الإسلام والقابلية للعنف: جدلية الفهم والممارسة بقلم السيخ أبوزيد المقرئ الإدريسي

[تم تقديم هذا البحث في المؤتمر الدولي السنوي الخامس لمركز دراسات التشريع الاسلامي والأخلاق، الذي عقد بالدوحة، قطر في 18- 19 مارس2017]

السيخ أبوزيد المقرئ الإدريسي

عضو البرلمان المغربي

 

ولد الشيخ أبو زيد المقرئ الإدريسي سنة 1960 بمدينة مراكش بالمملكة المغربية، وحصل على شهادة الدراسات العليا تخصص لسانيات سنة 1987. عمل أستاذا للتعليم العالي شعبة اللغة العربية وشعبة الدراسات الإسلامية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. وهو أكاديمي وسياسي ونائب برلماني عن حزب العدالة والتنمية من سنة 2002 إلى اليوم. حاز عضوية العديد من الهيئات الاجتماعية والعلمية والسياسية، منها عضويته في المؤتمر القومي الإسلامي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. شارك في عدة مؤتمرات وندوات محلية ودولية. له العديد من المؤلفات منها: معضلة العنف رؤية إسلامية، الغلو في الدين، عموم الرحمة وعالمية الإسلام، القرآن والعقل، الطائفية وتفكيك الأمة، فلسطين وصراع الإرادات. وهو مهتم بقضايا الفكر الإسلامي والقضية الفلسطينية بالإضافة إلى اهتمامه بمجال اللسانيات، وقد صدر له في ذلك كتاب حروف المعاني في اللغة العربية، ويستعد الآن لإصدار موسوعة التفسير النسقي للقرآن الكريم.

 

مقدمة  

  إن مشكلة العنف، التي تفاقمت حتى صارت معضلة، تهدد اليوم بإلحاح ما تبقى من حصون الأمة، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وأمنيا، يزيد من حدتها أن الجذور ضاربة في القدم إلى زمن الخوارج، وأن العقل المأزوم في عصر الظلم والضيم الواقع على المسلمين بالتحديد، لا يفكر خارج أدوات الأزمة ومعطياتها، فينجرف إلى الحل المأزوم. إن ظواهر مثل داعش وبوكو حرام لا يمكن تفسيرها فقط في ظل الاختراق المخابراتي والتهويل الإعلامي، وهما عنصران فاعلان وضاغطان، لكن يجب البحث عن جذورهما وأشكالهما في "القابلية للعنف"[1].

   كيف يمكن فك الالتباس الحاصل بين الجهاد والإرهاب، العنف والمقاومة، التباس يصل حد الاشتباك على حافة نصوص مقدسة! فمن هذه الجدلية المأساوية، بين العلو والغلو تجد هذه الورقة مشروعيتها لمعالجة الأصول التصورية والأسس الفكرية والأخلاقية لموقف الإسلام من أشكال العنف والقوة والإكراه، وطبيعة حضور القوة في العلاقات السياسية والحربية، ومنهج الإسلام في بناء مشروعه الحضاري ومنطق التعامل مع موقف الآخر منه أو في التعاطي مع الآخر سواء أكان جماعة داخلية أم خارجية أم كيانا ماديا أم معنويا. وقوام هذه المنهجية أن النية والرغبة والفكرة والاعتقاد والاقتناع شيء خارج السلطان، وخارج القوة المادية سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية. وهو الأمر الذي يجسده القرآن في آيات عدة: "لا إكراه في الدين" (البقرة/256)، "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" (هود/119)، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف/29)، "لست عليهم بمسيطر" (الغاشية/22)، "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" (القصص/56).

على ضوء ذلك نتساءل، لِمَ رغم كل ما في التوجه القرآني من توجه سلمي قوي وواضح في الإسلام، يتبنى كثير من المسلمين اليوم، فهما مخالفا بالكلية لهذا التوجه، فتراهم بالعكس يتقصدون استعراض القوة، ويفتخرون بالعنف، ويظنون الحرب مطلوبة في الإسلام، فيتقصدونها، ويوسعون لها في الأحكام الشرعية؟

القوة، العنف، الإرهاب: إضاءة مفاهيمية

إن تناول موضوعة العنف كأي موضوعة فكرية، يحتاج إلى الإمساك في البداية، بمفاتيح المفاهيم والمصطلحات باعتبارها المدخل الطبيعي لمعالجة الظاهرة بطريقة علمية سليمة، إذ بغير ذلك تصبح اللغة بديلاً مغلوطاً للواقع، تؤسس لتمثلات غير سليمة لعناصره، عوض أن تؤدي دورها الطبيعي الذي هو أن تعكس هذا الواقع وتؤطره بطريقة تحترم منظومة الداخلية.

وقد يستلزم ذلك الوقوف بدءاً، عند ثلاثة مصطلحات رئيسية: «القوة» و«العنف» و«الإرهاب»:

  • القوة: يُستعمل هذا المصطلح في القرآن الكريم استعمالاً إيجابياً في مثل قوله تعالى:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ }([2])، فالقوة سواء أكانت قوة مادية حسية أم قوة معنوية مجردة، مطلوبة وضرورية. إذ بدون القوة الفيزيائية والكيميائية ما وجد الأساس المادي للوجود، ولولا القوة الفكرية والمعنوية والروحية، ما تحققت للإنسان القدرة على التفاعل الإيجابي مع هذه القوة المادية بما هي مرتكز لبناء الحضارات.

فالقوة بالمعنى الإيجابي مطلوبة محبذة، والقرآن الكريم يدعو إليها. وإنما تدان القوة عندما تُستعمل استعمالاً غير صحيح. آنذاك تصبح القوة عنفاً.

  • العنف: مفهوم سلبي ومرفوض في الأديان، وفي القيم الإنسانية، وفي الحضارات الراقية. ذلك أن العنف بما هو استعمال سلبي للقوة يحولها من طاقة ضرورية للإنسان، لبناء ذاته وبناء حضارته، إلى طاقة تدمير. وأول حالة عنف حصلت في تاريخ البشرية كما يسجلها القرآن الكريم أدت إلى إزهاق الروح المقدسة، التي هي من روح الله، هي قتل قابيل، أحد أبناء آدم عليه السلام، لأخيه هابيل. وقد سجل القرآن هذا الحدث وبسطه في عدة مقاطع متكررة ليبين أهميته ومركزيته في فهم ظاهرة العنف ونشوئها في التاريخ الإنساني من منظور الإسلام. وركز القرآن الكريم على وصف حالة قابيل المتردية نفسياً وروحياً بعد أن لجأ إلى استعمال العنف، أي إلى الأداء السلبي للقوة والانحراف بها، كما وجه القرآن أذهاننا لكي تربط وتعلل: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ *مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}([3]). والقرآن الكريم في هذا السياق يتكلم دائماً عن العنف المستعمل بطريقة سلبية ويدينه إدانة شديدة، ويتكلم عن مآلاته الرعناء في ذروتها وهي إزهاق الأرواح، أو إلحاق الأذى بالناس أو إفساد الطبيعة: «إهلاك الحرث والنسل»([4]).

نلحظ ذلك في سياقات متعددة في القرآن الكريم، كما في حديثه تعالى عن أهل الأخدود. فبعد أن بين كيف يُحرق المعتدون المؤمنين ويفتنونهم ويحاربونهم في عقائدهم، ويردونهم عنها بأساليب القوة المنحرفة (العنف) عوض أساليب الإقناع الفكري المجرد، التي هي الوسيلة الوحيدة المقبولة في التصور الإسلامي: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} إلى أن يقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}([5]).

ونقرأ ذلك أيضاً في قصة فرعون، حيث تكلم القرآن الكريم عن القوة السلبية (العنف) في شخصية فرعون ومنظومته الفكرية وطريقته في الحكم، وكيف أنه كان يستضعف بني إسرائيل ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويذل شعبه ويستخفه فيطيعه. ذكر القرآن ذلك في سياق يبين أن هذا النهج هو تحدٍّ مباشر لعقيدة التوحيد، بل وللذات الإلهية. مستخلصاً أن كل من يتجبر ويطغى فإنه يمارس فعلاً شريراً، ينزلق بالناس عن مسارهم في طاعة الله وعبادته اختياراً واقتناعاً وفطرة، وينحرف بهم إلى طاعة غير الله، بمنطق القوة والخضوع للقوة، عندما تصبح عنفاً سلبياً وشركا بالله في الوقت نفسه.

  هكذا يبين القرآن الكريم، في مثل هذه المقاطع، التي تتحدث عن فرعون والفرعنة وعن المتفرعنين وعن الاستفراد بالقوة، عبادة القوة باعتبارها عنفاً، وشركاً بالله. وقد بين القرآن الأساس النفسي الذي يدفع بالإنسان إلى تلبسه هذه الحالة في قوله تعالى: "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى"([6]). وسياق هذه الآية يوضح الأمر أكثر، لأنه يتعلق باعتداد المشركين في عهد الرسول بقوتهم وأبنائهم وأموالهم ونفوذهم باعتبارهم «الملأ المكي»، واعتصامهم بهذه القوة المنحرفة العنيفة، في وجه لغة العقيدة والإيمان  والخطاب المقنع، لغة القرآن الكريم.

وعندما تتم ممارسة العنف، ويصل الأمر إلى مأسسة هذه الممارسة، وإلى الوصول بها إلى ذروتها تصبح إرهاباً. وهنا ينتصب مصطلح «الإرهاب» مقابل مصطلح " Terrorisme".

  • الإرهاب: لقد التقط الغرب مصطلح الإرهاب، وذلك في سياق مبادرته إلى الإمساك بالمصطلحات هيمنة على اللغة الإعلامية، وصياغة للمفاهيم احتكارا وتحكما وتسويقا. ثم وبادر إلى وصم المسلمين بالإرهاب (بمعنى Terrorisme) في سياق منظومة من المفاهيم الهجومية تبدأ بالتشدد إلى التطرف إلى التعصب إلى الأصولية فالإرهاب([7]). وهذا في العمق يدل على أن أحد ثوابت الفكر الغربي هو «نفي الآخر». وقد وضح ذلك جيداً مفكرون نقديون متميزون من العالم العربي، ممن لهم فضيلة الفكر المؤسس والإبداع المتميز، بل والعيش لمدة طويلة داخل المجتمع الأميركي)[8](. فبينوا أن الغرب لا يحاور الآخر ولا يقبله، وأنه في العمق يحاور نفسه بنفي الآخر، لأن الآخر مشروع للهيمنة والإقصاء، بما أنه مشروع للتحكم والسيطرة والاستغلال، وليس مشروعاً للتعايش)[9](.

في حين نجد مصطلح الإرهاب مستعملاً في القرآن في دلالة لا صلة لها بدلالة مصطلح Terrorisme، يقول تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ})[10](. وقد ورد هذا التعليل في سياق الأمر بإعداد القوة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}.

لقد حاول البعض، وانطلاقاً من هذه الآية، أن ينفي عن الإسلام سمة «الروح السلمية»، ويصفه بأنه المؤصل والمؤسس للإرهاب. وقد سُمع هذا الكلام من بعض الأكاديميين المؤدلجين في فرنسا بعد أحداث 11 سبتمبر، وصُرّح بذلك في ندوات تلفزية وفي كتابات لا تحترم نفسها، دون الانتباه المنصف إلى أن المشكلة تكمن في نزع هذا المصطلح من سياقه القرآني، ووضعه ترجمة لكلمة Terrorisme، وإسقاط معانيها عليه، بينما إذا نظرنا في العمق سوف نجد بالعكس أن كلمة "الإرهاب" في هذه الآية تأخذ معنى واحداً هو معنى «الردع» {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ}، أي تعدون من القوة ما يجعله يخاف من الحرب، فيرتدع عن ممارسة العنف الذي يضطركم إلى العنف المضاد. وبهذا يشكل «الإرهاب» في القرآن مفهوماً ردعياً يؤول في معناه العميق إلى طلب السِّلم، لأن الردع يتوخى السلام. الإرهاب إذن في القرآن هو محاولة الوقاية من الاضطرار إلى العنف المضاد بوصفه رداً طبيعياً وعادلاً ومشروعاً ضد العنف. وهكذا نجد أن القرآن كان يهدف إلى معنى تجنب الحرب من حيث هو مطالبة بإعداد القوة حتى لا يستهين العدو بالمسلمين، فيعتدي عليهم ويضطرهم إلى أن يواجهوه بلغة العنف المضاد.

هكذا نستخلص أن مفهوم «الإرهاب» في القرآن يرادف تحديداً مفهوم «الردع». ويتبين هذا أيضاً في تحليلنا لوقائع الأمور: فالقرآن الكريم لما تكلم عن معركة بدر، نسب غياب "الردع" ووقوع الحرب إلى استهانة كل طرف بقوة الآخر: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً}([11])، فلولا أن المشركين في غزوة بدر رأوا المسلمين قليلين لما تجرؤوا عليهم، ولو كان للمسلمين «عدة ترهب عدوهم» لحصل الردع، ولما قامت المعركة أصلاً. بالمقابل قام النبي، بالتطبيق الذكي في الحرب لمفهوم «الإرهاب» بمعنى الردع، فقد أمر عمَّه العباس في فتح مكة أن «يحبس أبا سفيان في شِعْب»، وأن يمرر جنود المسلمين أمامه كتيبة كتيبة، ويَنْسُبَ كل كتيبة إلى قبيلتها. فطفق أبو سفيان يسأل عن كل كتيبة، فيقال: هؤلاء بنو فلان، فيقول مالي ولبني فلان. ولما أدى المفعول السيكولوجي لعملية الاستعراض بالإرهاب، أي الردع، دوره في إقناع أبي سفيان بقوة المسلمين، ركب فرسه ودخل على قومه يقول: «يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به»، فكان فتح مكة سلماً، ولم يرق أي دم بالمرة([12]). وهكذا تحقق أمر الإعداد المؤدي إلى الإرهاب أي الردع، مما أفضى إلى استسلام قريش. ولقد أشاد القرآن الكريم بذلك، وسجله للتاريخ عندما قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}([13]).

وعندما انتهى أمر فتح مكة واستسلمت، وطبق النبي المفهوم السلمي الحضاري، وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولم يمارس حقه الطبيعي في ممارسة العنف المضاد و المشروع: أي العقاب بالمثل:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}، واختار تطبيق الخيار الثاني {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}([14])؛ لما انتهى رسول الله من ذلك، أراد أن يغلق الملف نهائياً فقال مخاطباً المسلمين: «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض (منع بها القتال)... وإنما حلت لي ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»([15]). رغم أن استحلالها ذلك اليوم كان استحلالاً سليماً حضارياً راقياً.

انطلاقاً من هذه الأمثلة، يتبين لنا أن مفهوم الإرهاب في القرآن مفهوم ردعي، ولا علاقة له بالإسقاطات البَعدية التي جاءت بعد قرون بفعل وضع كلمة "الإرهاب" مقابل كلمة Terrorisme([16]).

من خلال فحص المفاهيم الثلاثة: القوة، العنف، الإرهاب؛ يتبين لنا:

  • أن القوة شيء إيجابي ومطلوب؛
  • أن نبذ القوة فكرة مثالية وطوباوية حالمة، لأن الكون قائم على القوة المادية، وإنما ينبغي تصريفها إيجابياً وحضارياً؛
  • أن القوة إذا انزلقت إلى أداء سلبي تصبح عنفاً، والإسلام يدينه بجميع المقاييس؛
  • أن القوة إذا تمأسست، ومُنْهجَت صارت «إرهاباً»، وهو ما يرفضه الإسلام أكثر ويدينه. إلا أن هناك إشكالاً مصطلحياً يتعلق باستعمال كلمة «إرهاب» في القرآن الكريم، حيث تبين لنا أنه لا علاقة لهذه الكلمة القرآنية بالمقابل الأوروبي؛ وأن المفهوم القرآني، هو عكسه تماماً، إذ هو في العمق مفهوم سلمي يؤول إلى السلم؛ لأن الردع إنما يتغيا السلم من حيث هو وسيلة لمنع الحرب.

ثانيا-الأسس التصورية والفكرية لموقف الإسلام من العنف

تتجلى هذه الأسس في ثلاث مستويات رئيسة: مدى قبول الآخر، ومدى قبول الاختلاف، ومدى إدراك طبيعة الإنسان المتأبية على القهر فيما يتعلق بالاعتقاد.

إننا نجد دائماً أن الانزلاق إلى تبني العنف والتنظير له في نظريات القوة في حضارات العنف والسيطرة، يتأسس في العمق على ثلاثة أسباب: إما عدم قبول الآخر، أي السعي إلى نفيه وبالتالي إباحة استعمال القوة لمحوه من الوجود محواً مادياً. وإما عدم قبول الاختلاف معه، مما يعني صهره وإدماجه وإرهاقه والضغط عليه وتنميطه كما تفعل العولمة اليوم لمحوه معنوياً. وإما الجهل بطبيعة الإنسان من حيث الظن بأن طبيعته تقبل القهر، أو التخلي عن المبادئ والقيم، أو تحويلها تحت ضغط القهر.

بالنسبة للإسلام، أتصور أنه قد برهن بما يكفي عن قبوله بالآخر، وقبوله بالاختلاف مع الآخر، وذلك بسبب ادراكه العميق والسليم لطبيعة الإنسان. والنتيجة الطبيعية لأي منظومة فكرية أو عقدية أو حضارية تقبل الآخر، وتقبل الاختلاف معه وتدرك طبيعة الإنسان؛ هي انتفاء العنف منها تلقائياً، بحيث لا يحتاج إلى تنظير إضافي مستقل، كما لا يحتاج إلى تأسيس قائم الذات في هذه الموضوعة، بل قد لا تطرح الموضوعة أصلاً للنقاش.

  • إن الإسلام يؤسس لقبول الآخر تأسيساً عملياً وواقعياً عندما يرفض كل أشكال العنصرية تجاه الآخر، كما أنه يرفض تصنيف الآخر بسبب اللون أو الجنس أو العرق أو الاعتقاد[17] أو لغيره من المسببات «غير الاختيارية»، و بالتالي لا يمكن أن ينشأ في ظل التصور الإسلامي موقف يرفض الآخر يؤدي إلى تسويغ العنف ضده لمسبب لوني كما فعل نظام الأبرتايد في جنوب أفريقيا، أو لمسبب عرقي كما فعلت الحركة الفاشية والنازية، أو لمسبب ديني كما هو حال الصراعات الدينية التي نشأت في أوروبا بين مختلف المذاهب المسيحية، أو فجر العصر الحديث بين البروتستانت والكاثوليك، والذي استمرت جذوره واضحة مشكلة إيرلندا إلى اليوم.

وهكذا تنتفي ذاتياً كل أسباب ممارسة العنف أو الإرهاب ضد الآخر لإذلاله أو إقصائه أو محوه محواً مادياً من الوجود، ما دام يتأسس في ضمير الإسلام التلقائي والمنطقي والمؤصَّل كل أشكال قبول الآخر، عوض كل أشكال رفضه.

لنأخذ مثلاً السبب الديني، والذي قد يبدو، بالنسبة لدين كالإسلام جاء يقول إنه خاتم الديانات وأنه ناسخها والمهيمن عليها، سبباً وجيهاً: نجد القرآن الكريم في عدة مقاطع عندما يحدد علاقته بالديانات السابقة، قبل أن يقول:{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}، يقدم قبلها: {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ}([18]). وللأستاذ عباس الجراري تفسير ذكي للهيمنة، فهو لا يرى فيها إلغاء ولا إقصاء، وإنما يرى فيها منطق التصحيح والتنبيه إلى ما وقع من التحريف في هذه الديانات، وَرَدّاً لها إلى أصلها المشترك مع الديانة الإسلامية[19]، والذي هو الأصل الإبراهيمي أو الأصل الآدمي. ودليلي على أن «الهيمنة» هنا هي مفهوم تكاملي وليس مفهوماً إقصائياً هو ما نلمسه على مستوى التصور والسلوك النبويين، وكذلك سلوك الصحابة في فقه التعامل مع غير المسلمين:

فعلى مستوى التصور: يقول النبي)ص) في حديث نبوي صحيح بيَّن فيه موضعه بوضوح عبر مثال فقال: «إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كرجل بنى بيتاً فأحسنه وأكمله وجمله إلا موضع لبنة في ركن، ثم طفق الناس يطوفون بالبيت ويقولون ما أجمله وأكمله لولا تلك اللبنة... فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيئين»([20])، فجعل النبي(ص) لدوره ولرسالته ولموقعه موقع لبنة صغيرة في ركن قصي في بيت كبير. وهذا ليس تكاملاً فقط بل تواضع كبير أيضاً. ولا يمكن لدين يرى نفسه مجرد لبنة في بناء ضخم أن ينفي هذا البناء وأن يهدمه أو يزيله من الوجود بأي شكل من أشكال العنف أو الإرهاب أو القوة المنحرفة؛ من أجل أن يجعل اللبنة بديلاً للبيت. فاللبنة لن تؤدي وظائف البيت ولن تكون بديلاً له أبداً، على مستوى الواقع البشري العام، لا بمنطق الصواب المجرد. أما على مستوى الفقه النبوي و فقه الصحابة في التعامل مع الآخر، فعندما فتح عمر بن الخطاب بلاد فارس عرض له إشكال فقهي جديد في إطار المستجدات التي تحوج إلى اجتهاد؛ وهي أنه يتعامل مع نمط جديد من الاعتقادات الجماعية الذي هو المجوسية، فاستشار الصحابة واحتار في الأمر، ذلك أن القرآن والسنة النبوية يؤسسان للعلاقة مع اليهود والنصارى ضمن مفهوم «أهل الذمة»، بحيث تقوم العلاقة معهم على عقد تشارطي يسمح لهم بالعيش مع المسلمين، والتمتع بالحرية في العبادة والعلاقات الاجتماعية، على أن يترك لهم كل ما يتعلق بالأمور الداخلية. لكن المجوسية ديانة أرضية غير سماوية وغير مذكورة في القرآن الكريم، ولا يوجد موقف صريح من أهلها فيه، وانطلاقاً من مبدأ التوحيد الإسلامي الصارم، يفترض أن يكون هناك موقف جذري منها وهو الرفض. فإذا بعبد الرحمان بن عوف يقول: «أشهد على رسول الله أنه قال: سُنّواْ بهم سنة أهل الكتاب»[21]. وبذلك تم توسيع مفهوم الذمية من حيث هو تأسيس لعلاقة إنسانية راقية تقبل الآخر، وتضمن له حقوق حرية العبادة وحرية الاعتقاد وحرية المؤسسات التعبدية، والفقه الخاص الذي تنبني عليه العلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية. كما تم توسيع هذا المجال لكي يشمل كل الديانات المرفوضة مبدئياً بما فيها ديانات أرضية ووثنية وديانات ليس فيها موقع لله أصلاً، لا هو فيها ثالث ثلاثة كما عند النصارى؛ ولا خاص بالقوم كما عند اليهود، بل هو غير موجود أصلاً أو هو نار أو تراب أو حجارة. وتوسيع مفهوم الذمية مؤشر في الإسلام على قبول الآخر دينياً مهما تطرف في ابتعاده عن المسار الإبراهيمي أو المسار النبوي العام؛ المفصل في القرآن من آدم عليه السلام إلى محمد(ص).

إن الإسلام يقبل الآخر ذاتا وفكرا، وهذا ما يدفعه إلى أن يضع نظرية في تدبير التعايش، بناء على أن الآخر أمر واقع، وأن الاختلاف مع الآخر أمر واقع أيضا، فالإسلام ينظر إلى الاختلاف بوصفه طبيعة، أي أنه جبلة بشرية متأصلة، فلا يعتبره انحرافاً ولا منكراً، ولا استثناء، بل ينظر إليه على أنه الأصل. يقول تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}([22])، فيبين بذلك أنه خلقهم من أجل الاختلاف، وأن الاختلاف جزء من طبيعة وجودهم، لا ينتفي بانتفائهم. والاختلاف في التصور الإسلامي رحمة، يكفي ما يقال عن خلاف الفقهاء: «خلاف العلماء رحمة». إن الاختلاف يؤسس للاجتهاد في الرأي. لأن الاختلاف في زوايا النظرة الشرعية أو الفقهية أو السياسية هو الذي يؤسس للاجتهاد، ولأن الاختلاف جزء من الحرية، فإن الإسلام يجعل من حق الإنسان أن يختلف، ويبني هذا الاختلاف كسلوك فطري على أرضية هي في عمق هذه الفطرة؛ هي التوق إلى الحرية، والرغبة في الحياة بحرية. كما ينظر الإسلام إلى الاختلاف على أنه خصب، وأن التعدد في زوايا النظر يؤدي إلى إخصاب الفكر والواقع الإنساني بل والمشهد البشري على الأرض.

ولم يكتف الإسلام بهذا النظر المجرد إلى الاختلاف بكونه طبيعة ورحمة واجتهاداً وحرية وخصباً. وإنما قام يؤصله بالدليل. فالعلماء ينظرون جميعاً، في أصول الفقه، إلى الاختلاف في الأحكام الشرعية بوصفه اختلافاً طبيعياً وقدرياً ولازماً، والفقه في طبيعته يتشكل من آراء مختلفة، حتى في الأمر المقدس الذي تعبدنا الله به؛ أي أننا نختلف حتى في فهمنا لأمر الله، حيث نمارس عبادة الله عن طريق فهمنا لهذه العبادة، ونختلف في ترجمتها إلى سلوك دون أن يكون في ذلك تناقض، لأن الحق ولو أنه واحد إلا أنه ليس هو الصواب: الحق واحد والصواب متعدد، ويمكن أن يكون للحق أشكال متعددة من الصواب.

في هذا الإطار تأتي أول بادرة اختلاف أصلها المسلمون وطبقها النبي(ص) بالإقرار. والإقرار مصدر من مصادر التشريع النبوي مثل القول والفعل والصفة. ذلك أن النبي(ص) أمر الصحابة أن يسارعوا إلى بني قريظة فقال : «من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة »، لكن لما دخل وقت العصر وهم في الطريق انقسموا إلى قسمين : قسم فهم الأمر النبوي حرفياً وأكمل الطريق إلى أن دخل الليل، فصلى العصر مع العشاء الآخرة، رغم أنه يعتبر من التفريط الكبير أن يصلي المسلم العصر بعد الغروب، وقسم آخر اجتهدوا في فهم النص النبوي فانطلقوا إلى روح النص، ولم يقفوا عند ظاهره وقالوا إنما هي من أساليب الحث والتوكيد، فتوقفوا وصلَّواْ العصر، ثم وصلوا متأخرين قليلاً فصلوا المغرب والعشاء. فلما التحق النبي(ص) بهم بعد ذلك في اليوم الموالي وحدثوه بالأمر أقر على اجتهادهم، وأقر هؤلاء على اجتهادهم([23]). فأصَّل بذلك لدور الإنسان في فهم النص وتأويله وقراءته وتنزيل فهمه للواقع، مما يدل على استيعاب الإسلام لكون التعاطي الفعلي مع النصوص خلافياً وترجيحياً ونسبياً يَحتمل الخطأ. والإسلام هو الذي أصل للثواب على الخطأ، وليس فقط لإعفاء الناس من جريرة الخطأ، عندما اعتبر المجتهد المخطئ مأجوراً، ولم يكتف بالقول: من اجتهد فأصاب فله أجر، ومن اجتهد فأخطأ فلا شيء عليه، فهذا ليس محفزاً. وإنما قال «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران»([24])، وحتى هذا التمييز البسيط، ليس لتفضيل المصيب على المخطئ. فكلاهما مجتهد، ولكن لحفز الناس على إتقان الاجتهاد، حتى لا يكون مجرد اجتهاد لأجل الاجتهاد، وإنما الاجتهاد من أجل الوصول إلى الصواب، ولولا هذا الأمر لسَوَّى الإسلام بين المجتهد المصيب والمجتهد المخطئ. وهكذا يحارب الإسلام التنميط والحرفية في فهم النصوص، ويحارب الارتباط الشكلاني الذي يقوم على الانصهار في بوتَقة واحدة؛ مما يؤدي إلى إلغاء البعد الفردي والاختلاف وإلغاء الجانب الذاتي والخاص في أسلوب الإنسان وعقليته ونفسيته. وبالتالي لا يمثل الإسلام حالة نفاق عامة للناس يرتبطون فيها بالدين بارتباط منمط عبر سلطة فكرية ظاهرة تطبعهم بطابع واحد وتجعلهم في قالب واحد، وإنما يغذي التدين والإيمان ويعطي للتعاطي مع النص حيوية ويدفعه إلى أن يتحلى بالزخم الواقعي للطبيعة البشرية القائمة على الاختلاف([25]).

وهكذا يتأصل في الإسلام قبول الاختلاف مع الآخر، باعتباره أحد موانع ونوافي استعمال العنف الذي يكون من أجل إلغاء الاختلاف وإلغاء الرأي الآخر.

إن الإسلام يقبل الآخر ذاتاً وفكراً، وهذا ما يدفعه إلى أن يضع نظرية في تدبير التعايش، بناء على أن الآخر أمر واقع، وأن الاختلاف مع الآخر أمر واقع أيضاً، ويبني الإسلام تصوره لتدبير التعايش على جملة عناصر، نكتفي بذكر ثلاثة منها فقط، أولها تصوري وثانيها أخلاقي وثالثها عملي:

أولاً - الأرضية المشتركة: فالإسلام يبحث دائماً عن أرضية مشتركة، ويدعو إلى توفيرها كي تجعل الخلاف قابلاً لأن يتعايش به في إطار مشترك يمكن أن يتحول إلى فعل مشترك، ومستقر ومنسجم. هكذا نقرأ قول الله عز وجل في حوار مع اليهود والنصارى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}([26])، والقرآن يتنازل بموجب ذلك منهجياً عن الشق الثاني من الشهادة «محمد رسول الله»، لأن هذا الأمر مرفوض من الآخرين، ليكتفي بالمشترك الذي هو الإيمان بالله؛ وليؤسس به أرضية إنسانية منسجمة تقوم على التعاون والتعايش بين الديانات الثلاث، هي ما يطلق عليها القرآن الكريم «الكلمة السواء».

ثانيا - الحوار: لقد رفض الإسلام كل الأشكال المادية للتدافع، وطالب بشكل حضاري سلمي معنوي للتدافع، هو التدافع بالفكرة والكلمة، وبكل ما يمكن أن يحقق التواصل وليس التنافر. والحوار هنا يأخذ مجالات أرقى كما يوصف بصفات ويقيد بقيود منها قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([27])، هكذا نؤمر بأن نجادل بــ «التي هي أحسن»، وقد أمرنا بذلك أيضاً بقوله تعالى للنبي(ص):{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([28]). وللشيخ القرضاوي التفاتة لطيفة هنا عندما يعتبر: أن الموعظة تكون حسنة، أما الجدال فيكون أحسن، لأن الموعظة تكون للموافق، في حين أن الجدال يكون مع المخالف. وإذا أُمِر المسلمون بأن يحسنوا خطابهم مع الموافق، فقد أمروا بدرجة أعلى من التحسين مع المخالف، حيث يكون المحاور عرضة للانفلات والانزلاق إلى العنف المادي أو الرمزي، فيحتاج إلى الاحتياط وضبط النفس، وإلى مستوى عال من التحكم في الاندفاعات «الغضبية» عند الإنسان لمواجهة المحاور بغير خشونة، حتى يواجه الاختلاف متحلياً «بالأحسن» ليكون حواره مقبولاً وسليماً([29]).

ثالثا- التعاون: وهو يبسط المجال العملي لتدبير التعايش حتى لا يبقى مجرد محسنات وتحليات وعواطف ومجاملات، وإنما يتحول إلى إنجاز إنساني مشترك بين جميع الأطراف. يتحقق التعاون فيما هو متفق عليه؛ فيما هو مشترك؛ أو في المجالات الحيوية والضرورية. والإسلام يحض على هذا التعاون بدءاً بتناول الأطعمة بشكل يؤصل لبعد اجتماعي أخلاقي: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ}([30])، إلى المصاهرة وتبادل العلاقات بالرحم والقربى؛ فالقتال المشترك في وجه المعتدين، بحيث أمرنا أن ننصر المظلوم ولو كان كافراً. ناهيك عنا لتعاون في تدبير الشأن العام والشأن الخاص والمحلي والشأن الدولي، سواء أتعلق الأمر بالحفاظ على المجال البيئي الحيوي أم الحفاظ على المجال الحضاري الإنساني.

وهكذا لا يكتفي الإسلام بقبول الاختلاف، وإنما يجاوز ذلك إلى تفعيل هذا الاختلاف، عن طريق بسط ثلاث عناصر متكاملة أن أولها تصوري(التفاهم) وثانيها أخلاقي(التحاور) وثالثها عملي(التعاون).

نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}([31])؛ {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}([32])؛ {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}([33])؛ {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}([34])؛ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}([35])، وهي كلها آيات قرآنية في كتب التفسير، وفي منطق التنزيل المكي والمدني وأسباب النزول، فإننا نجدها تفسر منهجية الإسلام في التعامل مع موقف الآخر منه، أو في التعاطي مع الآخر سواء أكان جماعة داخلية أم خارجية أم كياناً مادياً أم معنوياً. وقوام هذه المنهجية أن النية والرغبة والفكرة والاعتقاد والاقتناع شيء خارج السلطان، وخارج القوة المادية سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية. ويتبين لنا ذلك بوضوح في مقطع فريد من القرآن الكريم يتحدث عن سحرة فرعون، وهم يمثلون القوة الرمزية لدولة فرعون، التي كان يعزز بها قوته المادية التي لا تعرف إلا لغة القهر والتسلط والتجبر {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}([36])، أي إلغاء الاختلاف ونفي الحق في أن يكون لسواه نظرة مختلفة، واستبعاد أي إمكانية لأن يكون عند غيره صواب أو عنده هو خطأ، فليس عنده إلا الصواب وليس عند غيره إلا الخطأ. إنها التبعية المطلقة والاستضعاف الذي عبر عنه القرآن بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}([37]). والفسوق هنا ليس بالمعنى الأخلاقي، ولكن بالمعنى التصوري والروحي والفكري عندما يقبل شعب أن ينمطه حاكم ويستلحقه به، وأن يلغيه ويجعله مجرد رقم وتابع. لقد انضم السحرة إلى جانب فرعون لكي يكونوا جيشاً معنوياً إلى جانب الجيش المادي، ولكي يمارسوا «العنف الرمزي» على العقول، وهو العنف الذي بين القرآن أنه مجرد حيل وتلاعب: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}([38])، وذلك في فرصة استثنائية أتيحت لموسى عليه السلام خُدع فيها فرعون، حين قال{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}([39])، فأخطأ مرة واحدة في حياته بأن سمح للناس بأن يقارنوا الرأيين، والقوتين، والفكرتين ويحكموا، فاستطاع موسى عليه السلام أن يُذهب كل ألاعيب السحرة، و آمن الناس و كان السحرة أول من آمن، حين أحسوا بفعل الانعتاق من الداخل، وخرجوا من سطوة فرعون المادية التي كانت سطوة الذل والطمع: {أئنّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}([40])، وسطوة الاسترزاق بالمعرفة المعكوسة والموظفة بطريقة انتهازية. لقد أحسوا بأن الذي كان ينقصهم هو أن يتحرروا من ذاتهم أولاً، ومن خضوعهم المعنوي والمادي له. فلما هددهم فرعون بالقتل: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}([41])؛ بمنطق القوة وعبادة القوة، أجابوه: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}([42])، هذه الحياة الدنيا أي أجسادنا، التي يمكن أن تتحكم فيها تحكماً مادياً في الدنيا، أما عندما تتحرر الأرواح فلا سلطان لك علينا. يمكنك أن تقضي على هذا القفص الطيني لكنك لن تصل إليها.

إنها إذن لحظة تحرر حقيقية من هذا المنهج الخاطئ الذي هو منهج عبادة القوة، والشرك بالله عن طريق عبادة القوة لأنه لا يُعبد إلا الله. لحظة واحدة كانت كافية لتحرير ليس فقط من كانوا مشروعاً للقهر، وإنما أداة من أدواته، وجزءاً من سلطان القهر. لذلك يتبين لماذا اختار الإسلام مبدأ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}([43]). رغم أنه جاء دعوة إلى أن يكون الدين كله لله([44]).كما اختار: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[45]، و{فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}([46])، و{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر}ٍ[47]، و{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ...}([48]) ...إلخ. وقد نزلت هذه الأخيرة في حزن رسول الله(ص) على عمه الذي أراده أن يسلم حباً فيه وإثباتاً لمصداقيته، حتى لا يقول الناس هذا نبي لم يقنع عمه وهو أكبر نصرائه والمدافعين عنه، فكيف سيقنعنا نحن، وكأنَّ هناك مساً بمصداقيته إذ لم يستطع أن يقنع أحب الناس إليه، الذي يرتبط به بجسر المحبة وجسر النصرة، فكيف يقنع الأبعدين عنه نفسياً ومادياً. ومع ذلك فإن الله سبحانه أنزل آية يُيْئِس فيها النبي(ص)، ويقطع عليه الطريق حتى لا يلجأ إلى أساليب أخرى غير أسلوب الإقناع والدعاء والأسلوب الذي يليق بالإسلام، وهو عدم الإكراه.

يضع الإسلام عبادة الله (التوحيد) في مواجهة عبادة القوة، إذ يدعو لتأسيس منطق الفكر عوض منطق الإكراه، وينسجم الإسلام مع ذاته عندما لا يدخل العنف آلية معتمدة لا في البناء ولا في تأسيس العلاقات ولا في التحكم ولا في مشروع الدولة. ومن ثم يهدف الإسلام إلى ترسيخ منهج اللاعنف ومنهج الحوار والإقناع التحريري لعقل وضمير الإنسانية، طريقا وحيدا ترسم به اختياراتها في هذه الحياة إن حقا أو باطلا، في حين يعلمنا القرآن أن خصوم الدعوة هم وحدهم الذين يلجؤون للقوة "قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم"[49] بما هي فعل عنف مقترن بالباطل.

ثالثا-الجهاد وسؤال الحرية التحرر

سنختار من أجل الاختبار العملي نقطة تبدو لدى البعض، مناقضة لهذا الخط الذي بسطناه سابقا، ولو ظاهريا على الأقل وهي قضية الجهاد. إذ يوصف الإسلام غالبا من قبل خصومه من صليبيين ومستشرقين وصهاينة ومتعصبي العلمانيين، بأنه أكره الناس بالسيف ومارس عليهم القتل، ووضعهم تحت طائلة الإعدام من أجل أن يدخلوا فيه ويعتنقوه.

لقد جيش الإسلام، حسب هذه الدعوى، جيوشا وفتح بها العالم، وبالتالي فالإسلام مثل باقي الإمبراطوريات الكبرى قد لجأ للقوة، واستعمل أقساها وهي القوة العسكرية لاحتلال الشعوب وإكراهها على التحول إلى الإسلام، أو كما كان يقول المستشرقون التقليديون دائما: إن الإسلام انتشر بالسيف.

سوف أكتفي هنا أيضا ببعض المحددات والمبادئ والسلوكات:

أولا: السياق التصوري: نستشف من قوله تعالى في إعلان واضح وصريح ومبدئي: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم"[50]، أن القرآن يبين كون الفطرة الإنسانية والرؤية الإسلامية تنبذ العنف وتكره استعمال القوة أو الإفراط في هذا الاستعمال. إنها فطرة مسالمة سلمية. ومعلوم القاعدة الكلية في الإسلام، وهي أن التشريعات تتأسس على أساس الفطرة، فالأمر بالتوحيد ينبني على فطرة عبادة الله عز وجل وتوحيده وتعظيمه، أمر الزوج بالنفقة على عياله يرتكز إلى فطرة الكرم التي ركزت في الإنسان، النهي عن الظلم والإيذاء والاعتداء يستند كتشريعات إلى أن الإنسان مفطور على كراهية الظلم وعلى استنكار الاعتداء، والنهي عن الكبر مبني على أن الإنسان قد ركزت فيه فطرة التواضع وكراهية المتكبر، فلا يكره الإنسان شخصا لم يؤذه كما يكره المتكبر لمجرد مشيته المتبخترة. كل هذا يدل على أن ما أسميه "بالتأسيس الفطري للأحكام الشرعية" مطرد في كل أحكام الإسلام، ومعنى هذا أن التأسيس لحكم شرعي بالمسالمة وتجنب العنف يستند على فطرة كراهية القتال، مما يقوم دليلا واضحا على أن القتال حالة استثنائية في الإسلام.

ثانيا: يبين "السياق السياسي والتاريخي" لتشريع القتال في القرآن الكريم "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير"[51]، أن الإذن بالقتال نزل في سياق الدفاع والاقتصاص، وهذا هو الشرط الوحيد والظرف الوحيد والاستثناء الوحيد الذي يجيز فيه الإسلام استعمال القوة، أي يجيزه لمواجهة القوة، استعمال الردع لمواجهة الاعتداء، استعمال الخشونة لمواجهة الخشونة المضادة.

إن هاتين الآيتين وغيرهما لا تكتفيان بالتشريع أو البيان، وإنما تخلقان جوا عاما، ينبذ عبادة القوة والاحتكام إليها، وهو جو مناقض للجو السياسي العام الذي نزل فيه القرآن، والذي ظهرت فيه دولة الإسلام، بحيث كانت جميع الدول والأمم المحيطة به تعبد القوة، من الرومان إلى الفرس إلى الحبشة وغيرهم.

إن الحديث عن الجهاد في القرآن هو تدبير حل لمشكل لا سعي لخلقه، وإن تشريع الجهاد ليس للمبادرة بغرس هذا السلوك كاختيار عند المسلمين، وإنما هو سعي لمواجهة حالة موجودة وقائمة وما زالت عند البشرية إلى اليوم، للأسف الشديد.

إن سياق الحديث عن القتال واعتماد القوة واضح في عموم تشريع الإسلام، (مثل سياقات الحديث عن مشكل الرق أو مشكل الفقر أو مشكل العنف في العلاقات الاجتماعية) هي سياقات لتدبير هاته المشاكل لا لتبنيها.

ويتبين ذلك أكثر عندما ندخل في تفاصيل فقه الجهاد، فمن جهة يعتبر الإسلام استعمال القوة في الجهاد حالة اضطرارية تتوقف فور توقف دواعيها: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله"[52]، وجواب الشرط هنا بالفاء الملزمة بالفور والعجلة والسرعة، بمجرد ما يكف العدو عن الاعتداء، على المسلم أن يتوقف فورا عن عملية رد هذا الاعتداء. فهذا عهد سلم لكف الأذى المتبادل، يأمر القرآن بتبنيه. وعندما يتكلم القرآن الكريم عن "المعاهدين" ينهى عن كل أشكال إيذائهم أو نقض العهد معهم، ويعتبر ذلك غدرا وكفرا يخرج من الملة: "إلا الذين عاهدتم من المشركين"[53]، وعندما يتكلم القرآن الكريم عن ضبط العلاقات مع الآخر، يحددها تحديدا عمليا قائما على محدد واحد وهو درجة استعماله للعنف: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم"[54]، فالقرآن يبين بوضوح أن الموقف من الآخر ليس موقفا من دينه ولا من عقيدته ولا من حضارته ولا من حقه في الوجود، ولا من هيمنته على جزء من هذه الأرض أو من مساهمته في بناء الحضارة أو منافسته للمسلمين في مجالات اقتصادية وسياسية أو ثقافية، وإنما هو موقف من اعتدائه على المسلمين، فمن اعتدى على المسلمين حرمت معاشرته ومبايعته ومناكحته والتعاون معه، وإذا توقف عن إيذائهم فإن كل ذلك يعود إلى دائرة الجواز، بل ويصبح هو الأصل! وعندما يقول عز وجل: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين"، يبين أن الأصل هو البر وهو القسط وهو الإحسان، فلسنا مأمورين فقط بمهادنتهم أو مسالمتهم وعدم الاعتداء عليهم، بل نحن مأمورون بالإحسان إليهم والبر بهم والإقساط إليهم، وهذا مستوى عال في العلاقات الإنسانية. لكن ذلك يتوقف استثناء إذا كان هناك داع واحد، وهو أن يقاتلونا في الدين لإكراهنا على الرجوع إلى الكفر ونزع صفة الإسلام عنا أو إخراجنا من ديارنا أو المظاهرة على إخراجنا. وحتى عندما يحتاج المسلمون لذلك، فإن على المسلم ألا يغدر وألا يبيت وألا يباغت، وعليه أن يعذر وأن ينذر ويوضح: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء"[55]، فلا بد أن ينبذ المسلم إلى العدو، ويعلمه ويهيئه نفسيا وينذره بالحرب، فإن أصر على الخيانة، يقاتله، وإذا لم يصر فإنه يرجع عن الأمر.

وإذا انتقلنا إلى مستوى ضوابط استعمال القوة، ومحدودية السياق الذي يجيز اضطرارا وفي أضيق الحدود استعمال القوة لمجابهة القوة، ردا للاعتداء فقط، فإننا نتنسم على أجواء القرآن الكريم العابقة بالسلم والداعية إلى السلام، حتى ليغدو فضاء مهيمنا ندعى إلى الدخول فيه، والتمثل العملي لهذا الخلق الفكري في الممارسة السياسية الإسلامية.

نجد القرآن يدعو إلى السلام كحالة شاملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}([56])، وليس أقوى من هذه الآية وليس أشد منها بياناً في أن السلم حالة عامة وشاملة وأصلية، وأن المسلم لا يؤمر بالتحلي بالسلم فقط بل يؤمر بالدخول فيه حتى يكون فضاء يلفه من كل جانب. و«السلام» اسم من أسماء الله الحسنى، وجاء في القرآن الكريم: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ}([57]). كما أننا أمرنا بإفشاء السلام، وتحيتنا هي السلام، وتحية أهل الجنة السلام: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}([58])، وليلة القدر المقدسة: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}([59])، والمبدأ أن المسلم يختم صلاته بالسلام. فهل بمكن أن يكون هذا مجرد حالة فصام تقتصر على مستوى الخطاب وتتعايش مع واقع حب القتال والركون إلى العنف؟؟ يقول الرسول (ص):«والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحببتم: أفشوا السلام»([60]).

هذه الروح العامة تجلت في سلوك المسلمين، فكل الحروب التي خاضها النبي (ص) كانت حروباً دفاعية: «بدر» مثلاً كانت من أجل أن المشركين جاؤوا يعتدون على حقه في استرجاع بعض ما نُهب من المسلمين في الهجرة، و«أُحُد» كانت مبتدرة من المشركين من أجل الانتقام، و«فتح مكة» كانت لرد اعتداء المشركين على حلفاء المسلمين، وختمت بموقف: «أنتم الطلقاء». ولو كانت رغبة النبي (ص) في القتال لمارس القتال بعقلية المقاتل، ولما أنهاه بالعفو عمن آذوه وأخرجوه وطردوه، وهددوا وجود الإسلام طيلة فترة الدعوة وأغلب فترة الدولة. لكن بعض المسلمين اليوم، ولظروف نفسية وفكرية وسياسية، ينظرون إلى الفتوحات والمعارك الكبرى في تاريخ الإسلام الأول، بطريقة لا تؤسس لعقلية سلمية، ويبالغون في وضعها خارج سياقها الطبيعي كحالة اضطرار، أو كحالة طوارئ كما يسميها منظر السلمية الإسلامية المعاصر جودة السعيد([61]).

وقد تمثل الخلفاء الراشدون-رغم خوضهم لمعارك شديدة طيلة فترة حكمهم – هذه الروح فاجتهدوا لتحرير الشعوب المجاورة من طغيان الفرس والروم، مع تقليل الخسائر الروحية والمادية جهد الإمكان. فعمر بن الخطاب مثلاً، يرسل مئات الرسائل إلى جنده المنتصرين يردعهم فيها عن الاعتداء: «... ولا يرزأ أحداً من أهلها شيئاً، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها... ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح»([62])، ويهدد من يخدع بالأمان محارباً ليقتله بأنه «... والذي نفسي بيده، لا أعلم مكان واحد فعل هذا إلا ضربت عنقه»([63]).

بل إن الجهاد، حتى عندما توسع، كان يستهدف ضرب القوة السياسية والعسكرية للدول الديكتاتورية التي تقوم على حرمان الناس من حق الاختيار، وحرية اتباع الدين الذي يريدونه. فإذا رفعت هذه الوصاية عن الناس بفضل الجهاد، خَيَّر المسلمون بين الناس أن يسلموا أو يبقوا على ما هم عليه. فقد فُتحت فارس وبقي أهلها مجوساً دون أن يمسه أحد، وألحق المجوس بأهل الذمة. كما أن المسلمين لما وصلوا إلى الصين وأذن لهم ملكها بحرية الدعوة وبناء المساجد، توقف القتال وانتشرت الدعوة سلمياً عن طريق التجار.

لقد شرع الجهاد من أجل أن يتحرر الإنسان، ومن أجل أن يتمتع بحرية الاختيار العقدي، لإعطائه فرصة الاختيار بعيداً عن نظام مستبد يحرمه من ذلك، ويلزمه بقانون: «الناس على دين ملوكهم»([64]).

يضاف إلى هذا، الأخلاق المُصاحِبَة للقتال كحالة طوارئ اضطرارية، والتي يزيد الإسلام من التشديد عليها: مثل النهي عن قتل النساء أو الأطفال، أو الشيوخ أو الأسرى، أو الجرحى، ومراعاة البيئة، وعدم التنكيل بجثث القتلى. ومعروفة هي الواقعة المشهورة التي اضطر المسلمون خلالها إلى أن يقطعوا بعض نخيل خيبر لتخويف اليهود المحاصرين حتى يقنعوهم بالاستسلام؛ لقد أذن لهم بذلك استثناء، وفي إطار ضيق جداً، وجاء في السيرة أنهم قطعوا ثمان نخلات، ومع ذلك فقد حصل عند المسلمين بحكم التربية التي أنشئوا عليها، أزمة ضمير تجاه هذا الفعل، فنزل قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}([65])، يعزي المسلمين ويسوغ لهم أمر قطع النخل استثناء وبعدد محدود جداً([66]). لقد أُمِرَ المسلمون بكل أشكال الرفق المصاحبة للقتال رفقاً بالإنسان والبيئة، رغم أن القتال بطبيعته ليس من قبيل الرفق. فالمسلمون مأمورون بالإحسان حتى في حالة «الاضطرار إلى الإساءة»، ومأمورون بالرفق حتى في حالة استعمال القوة. ولا أدل على أن عقلية الإسلام لا تنسجم مع اختيار العنف؛ وأن مشروع الإسلام مشروع مدني سلمي، وليس مشروعاً حربياً عسكرياً، ما فعله النبي (ص) حين كاتب شطرا من أسرى بدر على أن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة مقابل أن يطلق سراحهم. فهل يمكن للذي يريد أن يستعمل الحرب نفسها للبناء؛ للعلم؛ للحضارة ولتركيز الاختيارات المدنية السلمية، أن يكون طالباً للحرب وراغباً فيها، ومقتصداً لإشعالها، حيثما أتيح له ذلك؟!.

هكذا نرى أن الإسلام يتحدث عن القوة، الحرب والجهاد، باعتبارها كرهاً لنا، حالة استثنائية؛ حالة دفاعية يقيدها بكل الاحتياطات وبكل ما يخفف من وطأتها. ويدعو إلى إنهائها بأسرع ما يمكن من الوقت عندما يتوقف الداعي الخارجي، ويسعى فقط إلى أن يبحث عن أي مجال لحرية الدعوة تغنيه عن استعمال القوة ضد الديكتاتوريات الوصية، وينتهي بمجموعة من الإجراءات الإصلاحية المصاحبة التي تجعل هذا السلوك على طبيعته الخشنة، حضارياً ومخفف الأثر إلى حد بعيد.

العنف والقابلية للعنف: مقترب تفسيري

سنعالج معضلة العنف والقابلية للعنف من خلال محاولة تحليل جذور الأزمة الفكرية عند العقل المسلم المعاصر في التعاطي مع مفاهيم الجهاد والقوة والحرب، وأسباب انتشار هذه التوجهات، محاولين تفسير أسباب انقلاب الوعي العقدي والأخلاقي عند المسلمين، إلى نقيض الموقف القرآني من العنف.

هناك أسبابا رئيسة – من ضمن أسباب أخرى – وراء التوجهات العنفية وحالة من القابلية الفكرية والنفسية لإعادة إنتاج العنف في الحالة الإسلامية والتنظير له وتبرير ممارسته، نرصدها في المستويات الآتية:

أولا- المستوى الثقافي: هناك إشكال ثقافي مستعصي عند كثير من المسلمين المتأخرين منذ عصر الانحطاط وإلى اليوم. واستنادا إلى مجموعة من المعطيات المغلوطة، أو بسبب الآلية المنهجية غير المضبوطة، أو الآلية التنزيلية المنحرفة، نجد أنهم أصبحوا لا يفهمون الموقف الإسلامي الأصيل من الغلو والتطرف والعنف، ولا هذا المنحى المعتدل والسلمي المتأصل في الإسلام. ويمكن الوقوف عند بعض تلك المعطيات والآليات:

  • سوء فهم مناطات استعمال القوة في القرآن الكريم، فهذه السياقات كلها طوارئ وليست هي الأصل، ولكن بعض الفقهاء المسلمين أخذوا هذه الطوارئ فيما سمي باب الجهاد وأصبحت كأنها الأصل والقاعدة، وبدؤوا - بهذه العقلية التي اكتسبوها بالانتماء إلى موقف القوة - يكيفون قراءتهم للنصوص يتوسعون ويضعون أصولا وفروعا بشكل ينسجم مع هذه العقلية الحاكمة. والتي تريد أن تجعل للقوة موقعا أصيلا في اختيار الإسلام.
  • نزع النصوص من سياقها؛ بحيث إن من المسلمين من يعتمد، في نزوعه إلى الغلو المفضي إلى العنف، على جملة من الأقوال والنصوص التي انبثقت لحظة القتال، والتي تحض على مواجهة العدو واستعمال القوة. غير أن هذه النصوص قد تكون من باب الخطاب الذي يلقيه القائد العسكري لحظة الدعوة إلى المواجهة، ولا يمكن أن نحكم على حضارة أو على عقيدة أو على أمة اعتمادا على خطاب يلقيه أحد قادتها العسكريين لحظة انطلاق المعركة، لنحوله إلى قاعدة كلية للتعامل مع الآخر، لأن ذلك سيكون تجنيا كاملا على موقف هذه الحضارة من الآخر، ولأنه اختزال مبتسر لاختيار حضاري ممتد في تصريح قائد عسكري لحظة انطلاق القتال!
  • خلط مرحلة الدعوة بمرحلة الدولة، بحيث عندما جاءت الدولة، وهي دولة مدنية وتحكم انطلاقا من شرعية الأغلبية وبالشورى، فإنها اعتمدت السلطة كضرورة. وكل دولة لها سلطة إكراه لوضع أنظمة زجرية لإلزام الأفراد بالانتظام والخضوع للإجراءات الإدارية والمالية والقانونية. وهي تستمد هذه القوة على الإخضاع وعلى الإلزام من مصداقية هذه المؤسسة لدى الشعب، ومن اختيار الجماهير لهذا الحاكم أو لهذه المؤسسة، ولا علاقة لذلك بالدين كاقتناع، ولا علاقة لذلك بالدين كعقيدة مجردة، ولا يمكن ممارسة القوة أو الضغط والإكراه على الجانب التعبدي ولا على الجانب الفكري أو العقدي أو التربوي والروحي. وهنا اختلط على بعضهم صلاحيات الدولة كدولة، بعموم ما يكلف به الداعية والمسلم من نشر الرسالة، وتحول الأصل إلى فرع؛ والنتيجة إلى السبب؛ والمرحلة اللاحقة إلى المرحلة الأصلية والسابقة.
  • الخلط بين الوعيد الإلهي والمعاملة البشرية. فكثير من دعاة العنف عند المسلمين يستدلون بآيات الوعيد في القرآن الكريم، غافلين عن أن الله عز وجل عندما يتكلم عن العذاب الأليم وعن مآل الكفار والمنافقين، وعندما يوعد وينذر، فإن هذه السلطة خاصة به، وهي مؤجلة إلى يوم القيامة، وقد أمسك يده عن الناس في الدنيا، واستخلفهم وأعطاهم الحرية وأعطاهم فرصة للعمل، وهو بذاته لا يتدخل في ذلك. ورغم أنهم قرأوا في القرآن الكريم: "ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم"[67]، "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة"[68]، فقد اختلط عليهم الوعيد الإلهي المؤجل إلى الآخرة، والذي هو أمر خاص بالله تعالى ويذكر في القرآن في سياق التخويف للتربية، اختلط عليهم بواجب المسلمين في الدنيا، مما أدى إلى نوع من "تأليه الموقف البشري" انطلاقا من الخلط بين الموقع الإلهي والموقع البشري للتوجيهات القرآنية. وهذا انحراف رهيب لأنه، بالإضافة إلى كونه مسا خطيرا بالعقيدة، ينفر الناس من الإسلام جراء تشويه الداعية له من خلال ما يمارسه في خطابه من آيات الوعيد، فإنه يجعل العقل يتجه لممارسة القمع والاستبداد باسم الأمن الشرعي. ونظيره هو ما أودى بالكنيسة وبسلطانها لدى الأوروبيين.
  • خلط الحق بالصواب، الأمر الذي يؤدي إلى رفض سنة الاختلاف، والنزوع إلى الإقصاء والعنف، مما أظهر الإسلام عنيفا في أعين من يخالفونه خارج الدائرة[69]. في حين أن الحق واحد، وهو مطلق إلهي. والصواب متعدد، وهو نسبي بشري.

ثانيا-المستوى النفسي: ويمكن صياغته وفق قانون "سيكولوجية المقهور"؛ فالإنسان الذي يعيش رد فعل عنيف على خصمه، يقوم بتبني منهجه. إذ عادة ما ينتهي القوي القاهر إلى أن يغلب المقهور مرتين: مرة بأن يجرده من أسباب القوة، ومرة بأن يجعله يتشرب ويتبنى مبادئه. ولهذا فما تفعله الصهيونية في فلسطين هو تبَنّ للنازية، تبن لسلوك من كان اليهود ضحاياهم، والصهيونية هي النازية الجديدة، وهذه ظاهرة ليس محصنا منها إلا من كان في مستوى عقدي وتربوي رفيع. والمسلمون منذ غزو التتار والمغول والصليبيين ثم الاستعمار القديم ثم مؤامرة الاستعمار الحديث، وهم يعيشون تحت ضغط القهر، وبالتالي يفرزون أخلاقيات وعقليات سيكولوجية القهر.

ويستطيع الإنسان أحيانا أن يجد بعض الاستثناءات المتعالية عن رد الفعل هذا، والتي نجحت في أن لا تخضع لهذا القانون. لنتذكر عمر المختار"، فقد كان يمتنع عن قتل أسرى الطليان الذين كانوا يقتلون الأسرى والأطفال والنساء. وفي مرة من المرات عندما أمسك بضابط كبير في الجيش الإيطالي، حاول البعض أن يقتله انتقاما لكثير من المجاهدين الذين قتلوا أسرى، فأجابه عمر المختار: "ليسوا قدوة لنا"!

ولنتذكر الأمير عبد القادر الجزائري الذي قاتل ستة عشر عاما الوحشية الفرنسية الفظيعة؛ والتي عبر عنها وعن تفاصليها المرعبة روجي غارودي في كتابه القيم: "نصوص بناة الإمبراطورية"، ولكن الأمير عبد القادر الجزائري بتربيته الصوفية العالية التي كانت عنده، وبالنَفَس الإسلامي المتميز؛ وبالروح الإيمانية، لم يكن ينتقم من الفرنسيين عندما يهزمهم ولا يستعمل أي طريقة من الطرق الهمجية التي مارستها فرنسا ما بين 1830 و1846 ضده، واستمرت فيها مع غيره بعده. بل العجيب أنه عندما أسر ثم نفي إلى الشام واستقر بها في أواسط القرن التاسع عشر، ونشبت الفتن بين المسيحيين والدروز في جبل لبنان، بتدبير من بريطانيا وفرنسا لإضعاف الدولة العثمانية، قام الأمير عبد القادر الجزائري بدور كبير في إخماد نار الفتنة، وفي تجنيب نصارى لبنان ويلات الحرب، وقام برحلات مكوكية ما بين دمشق والأستانة (اسطنبول) حتى استطاع بعد جهد جهيد وشهور متواصلة من العمل أن يخمد نار الفتنة، عوض أن يكون هو الموقد لها لينتقم في نصارى لبنان مما فعله النصارى ببلده. بل لما كان يغلبه الغوغاء أحيانا، ويشعلون نار الحرب، كان يفتح باب قصره للنصارى، ويدخلهم داخل أسواره، ويحميهم بحرسه الخاص وضد المسلمين الدروز!

ويمكن أن نذكر عددا كبيرا من الشواهد على فقهاء وعلماء ورجال التصوف والتربية الذين خرجوا من قانون القهر، الذي هو قانون رد الفعل واستطاعوا أن يتعالوا ويسموا بسلوكاتهم عن حالة سيكولوجية القهر[70].

ولكن عموما تولِّد سيكولوجية القهر عند الإنسان الإيمان بالقوة، والتنظير للعنف بل والعشق له، مواجهةً للقوة والقهر بالقوة والقهر.  

ثالثا-المستوى الذهني، المتولد عن "الحالة الإعلامية" التي يقودها الغرب. فالغرب يكثر من الحديث عن "الإرهاب في الإسلام" ويضخمه: من حالة أبي سياف إلى حالة أسامة بن لادن، وأي تحرك فيه أخذ بالعنف أو ممارسة له أو تنظير له ولو بالخطاب يوضع تحت المجهر الإعلامي الغربي، ويبرز طولا وعرضا ويعمم على كل المسلمين بهتانا وافتراء. في حين أن حالة العنف التي قد تمارس لدى المسيحيين، كما بالنسبة للإيتا، أو للمنظمات المسلحة الإرلندية، أو كثير من الحركات التي تعتمد العنف وأحيانا الإرهاب في بلاد الغرب، فإن سلوكها لا يوصف بأنه "إرهاب مسيحي"، وكذلك عدوان الصهاينة على المسلمين في فلسطين وغيرها، لا يسمى "إرهابا يهوديا". ولا يذكر الإرهاب مقرونا بدين إلا الدين الإسلامي، في حين لا ينسب للجنسيات وإلى القوميات والمنظمات والمسميات الأخرى فيما عدا المسلمين. والملاحظ أن الغرب منذ ثلاثين سنة وهو يقود هذه الحملة ضد الإسلام، مستفيدا من سيطرته الإعلامية العالمية حتى خلق هذه الذهنية عند بعض المسلمين. وكرد فعل، كجزء من ضريبة ترويج هذا الخطاب، تأثر بعض المسلمين، فيما تأثروا به من الضغط الإعلامي الغربي، بذلك، وصاروا يتبنون هذه المفاهيم ويعكفون عليها ويعتزون بها.

رابعا-المستوى المنهجي: وأقصد به ما أسميه دائما ب:"العقلية العسكرتارية"، الناتجة عن قراءة مجحفة للسيرة النبوية وتاريخ السلف الصالح. لقد نظر المسلمون المتأخرون إلى السيرة النبوية نظرة قائمة على القفز إلى محطات بعينها هي محطات المعارك، لدرجة أن العقل الإسلامي نمط لا شعوريا على أن فترة المدينة هي فترة معارك بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم فتح مكة. وتم اختزال بقية الأبعاد الأخرى الحضارية والإنسانية والعمرانية والهندسية والطبية والتشريعية والسلوكية والبيئية، في الفعل العسكري الخالص. ثم تم اختصار الخلافة في الفتوحات، والمرحلة الأموية والعباسية في الحروب والصراعات.

وهكذا تشكلت لا شعورياً "العقلية العسكرتارية". وتم اختزال الأداء الحضاري الإسلامي كلية في الأداء العسكري، وإنجازات النبوة والخلافة الراشدة والدول بعد ذلك في الإنجاز العسكري.

بالمقابل نجد من الإشارات النادرة والمنسية في تاريخ المسلمين، إشارة هامة وردت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما تجول في الشام جولته التفقدية الشهيرة، تقول: لما تجول عمر في بلاد الشام ورأى "الأعمال التي عملها خالد بن الوليد"، بكى واستعبر وقال: "رحم الله أبا بكر كان أعلم مني بالرجال". ومعنى هذا أن خالد بن الوليد لم يقم فقط بفتح بلاد الشام، ولم يقم ببطولاته المشهورة في اليرموك فقط، وإنما حقق منجزات حضارية، من بنيات تحتية كالمساجد والطرقات والبريد ومياه الشرب. لكن خالد بن الوليد الحاضر في لا شعورنا، هو خالد بن الوليد العسكري. كما أن علي بن أبي طالب الحاضر في الروايات الشعبية هو علي المقاتل، الذي حارب حتى الجن بسيف ذي الفقار! أما علي التربية وعلي العلم وعلي الإيمان وعلي مؤسس علم النحو وعلي الشاعر والخطيب وعلي الحاكم العدل، فيكاد تقريبا يتوارى وراء علي البطل الشجاع المغوار المقاتل. وحتى عمر تزول كل أبعاده ويبقى بعد الشدة فقط.[71]

هذه "العقلية العسكرتارية" هي التي جعلت بعض المسلمين يؤمنون بأن القوة العسكرية قرينة بالدولة الإسلامية، وأنها هي المُعَبِّر الأساس عنها، وأنها تكاد تكون الصورة الوحيدة المتجلية، وأنها مطلوبة من جديد شرطاً لقيام هذه الدولة، ووسيلة وحيدة لإحياء أمجادها.

خامسا-المستوى السياسي: ونقصد به الحالة السياسية للمسلمين اليوم، فهم يعيشون في بلادهم حالة من التخلف السياسي يفصح عنها واقع الاستبداد والديكتاتورية؛ ويرى المسلمون بأم أعينهم واقعا ماديا قوامه الانقلابات العسكرية، والمصنوعة من لدن المخابرات الأمريكية، من أجل أن تستمر أنظمة منصبة لخدمة مصالح الغرب في بلاد المسلمين. وكل من يحاول أن يتصدى للإصلاح يصطدم بهذا الواقع المادي الغليظ، وهو أن لغة الانقلابات العسكرية والتحكم المادي يتسبب في إجهاض كل مشاريع النهوض الحضاري، ويودي برؤوس رواد هذه المشاريع إلى السحق، فنشأ كرد فعل لا شعوري عند المسلمين إيمان بأن القوة هي الحل، وأن الذي لا يملك القوة لا يمكنه أن يصل إلى شيء، وتحولت الوسيلة إلى غاية.

في حين أن الدولة في الإسلام مجرد وسيلة إلى عبادة الله عز وجل ونشر الدين حتى يكون الدين كله لله بالمعنى الحضاري الواسع للكلمة. وهي أيضا مجرد وسيلة لإقامة الحضارة الإسلامية الإنسانية العالمية. لكن، للأسف الشديد فإن المسلمين يعيشون الآن تحت ضغط التحكم المادي، فمن كثرة ما عانوا من إجهاض مشاريعهم التنموية أو الإصلاحية من أجل النهوض، آمنوا بأن القوة المعادية المستخدمة من الطرف الآخر هي العائق، وآمنوا، بموجب ذلك، بأن عليهم أن يأخذوا بقوة مضادة تزيل هذه القوة. فحصل الانزلاق إلى الغلو والتطرف، وصل حد عبادة القوة. القوةِ ليس كحالة بشرية متفهمة في كل الحضارات الأخرى، فهذا أمر يشترك فيه المسلمون مع غيرهم من الناس، ولكن، وهذا هو الخطير، كسعي إلى إعادة تأصيل هذه الحالة من داخل الإسلام الذي يتناقض مبدئيا مع هذا الاختيار، ولا يمكن أن يؤشر عليها ولا أن يؤصل لها ولا أن يدعمها، لأنه مشروع للاعتدال والوسطية والسلام ودعوة لكل ذلك، ولأنه جاء أساسا من أجل أن يعبد الله، عوض أن تعبد القوة.

[gallery order="DESC" columns="4" ids="3185,3186,3187,3188"]

الفيديو

 


 

[1]  استلهاما من مالك بن بني حين حديثه عن "القابلية للاستعمار".

[2] سورة مريم، الآية: 12.

[3]  سورة المائدة الآيتان 31 و32

[4] يعبر القرآن الكريم دائماً بهذه الثنائية: "الحرث" ويعني الطبيعة والبيئة والمكونات المادية الفيزيائية والكيميائية وغيرها، و"النسل" وهو يرمز للوجود البشري المكرم، والذي سخر له الكون بوصفه خليفة الله في الأرض.

[5] سورة البروج، الآيات: 5-8 و10.

[6] سورة العلق، الآيتان: 6 و7.

[7] العجيب أن الأداء الغربي، تجاه المسلمين وتجاه الحركات الاجتماعية والسياسية المناهضة لسطوته العسكرية و الاقتصادية والثقافية، قديم يعود على الأقل إلى القرن 19. ويمكن أن نعود إلى وثائق الاستعمار البريطاني والإسباني والفرنسي، لكي نجد أن كل من قاوم حركة الإمبريالية يوصم عند الغرب بالتشدد والتطرف والتعصب والأصولية. إلى أن أصبح بعد ذلك مصطلح "الإرهاب" مصطلحاً جامعاً كلياً مضخماً ودافعاً بهذه المعاني إلى أبعاد استقطابية عند الإنسان الغربي.

[8] انظر الموسوعة الضخمة التي أنجزت تحت إشراف د. عبد الوهاب المسيري تحت عنوان "إشكالية التحيز"، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي (فرجينيا) ونقابة المهندسين (القاهرة) ط1، 1995.

وانظر إدوارد سعيد: "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية".

[9] "ولأن العلاقة علاقة معرفة فقط، وعلاقة انفصال واغتراب، فقد كان أمراً طبيعياً أن تصبح علاقة عدائية. ذلك أن الهدف النهائي لإنسان الغرب الحديث تحدد في معرفة العالم وفهم قوانينه من أجل السيطرة عليه... وذلك في تجسيد واضح لذلك المنظور الذي نجده عند دارون، كما نجده عند هوبس: الإنسان في حرب دائمة مع الآخرين...". فؤاد السعيد: "التحيزات المعرفية في الرؤية الغربية الحديثة للعالم" في "موسوعة إشكالية التحيز" 1/153، وأيضا عبد الوهاب المسيري: هاتان تفاحتان حمراوان. في "المرجع نفسه" 1/99-113.

[10] سورة الأنفال، الآية: 60. أما بقية الاستعمالات القرآنية لهذا المصطلح فتعني خَوْفَ الله (الأعراف: 154، البقرة: 40، النحل: 51، القصص: 32، الحشر: 13، الأنبياء: 90)، أو ترد بالمعنى السلبي المدان من القرآن (واسترهبوهم وجاءواْ بسحر عظيم).(الأعراف:116).

[11] سورة الأنفال، الآية: 44.

[12] صفي الرحمن المباركفوري، "الرحيق المختوم"، دار المعرفة. البيضاء. 2000. ص369.

[13] سورة الفتح، الآية: 24.

[14] سورة النحل، الآية: 126.

[15]المباركفوري، مرجع سابق، ص374.

[16] الواقع اليوم يؤكد أكثر هذا المنطق القرآني، فنحن نعلم أن السلاح النووي هو الذي منع لحد الآن، منذ سبعين عاما ، اندلاع حرب عالمية ثالثة، كما أن السلاح النووي المتبادل بين الهند وباكستان هو الذي أوقف حرباً رابعة بين البلدين كانت ستقع في أقل من ثلاثين سنة. ففعل امتلاك القوة الذرية فعل عنيف، لكنه من باب الإعداد لردع العنف العملي والمادي. بل إن الفكر الغربي يؤصل ويؤسس لذلك حين يقول المثل الفرنسي: Si tu veux la paix prépare toi à la guerre. أي "إذا كنت تريد السلام، فعليك أن تستعد للحرب" حتى لا يستهين بك عدوك، فيعتدي عليك. وهتلر تسبب في كارثة بشرية لأنه استهان بقوة أوروبا، واستبعد إمكانية التحاق أميركا بالحلفاء، فكانت كارثة موت 100 مليون من البشر.

[17] يحتاج " الاعتقاد" في هذا السياق إلى توضيح، لأنه ولا شك لا يشبه الأسباب الثلاثة " غير الاختيارية" المذكورة قبله، لأن الاعتقاد عملية حرة لا صلة لها " بالوراثة". لكن المقصود هنا هو الاعتقاد الجماعي الذي يتقلده الانسان بمجرد ولادته في مجتمع أو مجموعة، ولا اختيار فيه، ويوسم به بطريقة جاهزة، وفي الغالب لا يغيره ، لأن قلة من الناس تستطيع الفكاك من (الاعتقاد) الوراثي الضاغط. وفي الحروب والنزاعات الدينية والطائية، تتعرض مجموعات بشرية للقمع وقد يصل الأمر للإبادة بسبب هذا الاعتقاد ، كما حصل في الحروب الدينية في أوربا بين الكاثوليك والبروتيستانت في القرن 17، أو كما حصل لمسلمي ويهود الأندلس بعد سقوط غرناطة وكما يحصل اليوم من صراع طائفي في العراق وسورية ومن إبادة دينية في بورما للمسلمين على يد البوذيين المتعصبين. بهذا المعنى يكون الاعتقاد انتماء " قدريا غير اختياري"، قد يعاني المرء بسببه من العنف أو العنصرية

[18]{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]

[19] عباس الجراري، "مفهوم التعايش في الإسلام". منشورات الإسيسكو، الرباط. 1996. ص47.

[20] رواه البخاري في كتاب المناقب.

[21]  إلا مرة واحدة (الحج/17) بطريقة لا يمكن معها استخلاص موقف عملي أو حكم شرعي قابل للتنفيذ دنيويا. وإن كان فيها تلميح بالتعايش مع المجوس والمشركين.

[22] سورة هود، الآيتان: 118 و119.

[23] المباركفوري، مرجع سابق، ص288.

[24] رواه الشيخان.

[25] وهذه الرؤية مخالفة جذرياً لرؤية الكنيسة للعلاقة مع النص الديني.

[26] سورة آل عمران، الآية: 64.

[27] سورة العنكبوت، الآية: 46.

[28] سورة النحل، الآية: 125.

[29] برنامج الشريعة والحياة. قناة الجزيرة. إحدى حلقات سنة 2000.

[30] سورة المائدة، الآية: 5.

[31] سورة البقرة، الآية: 256.

[32] سورة هود، الآيتان: 118 و119.

[33] سورة الكهف، الآية: 29.

[34] سورة الغاشية، الآية: 22.

[35] سورة القصص، الآية: 56.

[36] سورة غافر، الآية: 29.

[37] سورة الزخرف، الآية: 54.

[38] سورة طه، الآية: 66.

[39] سورة طه، الآية: 59.

[40] سورة الأعراف، الآية: 113.

[41] سورة طه، الآية: 71.

[42] سورة طه، الآية: 72.

[43]  سورة البقرة، الآية: 256.

[44]  العجيب أن كثيراً من المسلمين وقع عندهم تلازم بين أن يكون الدين كله لله أي الخضوع لله، وبين الأدوات القهرية المستعملة للوصول إلى ذلك في تصورهم. وهذا خطأ لأن الذي قال: "ويكون الدين كله لله"، هو الذي قال: "لا إكراه في الدين". ولهذا فآليا، بلغة الاستنتاج الرياضي، معناه أن يكون الدين كله لله اخياراً واقتناعاً وتربية وليس قهراً وكرهاً، لأن :"لا إكراه في الدين" تنفي أن يكون الدين بالخضوع المادي.

[45]  سورة هود، الآيتان: 118 و119.

[46]  سورة الكهف، الآية:29.

[47]  سورة الغاشية، الآية:22.

[48]  سورة القصص، الآية 56

[49] سورة الأنبياء، الآية: 68

[50] سورة البقرة، الآية:216.

[51] سورة الحج، الآية 39.

[52] سورة الأنفال، الآية 58

[53] سورة التوبة، الآية:4

[54] سورة الممتحنة، الآية:9.

[55] سورة الأنفال، الآية 58

[56] سورة البقرة، الآية: 208.

[57] سورة يونس، الآية: 25.

[58] سورة إبراهيم، الآية: 23.

[59] سورة القدر، الآية: 5.

[60] أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة وابن حنبل في المسند.

[61] انظر كتابه: "مذهب ابن آدم الأول"، منشورات دار الفكر-دمشق.

[62] نقلاً عن علي أحمد الخطيب: "عمر بن الخطاب"، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1986، ص348.

[63] نفسه، ص310.

[64] لذا فأنا أميل إلى الاجتهاد الذكي لبعض الدعاة المعاصرين الذين أَوَّلَواْ فتح روما في حديث النبي (ص): "لتفتحن القسطنطينية قبل رومية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" (رواه ابن حنبل في المسند)، بأن رومية أيضاً قد فتحت، لأنه في ظل الديموقراطية الغربية الآن، أصبحت حرية الدعوة متاحة، والمسلمون في روما وفي كل إيطاليا، وفي عموم بلاد الغرب، مسموح لهم، جزئياً على الأقل، بممارسة الدعوة، إذ يمكن للإيطالي اليوم أن يسلم. بل هناك شريحة إيطالية مسلمة تعد بالآلاف. وفي رأي بعض الدعاة المقيمين بالغرب، فإن رومية قد فتحت وتحقق الحديث النبوي، لأن الإسلام ليس مقصده القتال، وإنما ضمان حرية الدعوة!

[65] سورة الحشر، الآية: 5.

[66] قارن هذا بقضاء الولايات المتحدة في هجومها على العراق على مليوني نخلة، وكانت تتقصد ذلك بقنابل النابالم التي تستهدف هذا النخيل، لكي تحطم البنية التحتية البيئية للعراق. وأغلب الدول القوية للأسف، إلى اليوم، تتقصد الدمار تقصداً من أجل الإيذاء كما تفعل إسرائيل بالضفة والقطاع.

[67] سورة فصلت، الآية:45

[68] سورة النحل، الآية:61

[69] والمفارقة أن أول من مارس هذا المنزع، وبطريقة عنيفة جدا، هم المعتزلة الذين كانوا دعاة "الحرية الفكرية", فقد استعملوا جزءا من السلطة التي وصلوا إليها بالتحالف مع بني العباس، فقاموا بتعذيب العلماء، وعلى رأسهم: أحمد بن حنبل، ولإكراههم على القول بما تأولوه اجتهادا، وتبنوه اقتناعا خاصا بهم، مثل مسألة خلق القرآن. وهكذا يتبين أن الاستناد للعقل بعيدا عن الوحي قد يؤدي إلى "الشمولية" التي أنتجت في ظل العقلانية المعاصرة الدولة التوتاليتارية، والتي أصبحت تنمط الناس وتتحكم فيهم؛ وقد نبه الفيلسوف الألماني نيتشه قائلا: "لقد مات الإله، حذرا من الدولةَ!"

[70]  موقف ابن تيمية تجاه أسرى أهل الذمة في حربه ضد التتار، موقف بيغوفيتش من الصرب والكروات في حرب البوسنة...الخ

[71] وكذلك الشأن بالنسبة لصلاح الدين الأيوبي، ولكل المجاهدين الشجعان ذوي الأبعاد الحضارية المغفلة في عقليتنا.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق