الإسلام والمعضلات الأخلاقية المعاصرة كلمة افتتاحية للمؤتمر الدولي السنوي الثالث

الإسلام والمعضلات الأخلاقية المعاصرة

كلمة افتتاحية للمؤتمر الدولي السنوي الثالث

شوقي الأزهر، نائب مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد،

إن الإسلام لا ينظر إلى الأخلاق كخصلة خاصة بشعب أو ملة أو حضارة، بل الأخلاق في المنظور الإسلامي مشترك إنساني، حيث إنها من حقيقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بمعنى أن الأخلاق في المنظور الإسلامي هي حقيقة ثابتة في الإنسان تتأسس عليها إنسانيته، ولذلك سمي القرآن ذكرا، لأنه لم ينزل إلا ليذكر الإنسان بما هو كامن فيه، أي لتذكيره بطبيعته الحقيقية والأخلاق التي تجعل منه إنسانا. ولذلك كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فلم يبعث صلى الله عليه وسلم لتأسيس الأخلاق، لأنها راسخة في كل واحد منا، بل ليتممها بتمكين الإنسان من مواجهة ما من شأنه أن يَسلبه إنسانيته.

ومن هنا كانت نقطة الانطلاق إلى تحقيق الأخلاق في أرض الواقع وحل المعضلات الأخلاقية التي تواجه الإنسان كامنة في أعماق الإنسان، فأول خطوة في سبيل حل الإشكالات والمعضلات الأخلاقية هي اكتشاف الإنسان لذاته ولحقيقة إنسانيته والوفاء لها. وهذه العودة إلى إنسانية الإنسان واستمرارية الوفاء لها، في المنظور الإسلامي، لا تتحقق إلا بالعودة والوفاء لفاطر تلك الحقيقة، كما جاء في قوله تعالى: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" [الأنفال: 24]، وقال تعالى: "ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم" [الحشر: 19]. ذلك أن هذه الحقيقة، أي أصل الأخلاق المكونة للإنسان، هي حقيقة تتعدى المادة وتتعدى قوانين المنطق والعقل المجرد، فهي حقيقة عليا سماوية، ترقى بالإنسان عن العام المادي.

ومنذ القدم كان ابتعاد الإنسان عن إنسانيته بشتى الأسباب السالبة لها، من هوى مال وسلطة وكبر وغيرها، يهوي بالبشرية إلى ظلمات الاضطهاد والمذابح والأزمات الإنسانية. وكثيرا ما كانت تعالج الانحرافات والمعضلات الأخلاقية بمنطق العنف والثورة المسلحة، بل بمقابلة البشاعة بالبشاعة. حتى ظهر العصر الحديث، حيث أصبحت تعالج بمنطق العقل، فاستطاع العقل أن يخرج مواثيق ودساتير ونظم لدفع شر وهوى الإنسان المختل الإنسانية، حتى ساد الاعتقاد أن خلاص البشرية فيه.

فكان العقل هو الضامن للأخلاق، بل لرقي النوع الإنساني وتطور مستوى حياته بالاختراع والتنمية. إلا أنه فات الإنسان المعاصر أن تحقيق الأخلاق وسعادة الإنسان يستلزم اكتشاف الإنسان لنفسه، حتى خاض في البحث عن اكتشاف كل شيء إلا نفسه، فآل به الأمر إلى أن أصبح العقل بدوره وسيلة للتلاعب والالتفاف حول ما وضعه هو من نظم وقيم لضمان الأخلاق وحقوق الإنسان وكرامته. فأصبحت قداسة العقل البشري المطلقة بعيدا عن أبعاده الأخلاقية خطرا أكبر من أخطار الممارسات غير الأخلاقية القديمة، حيث أصبح وسيلة خطيرة لتبرير العنف واللاأخلاقية وتزيين البشاعة وتقديمها في لباس حضاري مقبول، بل مرغوب فيه.

فلما غفل أو تغافل العقل والعلم عن معنى ارتقاء الإنسان وكيفية ذلك، وعن الحقيقة العميقة التي تجعل من الإنسان إنسانا، تحولت الغاية، بكل لطف وسلاسة، من تطوير المادة لرقي النوع الإنساني، إلى تطويرها لإشباع غرائز أنانية، بغض النظر عن الإشكالات بل الأزمات الأخلاقية المترتبة عنها. وأصبح الإنسان يتعامل مع الأسئلة والمعضلات الأخلاقية بالعقل المجرد، كأنها مادة خاضعة للتجربة المادية، دون اخضاعها إلى جوهر الأبعاد الإنسانية، فآلت هذه المعالجة العقلانية إلى نقيض الأخلاق. وفي عالم مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم ومعنى رقيهم أصبحت العلوم المادية تعتبر خطرا، وأصبحت العلوم الأخلاقية والإنسانية تعد ضرورة أولية. فصناعة الفرد والمجتمع الأخلاقي بات أعقد وأصعب كثيرا من صناعة أي تقنية متطورة.

ومن هنا كان من مسؤولية الإنسان المعاصر أن يعيد لسؤال الأخلاق مركزته بين الإنتاج الفكري والعلمي، دون تجاهل أو طمس الاختلافات في المرجعيات والمنظومات القيمية، بل بالسعي إلى تجاوز النظام التعددي القائم حاليا على سيطرة المتغلب -الذي لا يقبل التعدديات إلا بإدخالها في دائرة بقاء الأقوى بغض النظر عن فساد أخلاقه، وإقصاء الضعيف الذي لا حيلة له بعض النظر عن حسن أخلاقه- إلى نظام تعددي قائم على الأخلاق، يُدخل التعدديات في نطاق التنافس في بقاء الأخلاقي.

والمسلمون كغيرهم، مطلوبون بالإسهام في البناء الأخلاقي وحل المشكلات الأخلاقية، بالعودة إلى تراثهم ونصوصهم المقدسة لاستنطاق منظومتهم القيمية بما يلائم الأوضاع الجديدة والعضلات الأخلاقية المعاصرة.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

التعليقات

السلام عليكم ارجو من السادة القائمين على الموقع حذف الصورة اعلاه التي فيها صورة لكتاب الله قد طمست فيها الكتابة بشكل متعمد في الوقت نفسه تم توضيح المسبحة وهي فوق كتاب الله: اقول. القرآن.. يعلو ولا يُعْلَى عليه. يجب احترام المصحف الشريف ويحرم كل ما فيه إهانة له. فوضع المسبحة فوق القران لا يجوز. شكر لكم

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق