه. وهذه التزكية تصبح زهداً سلبيّاً وانسحاباً من الحياة العامة، إذا لم تتظافر التمثلاث العملية للتوحيد والتزكية في بناء المجتمع وعمرانه الحضاري وتحقيق الاستخلاف البشري، الذي أراده الله لهذا العالم.

وحين نتحدث عن منظومة، فإننا نؤكد خصائص الترابط والتكامل بين مكونات هذه المنظومة، فإذا كان التوحيدُ هو العنصر الأساسي في النظام العام الاعتقادي وتفرعاته المعرفية، والتزكيةُ هي التمثل العملي للشخصية الإنسانية، وتفرعاتها النفسية والعقلية، والعمرانُ هو الصورة العامة للنظام الاجتماعي وتفرعاته الاقتصادية والسياسية، فإنَّنا نكون قد جمعنا في هذه المنظومة جوانب الحياة البشرية، وما يتخللها من صور النشاط الإنساني. ولكننا مع ذلك لا نتحدث عن تكافؤ بين عناصر المنظومة، فثمة أصلٌ تنبثق عنه فروع، فصياغة شخصية الإنسان فرداً وجماعة باتجاه التزكية، وبناء العلاقات والنظم الاقتصادية والاجتماعية باتجاه العمران، إنما هو انبثاق من مبدأ التوحيد، بوصفه نقطة البدء في أي تفكير أو أي عمل. وصياغة الشخصية وبناء العلاقات إنَّما تكون تجليات عمليه لهذا المبدأ.

وإذا كانت القيم العليا معايير لضبط ما ينبثق عنها من قيم فرعية، فسنجد أنَّ مظاهر حياة الإنسان في الدنيا في مجالاته كافة متَّسقة فيما بينها، لانبثاقها من المصدر نفسه، وأنّها متسقة كذلك مع أشواقه وآماله فيما يوَدُّ الحصول عليه في الآخرة. فهو يُحِبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحبُّ فعلَ الخير، ويزكِّي مشاعرَه وتعاملاتِه مع الناس، ولا يرجو لهم إلا الخير، ويتَّصفُ بالصدق والأمانة والوفاء وسائر الأخلاق النبيلة، وفي الوقت نفسه، يكون مخلصاً في عمله، قائماً بواجبه، حافظاً لحقوق الآخرين، مقيماً العدل، محارباً الظلم، لا يعيش لنفسه، ولا يعبد هواه.

إنَّ الحياة في عالم تكتنفه هذه القيم، لن تنعكس على حياة الفرد بالاستقرار والسلام النفسي وحسب، وإنَّما تنعكس على بناء مجتمع إنساني يتَّصفُ بالتماسك والتراحم والقوة في داخله، ويتَّصفُ بالصمود والثباث والممانعة تجاه أية قوى تحاول تحدِّيه من خارجه. وقد علَّمنا التاريخ أنَّ هذا المجتمع كان عصيّاً على محاولات الغزو الخارجي ما احتفظ بتلك القيم والمقومات، وأنَّ عمليات التبشير والاستعمار في التاريخ الحديث كانت تستهدف هذه القيم في الأساس، لإضعاف المجتمع الإسلامي من داخله، عن طريق الترويج لصُوَرٍ بديلة للحياة، تتمحور في الإنجاز المادي، بِوَصْفه معياراً للحضارة والتقدم. وقد احتل مركز القيادة في المجتمعات الإسلامية، من لم يُنَشَّؤوا على منظومة القيم الإسلامية، ولا يرون من سُبُلٍ في بناء المجتمع وتنظيمه إلا ما أُرُوا في المجتمع الغربي، فهم يستوردون منه عالَمَ الأشياء، ومعها ما يرتبط بها من عالَمِ الأفكار، ومن يصنِّعُها من عالَمِ الأشخاص، ومع كل ذلك -بطبيعة الحال- نظم الإدارة والعلاقات، وما تنطوي عليه من قيم وتصورات.

ومع شيوع هذه الصور البديلة، وتربية الأجيال الناشئة عليها، وربط أحلام الشباب بها، اخْتلَّتْ منظومة القيم، التي كانت تمثل مرجعية التصور والسلوك، واختلطت على الناس الرؤى، وفَقَد المجتمع هُويَّتَه، فأصبح تابعاً يلهث وراء سراب بقيعة! فلا هو قد بنى قاعدة للحضارة والتقدم المادي مع الاحتفاظ بهويته وقيمه، ولا هو أسهم في البناء والإنجاز الحضاري، بالقدر الذي يكسبه موقعاً مشرفاً بين المجتمعات الأخرى، وإنما بقي كنزاً مكشوفاً للمواد الأولية ينْهَبُه السارقون، وسُوقاً استهلاكية مفتوحة لأشياء الآخرين وقِيَمِهِم ونُظُمِهِم، بكل تناقضاتها، وبكل ما يدفع إليها من طموحات الهيمنة والاستحواذ.

ولعل من السهولة واليسر استخلاص الفائدة المترتبة على هذا الجمع بين عناصر هذه المنظومة، وأهميته في بيان الارتباط العميق بين هذه العناصر: التوحيد والتزكية والعمران، فتوحيد الله عزَّ وجلَّ حقيقة مطلقة يقود إليها التفكُّر والتأمُّل والبداهة العقلية، ويريح الإنسان من حالات الحيرة والقلق والضلال، التي ينتهي إليها أيُّ تصوُّر آخر غير التوحيد. والتزكية عملية ارتقاء بالنفس الإنسانية وسموٌّ بها، وتطهيرٌ للمجتمع الإنساني من ألوان الفساد والانحراف، وتطهير للمال وتنميتُه وتدويرُه بين الناس، فيتحقَّق بذلك من صفاء النفس وسلامة الصدر، وتعزيز مؤشرات المسؤولية والتكافل الاجتماعي، ما يبني مجتمعاً موحداً متماسكاً في بنيته وأنظمته. أمَّا العمران فهو سعي بشري لتوظيف طاقات الإنسان في بناء حياة عامرة بالخير، تحقق مقاصد الخلافة في الأرض واستعمارها، واستخراج طاقاتها واستعمالها في تيسير سبل الحياة وتطوير الحضارة البشرية وترشيدها. وهكذا تستكمل هذه المنظومة الثلاثية عناصر رؤية العالم في التصور الإسلامي فيما يتعلق بالله والإنسان والكون.

ليس ثمّة شك في أنَّ العقيدة الإسلامية تجعل التوحيدَ الحقيقةَ الكبرى في هذا الوجود، وهي حقيقة تستمد قيمتَها من ذاتها، وغيرُها من الحقائق إنّما يَصدُر عنها. والكون كلُّه خاضع بالفطرة لمتقضيات التوحيد، فإذا أراد الإنسان أن ينسجم مع فطرة الكون، فلا بدَّ له من أن يتزكَّى، ويتوجَّه إلى الله وحده بالعبادة، فهو سبحانه "إلهُ النَّاس" (توحيد العبودية)، مثلما هو جلّ شأنه "ربُّ النَّاس" (توحيد الربوبية) و"مَلِكُ النَّاس" (توحيد الحاكمية). والتزكية موضوعها الإنسان المستخلف، وهو موضوع الإصلاح في الواقع الإنساني، وَفقاً لما يهدي إليه الخالق الواحد من رعاية مخلوقاته وتدبير شؤونها؛ ومن ثَمَّ فإنّ التزكية هدف العُمران ووسيلته، وهي تدخل في صميم البناء الاجتماعي والعمران البشري.

إنّ منظومة القيم العليا هذه بمكوناتها الثلاثة: التوحيد والتزكية والعمران، هي أساس كل القيم الفرعية الأخرى، في مجالات الإيمان والاعتقاد، وتربية النفس وبناء الشخصية الإنسانية، ونظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي علاقات المجتمع المسلم الداخلية والخارجية. ومع أن هذه القيم الثلاث هي القيم العليا في الإسلام، فإنها في الوقت نفسه قيم إنسانية عالمية، سواءً في منطق المؤمنين بالله الواحد من أتباع الرسالات، أو في منطق دعاة التقدم والنهوض الحضاري؛ على مستوى المجتمعات الإنسانية، أو على الساحة العالمية. وتأكيد الصفة الإنسانية العالمية لهذه القيم لا ينفي أن صور تمثلها لدى أبناء الأديان الأخرى، والحضارات تتلوَّن برُؤى العالَم التي تعتمدها هذه الأديان أو الحضارات، ومع أنَّ النصرانية واليهودية تعدّان من الديانات التوحيدية، فإنّ التوحيد فيهما قد اختلط بأنواع من الشرك، كما نسب إلى الله الواحد سبحانه ما لا يليق به من الصفات. ومع أن بعض دلالات التزكية والعمران نجدها في الحضارات الأخرى، بما في ذلك الحضارة الغربية المعاصرة –لكنها ربما تحتاج عناوين متعددة- فإنَّ النظريات النفسية والتربوية والاجتماعية السائدة قد لوَّثت تلك الدلالات بألوان من الانحراف والتحيّز والفساد.

ولعلّ من السهل أن نقيم تناظراً كاملاً بين هذه المنظومة الثلاثية والعناصر الرئيسة الثلاثة في النظام المعرفي الإسلامي: الله والكون والإنسان، وعليه تكون القيم العليا الحاكمة هي: توحيد الله، وعمران الكون، وتزكية الإنسان.

وقد تعاملنا في مقام آخر[47] مع منظومة القيم العليا المشار إليها باعتبارها منظومة من المقاصد، والقيم، والمبادئ، في آن واحد؛ ذلك أننا ننطلق، في أيِّ أمر من الأمور، من نقطة بدء محددة، ونتَّجِهُ في حركتنا محكومين باستقامة المنهج والطريق القويم، لنصل إلى الغاية المتوخاة والمقصد المنشود. فالتداخل في منظومة المفاهيم الثلاثة: المقاصد والقيم والمبادئ، هو تداخل تكاملي يستدعي كلُّ مفهوم منها المفهومين الآخرين، وهو تكاملٌ منظومي تراتبي، يحدد موقع كل مفهوم من المفهومين الآخرين. وسياق الحديث هنا هو الأفعال البشرية، فحينما يقوم الإنسان بفعل محدد، فإنَّه -حين يبدأ الفعل- لا بد أن يستحضر المعايير والضوابط الحاكمة لسلامة البدء، وسلامة السير في الاتجاه، وسلامة المقصد من الفعل، حتى يتحقق له ذلك المقصد.

ومع ملاحظتنا للتداخل بين دلالات المفاهيم الثلاثة في الاستعمال، فإنّ بإمكاننا ملاحظة التشابه في الوصف، فنحن نصف المقاصد بأنها مقاصد حاكمة، والقيم بأنها قيم حاكمة، والمبادئ بأنها مبادئ حاكمة؛ ذلك أنها تشترك في كون الفعل الإنساني محكوما لها في ابتدائه واتجاهه وغايته. وفي الوقت نفسه نَصِفُ المنظومة بأنها عليا: منظومة المقاصد العليا، ومنظومة القيم العليا، ومنظومة المبادئ العليا. فليس لها ما هو أعلى منها، ولكل منها ما هو أدنى منها، متفرع عنها.

 

خاتمة

القيمُ والأخلاقُ هي محددات وضوابط لسلوك الناس، تُمَيِّزُ النوعَ الإنساني عن غيره من المخلوقات، ولذلك فإنَّها ترتبطُ بمتطلبات الاجتماع الإنساني والعيش المشترك، كما ترتبط بالكرامة الإنسانية. وتقع قضايا القيم في القلب مما شرَعَتْ له الأديانُ والفلسفات المختلفة منذ بدء الحياة الإنسانية. ومن ثمّ فإنَّ هذه القضايا ليست قضايا نسبية تُتْرَكُ الطريقةُ التي يتمُّ فيها فهمُها والتعاملُ معها للقناعات الشخصية، والتوجهات الإيديولوجية للفرد، ولا تقتصر على كونها معايير يتمُّ تحديدُها والتقنينُ لها بالأساليب الديمقراطية ليلتزم بها أفراد الجماعة، مع إبقاء الهامش الأكبر لما يمكن أن يعدّ ضمن الحريات الشخصية، وكذلك ليس من الحكمة أن ننفي عن قضايا القيم والأخلاق وجود منطلقات موضوعية عامة يجمع عليها العقلاء من الناس لخصائص فيها في حد ذاتها.

وعلى الرغم من الأهمية الكبرى لموضوع القيم على المستوى الفردي والاجتماعي، إلا أنَّ هذه الورقة اقتصرت على تناول مسألة التدافع والتزاحم القيمي أو التنافس والصراع بين المرجعيات الفكرية والثقافية على مستويين:

الأول هو المستوى الفكري والمعرفي الذي يختص بمفهوم القيم والمرجعية الحاكمة لهذا المفهوم في ضوء حالة الاستلاب الثقافي والحضاري للمجتمعات الإسلامية وفقدان عناصر الهوية الناظمة لهذه المجتمعات، والمستوى الثاني هو المستوى السياسي في آفاقه الدولية والإقليمية والوطنية، بعد أن كاد هذا البعد يذهب بالخصوصيات الثقافية أو الدينية ويهمِّش دورَها أو يلغيها جملة وتفصيلاً.

إنَّ غياب البعد الفكري وسيطرة الاعتبارات السياسية في مسألة القيم، أخذ ينقل بؤرة الاهتمام من التربية على القيم وترسيخها في سلوك الأفراد والمجتمعات إلى ميدان الدفاع عما تبقى من مظاهر حضور القيم ومقاومة الغزو المسلح بأدوات الضغط السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لقد رأينا أن التوحيد والتزكية والعمران هي منظومة من ثلاث قيم عليا تتكامل فيما بينها، دون تزاحم أو تدافع، لا في فهمنا لموقع كل منها في حال اجتماعها، ولا في النظر إليها منفردة، وذلك نظراً لما هو قائم فيها وفيما بينها من توازن وتكامل. ومع ذلك فإن فكرة المطلق والنسبي في هذه القيم إنما يعتمد على الطريقة التي يختارها الفرد عند التطبيق والممارسة. فالغنى والتجارة الرابحة في أشياء الدنيا والحركة والانتقال والاختلاط بالناس سَفَراً وبيْعاً وشراءً، يرتبط بإسهام الفرد في إغناء قيمة العمران وتكريسها.

لكن شخصاً ما يمكن أن يختار نوعاً من التزكية على نوع من العمران، اختياراً تفضيليا، مثلما حصل مع شقيق البلخي وإبراهيم بن أدهم في القصة الذائعة الصيت، التي نختم بها هذه المداخلة. والقصة يرويها الدينوري في "كتاب المجالسة وجواهر العلم"، وفيها:

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، حدّثنا ابْنُ خُبَيْقٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ؛ قَالَ: الْتَقَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ وَشَقِيقٌ بِمَكَّةَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِشَقِيقٍ: مَا بَدْوُ أَمْرِكَ الَّذِي بَلَّغَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: سِرْتُ فِي بَعْضِ الْفَلَوَاتِ، فَرَأَيْتُ طَيْرًا مَكْسُورَ الْجَنَاحَيْنِ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَقُلْتُ: أنْظُر مِنْ أَيْنَ رِزْقُ هَذَا. فَقَعَدْتُ بِحِذَائِهِ؛ فَإِذَا أَنَا بِطَيْرٍ قَدْ أَقْبَلَ فِي مِنْقَارِهِ جَرَادَةٌ، فَوَضَعَهَا فِي مِنْقَارِ الطَّيْرِ الْمَكْسُورِ الْجَنَاحَيْنِ، فَقُلْتُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ! الَّذِي قَيَّضَ هَذَا الطَّيْرَ الصَّحِيحَ لِهَذَا الطَّيْرِ الْمَكْسُورِ الْجَنَاحَيْنِ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي حَيْثُ مَا كُنْتُ، فَتَرَكْتُ التَّكَسُّبَ وَاشْتَغَلْتُ بِالْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: يَا شَقِيقُ! وَلِمَ لا تَكُونُ أَنْتَ الطَّيْرَ الصَّحِيحَ الَّذِي أَطْعَمَ الْعَلِيلَ حَتَّى تَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ؟ أَمَا سَمِعْتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى؟!» وَمِنْ عَلامَةِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَطْلُبَ أَعْلَى الدَّرَجَتَيْنِ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا حَتَّى يَبْلُغَ مَنَازِلَ الأَبْرَارِ. قَالَ: فَأَخَذَ يَدَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهَا وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أُسْتَاذُنَا يَا أَبَا إِسْحَاقَ"[48].

إن مفهوم التدافع القيمي ربما يكون مفهوماً مناسباً للحديث عن الاستيراد والتصدير، والأخذ والعطاء، والإقراض والاقتراض، أو ما شئت من عبارات تدل على فرص التكافؤ في الأخذ والعطاء، وهو أمر احتاجت إليه البشرية في كل تاريخها ولا تزال، وتحدَّث عنه فلاسفة الاجتماع. لكنه في الفعل السياسي ربما يكون أمراً غائباً في بعض الأحيان، فمن يملكون القوة السياسية والعسكرية يضعون أنفسهم دوماً في موضع المتعالي في قِيَمِهِ، ويفترضون أن حركة القيم تتم على طريقة الأواني المستطرقة، فالأعلى يعطي الأدنى. ومن يعترفون بعجزهم وضعفهم في القوة السياسية والعسكرية لا يجدون ملجاً أو مغارات أو مدّخلاً، غيرَ طلب الحماية من الأقوياء، والخضوع للضغوط والإملاءات حتى في ميدان القيم، وهذا نوع من الاستلاب الذي يكرس شعور القوي بالاستعلاء، وشعور الضعيف بالإذلال!

صحيح أن هذه الظاهرة معروفة ومألوفة، وقد عبر عنها ابن خلدون بعبارته المشهورة: "إن المغلوب مولع بتقليد الغالب." لكن أية أمة لو وقفت موقف الكرامة الآدمية لجعلت عملية التدافع أخذاً وعطاءً ليس في ميدان القوة المادية وحسب، وإنما حتى في العناصر المكونة لمنظومتها القيمية. فقضية الحرية السياسية مثلاً تتضمن آليات وأدوات عملية لتحقيقها، تعمل على منع وقوع الفساد والاستبداد السياسي، وهذه الأدوات هي خبرة عملية في التنظيم والإدارة، ويمكن النظر إليها بوصفها خبرة بشرية يستطيع أي مجتمع أن يدخلها في أدواته التنظيمية مع الاحتفاظ بتميزه القيمي.

 

5/12 جلسة المنهجية: فتحي حسن ملكاوي واسماعيل الحسني ومعتز الخطيب

 

*الدكتور فتحي حسن ملكاوي تربوي وأستاذ جامعي أردني متخصص في التربية العلمية وفلسفة العلوم وهو المدير الإقليمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي ورئيس تحرير مجلة إسلامية المعرفة. قدم هذه الورقة في المؤتمر الدولي الرابع لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق المنعقد بالدوحة في 2-3 أبريل 2016.

 

 

الهوامش

 


[1] مكيافيلي، نيقولا. (ت 1527م) كتاب الأمير، ترجمة أكرم مؤمن. القاهرة: مكتبة ابن سينا للطبع والنشر والتوزيع، 2004م، من مقدمة المترجم ص 5.

[2] المرجع السابق، ص 64-65.

[3] المرجع السابق، ص 80.

[4] المرجع السابق، ص 89-90.

[5] بيكون، فرانسيس. الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة، ترجمة عادل مصطفى. القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2013، ص 9-10.

[6] المرجع السابق، ص 13.

[7] المرجع السابق، ص 76-77.

[8] المرجع السابق، ص 89.

[9] ديكارت، رينيه. تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج. الطبعة الرابعة. بيروت: منشورات عويدات، 1988م. من كلمة الإهداء التي وجهها ديكارت إلى "عمداء وعلماء الكلية اللاهوتية المقدسة في باريس".

[10] __________. مقال في المنهج: لأحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، ترجمة محمود محمد الخضري، مراجعة محمد مصطفى حلمي. الطبعة الثانية. القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1968م، ص 130-131.

[11] نيتشه، فريدريك. مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد. اللاذقية، سورية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 2008م، ص 79.

[12] فيبر، ماكس. الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقلد. بيروت: مركز الإنماء القومي، د.ت، ص 16.

[13] المرجع السابق، ص 18.

[14] المرجع السابق، ص 184.

[15] Berlin, Isaiah. and Hardy, Henry (Editor) The Power of Ideas, edited by Henry Hardy, Second edition, Princeton University Press;, 2013, p 273.

[16] “Value Pluralism”. Stanford Encyclopedia of Philosophy, First published Tue Jun 20, 2006; substantive revision Fri Jul 29, 2011 see: http://plato.stanford.edu/entries/value-pluralism/

[17] Robins, Joel. Monism, pluralism and the structure of value relations: A Dumontian contribution to the contemporary study of value, Journal of Ethnographic Theory, vol. 3, No. 1, 2013, pp. 99-115.

[18] Hierman, B. , 2007-04-12 "Value Pluralism and Radical Choice in Max Weber and Isaiah Berlin" Paper presented at the annual meeting of the Midwest Political Science Association, Palmer House Hotel, Chicago, IL Online <PDF>. 2013-12-16 from http://citation.allacademic.com/meta/p197647_index.html

[19] مسلم بن الحجاج. "صحيح مسلم"، في كتاب القدر؛ باب في الأمر بالقوة وترك العجز حديث رقم (2664).

[20] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان». انظر: مسلم بن الحجاج. "صحيح مسلم"، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، حديث رقم 58، ص 48.

[21] ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر، (ت751ه) كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نسعين، دراسة وتحقيق ناصر بن سليمان السعودي وآخرون. الطبعة الأولى. الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، 2011م.

[22] المرجع السابق، ج1، ص 246.

[23] المرجع السابق، ج3، ص 2124.

[24] المرجع السابق، ج3، ص 2190-2191.

[25] المرجع السابق، ج4، 2621- 2630.

[26] ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم. (ت 728هـ) منهاج السنة النبوية، تحقيق د. محمد رشاد سالم. الطبعة الأولى. مؤسسة قرطبة، ج6، ص72. 

[27] الشاطبي، أبو أسحق إبراهيم بن موسى. الموافقات، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان. الخبر: دار ابن عفان، 1417هـ- 1997م، ج2، ص 17.

[28] المرجع السابق، ص 300-302.

[29] هذا العدد مبني على الفهرسة التي تظهر في كتاب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، انظر: عبد الباقي، محمد فؤاد. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 2000م، ص 734.

[30] زقزوق، محمود حمدي. تمهيد للفلسفة. الطبعة الخامسة. القاهرة: دار المعارف، 1994م.

[31] Gardner, Howard. Truth, Beauty and Goodness Reframed: Educating for the Virtues of the Age of Truthiness and Twitter. Nov. 2016. Basic Books, p. 203

[32] ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني (ت: 728هـ). مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق أنور الباز وعامر الجزار. الطبعة الثالثة. دار الوفاء، 1426هـ-2005م، الجزء 28، ص 146.

[34] إسماعيل، سيف الدين عبد الفتاح. مدخل القيم، سلسلة مشروع العلاقات الدولية في الإسلام. القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م، ص 21.

[35] شلتوت، محمود. الإسلام عقيدة وشريعة. الطبعة الثامنة عشر. القاهرة: دار الشروق، 2001م، ص 9-11.

[36] Chomsky, Noam. Arts and Opinion. Vol.6, No. 6. 2007. Interviewed by Babriel Nattew Schivone.

[37] Swoinska, Agneiszka. A Critical Search for Values in George W. Bush State of the Union Addresses: from Grammar to Discourse, Peter Lang GmbH, Internationaler Verlag der Wissenchaften, August 2015, p.24.

[38] دراز، محمد عبد الله. دستور الأخلاق في القرآن: دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن، تعريب وتحقيق عبد الصبور شاهين، بيروت: مؤسسة الرسالة ودار البحوث العلمية، 1973م، ص 8.

[39] ملكاوي، فتحي حسن. "منهج محمد عبد الله دراز في التأصيل الإسلامي لعلم الأخلاق". مجلة إسلامية المعرفة. هيرندن، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 53، ص 5-10.

[40] المرجع السابق، ص 16.

[41] دراز، محمد عبد الله، دستور الأخلاق في القرآن. مرجع سابق، ص 126.

[42] المرجع السابق، ص 127.

[43] عبد الرحمن، طه. تعددية القيم: ما مداها وما حدودها؟ مراكش: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2001م، ص 48.

[44] المرجع السابق، ص 48-51.

[45] عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الطبعة الأولى. الدار البيضاء وبيروت: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص 156-170.

[46] ملكاوي، فتحي حسن. منظومة القيم العليا: التوحيد والتزكية والعمران. هيرندن، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2013م، مقدمة الكتاب، ص 12-16.

[47]  ملكاوي، فتحي حسن. منهجية التكامل المعرفي: مقدمات في المنهجية الإسلامية. الطبعة الثانية. هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016م، الفصل السابع، ص 241-290.

[48]  الدينوري، أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي (ت333هـ). المجالسة وجواهر العلم، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. البحرين: جمعية التربية الإسلامية (البحرين - أم الحصم)، وبيروت: دار ابن حزم، 1419هـ (1998م)، (10 أجزاء)، الجزء الثامن، ص 41-42.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق