النوع الجنسي: قراءة نقدية أخلاقية

مسفر بن علي القحطاني*

 

مقدمة

النظر في الفوارق البيولوجية بين الرجل والمرأة من الناحية الطبية فيه جدل علمي، ولكنه دائماً ما يحسم لفريق المثبتين بوجود فوارق بين الجنسين؛ بل أصبح العلم يتقدم فيثبت وجود فوارق في الناحية الهرمونية والجينية بينهما، وتعددت الدراسات المؤيدة بإثبات التمايز النفسي والعصبي بينهما بشكل أكبر.

هذا الحسم العلمي للفوارق بين المرأة والرجل على أساس اختلاف الطبيعة البيولوجية بينهما، لا يقابله حسم في الناحية الحقوقية والاجتماعية؛ بل الموقف الحقوقي الدولي هو إلغاء التمايز بين الجنسين على أساس النوع الوظيفي الذي يمكن أن يقدمه كل طرف بعيداً عن اختلاف الخصائص الطبيعية بينهما.

لأجل ذلك كانت فلسفة النوع الجنسي (الجندر) خروجاً من دائرة الخصوصية الجنسية للذكر والأنثى إلى أنماط جديدة تحدد النوع وفق أدوار ثقافية واجتماعية تتجاوز ثنائية المرأة والرجل، وقد تبنت عدد من المؤسسات النسوية هذه النظرية من خلال المطالبة بالمساواة المطلقة وفق نمطية الأدوار الاجتماعية التي تحددها مسارات ثقافية واتفاقات حقوقية تناهض كل سيطرة ذكورية في جميع المجالات وتفتح الأبواب لفلسفات جنسانية متنوعة تتجاوز الأدوار التقليدية للجنسين الرئيسيين (المرأة والرجل).

أمام هذا التصور، أحاول أن أقدم بعض الرؤى تجاه هذا التيار العريض من الجندريين، من الزاوية الأخلاقية، وعلى أهمية هذا الطرح إلا أنه محفوف بالكثير من المزالق الحقوقية والقانونية.

ولعلي أسجل هذه الرؤى وفق النقاط التالية:

 

أولاً: الجندر، قراءة أخلاقية

يحدد (ارفينغ غوفمان) الدور الاجتماعي للنوع الجنسي مثل الأداء على المسرح، فكل فاعل على خشبة المسرح خاضع لأداء دور قابل للتغيير ويمكن أن يلبس ويتقنّع بدور الآخر وللآخر أن يمثّل ذات الدور بالتبادل بينهما في الأشكال واللباس وغير ذلك.

هذا الأداء المختلط والمتنوع هو ما يُعتبر أحد التيارات الفكرية المؤثرة في المناقشات المعاصرة التي تتناول الجنسية والميول الجنسية.

وقد سمحت هذه المناقشات أن يتم الفصل بين الشكل البيولوجي للجنس والشكل الثقافي لنوع الجنس، وكان التنظير الثقافي لهذا الفصل أو الانتقال من دراسة التقسيمات الاجتماعية الجنسية، كما تقررت في الممارسة الرأسمالية أو الأبوية (النساء للتناسل والرجال للإنتاج) –كما يذكره عدد من الغربيين- إلى دراسة الرمزية الجنسية والهويات الجنسية، والذي ساهم في هذا التنظير الثقافي بشكل كبير المفكر الفرنسي (ميشيل فوكو).

وفوكو وإن اهتم بمجال التنظير المثالي لقبول مفاهيم الجندر أو النوع الإنساني، فإن دور (بيار بوردو) حاول تجسيد هذه المفاهيم الجنسانية من خلال اكتساب عادة جنسية تتشكل بالممارسات الاجتماعية اليومية، مثل؛ التشارك في الطعام والحديث والجلوس وارتداء الملابس، ومن ثمّ يتم تأطير مفاهيم النوع الجنسي كممارسة متجسدة يقبلها المجتمع المتردد[1].

ولنقد هذا التحول البيولوجي نحو مفهوم ثقافي يسعى للتجسّد في الواقع اليومي، اطرح بعض التعليقات من زاوية أخلاقية:

  • أهم خطأ وقعت فيه فلسفة النوع الجنساني للإنسان (الجندر) القيام بالفصل القاطع بين الإنسان وطبائعه الخَلقية البيولوجية والسيكولوجية، والفصل بين المساواة والعدالة الاجتماعية، والفصل بين المرأة والرجل على أساس الهيمنة الذكورية وليس على أساس التكامل الطبيعي بينهما، والفصل بين النظر للتنوع الجنسي كضعف وبين النظر له كقوة، أمام هذه الحالات من فصل الموصول المتراكم في ثقافات وعادات المجتمعات الإنسانية تصبح نظرية النوع الإنساني وفق تمازجات مختلفة وأجناس متشابهة وميول جنسية متقلبة؛ نوع من العبث بالطبيعة ومقامرة بالجندر غير محسوبة المآلات، ونفاق متستر تسعى له النسوية الراديكالية في مطالباتها بالمساواة المطلقة؛ بينما تخفي حاجاتها الإنسانية وميولها الطبيعية نحو الرجل الذي تبحث عنه المرأة وفق ما تحبه من طبيعته وليس وفق ما تطالبه به من تماثل.
  • هذه النظرة الجندرية هي بامتياز نظرة ما بعد حداثية، لم تعط اهتمامها للمسلمات العقلية والأنسانوية التي ساهم في تركيزها الغرب خلال حقبة التنوير الفائتة (ديكارت، هيجل، كانت؛ على سبيل المثال)، لذلك نالها على المستوى الأخلاقي: آفة التضييق والتجميد والتنقيص ، و وقعت بالتالي في أزمات ؛ أزمة في القصد وأزمة في الصدق[2].

والنظرة الجندرية بالمفهوم الما بعد حداثي لم تعل من شأن هذا التنوع الجنساني؛ بل ساعدت في انحطاطه على مستوى الممارسة والمواجهة أحياناً مع ذوق المجتمع ومسلماته الأخلاقية.

 

  • في القرن الماضي مورس على القيم الأخلاقية العتيدة التي توارثتها المجتمعات الإنسانية نقداً فلسفياً اجتثاثياً، ومنها القيم الأسرية والطبيعة الأنثوية وعادات الزواج وغيرها، ومن أشهر فلاسفة النقد القيمي، (نيتشة) في مشروعه (النقد الجينالوجي)، بحيث يتم نقدها بطريقة تخرجها عن الثبات والديمومة، وبآليات تفكيكية تعود بالقيم إلى تاريخها الماضي ومن ثمَّ تقويضها من الجذور، كما ينزع النقد الجينالوجي إلى المفاهيم القيمية بتعويمها لغوياً والدخول في مجال رمادي شديد الغموض، وهذا ما أراه واقعاً في حقل النوع الجنساني (الجندر)، ولا أظن أن العالم سيخلص من هذه العبثية إلا بمزيد من الضياع والضعف على مستوى الأخلاق والمجتمع[3].

 

ثانياً: ما بعد النسوية، والعودة للفطرية الأنسانوية

إذا ما أردنا تحقيب الحركة النسوية فإن البعض يجعلها على ثلاث حقب أو موجات، بدأت بالدعوة لإثبات حقوق المرأة ثم الدعوة لمساواتها مع الرجل بلا تمييز ثم الخروج من التحيز الأنثوي نحو مطالب متنوعة لا تختص بالجنس النسوي، ولا أظن أني توصلت إلى معنى محدد عن تلك الموجة الثالثة من الحركات النسوية أو ما تسمى بما بعد النسوية، ولكن هو تطور ونمو لمفاهيم تحاول الحركات النسوية أن تصل إليها مستعينة بأفكار التفكيك والبحث عن الهوية.

تعرّف سارة غامبل هذا المصطلح "بأنه نسق معرفي تعددي مكرس لإبطال أنماط التفكير التي ترمي إلى العمومية". لذلك نلمس توازياً بينها وبين مصطلحات ما بعد الحداثة في أحدث حلقة من حلقات التنوع في ملامح الفكر النسوي الذي يتسم بالتحول والتغير المستمر. ويعمل هذا التيار الفكري على دراسة العلاقات المثمرة مع ما بعد الحداثة عن طريق الاستعانة بنظريات الاختلاف والهوية والتفكيك، بقصد الجمع بين مختلف طرق صياغة المرأة وتشكيلها[4].

أكثر تمظهر لما بعد النسوية هو الحصول على مكانة هامة في الأمم المتحدة ونجاحها في اصدار الاتفاقيات والاعلانات الأممية التي تثبت وتدافع عن حقوق المرأة في أهم المؤسسات السياسية في العالم، ويبقى الاختلاف في مضامين ما تسعى له الحركة النسوية الأوروبية بخلاف الأمريكية، وبخلاف نساء بقية العالم، فالمفاهيم الجنسانية لا تزال في تنامي تفكيكي يتوسع ويضيق حسب جغرافياً الحركة، ومن الغريب ذكره أن تيار ما بعد النسوية يعتبر دخول نساء غير أوروبيات في حركة تحرير المرأة هو من أهم مظاهرها وشكل من تطوراتها الفكرية !!.

اليوم هناك أصوات عقلانية تقوم بجرد حساب الحركات النسوية، وتتساءل هل كان لابد من التحرر والمساواة حتى يصبح المجتمع خصوصاً الأوروبي عرضة للمهددات الديمغرافية؟!، ومرهق بمشكلات الإدمان وحمل الصغيرات وازدياد العنف في البيوت والمدارس والنوادي وأماكن العمل؟!، وكانت "أندريا ليفيسون"- رئيسة منظمة أكتيف الأوروبية غير الحكومية- قد اعتبرت أنه عندما يتعلق الأمر بالعنف ضد المرأة فإن أوروبا لا تزال قارة نامية وليست متقدمة!

وكما أن موجات الألحاد قد أعقبها موجات العودة للدين أو للروحانيات، وموجة تغول الرأسمالية أعقبها تدخل الدولة في حماية المصالح العامة، فإن موجة ما بعد النسوية ستضطرها للعودة للمسلمّات الطبيعية المتعلقة بعمود الأسرة ونَسَبية الانجاب والتمايز التكاملي بين المرأة والرجل، إنها من وجهة نظري رجوع ضروري للفطرة الإنسانية التي يُهزم كل من حاول مصادمتها، وكما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الروم:30].

إن أنسنة المرأة هنا ليست كما أرادها الجندريون، أن تكون تحت هيمنة المجتمع وثقافته التي يصنعها الرجل في الخفاء، وليست كما أرادها الطبيعيون تحت سلطة الرجل ونزعته وفق مواطنة روسو من خلال دستوريتها في العلن، بل من خلال الامتثال للطبيعة المختلفة بين المرأة والرجل واعتبارها أساساً للعمل والفرص والمهام المجتمعية، تلك الطبيعة التي تتمايز فيها المرأة عن الرجل ليس لكونها أقل منه أو أدنى رتبة منه ولكنه التوزيع الطبيعي للأدوار التكاملية بينهما فالله تعالى يقول: ﴿وَلَيــْسَ الذَّكــَرُ كَالْأُنْثــَى﴾ [آل عمران:36]. وهو القائل أيضاً وفي أكثر من موضع ﴿هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف:189] وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لّتَسْكُنُوَاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مّوَدّةً وَرَحْمَةً إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ﴾ [الروم:21]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال»[5]، فأي تكامل وترابط عضوي يجمع بينهما بلا تمييز يقصي أو يملي أروع من هذا الوصف القرآني ؟!

إن الجانب الأخلاقي في نظرته للجندر أو النوع الجنساني هو الملاذ الحامي من خطر الاستجابة لنزعة نسوية نخسر من خلالها اعتبارات بشرية هائلة لا تعوض، فالقيم وحمايتها وفق الفطرة والعقل هو العاصم من السقوط في براثن تجارة النساء، وتسليعهن أو إرخاصهن في الإعلام، أو بيع كرامتهن في الوظائف الهامشية على حساب مهام عليا لا يحسن أداؤها غير المرأة، أيضاً ستبقى القيم الأخلاقية هي المنقذ للنساء المعنّفات والمعرضات للظلم والإهانة القسرية في كثير من دول العالم.

فالميثاق الأخلاقي للمرأة لا يقل شانا وأهمية من اتفاقيات مكافحة التمييز ضدها.

 

ثالثاً: تفكيك التمييز بين الجنسين، نظرة حقوقية

يمكن أن تكون البداية لظهور مصطلح (التمييز ضد المرأة) في الواقع الحقوقي عند وضع ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م، حين نص الميثاق في مادته الأولى على احترام وتعزيز حقوق الإنسان من غير تمييز للجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الذكر والأنثى، وبعد عام تأسست لجنة المرأة عندما أُنشئ المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة والتي ساهمت بشكل مباشر في وضع وصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م، والذي نصت المادة الثانية فيه على منع التمييز بين البشر في مجالات عديدة كان الجنس أحدها، ثم تكرر هذا المصطلح في عدد من الوثائق وأصبح يعني التساوي التام بين المرأة والرجل، كان أهمها إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة عام 1967م، وكان هناك شبه اتفاق على نفي التمييز وتحقيق التساوي التام بين المرأة والرجل في القوانين والأعراف، خلال هذه الفترة زاد النشاط النسوي في الأمم المتحدة وأصبحت برامجها أكثر عالمية عندما أعلن عام 1975م سنة دولية للمرأة، وعقد أول مؤتمر دولي في المكسيك في ذات العام أعلن في ذات المؤتمر عن "عقد الأمم المتحدة للمرأة" والذي يبدأ من عام 1976-1985م، خلاله اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية القضاء على مكافحة كافة أشكال التمييز ضد المرأة 1979م المتعارف عليها بالسيداو.

ولا يزال مصطلح التمييز يكتسب العالمية والصفة القانونية الملزمة من خلال أكثر من ثلاثة عقود والمصطلح يتبلور حول نفي كافة أشكال التمايز بين المرأة والرجل.

أما المعنى المتقرر قانونياً وحقوقياً لمصطلح التمييز ضد المرأة فقد نصت المادة الأولى من اتفاقية مكافحة التمييز ضد المرأة على بيان المعنى المراد للمصطلح، وهو: “لأغراض هذه الاتفاقية يعنى مصطلح "التمييز ضد المرأة" أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه، توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل".

وهذا المعنى الذي اختارته الاتفاقية، هو مقصود ودقيق لمراد واضعيه من خلال ما يلي:

أولاً: أن الاتفاقية قد بدأت به وجعلته أساس فهم المواد والحقوق الواردة بالاتفاقية، ما يعني أنه مقصود لذاته ومبني على سلسلة من الاتفاقيات والاعلانات الحقوقية والعالمية السابقة، ويعتبر المرجع النهائي في تفسير بنودها، بل أن المواد التي تلت مادة التعريف زادت من بيان المقصود، خصوصاً المادة الثانية التي أوضحت المراد من مصطلح المساواة في الاتفاقية.

ثانياً: أن أغلب المراجع التي رجعت إليها كانت تؤكد أن المادة الأولى هي التفسير القانوني للاتفاقية والمقصود بالتمييز، ويكتفى بهذا المعنى دون التدخل في تأويله أو توضيح قانوني يتجاوز ما جاء في التعريف.

ثالثاً: أن المؤتمرات المتعاقبة بعد السيداو كانت لا تختلف في مفهوم التمييز بل أدخلت مفهوم آخر متعلق بالجندر وهو الأنماط النوعية للجنس ما يسمح بدخول الشواذ والمطالبة بنفس الحقوق، فمنذ 1985م الذي عقد في نيروبي بكينيا، لاستعراض وتقويم منجزات (عقد الأمم المتحدة للمرأة)، ثم في 1994م عندما عقد المؤتمر الدولي الثالث للإسكان والتنمية في القاهرة، وآثار الحرية الجنسية والتغيير النوعي للجنس وقانونية الإجهاض، ثم جاء عام 1995م حيث عقد المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين، وبعده جاء مؤتمر بكين +5 عام 2000م في نيويورك، ثم بكين +10 وبكين +15، كل هذه المؤتمرات لم تقيد المعنى أو تختلف في تفسيره.

رابعاً: إن محاضر جلسات المتابعة للاتفاقية كانت تنتقد الدول الأعضاء خصوصاً الإسلامية في قضايا التمييز وعدم المساواة المطلقة مع الرجل كانتقادهم للتعدد والإرث والقوامة وغيرها، ما يعني أن التطبيق كان واضحاً في تفسير المراد بالتمييز أنه شكل لكل صور التفريق والاستبعاد والتقييد المطلق للمرأة في مقابل الرجل.

وأحب أن أسجل بعض الملاحظات في هذا المقام:

أولاً: عملت مقارنة بين السيداو واتفاقية مكافحة التمييز ضد العنصرية، ووجدت أن الأخيرة أكثر تفصيلاً في بين المقصود، واحتراماً لسيادة الدول وأنظمتها المحلية، وجاءت لرفع الظلم أكثر من أن تمرر معها أجندة أيديولوجية كما هو الحال في السيداو. وإليكم نص الاتفاقية في موادها الأولى:

  • 1. "في هذه الاتفاقية، يقصد بتعبير "التمييز العنصري" أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفصيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، علي قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة.
  • 2. لا تسري هذه الاتفاقية على أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل بين المواطنين وغير المواطنين من جانب أية دولة طرف فيها.
  • 3. يحظر تفسير أي حكم من أحكام هذه الاتفاقية بما ينطوي على أي مساس بالأحكام القانونية السارية في الدول الأطراف فيما يتعلق بالجنسية أو المواطنة أو التجنس، شرط خلو هذه الأحكام من أي تمييز ضد أي جنسية معينة.
  • 4. لا تعتبر من قبيل التمييز العنصري أية تدابير خاصة يكون الغرض الوحيد من اتخاذها تأمين التقدم الكافي لبعض الجماعات العرقية أو الإثنية المحتاجة أو لبعض الأفراد المحتاجين إلى الحماية التي قد تكون لازمة لتلك الجماعات وهؤلاء الأفراد لتضمن لها ولهم المساواة في التمتع بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو ممارساتها، شرط عدم تأدية تلك التدابير، كنتيجة لذلك، إلى إدامة قيام حقوق منفصلة تختلف باختلاف الجماعات العرقية، وشرط عدم استمرارها بعد بلوغ الأهداف التي اتخذت من أجلها." فهذه الاتفاقية من أهم المواثيق الحقوقية ومع أهميتها تركت هامشاً من السيادة والتطبيق للدول الأعضاء، وهذا ما يتنافى مع اتفاقية السيداو المصادرة لأي توجه آخر في البيان أو التوضيح.

ثانياً: المصطلحات الواردة في اتفاقية السيداو مرادةٌ لذاتها، وتهدف إلى معاني خاصة غير التي تعارف عليها العالم من خلال ثقافته وأديانه وأعرافه. ومن ذلك على سبيل المثال: استخدام مصطلح (الأدوار النمطية أو التقليدية) بدلاً عن مصطلح (الأدوار الفطرية أو الطبيعية)، فاكتسب المصطلح صبغة سلبية أدت إلى سهولة تمرير البنود التي طالبت بالقضاء على تلك (الأدوار النمطية) من خلال مفهوم مغاير لمقتضيات الطبيعة الفطرية للمرأة ونصت كذلك على تغيير المفهوم التقليدي للرجل وعلاقته بالمرأة والأسرة. وهذا يعني أن التوجه الداعم لهذه الاتفاقية ليست الليبرالية المعروفة باحترامها للمرأة الأم ودورها التربوي والأسري واختلافها الفسيولوجي عن الرجل؛ بل الليبرالية الراديكالية المتطرفة في موقفها حول العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال تكرار مفهوم Women Empowerment والذي يترجم بتمكين المرأة بينما معناه هو تقوية المرأة أو مقاومتها للهيمنة الذكورية على أساس الخلاف البيولوجي والصراع الذي تذكيه الحركة النسوية المتطرفة.

ثالثاً: وجدت أن المخالفات الإسلامية في هذه الاتفاقية كثيرة وصريحة وبعضها ليس صريح في المخالفة ويمكن تأويله، وبعضها مقبول من حيث الجملة، ولكن المهم هنا هو ما يتعلق بالمواد المخالفة للثقافات والأديان والأعراف المحترمة، فهذه يجب التحفظ عليها كحق مشروع للدول الأعضاء، فهناك دول كثيرة تتحفظ على بنودها المخالفة للثقافات والأديان ولميثاق الأمم المتحدة، ومن الإعلانات المرجعية المهمة في فهم وتفسير الاتفاقيات الدولية، ما يطلق عليه "إعلان وبرنامج عمل فيينا" الذي صدر عن المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المعقود في فينا خلال الفترة من 14 إلى 25 يونيو 1993م. حيث النص في المادة الأولى في الفقرة الخامسة منه، أن: “جميع حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة، ويجب على المجتمع الدولي أن يعامل حقوق الإنسان على نحو شامل وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة، وبنفس القدر من التركيز. وفي حين أنه يجب أن توضع في الاعتبار أهمية الخاصيات الوطنية والإقليمية ومختلف الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية، فإن من واجب الدول، بصرف النظر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية، تعزيز وحماية جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية. “فاتفاقية السيداو بخلاف سائر الاتفاقيات الحقوقية الأخرى لم تراع طبيعة الاختلافات والتعدديات التي توارثتها الأمم والشعوب عبر تاريخها الغابر في القدم.

فمثلاً تركيا سجلت تحفظاً واحداً حول الفقرة الأولى من المادة 29 فحسب، وبذلك يظهر لنا هذا البلد الاسلامي أن قراءته لمسألة إلغاء التمييز لا تتعارض مع قوانين البلاد ولا مع مقومات ثقافته وخصوصياته. بينما النموذج الباكستاني: فلم تتحفظ هي الأخرى سوى على الفقرة الأولى من المادة 29: والتي تتعلق بإمكانية خضوع البلد المصادق لمحاسبة بلد مصادق ثان ولمساءلة قانونية دولية، وهي بذلك فقرة تضعف من سيادة البلد الممضي على اتفاقية السيداو. لذلك جاء التحفظ عليها من أكثر من بلد حتى خارج الدائرة العربية الإسلامية.

وإذا أخذنا النموذج الإسباني: كدولة أوروبية غير عربية وغير مسلمة فإن إسبانيا لم تتحفظ على أية مادة من مواد الاتفاقية لكنها تملي شرطاً واحداً جوهرياً وهو ألا تمسّ هذه المواد من التاج الملكي.

والتحفظات على بعض مواد أي اتفاقية من الاتفاقيات هي من حق أي دولة في العالم، ولكن بشروط، جاءت مفسّرة في إعلان فيينا لقانون المعاهدات حيث نصت المادة (19) على ما يلي: “للدولة، لدى توقيع معاهدة ما أو التصديق عليها أو قبولها أو إقرارها أو الانضمام إليها، أن تبدي تحفظاً، إلا إذا: (أ) حظرت المعاهدة هذا التحفظ؛ أو (ب) نصت المعاهدة على أنه لا يجوز أن توضع إلا تحفظات محددة ليس من بينها التحفظ المعني؛ أو (ج) أن يكون التحفظ، في غير الحالات التي تنص عليها الفقرتان الفرعيتان (أ) و(ب)، منافياً لموضوع المعاهدة وغرضها".

 

خاتمة

وبناءً على ما سبق فإن للمرأة حقوقاً وعليها واجبات، وكذا الرجل، والتكامل بينهما يؤدي إلى استقرار مجتمعي يثمر علاقة منتجة وجيلاً واعياً محافظاً على قيم وأخلاقيات الأسرة المطمئنة، وما جاء في اتفاقيات المرأة حول ضرورة نبذ التمييز ضدها، يجب أن يُتناول وفق الطبيعة الفطرية التي منحتها حق الولادة والانجاب ما شكّل في تكوينها العديد من الخصائص والصفات الخلقية والنفسية المغايرة للرجل، والتسوية المطلقة بين الرجل والمرأة على خلاف هذا الأساس الطبيعي، ينذر بكوارث أخلاقية وظواهر سلبية ستكون المرأة أول من يجني ثمارها السلبية، لهذا كان من المهم أن تعزز حقوق المرأة وتمكّن من مجالاتها المؤثرة في المجتمع دون أن نضطرها لتجاوز طبيعتها ومحاربة تكوينها الفطري، أو أن تصادم دينها المقدس أو ثقافتها المتوارثة مالم تكن شكلاً من أشكال الانتهاك لحقوقها المقررة والمعروفة.

 

الهوامش

 


* الدكتور مسفر بن علي القحطاني أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، المملكة العربية السعودية. قدم هذه الورقة في المؤتمر الدولي الثالث لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق المنعقد ببروكسيل، بلجيكا في 14-15 مارس 2015.


 

[1] انظر: سكوت، جون. علم الاجتماع المفاهيم الأساسية. الطبعة الأولى. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009م، ص 397 – 404.

[2] انظر: عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق. مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. المركز الثقافي العربي، طبعة عام 2000م، ص 94، 82-88.

[3] انظر: بلكفيف، سمير. الفلسفات الألمانية والفتوحات النقدية. الطبعة الأولى. دار جداول، 2014م، مبحث نيتشة والنقد الجينالوجي لمولودي عزديني ص 117- 152.

[4] انظر: بدوية، ناهد. "النسوية الثالثة التعددية والاختلاف وتغيير العالم". صحيفة الحوار المتمدن، 29 مايو 2013م.

[5] رواه أحمد برقم: 5869، والترمذي وحسنه برقم: 105.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق