البعد الثقافي في الأزمة البيئية: المشكلة والعلاج

عبد المجيد النجّار*

 

تمهيد

أصبحت مشكلة البيئة منذ بعض الزمن من أعوص المشكلات التي تؤرّق حياة الإنسان، إذ هي لو تمادت في تصاعدها لاعتبرت بحقّ نذيراً لدمار الأرض وفناء الحياة؛ ولذلك فإنّه من الأولويات المطلقة للإنسان في هذا الزمن من أجل  أن يتحمّل مسؤولية استمراره في الوجود على الأرض وجوداً سعيداً مثمراً، أن يضطلع في نطاق تلك المسؤولية بالتفكير الجادّ في حلّ هذه المشكلة على مختلف الأصعدة الفلسفية والقانونية والسياسية والفنّية التكنولوجية، وإذا لم يستشعر جسامة تلك المسؤولية، ويجنّد طاقاته لحلّ أزمة البيئة فإنّه وشيكاً سيلفّه الفناء: غرقاً في مياه البحر الزاحفة، واختناقاً بالهواء المسموم، واحتراقاً بأشعّة الشمس الخارقة للأوزون الحارقة للأجسام، وسوف لن يقبل منه التاريخ عذراً نظير عذر الديناصورات الفانية؛ إذ هي لم تكن سبباً في الأزمة البيئيّة التي أفنتها، ولم تكن قادرة على تلافيها، وهو كان سبباً في فنائه، وقادراً على تلافيه بحكم مسؤوليته العقلية والإرادية.

وإذا كان الإنسان منذ بعض العقود من الزمن بدأ يستشعر فداحة الأزمة البيئيّة المحدقة به، وبدأ يتحمّل بعض مسؤوليته إزاءها، إلاّ أنّنا نراه يهمل من أبعاد تلك المسؤولية البعد الأهمّ منها، وهو البعد الثقافي فيها، فالمؤتمرات البيئيّة التي تعقد في هذا الشأن، والبحوث والدراسات التي تنجز بخصوصه، والجهود التي تبذل من أجله، وأوجه التعاون التي تقوم بين الناس في أمره، تتّجه في أغلبها إلى الأبعاد القانونية والسياسية والتكنولوجية، ولا تولي الاهتمام بالبعد الثقافي إلاّ قليلاً، والحال أنّ ذلك البعد المهمل هو أهمّ الأبعاد في أزمة البيئة جميعاً، وأحسب أنّه هو العنصر الأكبر المحدّد للنجاح في تلافي هذه الأزمة أو الفشل فيه.

وتعاليم الدين الإسلامي ذات العلاقة بالبيئة جاءت تعاليم ضافية في بيانها، عميقة في طرحها، وهي لم تكتف بالأحكام الشرعية ذات البعد السلوكي في التعامل مع البيئة، ولكنها ضربت في أصل الإيمان بحقيقة البيئة وبقيمتها وبعلاقة الإنسان بها، فكونت بذلك أصولاً عقدية وأخلاقية من شأنها أن تشكّل العقول على ثقافة بيئية راسخة، تعصم من المصير إلى مثل هذه الأزمة الراهنة التي تهدد العالم، وأحسب أنّ هذه الثقافة البيئية الإسلامية يمكن أن يتقدّم بها المسلمون اليوم للإسهام في علاج هذه الأزمة.

 

أولاً: البعد الثقافي في الأزمة البيئية

إنّ أزمة البيئة لم تنشأ أزمةً على هذا النحو من الخطر المنذر بالدمار إلاّ بسبب ثقافي، وبالتالي فإنّ العنصر الثقافي هو الذي ينبغي أن يكون السلاح الأكبر في مواجهتها، للعود على تراكماتها ومضاعفاتها بالنقض أوّلا بأوّل، وإلاّ فإنّ كلّ الجهود المبذولة قد لا يكون لها أثر ذو بال في معركة الإنسان مع أزمة البيئة، إذ لو لم يقع علاجها من هذا المنطلق الثقافي فسوف تستمرّ في إنتاج نفسها فلا تكون لها نهاية.

ولا شكّ أن الأزمة البيئيّة التي أصبحت اليوم معلومة المظاهر والأبعاد للقاصي والداني من الناس هي أزمة وإن عمّت الأرض كلّها، ومسّت بحرّها الناس جميعاً: الفقراء والأغنياء، والمتحضّرين والمتخلّفين، وأهل الشمال وأهل الجنوب، فإنّها في منشئها ومضاعفاتها ليست إلاّ من صناعة الحضارة الغربية الحديثة التي أنتجتها النهضة الأوروبية منذ بضعة قرون، ثمّ امتدّت إلى العالم الجديد، ثمّ كانت لها الغلبة بحلوها ومرّها على العالم بأسره.

وإذا بدا في الظاهر أنّ هذه الأزمة البيئيّة هي إفراز للتقدّم الصناعي والزراعي والعمراني العظيم الذي أفرزته الحضارة الغربية، فوفّر للإنسان الرفاه المادّي المشهود، فإنّها تضرب في أسبابها الحقيقية بجذور عميقة في المرجعية الثقافية الأخلاقية التي أنشأت تلك الحضارة ووجّهتها، حتى ألقت بها في أتون الأزمة البيئية الراهنة. ويمكن أن نذكر من ذلك بعض القضايا البيئية في تلك المرجعية مثل: حقيقة البيئة المادية بين الواقع والخيال، وبين البعد الروحي والبعد الحسي، وقيمة المادة البيئية بين الرفعة والخسّة، وعلاقة الإنسان بالبيئة بين العداوة والصداقة، لندرك ما للتصورات الثقافية الفلسفية لهذه القضايا من أثر على السلوك البيئي الذي نتجت عنه الأزمة البيئية الراهنة.

 

1. حقيقة المادّة البيئية

فيما يتعلق بحققية المادة البيئية نجد أنّ الفكر الفلسفي الغربي يقوم على تمثّل ذهني للطّبيعة تتشكّل فيه كثير من عناصر الحقيقة المادّية للطّبيعة البيئيّة من صناعة العقل الإنساني، فإذا صورة هذه الحقيقة كما تحصل في الذّهن لا يساويها في الخارج وجود واقعي، وذلك لتدخّل العقل في صناعة الصّورة الذّهنية بإضفائه عناصر من ذاته عليها، ولا شكّ أنّ ذلك الفارق بين الصّورة الذّهنية للطّبيعة وبين الوجود الواقعي لها سيكون له أثر بالغ في التّعامل السّلوكي إزاء البيئة كما سنبيّنه بعد حين.

ويمكن أن يُعاد بهذا المنزع الذّهني في التّصوّر الثّقافي للبيئة في الفلسفة الغربية إلى عهد الفلسفة اليونانية ذات الأثر فيها، فقد كان برمنيدس يصوّر الوجود البيئيّ المادي على أنّه وهم، ويجعل الوجود الحقيقي وجوداً آخر هو الوجود الذي يكشف لنا عنه العقل[1]. ثمّ جاء أفلاطون وطوّر هذا المنزع إلى ما عرف عنه في نظرية المثل التي يعتبر فيها الموجودات التي نراها في هذا العالم ليست موجودات حقيقية وإنّما هي مجرّد ظلال وأشباح للوجود الحقّ الكائن في عالم المثل، فكلّ ما نراه فيما يحيط بنا في البيئة التي نعيش فيها هو ظلال كأنّما نراها في قعر كهف منعكسة عن ذواتها الحقيقيّة الموجودة خارجه ولكنّنا لا نراها في ذواتها، وإذن فإنّنا نتعامل مع موجودات بيئية موهومة ليس لها وجود حقيقيّ في الواقع الذي نعيشه[2].

وقد كان لهذا المنزع المثالي صدى مهمّ في الفلسفة الحديثة اختلفت درجاته وألوانه، ولكنّه يمثّل بدون شكّ ملمحاً مهمّا من ملامح هذه الفلسفة في مجملها. ولعلّ النّقطة القصوى في مثالية الفلسفة الحديثة تتمثّل فيما ذهب إليه الفيلسوف الإيرلندي باركلي ( Berkeley George ت 1753 ) من أنّ ما نحسبه وجوداً واقعياً في بيئتنا وفي العالم كلّه ليس له وجود واقعي في الحقيقة، وإنّما هو مجرّد انعكاس لما في عقولنا، ومن أقواله في ذلك: "لا وجود بالمعنى الضّيّق للكلمة إلاّ لأشخاص، أي لأشياء واعية، أمّا الأشياء الأخرى فوجودها لا يعدو أن يكون نوعاً من وجود الأشخاص"[3].

وإذا تجاوزنا هذا المنزع المتطرّف في نفي الوجود الواقعي للبيئة فإنّنا نجد ديكارت وهو أبو الفلسفة الحديثة تتّصف مجمل فلسفته بالتّصوّريّة التي لا تحظى فيها الموجودات البيئية إلاّ بقدر محدود من معنى الوجود الواقعي، فوجود هذه الموجودات أساساً هو وجود منبثق عن الوجود الفكري للإنسان كما تضمّنته عبارته الشّهيرة "أنا أفكّر إذن أنا موجود" فاليقين بوجود الأشياء المادّية البيئية إنّما هو رهين اليقين بوجود الذّات المفكّرة، فهذه إذن أقوى يقيناً في وجودها من وجود تلك. ثمّ إنّ هذا الوجود البيئي الخارجي الذي اعترف به ديكارت ليس متّصفاً إلاّ بخاصّية الامتداد الكمّي، أمّا كلّ الخواصّ الأخرى من ضوء ولون وصوت ورائحة وطعم وحرارة فهي ليست إلاّ انفعالات ذاتية صادرة من ذات المدرك وليس لها في الواقع مصداق، فالواقع المادّي الخارجي وخاصّة في صفاته الكيفيّة "لم يكن ديكارت قد آمن به إلاّ بمخالفته للمبدأ التّصوّري، ولم يؤمن به إلاّ هزيلاً ضئيلاً"[4].

لقد تأثّر الفلاسفة بعد ديكارت بنظرته هذه إلى حقيقة الوجود المادّي للعالم البيئي، فسرت موجة من إنكار العالم الخارجي في بعديه الكمّي والكيفي، إمّا إنكاراً يكاد يكون كلّيّاً كما تقدّم في مذهب باركلي، أو جزئيّاً كما تردّد عند الكثير من مشاهير الفلاسفة الموجّهين لتيّارات الفلسفة الحديثة، ففرانسيس بيكون (Bacon Francis  ت 1626م ) من قبل ديكارت يرى أنّ العقل "في نقل انطباعاته يخلط بين طبيعته الخاصّة وطبيعة الأشياء"[5]، وهيقل ( Hegel George ت 1831م ) يذهب إلى أنّ العقل هو الذي يخلق الواقع ويخلق العالم ويخلق الحقيقة[6]، وألبير كامو ( Camus Alber ت 1960م ) يوافق سارتر (Sartre Jean Paul  ت 1980م ) فيذهب إلى القول بأنّ "كلّ شيء يبدأ بالوعي، ولا شيء يساوي شيئاً من دونه"[7].

ويركّز ديفد هيوم ( Hume David ت 1776 م ) في هذا النّفي للواقع على البعد الكيفي للوجود البيئيّ، وذلك ما يتبيّن في هجومه الإنكاري العنيف على فكرة العلّيّة كعلاقة واقعية بين الموجودات ليشرحها على أنّها إنتاج عقلي وهي في الواقع لا تعدو أن تكون مجرّد عادة بين العلّة والمعلول. ويذهب كانط ( Kant Immanuel ت 1804م ) بهذا النّفي للكيف البيئيّ إلى ماهو أبعد من ذلك إذ يعتبر أنّ القوانين العلمية الضّابطة للكيف البيئيّ لاوجود لها في الطّبيعة وإنّما وجودها فقط في بنية العقل البشري، ويقول في ذلك: "الفكر لا يستمدّ قوانينه من الطّبيعة ولكنّه يفرضها عليها"[8]. وهكذا ينتهي الأمر بالفلسفة الغربية الحديثة التي وجّهت الحضارة الرّاهنة إلى أن رسمت صورة للوجود المادّي للبيئة تنزع منزع التّصوّريّة الذّهنيّة التي تستنقص من اوجوده الخارجي حتى تكاد تلغيه وذلك في مقابل التّصوّر الثّقافي الإسلامي الذي يجعل من الوجود البيئيّ وجوداً واقعيّاً مستقلاً في جملته وتفاصيله عن الذّات الإنسانية المدركة ممّا سيكون له بالغ الأثر في السّلوك البيئيّ كما سنبيّنه.

 

2. قيمة المادّة البيئية

فيما يتعلق بقيمة المادة نجد في الفكر الفلسفي الغربي أفكاراً في خصوص خيرية البيئة وكفايتها ذات علاقة وطيدة بالأزمة القائمة، ففي الثّقافة اليونانية وكذلك في الثّقافة الغنوصية الشّرقية تُعتبر المادّة التي تتشكّل منها البيئة موسومة بالخسّة والدّونية في أصلها، وذلك في مقابل الموجودات العقلية الرّوحية الموسومة بالسّموّ والرّفعة، فمادّة الطّبيعة هي السّجن الذي حلّت فيه الرّوح الإنسانية بعد وجودها في عالم حرّ مطلق، وهذا السّجن هو الذي يمنع الرّوح من الانطلاق لتعود إلى عالمها الحرّ وتحقّق سعادتها. وقد كان يروج في تلك الثّقافات أنّ مفردات البيئة من طيور ودوابّ وزواحف وديدان وأحياء بحرية إنّما كان وجودها خطيئة للنّفوس الشّرّيرة التي تولد ثانية حالّة في هذه الحيوانات عقاباً لها على شرّها متدرّجة فيها نزولاً بحسب  قوّة ما تقترف من ذلك الشّرّ، وذلك فيما يُعرف بفكرة التّناسخ التي تُعتبر فيها موجودات البيئة لعنة للإنسان على ما يكسب من خطيئة، فهي إذن موسومة بالخسّة معاملة بالمقت[9].

وفي ثقافة العهد القديم وكذلك العهد الجديد تُعتبر الأرض ملعونة بسبب خطيئة آدم في الأكل من الشّجرة المحرّمة، وهي لذلك تنبت للإنسان الشّوك والحسك، ولا يأكل منها إلاّ بالتّعب كلّ أيّام حياته، واللّه سيخلق للطّائعين أرضاً جديدة لينسيهم بها هذه الأرض الملعونة، فلا يبقى لها عندهم ذكر، ولا تبقى تخطر لهم على بال، والأرض إنّما هي رمز للبيئة كلّها بجميع مكوّناتها، فهي موسومة بالخسّة أيضاً كما في عقيدة التّناسخ، إذ هي مثلها لعنة بسبب خطيئة الإنسان[10].

وبالرّغم من أنّ الفلسفة الحديثة هي فلسفة مادّية في صبغتها العامّة إلاّ أنّها لا تخلو أيضاً من معنى دونية المادّة التي تسري على مظاهرها المختلفة من المكوّنات البيئيّة، فالنّزعة المثالية التي تجعل الوجود العقلي هو أصل الوجود المادّي تجعل من البيئة المادّية تابعاً قليل الشّأن، وقد تبلغ به قلّة الشّأن إلى درجة الانعدام في الواقع الخارجي كما رأيناه عند باركلي. وتفقد البيئة الطّبيعيّة أيضاً القدر الكبير من قيمتها حينما تفقد بعدها الرّوحي، فلا يكون فيها مجلًى لوجود أعلى، ولا مظهر لجمال حقيقي واقعي كما بيّنّاه سابقا، إنّها تكون إذن مجرّد امتداد مادّي متجهّم قاحل متّصف بقدر من الدّونية بالنّسبة للوجود العقلي الثّريّ الخصب. وتنزع بعض التّيّارات الفلسفيّة الحديثة منزعاً تعتبر فيه العالم الطّبيعي كلّه عالماً متّصفا بالغرابة والوحشة فلا يكون به أنس، وبالعبثية في سيرته فلا يُدرك له معنى، وهو ما عبّر عنه ألبير كامو في قوله: "إنّ ما يتّصف به العالم من تبلّد وغرابة هو العبث بعينه"[11].

وممّا يمكن أن يُعتبر مندرجاً في التّصوّر الاستنقاصي للبيئة ما تقوم عليه الفلسفة الحديثة في وجهها الاقتصادي بالأخصّ من فكرة افتقار البيئة إلى الكفاية في إعالة الحياة، وذلك فيما يُعرف بنظرية النّدرة في الموارد الطّبيعيّة، فالمقدّرات البيئيّة التي من شأنها حفظ الحياة الإنسانية وتطويرها في هذا التّصوّر تتّصف بالقلّة بل بالنّدرة، وذلك معناه أنّه سيأتي على الإنسان يوم تنفد فيه تلك المقدّرات جرّاء الاستهلاك المتكاثر المستديم، فيكون إذن وجوده عرضة لخطر الفناء، إنّها إذن بيئة وجد الإنسان نفسه فيها وهي غير مشتملة بما يكفي على مقوّمات ذلك الوجود، وغير متوفّرة على ما يحفظ الحياة وينمّيها إلى أعلى درجاتها التي يتوق إليها الإنسان، فأيّ قيمة إذن لهذه البيئة العاطلة عن توفير شروط الحياة، الملقية بالإنسان في يوم مّا من حياته إلى أبواب الفناء حينما تنفد منها مقوّمات الحياة بنفاد مواردها؟ إنّها إذن منازع بيّنة الملامح في الفكر الفلسفي الحديث، بعضها منحدر من نظريات قديمة، وبعضها ناشئ من تفكير جديد، وتلتقي كلّها عند معنى للوجود المادّي البيئي تكون فيه البيئة موسومة بالدّونية والخسّة وضآلة الشّأن على اختلاف الصّور والتّعابير في ذلك.

 

3. البعد الروحي الجمالي في البيئة

السمت الغالب على الثقافة الغربية ـ مع استثناءات لا تؤثّر في ذلك السمت العامّ ـ لا مكان فيه لبعد روحي في المادّة البيئية، فهذه المادّة ذات بعد حسّي صرف لا دلالة فيها على وجود غيبي له علاقة بالروح الإنسانية، إذ هي التي أوجدت نفسها بنفسها، وهي التي تدبّر أمر نفسها في سيرورتها، نفياً في ذلك لكلّ عالم ذي طبيعة روحية يمكن أن تكون له صلة بالعالم البيئي.

وكذلك الأمر فيما يتعلق بالبعد الجمالي في البيئة المادية، فهذا البعد تعتريه في الثقافة الغربية مسحة عامّة من الاستنقاص الذي قد يبلغ درجة الإنكار، ولا تؤثّر في ذلك كثيراً المنازع الرومانسية التي قد تبرز في هذا لزمن أو ذاك وعند هذا الفيلسوف أو ذاك، فحينما يقرأ القارئ العهدين القديم والجديد فيما يتعلّق منهما بالبيئة الطّبيعيّة فإنّه يخرج من قراءته بانطباع عامّ لا يجد فيه لهذه البيئة بعداً جمالياً كجزء من حقيقتها، بل على العكس من ذلك ربّما خرج بصورة عنها هي أقرب إلى القبح والتّجهّم منها إلى اللّطف والجمال، فالأرض مقترنة باللّعنة بسبب خطيئة آدم في الأكل من شجرتها المحرّمة، وهي وما عليها من الموجودات البيئيّة أداة تخويف ووعيد للمخطئين من النّاس، وهي وما عليها أيضاً قد تسبّبت في تعب الإله وإعيائه بعد خلقها، فأيّ موقع للجمال يكون إذن في هذه الصّورة القاتمة للأرض وما عليها من عناصر بييئّة؟.

والفلسفة اليونانية قام شقّ منها على اعتبار أنّ الجمال الطّبيعي ليس جمالاً حقيقياً، وإنّما هو مجرّد ظلّ متّصف بالدّونية لجمال حقيقيّ هو الجمال الموجود في عالم المثل، وعلى ذلك فإنّ أيّ شيء في البيئة يُرى جميلاً فإنّ جماله ليس إلاّ ضرباً من الوهم الذي يقع في النّفس، إذ حقيقته الجمالية لا وجود لها إلاّ في عالم المثل التي تستقرّ فيه الأشياء كلّها على وجه الحقيقة الواقعية، فأيّ جمال إذن في بيئة طبيعيّة هي نفسها ليس لها وجود حقيقي؟ إنّ هذا المعنى هو الذي تتضمّنه نظرية أفلاطون المثالية وامتداداتها الظّاهرة والخفيّة في الثّقافة اليونانية، وهو معنى لا يكون فيه الجمال قيمة أصيلة في ذات البيئة الطّبيعيّة، وإنّما هو ظلّ موهوم للجمال بالذّات القائم في عالم المثال.

وقد قامت الفلسفة الحديثة التي عليها انبنت الحضارة الرّاهنة على معنى للجمال في الطّبيعة اعتُبر فيه قيمة يضفيها الإنسان عليها وليست حقيقة موضوعية متأصّلة فيها نابعة من ذاتها، فقد كان ديكارت ( Descartes ) وهو أبو الفلسفة الحديثة يعتبر أنّ الجميل والبهيج لا يدلّ على أكثر من موقفنا في الحكم على الشّيء المتَكلَّم عنه، كما كان سبينوزا ( Spinoza ) يعتبر أنّ الجمال ليس صفة في الشّيء المنظور بقدر ما هو الأثر الحاصل منه في النّفس، وقد أحدث هذان الفيلسوفان تيّاراً قويّاً بهذا المفهوم للجمال أثّر تأثيراً بالغاً في مجمل الفلسفة الحديثة، وعلى الرّغم من أنّ مفهوماً جديداً نشأ منذ عقود يعتبر الجمال حقيقة موضوعية في الطّبيعة المشاهدة إلاّ أنّ المفهوم الدّيكارتي للجمال ما تزال له صولة في عموم الفكر الفلسفي الحديث، وهو مفهوم يجعل الجمال المشاهَد في البيئة الطّبيعية مجرّد انطباع ذاتي للمشاهِد لا مصداق له في الواقع، أي أنّ البيئة في ذاتها لا تنطوي على شيء من الجمال.

وفيما يتعلّق بتوجيه القيمة الجمالية في البيئة نرى الغالب من الثّقافات لا تولي اهتماماً لترشيد الإحساس الجمالي في الإنسان، بحيث يكون جمال البيئة الطّبيعيّة عامل سموّ روحي ينعكس إيجاباً على السّلوك البيئي، وإنّما يُرسل في الغالب إرسالاً لينتهي في كثير من الأحيان إلى إثارة للغرائز الحسّية في الإنسان تنتهي إلى الإغراق في الاستهلاك المادّي لإشباع تلك الغرائز دون أن يكون له أثر يذكر في تغذية الرّوح بتوجيه ذلك الإحساس وجهةَ السّموّ إلى الآفاق العليا التي يتوق إليها الإنسان.

ولعلّ من أوضح الأمثلة على ذلك ما يُلحظ في الثّقافة الرومانية من نزوع الفنّ في التعبير عن جمال الطّبيعة إلى إبراز القوّة العضلية في الحيوان والإنسان، وإبراز القوّة الجنسية فيهما أيضاً كما يبرز ذلك في المأثور من تلك التّماثيل المجسّمة للعضلات المفتولة وللأعضاء الجنسية. وفي الحضارة الرّاهنة يُوجّه الفنّ في التّعبير عن الجمال توجيها بيّنا في شطر كبير منه إلى إشباع الغرائز بالمزيد من الاستهلاك المادّي لمقدّرات البيئة كما يبدو جليّاً في صناعة الإشهار النّافقة التي تبرز الجمال في الإنسان وفي مظاهر الطّبيعة دفعاً للمضيّ في طريق المتعة الحسّيّة دون أن يكون للمتعة الرّوحية في ذلك حساب يذكر.

 

4. علاقة الإنسان بالبيئة

فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالبيئة كان في الثّقافات الغنوصية الشّرقية وفي الثّقافة اليونانية خطّ بيّن يفصل بين الوجود الإنساني وبين الوجود الطّبيعي البيئيّ لا يسمح بتصوّر وحدة تقوم بينهما، ففي هذه الثّقافات يُعتبر الإنسان على وجه الحقيقة هو تلك الرّوح التي هبطت من عالم المثل فحلّت في الجسم المادّي حلول الغريب في سجن مقيت، ويكون كلّ همّه أن ينعتق من ذلك السّجن المادّي المتمثّل في البيئة الطّبيعيّة التي ليس جسم الإنسان إلاّ واحداً من مفرداتها، فهناك إذن انفصال تامّ بين الإنسان والبيئة، وهناك إلغاء لقيمة البيئة بإزاء تمحيض الرّفعة كلّها للإنسان المتمثّل حقّا في الرّوح النّازلة من العالم العلوي[12].

وفي العهد القديم يقف الباحث على تصوير لعلاقة بين الإنسان والبيئة تتصف بالتوتّر، فقد ورد فيه تقرير لوحدة مادّية بين الطّرفين تنتهي إلى إلغاء تميّز الإنسان قيميّاً على عناصر البيئة، فإذا هو مساو لها في قلّة الشّأن أو هو أقلّ منها شأناً، وهو ما جاء في سفر الجامعة حيث قال: "قلت في قلبي من جهة أمور البشر: إنّ الله يمتحنهم ليريهم أنّه كما البهيمة هكذا هم، لأنّ كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد، كان كلاهما من التراب، وإلى التراب يعود كلاهما"[13]، كما جاء في سفر أيوب: ".. لأنّ للشّجرة رجاء، إن قطعت تخلف أيضاً، ولا تعدم خراعيبها ولو قدم في الأرض أصلها، ومات في التراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ وتنبت فروعاً كالغرس، أمّا الرجل فيموت ويبلى"[14]، وهكذا يكون الإنسان في العهد القديم هو مع عناصر البيئة وحدة في التّكوين، ولكنّها وحدة ينتفي فيها تميّزه القيمي عنها.

وتتّسع الفجوة بين الإنسان والبيئة في ثقافات أخرى استنقصت من قيمة الإنسان ورفعت من قيمة العناصر البيئيّة حتى أصبحت تُصوّر في صورة الآلهة التي يُتَّجه إليها بالتّعظيم والعبادة، فإذا الأنهار والجبال والأشجار والحيوانات معبودات يخضع لها الإنسان بالولاء، ويذلّ لها بالطّاعة، ويقدّم لها القرابين من نتاج كدحه، وأحياناً من ذات نفسه كما كانت تُقدّم أجمل العرائس قربانا لنهر النّيل في بعض عهود الفراعنة. إنّها ثقافة قامت على تصوّر الانفصال بين الإنسان والبيئة انفصالاً اختلّت فيه موازين الرّفعة لصالح البيئة على حساب الإنسان.

وقد كان لكلّ هذه الصّور لعلاقة الإنسان بالبيئة في الثّقافات القديمة صدى بشكل أو بآخر في الفلسفة الحديثة التي قامت على أساسها الحضارة الغربية، فقد قامت هذه الفلسفة في تصوّر العلاقة بين الإنسان والبيئة على تيّارين متناقضين تختلّ في كلّ منهما هذه العلاقة باختلال معادلة الوحدة والتّميّز القيمي اختلالاً يكون فيه الميل إلى أحد الطّرفين على حساب الآخر، فإذا هذه العلاقة إمّا انفصال تُستنقص فيه قيمة البيئة المادّية، وإمّا وحدة تُستنقص فيها قيمة الإنسان.

لقد كانت فلسفة أفلاطون ومن على نهجه شديدة الأثر على روّاد الفلسفة الحديثة وعلى رأسهم ديكارت الذي أقام فلسفته على الفصل بين الإنسان والعالم المادّي، فقد قسّم الوجود إلى ذات إنسانية هي الحقيقة الأولى والأكبر والأوثق بما تمارس من فكر، وإلى موضوع هو العالم المادّي الخالي من أيّ معنى روحي، المتّصف بالآلية الحادّة، الضّئيل الباهت حتى في أصل وجوده كما مرّ بيانه. وقد ابتدأ هذا الفصل عند ديكارت بين الإنسان والبيئة المادّية من الفصل في ذات الإنسان بين الروح التي هي المجلى الحقيقي لوجود الإنسان، وبين الجسم الذي هو مجرّد محلّ لحلول الرّوح، ثمّ تقدّم هذا الفصل فإذا "ديكارت يجد نفسه موزّع الهوى بين عالمين متنافرين: عالم المادّة الميكانيكي الخارجي [ وهو البيئة المادّية ]، وعالم العقل الدّاخلي [ الذي هو الإنسان، وهو ] غير المرتبط بالأوّل، وهو لا يفلح أبداً في التوفيق بينهما"[15].

إنّ هذه الصّورة الدّيكارتية لعلاقة منفصلة بين الإنسان المفكّر وبين البيئة المادّية هي صورة متأثّرة من جهة الماضي بالفصل الأفلاطوني بين الطّرفين، ومؤثّرة من جهة المستقبل على الشّطر الأكبر من الفلسفة الحديثة، فيكون إذن الفصل الأفلاطوني الحادّ بين الإنسان وعالم المادّة هو الذي أصبح عن طريق ديكارت السّمة البارزة لصورة العلاقة بين الإنسان والبيئة في الثّقافة الغربية، حتى لقد قيل: "إنّ الفلسفة الغربية بكاملها ليست سوى حاشية لأفلاطون، والفضل الأكبر في ذلك يجب أن يُعزى إلى جهود ديكارت [ التي انتهت إلى أن أصبح ] الإنسان الحديث الجديد يشير بإصرار إلى أعلى بعيداً عن الطّبيعة، وبعيداً عن كوكب الأرض نحو عالم أثيري يستطيع منه العقل الإنساني المتجرّد أن يلاحظ حركة المادّة في كلّ مكان"[16]. وانتهى الأمر بهذا التّوجّه الأفلاطوني الممتدّ في أثره إلى ديكارت إلى أن أصبح انفصام الإنسان عن البيئة الطّبيعيّة هو المحصّلة النّهائيّة للفلسفة الحديثة فيما يتعلّق بعلاقة الإنسان بالبيئة [17].

إنّه لمن البيّن أنّ هذه الصّورة التي تقوم على الفصل بين الإنسان والبيئة هي صورة تُعلي من مقامه بالنّسبة إليها، ولكنّها تذهب بذلك الإعلاء إلى ما يقارب الإلغاء لأيّ قيمة لها هي، فهي كما بيّنّاً سابقاً ناقصة حتّى في حقيقة وجودها، إذ هي لا تعدو أن تكون في أحسن الفروض مجرّد امتداد كمّي، وأمّا كلّ مقوّمات حقيقتها الأخرى فهي تابعة فيه للتّصوّر الإنساني. إنّ هذا الفصل الحادّ بين الإنسان والبيئة انتهى إلى نفي أيّ معنى من معاني الوحدة بينهما، وانتهى ذلك بالتّالي إلى انتفاء إمكان أن يندرج الطّرفان في سلّم موحّد للقيمة يكون فيه الإنسان الأعلى درجة، مثلما كان الأمر في التّصوّر الإسلامي الذي قامت فيه المعادلة بين الوحدة والتّميّز على نحو دقيق.

وحينما قامت في الفلسفة الغربية نزعة مقابلة لنزعة الفصل هذه بين الإنسان والبيئة، وقائمة على الوحدة بينهما، فإنّها لم تكن أيضاً موفّقة في إقامة المعادلة التي انخرمت بالفصل؛ ذلك أنّه نشأ في الفكر الغربي اتّجاه مادّي يجعل الوجود الحقّ هو الوجود البيئيّ، وأمّا العقل وهو الممثّل لحقيقة الإنسان فليس إلاّ صدى للمادّة، إنّها هي الحقيقة الأصلية والإنسان ليس إلاّ امتداداً لها، ونقطة من نقاطها، ومرحلة من مراحلها، فهو إذن مظهر للوحدة الكاملة بين الطّرفين: الإنسان والبيئة.

وإذا تأمّلنا الفلسفة التّطوّريّة باعتبارها أحد التّجلّيات المهمّة لهذا المنزع المادّي الموحّد للإنسان والبيئة، فإنّنا نجد هذه الفلسفة تبلغ في تصوير الوحدة بين الإنسان والبيئة مبلغاً يكون فيه الإنسان ليس إلاّ حلقة من حلقاتها، ناشئة بالتّطوّر عن حلقات منها أدنى، وقد تنتهي إلى حلقة أعلى، ومثله في ذلك مثل أيّ موجود بيئيّ آخر. وهذا التّصوير الدّارويني للوحدة بين الطّرفين وصلت بالمطابقة بينهما درجة انتفت فيه إمكانية أيّ تميّز قيمي للإنسان على البيئة، إنّه أصبح في أصل وجوده وفي عناصر تكوينه بل وفي الغاية من حياته لا يختلف عن سائر الكائنات البيئيّة بشيء، ولا يتميّز عنها بقيمة.

وممّا عزّز هذه الوجهة في التّوحيد بين الإنسان والبيئة إلى الدّرجة التي تنتفي فيها إمكانية القول بتفوّقه القيمي عليها ما تمّ من اكتشافات فلكيّة عظيمة أبانت عن سعة للكون أضحى فيها الإنسان بل والكرة الأرضية التي هو عليها ليسا إلاّ ذرّة في محيط غير متناه من الرمال، وتلاشت المركزية التي كانت تُظنّ لهما ليصبحا دائرين بتحريك أفلاك عظمى، فهذه السّعة في تصوّر الكون أكّدت وحدة الإنسان والبيئة إذ بالنّظرة من موقع بعيد تزول الفروق بين الأشياء، كما أنّها قلّلت من شأن الإنسان الذي صغر حجمه بتوسّع الكون، وانتهى الأمر إلى صورة للإنسان في علاقته بالبيئة تنخرم فيها المعادلة بين الوحدة والتّميّز القيمي بالميل إلى جهة الوحدة، كما انخرمت في الوجهة الدّيكارتية بالميل إلى جهة الفصل، وكان هذا الانخرام بوجهييه هو الصّورة الثّقافية التي وجّهت الحضارة الغربية في سلوكها البيئي، مع ما نتج عن ذلك التّوجيه من المشاكل.

إنّ هذا التّصوّر لعلاقة الإنسان بالبيئة كما انتهى إليه في الفلسفة الحديثة ليس فيه بشقّيه الفاصل والواصل أيّ مجال لعلاقة وجدانية روحية بين الطّرفين، إذ في أحدهما يستعلي الإنسان عن البيئة بمسافة لا تسمح بقيام هذه العلاقة، وفي الثاني ينتفي أصلاً في الطّرفين الأساس الروحي الذي يمكن أن تقوم عليه العلاقة الوجدانية. والرّابطة المعرفية في بعدها التّوافقي المثمر لضرب من الانسجام تكاد تنتفي هي أيضاً بين الإنسان والبيئة في هذا التّصوّر؛ ذلك لأنّ هذه الرّابطة إنّما تقوم بين واقع بيئيّ محكوم بقوانين موضوعية ثابتة يقابلها عقل قائم على ما يوافق تلك القوانين من المبادئ، ولكن في الفلسفة الحديثة "انقسم المفكّرون طائفتين: واحدة تأخذ بالعلم فتردّ الفكر إلى حركة مادّية، وأخرى تنحاز إلى الفلسفة فتردّ المادّة والحركة إلى الفكر، وما تزال هذه الثّنائيّة والمشكلات النّاجمة عنها قائمة إلى اليوم"[18]. وفي غياب العلاقة الوجدانية في هذه الصّورة أصبحت رابطة الإنسان بالبيئة لا تعدو أن تكون رابطة بمخزن كبير للغذاء مع ما تتضمّن من معاني القحولة والجفاف.

ولمّا كانت البيئة الطبيعية على هذا النحو من الشكّ في وجودها الواقعي، فإنّها أصبحت في الوجهة المثالية من المخزون الثقافي الغربي قليلةَ الشأن في ميزان القيمة، قليلة الغنى في الحصول على الحقيقة عامّة والحقيقة الغيبية لمن يؤمن بها خاصّة، ومن ثمّة نشأت نظرة ازدرائيّة استنقاصية لها، تطوّرت شيئاً فشيئاً في خضمّ الكدح الإنساني لاستثمار الطبيعة والتوقّي من غوائلها إلى ضرب من الجفوة بين الإنسان والطبيعة، بل إلى ضرب من العداء بينهما، ترى له أثراً بيّناً في النظر التحقيري للمادّة الذي كان مشاعاً في الفلسفة اليونانية، وفي تلك المشاهد الرومانية من العراك بين الإنسان والحيوان التي حفظتها التماثيل ولوحات الفسيفساء، والتي ما نظنّ مصارعة الثيران الباقي إلى حدّ الآن في بعض البلاد إلاّ أثرا منها، وفي تلك العبارات الرائجة اليوم في الثقافة الغربية من مثل: غزو الفضاء، وقهر الطبيعة، وما شابهها من العبارات ذات الدلالات العدائية للبيئة الطبيعية.

وقد كان لهذا التصوّر الثقافي الغربي للمادّة البيئية الثمرة المرّة المتمثّلة في هذه الأزمة البيئية المنذرة بالفناء، إذ ماذا ينتج من تصوّر للبيئة يُستنقص فيها أصل وجودها غير الاسننكار والغربة، وماذا ينتج عن تصوّر للبيئة يرى فيها محدودية في كفايتها تنذر بمآل من الخصاصة والضنك غير الريبة فيها يتطور إلى العداء لها، وماذا ينشأ من الشعور بالريبة والعداء غير المغالبة والافتكاك والاستنزاف، وماذا ينشأ عن غياب البعد الروحي والجمالي عن المادّة البيئية غير المضي في التعامل بالعنف معها، ومن ذلك كله نشأت الأزمة البيئية التي يعيشها العالم اليوم.

وإذا كان الأمر على هذا النحو من السببية الثقافية في المشكلة البيئيّة، فكيف نبحث عن علاج قانوني أو تقني فنّي أو سياسي قبل أن نبحث عن العلاج الثقافي الذي يعدّل المرجعية الفلسفية في التصوّر البيئي، والذي هو المفتاح الحقيقي في مسؤوليتنا البيئيّة؟ إنّه على ما نرى لا تثمر تلك العلاجات الثانوية في مشكلة البيئة أثراً ذا بال إذا لم يتقدّمها جميعاً العلاج الثقافي الذي هو الموجّه الحقيقي للتعامل السلوكي معها، وهو بالتالي المؤثّر الأكبر في ذلك السلوك بما يثنيه عن العدائية والصراع والاستنزاف. ونحن واجدون في التصوّر الثقافي الأخلاقي الإسلامي للوجود البيئي ما من شأنه لو فُعّل التفعيل الصحيح أن يكون علاجاً جذرياً لهذه المشكلة البيئية.

 

ثانياً: العلاج الثقافي للأزمة البيئية

لقد أشار آل قور في كتابه الآنف الذكر إلى أنّ الأديان يمكن أن تلعب دوراً ثقافياً كبيراً في المساعدة على حلّ مشكلة البيئة، ولكنّه أهمل في حديثه ما يمكن أن يسهم به الدين الإسلامي في هذا الشأن، ومردّ ذلك في الأغلب إلى عدم اطّلاعه على الثروة الثقافية الإسلامية التي يمكن أن تكون مساعداً بالغ الأهمّية في الاضطلاع بالمسؤولية إزاء البيئة؛ ولذلك فإنّني سأوجز تالياً هذه الفلسفة الإسلامية فيما يتعلّق بالبيئة من حيث حقيقتها وقيمتها وعلقة الإنسان بها ليتبين أثر ذلك في السلوك البيئي، وليكون علاجاً ثقافياً للأزمة البيئية.

 

1. الحقيقة المادية للبيئة

قد يظهر في بادئ الرّأي أنّ تناول قضية المادّة البيئيّة بين الوجود الواقعي والوجود الذّهني هو أمر غير ذي موضوع، إذ شهادة الحسّ المباشر تحسم الأمر في إثبات وجود واقعي على وجه اليقين كما تشهد به الحواسّ، إلاّ أنّ الواقع الفلسفي الثّقافي للمذاهب والأديان يجري على خلاف ذلك، فقـد كانت هذه القضيّة محلّ بحث فيها، كما كانت محلّ اختلاف بين أقوال يثبت بعضها الوجود الواقعي للمادّة البيئيّة، ولا يثبت لها بعض آخر إلاّ وجوداً ذهنياً، وذلك على تدرّج بين الطّرفين تقترب فيه الأقوال من أحدهما بقدر ما تبتعد عن الآخر، كما أشرنا إليه سابقاً.

والتّصوّر الإسلامي يقوم في خصوص هذا الأمر على إثبات وجود واقعيّ كامل للمادّة البيئيّة كما تشهد بها الحواسّ، دون أن يكون أيّ شيء منها مجرّد خيال ذهني أو مجرّد صدى لخواطر النّفس كما هو الأمر في بعض الثّقافات الأخرى، وعلى أساس هذا التّصوّر الواقعي تُبنى المعرفة عموماً والمعرفة البيئيّة خصوصاً، وعلى أساسه أيضا يوجّه السّلوك في التّعامل الواقعي مع البيئة المادّيّة، وقد أصبح هذا المنحى في التّصوّر الثّقافي الإسلامي أمراً ثابتاً غير خاضع للجدل كما سجّل ذلك الإمام نجم الدّين عمر النّسفي ( ت 537 هـ ) في عبارته الشّهيرة التي أصبحت تُعدّ خلاصة للثّقافة الإسلامية في هذا الشّأن، تمييزا لها عن غيرها من الثّقافات، وردّاً على على المخالف من الفلسفات السابقة إذ قال ردّاً على التّصوّرات المخالفة: "حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقّق، خلافاً للسّفسطائيّة"[19].

وهذا التّصوّر الإسلامي الواقعي لمادّة البيئة إنّما هو متأتّ من البيان القرآني لحقيقة العالم المادّي عموماً وحقيقة البيئة التي يعيش فيها الإنسان خصوصاً، فهذا البيان لئن لم يكن بياناً فلسفياً يبرهن على واقعية الوجود المادّي على سبيل التّنظير شأن المذاهب الفلسفيّة، إذ ذلك لا تقتضيه الطّبيعة الإرشادية للقرآن الكريم، بما هو كتاب هداية لا كتاب برهان فلسفيّ، إلاّ أنّ مجمل الهدي القرآني في تصويره لحقيقة الوجود المادّي للبيئة يتأكّد منه على وجه القطع أنّ ذلك الوجود في المقصد القرآني هو وجود واقعي صرف، سواء في بعده الكمّي المتمثّل في ذات المادّة أو في بعده الكيفي المتمثّل في أوضاعها وعلاقاتها وقوانينها.

إنّ هذه الواقعيّة البيئّية في بعديها الكمّي والكيفي كما أردنا أن نبيّنها عنصراً من عناصر البعد المادّي لحقيقة البيئة في التّصوّر الإسلامي قد تبدو في الظّاهر أمراً غير جدير بالتّنويه، إذ كأنّما هو من البداهة بحيث لا يتطلّب البيان، ولكن ليس الأمر في الحقيقة كذلك، فهذه الواقعية البيئيّة كما صوّرها القرآن الكريم نازع فيها قديماً وحديثاً كثير من المذاهب الفلسفية، ومن بينها مذاهب لها تأثير مباشر على الثّقافة التي أفرزت الحضارة الغربية الرّاهنة، وكان لتلك المنازعة في واقعيّة الوجود البيئيّ دور مهمّ في الأزمة البيئيّة القائمة، وهو ما اقتضى منّا بيان حقيقة التّصوّر الإسلامي في هذا الخصوص ليتبيّن عند المقارنة الأثر البيئيّ المختلف بين هذا التّصوّر وبين التّصوّر المخالف الذي كان له دور في أزمة البيئة.

 

2. قيمة المادّة البيئية

إنّ التّصوّر الإنساني للبيئة فيما تتّصف به من السّموّ والرّفعة أو الدّونية والخسّة، ومن الخيريّة أو الشّرّيّة يكون له دون شكّ الأثر الكبير في التّعامل السّلوكي معها سلباً وإيجاباً؛ ولذلك فإنّه يكون من المهمّ أخذ هذا العنصر بعين الاعتبار في تحليل المشكلة البيئيّة والبحث عن أسبابها وطرق علاجها، ويكون بالتّالي من المهمّ بيان هذه القضيّة في التّصوّر الإسلامي للبيئة مقارنة بما في التّصوّر الثّقافي الغربي المسؤول كما بيّنّا سابقاً عن الأزمة الرّاهنة للبيئة، فما هي قيمة المادّة البيئيّة في التّصوّر الإسلامي لمجمل الوجود البيئي؟

إنّ المتأمّل في نصوص القرآن والحديث، وكذلك المتأمّل في التّراث الذي أنتجته الحضارة الإسلامية يتبيّن أنّ البيئة التي يعيش فيها الإنسان تتّصف من بين ما تتّصف برفعة القيمة وعلوّ الشأن سواء في ذات مادّتها أو في تراتيبها وأنظمتها، وذلك مهما يكن من أنّ الإنسان نفسه أرفع منها قيمة وأعلى شأناً باعتبار أنّها بجميع مكوّناتها إنّما وُجدت من أجله في سبيل تحقيق مهمّة وجوده. ومجمل العناصر المكوّنة لهذه الصّورة التي تتّصف فيها البيئة برفعة المقام تعود إلى معنيين أساسيين هما: الخيريّة الذّاتية للبيئة، وكفاية البيئة في تحقيق سعادة الإنسان.

 

أ. خيرية المادّة البيئية

جاءت البيئة في التّصوّر الإسلامي متّصفة في ذاتها بالخيرية مستَبعَداً منها أيّ معنى من معاني الشّرّيّة الذّاتية، وذلك سواء باعتبارها وجوداً مادّياً في مقابل الوجود العقلي الرّوحي، أو باعتبارها موجودات مفردة من الحيوانات والنّباتات والمعادن، أو باعتبارها نظاماً متكاملاً من القوانين والعلاقات. وهذه الخيريّة الذّاتية للبيئة هي خيرية متمثّلة في أصل وجودها، كما هي متمثّلة في علاقتها بالإنسان فيما تقدّمه له من منفعة مادّية ومن منفعة روحية، فهي إذن خيريّة وجودية وخيريّة نفعيّة وخيريّة رمزية.

أماّ خيريّة البيئة في أصل وجودها فتتمثّل في أنّها بمكوّناتها المختلفة خلقها الله تعالى ابتداء في مادّتها الأوّلية وفي أحوالها بعد ذلك على سبيل التّفضّل المطلق منه بصفة عامّة، والتّفضّل بها على الإنسان بصفة خاصّة، فهي إذن نعمة إلهية في أصل وجودها، كما يفيده قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص:27] فهذا الخلق إنّما كان لحكمة عامّة تتضمّن خيراً وليس أمراً عبثيّاً كما يظنّ الكافرون، وكما يفيده قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:29]، فهذا الخلق للبيئة الأرضية إنّما هو تفضّل من الله تعالى على الإنسان خاصّة كما يفيده سياق هذه الآية، وقد أصبح هذا المعنى معنى راسخاً في الثّقافة الإسلامية عقد لبيانه القاضي عبد الجبّار فصلا في كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل" ترجم له بقوله: "فصل في بيان وجه حسن ابتداء الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأيّام وما يتّصل بذلك"[20].

وأمّا الخيريّة النّفعيّة فتتمثّل في أنّ الموجودات البيئيّة في تفاصيلها مفرداتٍ وأنظمة هي إنما وجدت من أجل تحقيق منفعة الإنسان، فهي خير نافع له، وليس شيء منها قطّ وُجد من أجل الضّرر به ليكون شرّاً عليه، وما بدا منها في الظّاهر أنّه كذلك، فهو عند التّحقيق تتبيّن خيريته في نفع جمليّ عامّ لا يُرى إلاّ بالتّحقيق. وقد أصبح هذا المعنى أيضاً عنصراً راسخاً في الثّقافة الإسلامية، وذلك ما بيّنه أوفى بيان الرّاغب الأصبهاني في قوله: ".. يجب أن يُنظر هل في العالم شرّ مطلق، فقد ذكر الحكماء أنّا نظرنا وسبرنا فلم نجد فيه شرّاً مطلقاً بوجه، بل كلّ ما يُعدّ شرّاً من وجه فهو يُعدّ خيراً من وجه أو من وجوه. [و] ما يُعدّ شرّاً من وجه وخيراً من وجوه لم يُحكم بكونه شرّاً"[21]، وفصّل هذا الإجمال في قوله: "بيّن الحكماء كثيراً من فوائد ما عدّه النّاس شروراً. وذكروا في الحشرات كالدّيدان والنّمل والحيّة والعقرب والبقّ والبراغيث والذّبّان والضّفادع والسّراطين إنّما خُلقت من عفونات لو بقيت في الماء والأرض والهواء لكانت أسباباً للوباء، فخلقها الله تعالى منها، وجعل غذاءها تلك العفونات التي منها خُلقت ليقلّ بذلك أسباب الوباء، مع ما فيها من المنافع في جملة الأدوية"[22]، فالبيئة إذن تتّصف في جملتها بالخيريّة النّفعيّة، وتخلو من معاني الشّرّ بالمعنى المطلق للشّرّ.

وأمّا الخيريّة الرّمزيّة فهي تتمثّل فيما تحقّقه مشاهد البيئة للإنسان من خير باعتبارها رمزا لحقائق أخرى وراءها ودلائل على مدلولات غيبيّة تحصل بها للإنسان منافع روحيّة كما بيّنّاه سابقا، فهذه المشاهد مهما يبدو عليه بعضها من ضآلة وقلّة شأن في ذاته، ومهما يبدو عليه من انعدام نفع مادّي للإنسان بل من إلحاق ضرر به، فإنّ ذلك إنّما هو في الظّاهر فحسب، وإلاّ فإنّ فيها خيريّة روحية تبدو في دلالتها الرّمزية التي تعرّف الإنسان بحقيقة الألوهية والبعث فيحصل له بذلك الخير الكثير، ويكون حاصل الحساب في شأنها خيراً من حيث ظُنّ أنّها شرّ. وفي تأكيد هذا المعنى جاء قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة:26]، لقد كانت هذه الآية ردّاً على أولئك الذين استـتـفهوا ما يرد في القرآن الكريم من ذكر لموجودات ومشاهد بيئيّة استضألوا قيمتها أو استنكفوا منها لما بدا لهم من خساستها في ذاتها أو قلّة نفعها، فجاء هذا البيان القرآنيّ يثبت أنّ كلّ تلك الموجودات باعتبارها عناصر بيئيّة يجب أن تُحسَب في التّقويم حساباً آخر يؤخذ فيه بعين الاعتبار بعدها الرّمزي لتبدو في ذلك الحساب ذات خير للإنسان على خلاف ما ظنّ الجاهلون في تقديرهم البيئيّ.

وقد أصبح هذا التّعليم القرآني ثقافة بيئيّة قامت عليها الحضارة الإسلامية سواء في السّلوك العملي أو في البيان النّظري، وذلك ما يبدو في قول الإمام الماتريدي: "إنّ الخلق على اختلاف جوهرهم في المضارّ والمنافع جعلهم الله في الدّلالة على مدبّر لهم حكيم وعلى وحدانيته كجوهر واحد في الإتقان من جهة الدّلالة والشّهادة"[23]، وهو أيضاً ما بيّنه الجاحظ رادّاً على ما اتُّهم به من إسفاف لعرضه محقّرات الحيوانات وتوافهها في كتاب الحيوان إذ قال: ".. فإيّاك أن تسيء الظّنّ بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوت التّركيب ولأنّه مشنوء في العين أو لأنّه قليل النّفع والرّدّ، فإنّ الذي تظنّ أنّه أقلّها نفعاً لعلّه أن يكون أكثرها ردّاً فإلاّ يكن ذلك من عاجل أمر الدّنيا كان ذلك في آجل أمر الدّارين .. [ و ] اعلم أنّ مواقع منافعها من جهة الامتحان والبلوى، ومن جهة ما أعدّ الله عزّ وجلّ للصّابرين .. ولتقف حتى تتفكّر في الباب الذي رميت إليك بحميلته، فإنّك ستكثر حمد الله عزّ وجلّ على خلق الهمج والحشرات وذوات السّموم والأنياب كما تحمده على خلق الأغذية من الماء والنّسيم"[24]، إنّها إذن ثقافة لا تحقّر من أمر البيئة شيئاً، بل تعتبر أنّها في أصل وجودها تنعّم إلهي على الإنسان وتفضّل عليه، وهي في مجمل أفرادها ومنقلبات أحوالها تحقّق الخير المادّيّ والرّوحيّ له حتّى وإن بدا بعضها في الظّاهر على خلاف ذلك، وعلى تلك الثّقافة قامت الحضارة الإسلامية في مواقفها البيئيّة.

 

ب. كفاية المادّة البيئية

وفيما يتعلق بكفاية البيئة فإنّ البيئة التي جُعلت مجالاً لحياة الإنسان يطلب فيها استمرارها ونموّها، ويُطلب منه القيام فيها بمهمّة الخلافة لوكانت في تركيبها أو في أنظمتها غير كافية لتلبية طلبه وتحقيق المطلوب منه بوجه من الوجوه لأصبحت في تصوّره قليلة الشّأن عديمة القيمة، بل لأصبحت شيئاً ممقوتاً كريهاً في النّفوس، إذ كيف يكون وجود هذه البيئة من أجل حياة الإنسان ثمّ هي لا تكفي مقدَّراتها لقيام تلك الحياة؟ وكيف يُطلب منه أن ينجز عليها مهمّة وجوده وهي لا تفي بمتطلّبات تلك المهمّة؟

ولذلك جاء التّصوّر الإسلامي يقوم في تقدير البيئة بهذا الخصوص على خلاف ما تصوّرته الثقافة الغربية مما يعرف بقانون الندرة، إذ يستقرّ في هذا التصور أنّ البيئة التي وُجدت لأجل الإنسان كي تستمرّ حياته وتنمو، وكي ينجز ما كُلّف به من مهمّة في تلك الحياة إنّما قُدّرت في كمّها وكيفها على هيئة من الكفاية الدّائمة لتلبية مطالب الحياة والقيام بمهمّة الوجود مهما يتقدّم الإنسان في طلب تلك المطالب وفي إنجاز تلك المهمّة دون أن يكون لتلك الكفاية نهاية أو لمقدّراتها نفاد، وذلك سواء بما تقدّم من العطاء المباشر، أو بما تنطوي عليه من إمكانات التّثمير والتّنمية، وهو ما من شأنه لا محالة أن يضفي على هذه البيئة في بعدها المادّي قيمة في التّصوّر الثّقافي لها، إذ ستستقرّ صورتها في النّفس على أنّها مورد للحياة لا ينضب، ومُعين على القيام بالدّور في تلك الحياة لا يفتر، وسند للإنسان لا يتخلّى عنه ليلقي به إلى المجهول.

ويتواتر هذا المعنى من كفاية البيئة في القرآن الكريم بما يجعله معنى راسخاً في التّصوّر الإسلامي للبيئة، ويأتي التّعبير عن هذه الكفاية في الغالب بديمومة الرّزق الإلهـي لخلقه عامّة وللإنسان خاصّة  من البيئة الطّبيعية، حتّى استقرّ هذا المعنى عنصراً إيمانياً في نفس المسلم. ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [هود:6]، وفي قوله تعالى في سياق الحديث عن خلق الأرض: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت:10]، فالبيئة الأرضية قدّر الله تعالى فيها منذ خلقها أقوات من سيوجد عليها من المخلوقات، وليست الأقوات إلاّ تعبيراً عن كفاية البيئة الأرضية بتوفّر كافّة عناصر الحياة فيها في أصل تكوينها طيلة ما كانت تلك الحياة قائمة.

وهذه الكفاية البيئيّة هي كفاية قُدّرت على أساس من الحكمة الإلهية بناء على علم الله تعالى بمستقبل الحياة على الأرض وما ستتقلّب فيه من أطوار، وبناء على علمه تعالى بطبائع العباد وأوجه تصرّفاتهم في الأرض؛ ولذلك فإنّ هذه الكفاية البيئيّة هي كفاية تبدو بعض عناصرها ظاهرة بينما عناصر أخرى منها تبقى في حالة كمون إلى أوقات مقدّرة تظهر فيها، كما أنّ بعض عناصرها هو عطاء متيسّر بصفة مباشرة، بينما بعض آخر منها يستلزم استثمارا وتنمية من قِبَل الإنسان، وكلّ ذلك مقدّر على حكمة إلهية في نطاق ما كُوّنت عليه البيئة بصفة عامّة من الكفاية، وهوما يفيده قوله تعالى: ﴿الأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الحجر:19-21]،كما يفيده قوله تعالى أيضاً: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى:27]، إنّه إذن رزق في البيئة موفور في غير نفاد، ولكنّ بعضه منظور ناجز وبعضه خفيّ مقدّر في ظهوره بأوقات تقتضيها الحكمة.

 

3. علاقة الإنسان بالبيئة

لا يخفى أنّ التصور الفلسفي والعقدي لعلاقة الإنسان بالبيئة له بالغ الأثر في تصرفه السلوكي إزاءها؛ ولذلك كما صورنا هذه العلاقة في الفلسفة الغربية فإننا نصورها في العقيدة الإسلامية ليتبين الأثر السلوكي المعاكس. ويقوم هذا التصور على معادلة دقيقة بين الإنسان والبيئة طرفاها وحدة من جهة، وتميّز للإنسان من جهة أخرى، فهذه المعادلة في دقّتها وحكمتها هي التي تثمر السلوك البيئي الرشيد العاصم من الأزمات، وأيّ انخرام فيها يؤدّي إلى خلل في التعامل البيئي كما هو حاصل اليوم.

 

أـ وحدة الإنسان والبيئة

أما وحدة الإنسان والبيئة فتتجلّى كما يصوّرها القرآن الكريم والحديث الشّريف ويحرصان على إبرازها في مظاهر عديدة ترجع في معرض تعدّدها إلى مظهرين أساسيين: وحدة ذات طبيعة مادّية، ووحدة ذات طبيعة روحية وجدانية.

فالإنسان على ما يبدو عليه من تميّز على سائر الموجودات البيئيّة في الشّكل والمظهر وفي خاصّيّة الإدراك والقدرة على التّصرّف حينما يُنظر إليه من جهة التّكوين المادّي يتبيّن أنّه ينخرط في وحدة مادّية مع تلك الوجودات تظهر فيما يشمل الجميع من وحدة في عناصر التّكوين، ووحدة في القانون المنظّم لتلك العناصر في حركتها.

فمن حيث وحدة العناصر بين الإنسان والبيئة يقرّر القرآن الكريم أنّ الإنسان يوجد من نفس العناصر التي تتكوّن منها الموجودات البيئيّة الجامدة والحيّة، فحينما يُقارن بما على الأرض من جمادات يتبيّن على ما يبدو في الظّاهر من تناقض بينه وبينها أنّ أصل تكوينه ليس إلاّ ممّا تتكوّن هي منه معَبَّراً عنه في القرآن الكريم بالتّراب الذي يرمز إلى عناصر المعادن التي تتكوّن منها كلّ مفردات البيئة على اختلافها كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج:5] وحينما يُقارن بما على الأرض من مظاهر الحياة يتبيّن أنّ وحدةً في التّكوين جامعة بينه وبينها من أهمّ عناصرها عنصر الماء كما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء:30]، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [النور:45].

وكما تربط الإنسان بالبيئة وحدة مادّية في عناصر التّكوين، فإنّه تربطه معها وحدة مادّية في الكيفيّة التركيبيّة لتلك العناصر، فقد رُكّبت الموجودات البيئيّة كلّها بما فيها الإنسان بكيفيّة التّزاوج كما يثبته قوله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات:49]، وكذلك قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ [يس:36]. ويبلغ البيان القرآني أوجه في الدّلالة على الوحدة المادّية بين الإنسان والبيئة في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [نوح:17]، فالتّعبير بالإنبات من الأرض هو تعبير يوحي بوحدة العنصر بين الإنسان وكلّ ما ينبت من الأرض متمثّلة في إنشاء الإنسان مثل جميعها من عناصر الأرض، ووحدة الكيفيّة بينها متمثّلة في نشوء بعضها من بعض وفق دورة تشملها جميعا "فالله تعالى أنبت الكلّ من الأرض لأنّه تعالى إنّما يخلقنا من النّطف وهي متولّدة من الأغذية المتولّدة من النّبات المتولّد من الأرض"[25].

ومن حيث وحدة القانون فإن هذه الوحدة تتمثّل فيما ينتظم الإنسان والمكوّنات البيئيّة جميعاً من قانون موحَّد تخضع له جميعاً دون أن يندّ عنه شيء منها، وذلك سواء في أصل نشوئها، أو في سيرورتها أثناء وجودها، أو في انتهائها إلى مصيرها. ففي أصل وجودها تخضع مكوّنات البيئة جميعاً بما فيها الإنسان لقانون العلّيّة الذي تنشأ فيه جميعاً بعضها من بعض على سبيل السّببيّة وفق التّقدير الإلهي دون أن يكون أيّ منها خارجاً عن تلك الدّائرة، ناشئاً من ذاته بدون سبب، فالإنسان الذي يُظنّ في الظّاهر باعتباره أرفع الموجودات البيئيّة لما يشتمل عليه من عنصر الرّوح أنّه ربّما كان بسبب ذلك نابتاً في خلقه باستقلال ليس في حقيقته إلاّ مخلوقاً من أدنى تلك الموجودات وهو العلق، كما جاء في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق،1-2] ولمّا كانت هذه الآية هي أوّل ما نزل من القرآن الكريم فإنّها تكون بالغة الدّلالة في لفت الانتباه ثقافيّا إلى السّببيّة قانونا تجري وفقه كلّ الموجودات البيئيّة بما فيها الإنسان.

وفي أثناء وجودها تخضع الموجودات البيئيّة كلّها بما فيها الإنسان لوحدة تكامل وجودي تحتاج فيه لبقائها ونموّها إلى بعضها بعضاً في شبكة بالغة التّعقيد لا يفلت منها أيّ موجود بيئيّ ليكون مستقلاّ في وجوده عن غيره بأيّ وجه من وجوه الاستقلال، وهو ما يشير إليه قوله تعالى في توقّف الحياة على عنصر الماء: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء:30]، وعلى ذلك تُقاس كلّ الموجودات البيئيّة في توقّف بعضها على بعض.

وفي سيرورتها تخضع الموجودات البيئيّة كلّها لقانون الحركة والتّغيّر الذي تكون به جميعاً منقلبة في كلّ لحظة من لحظات الزّمان من حال إلى حال دون توقّف أيّ منها في نقطة استقرار وثبات، مهما تكن تلك الحركة الانقلابية ظاهرة للحواسّ أو خفيّة عنها، فالجبال كرمز للمادّة البيئيّة الجامدة على ما تبدو عليه في الظّاهر من استقرار ليست في حقيقتها إلاّ متحرّكة حركة دائبة لا تتوقّف ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل:88]، والنّبات رمزاً للكائنات الحيّة على الأرض يكون في حركة دائبة أيضاً لا تتوقّف، فالله تعالى يُجري الماء فتتبعه حركة متتالية الحلقات من مظاهر الحياة حسب قانون مرسوم:﴿ ﴾[الزمر:21] وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان، فالله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [غافر:67]، إنّه قانون الحركة والتّغيّر الذي يوحّد الإنسان وكلّ الكائنات البيئيّة.

وفي نهايتها تخضح جميع الكائنات البيئيّة بما فيها الإنسان إلى قانون موحَّد هو قانون الفناء الذي يأتي عليها جميعا، فلا يبقى منها شيء على ظهر الوجود أفراداً وأنواعاً، وإن اختلفت آجالها قصراً وطولاً فـ ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص:88] يتساوى في ذلك الإنسان مع كلّ مفردات البيئة، وإن اختلف عنها فيما بعد ذلك الهلاك من بعث وحساب. وبذلك يتبيّن أنّ التّصوير القرآني للوحدة بين الإنسان والبيئة جاء تصويراً مُؤكّداً في مظاهر متعدّدة ومقامات مختلفة، وهو فيما يبدو عليه في ظاهره من وضوح قد لا يستحقّ مثل ذلك التّأكيد المكرّر يبين عن قصد قرآني تربويّ سلوكيّ في التّعامل البيئيّ سنبيّنه بعد حين.

 

ب. رفعة الإنسان

وأما التميّز والرفعة وهو الطرف الثاني من طرفي المعادلة،  فإنه إذا كان الإنسان في التّصوير القرآني يؤلّف مع البيئة الطّبيعيّة وحدة على مستويات متعدّدة كما مرّ بيانه، فإنّ ذلك ليس معناه أن توزن قيمة كلّ منهما بمقتضى تلك الوحدة بحسب الظّاهر المادّي من قوّة التّكوين وسطوة الأفعال، فإذا الإنسان بهذا الميزان يكون أقلّ شأناً في قيمته من البيئة أو هو متساوياً معها في ذلك كما يقع في بعض الثّقافات، بل إنّ الإنسان في التّصوّر الإسلامي هو في نطاق وحدته مع البيئة يكون متّصفاً بالاستعلاء القيمي عليها، فهو الكائن الذي يتسنّم الدّرجة العليا من درجات السّلّم البيئي، بحيث يكون أعلى شأناً من مجموع البيئة الطّبيعيّة في ميزان القيمة، وإن كان موصولاً بها في مظاهر عديدة من الوحدة كما تقدّم بيانه.

وكما كان القرآن الكريم يحرص في رسم صورة العلاقة بين الإنسان والبيئة على إبراز خطّ الوحدة بينهما فقد كان يحرص أيضاً بذات القدر على إبراز خطّ التّميّز القيمي للإنسان على البيئة، وتصويره على أنّه الكائن البيئيّ الأعلى شأناً من سائر الكائنات الأخرى، سواء بالنّظر إليها أفراداً أو بالنّظر إليها هيئة جامعة. وقد كان هذا البيان القرآني لتميّز الإنسان على البيئة تميّز استعلاء ورفعة يبدو في جملة من الحقائق.

فالقرآن الكريم يبيّن أنّ الإنسان يتميّز على سائر مكوّنات البيئة في أصل وجوده ابتداء، سواء من حيث كيفيّة مقدمه إلى الوجود أو من حيث وضعه بعد ذلك بين الموجودات البيئيّة. وأوّل ما يبدو ذلك فإنّه يبدو في أوّل آيات القرآن نزولاً، إذ يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق:1-2]،فتخصيص الإنسان بالذّكر في معرض البيان لنشأة وجوده بعد بيان نشأة الوجود كلّه إجمالاً فيه دلالة على التّميّز القيمي في أصل الوجود لهذا الإنسان المخصوص بالذّكر من بين سائر الموجودات الأخرى.

وفي البيان القرآني لخلق آدم عليه السلام نلمس الدّلالة على أنّ وجود هذا الكائن الجديد لم يكن حدثاً عادياً كوجود سائر الكائنات البيئيّة الأخرى، بل كان وجوده طفرة في سلسلة الموجودات اهتزّ لها الوجود كلّه، ومثّل مرحلة جديدة في تاريخ الأرض كما يفيده قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:30].

وقد ظلّ هذا التّميّز الوجودي للإنسان في نطاقه البيئي مستصحباً في مسيرة حياته بعد حادثة خلقه، فهو السّيّد في الكون، المكرّم في ذاته، المفضَّل على الكائنات الأخرى كما يفيده قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء:70]، وهو الذي من أجله تُسخّر البيئة كلّها في مكوّناتها وأنظمتها كما يفيده قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:13].إنّه إذن تميّز للإنسان على البيئة في أصل وجوده فيها وطيلة استمراره عليها.

كما جاء القرآن الكريم يبيّن تميّزا للإنسان على سائر الموجودات البيئيّة في التّكوين، فهو قد استجمع من عناصر التّكوين في ذاته ما تفرّق في الموجودات البيئيّة منها، بحيث انفرد بهذا الاستجماع عن كلّ ما سواه من الموجودات، فبالإضافة إلى استجماعه للمكوّنات المادّية التي تتفرّق في الموجودات البيئيّة، فإنّه يستجمع أيضاً في تكوينه عنصري المادّة و الرّوح من حيث لا يستجمعهما موجود غيره قطّ، وهو ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر،28-29].

وبالإضافة إلى هذا التّميّز التّكويني للإنسان في مظهره الكمّي فإنّه تميّز في تكوينه أيضاً تميّزاً كيفيّاً، تمثّل فيما قُدّر عليه ذلك التّكوين من نِسب وأوضاع وهيآت كان بها متفوّقاً على كلّ ما سواه من مكوّنات البيئة، سواء من حيث الأداء الوظيفي، أو من حيث القدرة على الانتفاع، أو من حيث الهيئة الجمالية، وذلك ما يفيده قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين:4].

وهذا التّميّز التّكويني للإنسان على سائر الموجودات البيئيّة في الكمّ والكيف ليس مجرّد اختلاف نوعيّ عنها، وإنّما هو تميّز نشأ منه معنى من الرّفعة القيميّة بالنّسبة لها، كما كان تميّزه الوجودي سبب رفعة أيضاً، وذلك ما يشير إليه أمر الله تعالى للملائكة في الآية السابقة بالسّجود لآدم، فقد جاء هذا الأمر إثر بيان خلق الإنسان خلقاً استجمع عنصري المادّة والرّوح، ممّا يوحي بأنّ ذلك السّجود الدّالّ على رفعة المسجود له إنّما كان من أسبابه طبيعة ذلك التّكوين المستجمع لما تفرّق في الموجودات، وذلك ما أشار إليه الرّاغب الأصبهاني في قوله: "كما أنّ كلّ مركّب من أشياء مختلفة يحصل باجتماعهنّ معنى ليس بموجود فيهنّ على انفرادهنّ كالمركّبات من الأدوية والأطعمة، كذا في الإنسان حصل معنى ليس في شيء من موجودات العالم، وذلك المعنى هو ما تخصّص به من خصائصه التي تميّز بها عن غيره"[26]

ومن أقوى مظاهر التميّز الإنساني عن البيئة ما يبدو في تميّز الوعي، فهو قد خُصّ من بين جميع الكائنات البيئيّة بالوعي العقلي الذي به يكون التّمثّل المعرفي لما وراء المحسوس، والمقارنة بين المتماثلات والمتناقضات والحكم عليها، وربط الحاضر بالماضي والمستقبل للاعتبار والتّخطيط، من حيث لم يتّصف أعلى الكائنات البيئيّة في هذا الخصوص بأكثر من الوعي الغريزي الذي يكون به تلبية الحاجات المادّية في الآن من لحظات الوجود أو لما هو قريب جدّا منها.

وبهذا الضّرب من التّميّز يمكن للإنسان أن يتمثّل الوجود البيئيّ تمثّلاً معرفيّاً يصبح فيه هذا الوجود ماثلاً في الذّهن الإنساني بصورة تحاكي صورته الواقعية في الخارج، فإذا ذلك المثول يجعل الإنسان قادراً على أن يكون مشرفاً إشرافاً مادّيّاً ومعنوياً على البيئة في عناصرها وفي قوانينها، فيستثمر تلك العناصر والقوانين فيما ينمّي وجوده ويعينه على أداء مهمّته، فيثبت في الواقع بهذا الوعي رفعة الإنسان في قيمته على البيئة لإشرافه عليها بالتّمثّل المعرفي، وتسخيرها لمنافعه بهذا التّمثّل. وممّا يشعر في القرآن الكريم بتميّز الإنسان عن سائر الموجودات عـامّة والبيئيّة خاصّة بصفة الوعي فيه ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:31].

فهذا الوعي المعرفي الذي خُصّ به آدم معبَّراً عنه بتعليم الأسماء ورد في سياق بيان المهمّة التي خُلق من أجلها الإنسان، وهي مهمّة الخلافة في الأرض، التي استشكل الملائكة في القدرة على انتهاج منهج الصّلاح في الأرض وغلّبوا الظّنّ بأنّه سيكون مفسداً فيها، فجاء الجواب القرآني مبيّناً كفاءة الإنسان في أن يكون خليفة في الأرض بتوفّره على عنصر مهمّ من عناصر الإصلاح في الأرض، وهو عنصر التّمثّل المعرفي لهذه الأرض وما عليها، فقد وردت إذن خاصّيّة هذا التّمثّل مورد التّمييز لمرتبة الإنسان بين الموجودات، والإعلاء من مقامه في مراتبها[27].

 

خاتمة

يتبيّن إذا أنّ البيان القرآني لصلة الإنسان بالبيئة فيما يخصّ العلاقة الوجودية بينهما يقوم على معادلة دقيقة ذات طرفين: وحدة بين الإنسان والبيئة من جهة متمثّلة في مظاهر متعدّدة، وتميّز للإنسان عليها تميّزاً قيميّاً من جهة أخرى متمثّلاً أيضاً في مظاهر متعدّدة، وقد جاء وصف القرآن الكريم لهذه المعادلة على قدر كبير من الدّقّة التي قد تخفى على الكثير من النّظّار، بحيث قد يذهب الظّنّ ببعضهم إلى تصوّر وحدة تبلغ مبلغ المساواة بين الطّرفين، أو يذهب الظّنّ بآخرين إلى تصوّر رفعة للإنسان تنقطع به عن صلة الوحدة مع البيئة، والحقيقة أنّ المتأمّل بعمق في علاقة الإنسان بالبيئة كما وردت في التّقدير القرآني بالجمع بين السّياقات والمقامات التي ورد فيها ذلك التّقدير يتبيّن في جلاء أنّها علاقة تقوم على معادلة بين الوحدة والتّميّز القيمي، وهو ما يتضمّنه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم:20].

فالخلق من التّراب هو طرف الوحدة مع البيئة في المعادلة، والوصف بالبشرية ثمّ بالانتشار هو طرف التّميّز القيمي عليها بما يتضمّنه وصف البشريّة من معنى القوّة الإدراكية، وما يتضمّنه وصف الانتشار من معنى الحركة في البيئة الأرضية والتّصرّف فيها[28]، وكأنّما الفجائيّة الرّابطة بين طرف الوحدة وطرف الرّفعة والمعبّر عنها بحرف "إذ" تشير إلى ما جعل الله من معادلة بين الطّرفين تنفي ما قد يقع في الأذهان من ميل إلى أحدهما ميلاً يُلغَى به الآخر، فهي تثبت في تصوّر علاقة الإنسان بالبيئة المعادلة بين الوحدة والرّفعة، وتنفي ما قد يسبق من وهم بتصوّر منفرد لأحد الطّرفين كما وقع في كثير من الثّقافات.

حينما يؤمن الإنسان بأنّ البيئة المادّية التي يعيش فيها هي من حيث ذاتها رفيعة الشأن، وحينما يعتقد أنها ذات بعد روحي في دلالاتها الغيبية ومظاهرها الجمالية، وحينما يشعر حيالها بوحدة الخلق والتكوين والمصير، وحينما يستقرّ في نفسه أنها خُلقت مُسخّرة له من أجل سعادته وأنها قائمة بحياته إلى منتهاها على وجه الكفاية، فإنّ ذلك كلّه من شأنه أن يؤسّس فيه ثقافة تقوم على الصداقة مع البيئة، والرأفة بها، والرفق في استثمارها، فيعاملها إذن في سلوكه بالحفاظ عليها في مادّتها وفي توازنها وبما يبقي عليها صالحة لإعالة الحياة إلى آخر الدهر، فيُتفادى إذن هذا الوضع الذي آلت إليه اليوم منذرا بالفناء جرّاء ثقافة أخرى تأسّست على منازع الاستنقاص والعداء والمغالبة.

وقد كان لهذه الثقافة تحقّق تاريخي في الحضارة الإسلامية وكانت لها أمثلة رائعة في التعامل البيئي منها على سبيل المثال تلك الأوقاف الكثيرة التي كانت تحبّس على أنواع منن الحيوان للحفاظ عليها من المجاعات والأوبئة فتؤول إلى الانقراض، ومنها ذلك الوقف الذي كان مخصّصاً لجحافل الحمام التي استوطنت أروقة وزوايا جامع الزيتونة بتونس، وقد كانت أيضاً تخصّص دوريات راتبة تحت ما يعرف بنظام الحسبة تجوب المدن الإسلامية والبوادي لتمنع الناس من تحميل الدوابّ أكثر من طاقتها، ومن الاعتداء عليها بالضرب والتجويع. إنّ هذه الأمثلة الصغيرة لتشهد في رمزيتها على مدى ما حقّقت الحضارة الإسلامية من رفق بالبيئة جرّاء تلك الثقافة التي أُشربتها النفوس في ثنايا الإيمان بجملة الدين.

إنّ هذه الأبعاد في التصوّر البيئي كما جاء في تعاليم الدين الإسلامي ليمكن استثماره اليوم بالطرق المناسبة في استنهاض المسؤولية الثقافية إزاء البيئة في أزمتها الراهنة، وذلك في سبيل المعالجة الجذرية لهذه الأزمة، حيث يبدو أن لا علاج لها إلاّ انطلاقاً من الموجّهات المرجعية الإيديولوجية، كما كان لا نشأة لها إلاّ انطلاقاً من تلك الموجّهات ذاتها، وحينئذ فإنّه يمكن للإسلام أن يسهم إسهاماً فاعلاً في مواجهة هذه المشكلة العويصة لو أحسن أهله تقديمه للناس في هذا الشأن أنموذجاً نظرياً في الثقافة، وأنموذجاً عملياً في السلوك، تلك هي على ما أحسب مسؤولية المسلمين اليوم تجاه البيئة من أجل الحياة[29].

 

الهوامش

 


* الأستاذ الدكتور الشيخ عبد المجيد النجار أستاذ أصول الدين والفكر الإسلامي بجامعة الزيتونة في تونس سابقا والأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ورئيس المركز العالمي للبحوث والاستشارات العلمية بتونس. قدم هذه الورقة في ندوة الأخلاق الإسلامية والبيئة التي نظمها مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق في 4-6 يناير 2014 بالدوحة.


 

 

[1] راجع: بدوي، عبد الرحمان. ربيع الفكر اليوناني. الطبعة الرابعة. القاهرة: النهضة المصرية، 1969م، ص 122.

[2] راجع: كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة اليونانية. القاهرة: لجنة التأليف، 1936م، ص 88.

[3] عن: أقروس، روبرت، وجورج ستانسيو ـ العلم في منظوره الجديد. الكويت: دار المعرفة، 1989م، ص 104.

[4] كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة الحديثة. ص 86.

[5] عن: أقروس، روبرت، وجورج ستانسيو ـ العلم في منظور جديد. ص 104.

[6] نفس المرجع. ص 105.

[7] نفس المرجع. ص 102.

[8] نفس المرجع. ص 104.

[9] راجع في ذلك: كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة اليونانية. ص 106.

[10] راجع في هذه المعاني بيانات مؤيّدة بنصوص في: الزيدي،كاصد. الطبيعة في القرآن الكريم. بغداد: دار إفريقيا، 1980م، ص 117.

[11] عن: أقروس، روبرت، وجورج ستانسيوـ العلم في منظوره الجديد. ص 106.

[12] يشترك في هذا الخطّ الفلسفة الإشراقية الصّوفية، والفلسفة الأفلاطونية وامتداداتها في الأفلاطونية المحدثة. راجع على سبيل المثال: كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة اليونانية. ص 98 وما بعدها.

[13] سفر الجامعة: 3 / 18 ( عن: الزيدي، كاصد. الطبيعة في القرآن. ص 128.)

[14] سفر أيوب: 14 / 7 ـ 10 (نفس المرجع. ص 129)

[15] أقروس، روبرت، وجورج ستانسيو. العلم في منظوره الجديد. ص 103.

[16] آل قور. الأرض في الميزان. ترجمة: عواطف عبد العزيز. القاهرة: الأهرام، 1994م، ص 251.

[17] راجع: أقروس، روبرت، وجورج ستانسيو ـ العلم في منظوره الجديد: 107

[18] كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة الحديثة. ص 86.

[19] النّسفي. العقائد النّسفية. 1335ه، ص 20.

[20] عبد الجبار، القاضي. المغني. القاهرة: الدار المصرية للتأليف، 1965م، مج 11، ص 100,

[21] الأصفهاني، الراغب. الاعتقادات. بيروت: مؤسسة الأشرف، 1988م، ص 253. وقد أثبت العلم الحديث هذه الفكرة في عمومها، وذلك فيما يعرف بنظرية التوازن البيئي التي تجعل لكلّ شيء في الطبيعة كبر شأنه أو صغر دوراً في حفظ البيئة بحفظ توازنها.

[22] نفس المصدر. ص 254.

[23] الماتريدي ـ التوحيد. بيروت: دار الشروق، 1970م، ص 109.

[24] الجاحظ ـ الحيوان. الطبعة الثالثة. بيروت: إحياء التراث، 1969م، مج 3، ص 299-301.

[25] الرازي ـ التفسير الكبير. بيروت: دار الفكر، 1979م، مج 29، ص 141.  

[26] الصبهاني، الراغب. تفصيل النّشأتين. بيروت: دار الغرب الإسلامي،1986م، ص 78.

[27] راجع ما يشير إلى هذه المعاني في تفسير الرازي وابن عاشور لهذه الآية.

[28] راجع: الرازي ـ التفسير الكبير. مج 13، ص 109.

[29] راجع تفاصيل هذه الأفكار في كتابنا: قضايا البيئة من منظور إسلامي.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق