الأخلاق الإسلامية والإعلام

خديجة بن قنة*

مقدمة

 

الموضوع المطروح للبحث بين أيدينا في هذه الندوة يتناول موضوعاً في غاية الأهمية وهو الأخلاق الإسلامية والإعلام.

تزداد أهمية مناقشة هذا الموضوع في ظل الظروف الصعبة و المعقدة التي تعيشها المنطقة العربية خصوصاً في الأعوام الأخيرة، بفعل التحولات العميقة التي أحدثتها الثورات والانتفاضات العربية والتي كان للإعلام دور في صناعتها أو على الاقل في الدفع بها نحو اتجاهات مؤيدة أو مضادة للثورة أو التغيير.

وإذا أضفنا إلى ذلك تعدد وسائط الإعلام وظهور الإعلام الجديد ممثلاً في شبكات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر ويوتيوب وخدمات الهواتف الذكية، وكذلك التغيرات التي فرضتها العولمة فإننا في الحقيقة نجد أنفسنا أمام واقع مغاير تماماً لما عهدناه خلال العقود الماضية ،حيث أننا نصطدم بغزو أخلاق جديدة للمشهد الإعلامي العربي.

 

فإلى أي مدى التزم الإعلام بالأخلاق الإسلامية؟

لعلّه من البديهي القول إن أخلاق ناقل الرسالة كيفما كانت طبيعة المنقول وشكله منطوقاً  مسموعاً أو مكتوباً تتلخص في صفتين أساسيتين هما الصدق والأمانة، إذ بدونهما تضيع مصداقية الناقل وينحرف مضمون الرسالة، وتتشوّه الحقيقة، وما كان إطلاق قريش لقب "الصادق الأمين" على رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم إلا دليلاً على تعظيم الصفة والموصوف عند العرب قديماً وعلى تقدير قيمة الصدق  كمعيار أخلاقي أساسي في بناء علاقات إنسانية واجتماعية سليمة بين الناس.

و من هنا كان الكذب فاحشة حرّمها الإسلام ،إذ يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الحجرات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.ولعلّ الإنذار بالندم في آخر الآية يدل على خطورة التعجّل في تصديق الأخبار المنقولة عن مصادر مشبوهة كان التعبير القرآني دقيقاً في وصفها بالفسق، أو المساهمة في نقلها وترويجها، و ذلك لما قد يكون بها من أضرار جسيمة قد تلحق بشخص أو قوم، و ما لها من تشويه لأعراض و سمعة فرد أو جماعة.

كما يقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في حديث مرفوع: «لا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى صِدِّيقًا ، وَلا يَزَالُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».

 

ويمكننا بذلك إذن التنبؤ بخطورة مآل من يتحلى بصفة الكذب حتى يصل إلى درجة أن يُكتب عند الله كذاباً.

من هنا وجب القول إن الصدق هو الرأسمال الأخلاقي الأساسي لناقل الخبر، لهذا نسمع في الخطاب الإعلامي وفي مواثيق الشرف المهني مصطلحاتٍ من قبيل الصدق والمصداقية والصدقية، وهي توصيفات لحالة واحدة تعني النقل الصادق والدقيق للخبر دون تزييف أو تشويه أو تضخيم للحدث المراد نقله.

ولعله من المؤسف أن نجد اليوم كثيراً من الإعلاميين يحيدون عن هذه القاعدة الأخلاقية العظيمة، بل إن الأمور زادت استفحالاً مع اتساع السماء لآلآف الفضائيات والأقمار الاصطناعية وسرعة انتشار وسائل الاتصال المعاصرة مع ظهور الاعلام الجديد وأيضاً مع غياب القوانين والتشريعات التي تنظم وتضبط المشهد الإعلامي.

فقد انتشرت في السنوات الأخيرة وفي ظل التحولات الجارية في المنطقة العربية أخلاقٌ جديدة في عالم الإعلام والاتصال أسست لظهور قاموس إعلامي جديد بات رائجاً في وسائل الإعلام العربية مثل استخدام مصطلحات:

  • التكفيريون
  • الشبيحة 
  • المندسون 
  • الإرهابيون 
  •  البلطجية 
  • الانقلابيون
  • الطابور الخامس 
  • الاستئصاليون 
  • الإسلام الشعبوي 
  • الإسلام السياسي

وغير ذلك من التصنيفات التي باتت تضع البشر في خانات معينة حسب مواقفهم السياسية والفكرية و الأيديلوجية.

ومن الخطير اعتماد وسائل الإعلام الرسمية و الخاصة لغة إعلامية تعتمد أحياناً تخوين وشيطنة أطراف أو جهات معينة بناء على عملية توجيه سياسي واضحة المعالم، كما هو الحال في مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو، أو كما هو الحال في سوريا أيضاً.

ووسط الفوضى الإعلامية التي اكتسحت المشهد الإعلامي العربي غابت أو حوصرت قيمة أساسية في الأخلاق الإنسانية وهي الحريّة. وتشمل هنا حرية اعتقاد الأفكار وحرية التعبير عنها.

فالأخلاق الإسلامية تبنى بالأساس على قيمة "الحرية"، وقد عظّم الإسلام هذه القيمة إلى درجة أنه جعلها أساساً للإيمان، بعيداً عن أي إكراه في الدين وجعل السبيل إلى إدراك وجود الخالق سبحانه وتعالى هو العقل الحر غير المقيّد أو المكره على ذلك.

غير أن واقع المسلمين كما نعيشه اليوم بات للأسف يفتقد كثيراً إلى احترام هذه القيمة، أي قيمة "الحرية" وباتت محاربتها واعتقال العقول سياسة ممنهجة تعتمدها أنظمة سياسية تفتقر إلى الديموقراطية وانعكس ذلك بطبيعة الحال على الإعلام.

والحريّة هي المقياس الأساسي لرصد وقياس صحّة الجسد الإعلامي، إذ كيف يمكننا محاسبة كيان إعلامي على مدى التزامه بالأخلاق إذا كان لا يملك حريّته. الأخلاق إذن تبدأ من الحريّة، وضمانها الديموقراطية حيث تبدو الحرية في ظل النظام الديموقراطي قيمة مكتسبةً وثمرة لمسار تاريخي من النضال، بينما تبدو هشّة غير قابلة للصمود في حال كانت منحةً أو هبةً من حاكمٍ أو نظام غير ديموقراطي.

ولنا في كل ما ذكرناه أمثلة كثيرة مما يجري حولنا هذه الأيام، فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر الأسلوب الذي تعامل به الإعلام المصري مع انقلاب الثالث من يوليو، سنرى بوضوح أن الإعلاميين على اختلاف انتماءاتهم السياسية و الفكرية تحوّلوا إلى شركاء في صناعة الحدث بدل أن يكونوا ناقلين نزهاء له.وهنا نتحدث تحديداً عن معسكرين إعلاميين اختار أحدهما الوقوف إلى جانب الانقلاب والتبرير والترويج له وتمجيد الجيش وتعظيم دوره في القضاء على حكم رئيس مدني منتخب، بينما تخندق المعسكر الآخر من الإعلاميين وراء تيار شعبي مؤيد لحكم الرئيس المعزول محمد مرسي، ومظاهرات مؤيدة للإخوان المسلمين ولاعتصاماتهم في ميداني رابعة العدوية والنهضة.

وفي هذا الجوّ المشحون بالتحريض والعنف اللفظي تكرّست قاعدة إعلامية جديدة في الممارسة اليومية على وسائل الإعلام قضت على ما تبقّى من ميثاق الشرف المهني وأخلاق المهنة، وهي باختصار: "إن لم تكن معنا فأنت ضدنا" وضدنا تعني أنك ستتعرض للعقوبة والاعتقال أو الطرد من وظيفتك في أحسن الحالات.

بمعنى أنك إذا لم تكن مؤيداً للانقلاب العسكري فأنت إسلامي إخواني تكفيري ظلامي وإن لم تكن مؤيداً للإخوان فأنت كافر وعدوّ الإسلام وتنتمي إلى إعلام الفلول.

وقد وصلت الأمور إلى حد التحريض على العنف ضد الإعلاميين المعارضين للانقلاب ومنعهم من السفر أو وضع أسماء من يعملون في الخارج على قوائم الانتظار في مطار القاهرة ودعوات صريحة في القنوات المصرية بسحب الجنسية المصرية منهم.

بعض وسائل الإعلام المصري القومي والرسمي والخاص انخرطت في حملات شيطنة للإسلاميين ولكل من يقف إلى جانبهم بل وحتى من يقف منهم على الحياد. وطالت حملات الشيطنة هذه دولاً وشخصيات أجنبية لم تعلن من البداية موقفاً مباركاً للانقلاب. مثلاً جريدة الوفد التابعة لحزب الوفد الليبرالي ومعها بعض القنوات التلفزيونية المصرية ذهبت إلى حد اعتبار الرئيس الأمريكي باراك أوباما إخوانياً، ينتمي إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وقيل بالبند العريض في صدر الصفحة الثالثة من جريدة الوفد (28 أغسطس) أن باراك أوباما اعتنق فكر الإخوان المسلمين عندما كان يعيش في اندونيسيا.

بعض القنوات من القطاع الخاص والتي تحظى بنسبة مشاهدة عالية في مصر وفي العالم العربي ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما اعتبرت أن الإخوان المسلمين كانوا السبب في سقوط الأندلس رغم أن سقوط الأندلس حدث مئات السنين قبل تأسيس جماعة الإخوان المسلمين.

هذا بالنسبة لمصر، أما في سوريا فقد كان الإعلام أحد المحركات الرئيسية للأزمة حيث استخدم النظام السوري والمعارضة السورية معاً الآلة الإعلامية في ضخ كميات هائلة من الأخبار والصور في حرب أهلية كان ضحيتها الأولى الحقيقة، حيث غابت المصادر المستقلة للأخبار، ومنع النظام السوري منذ بداية الثورة السورية المراسلين الأجانب من العمل بحرية وأغلق مكاتب وسائل الإعلام التي كانت تعمل في سوريا وتفنّن النظام والمعارضة المسلحة في التنكيل بالصحافيين والمراسلين بالقتل والاعتقال والاختطاف.

في مثل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر في المنطقة العربية يستعصي الحديث عن التزام الاعلاميين بأخلاق المهنة وبمواثيق الشرف المهني التي تحددّ أطراً واضحة للسلوك المهني السليم بعيداً عن التزوير والتشويه والتحريض والتضليل.

والحقيقة أنه لا بد من وضع سطر تحت العلاقة بين أخلاق الإعلاميين والديموقراطية، ذلك أن البيئة الدكتاتورية الاستبدادية توفّر مناخاً مناسباً لإفساد الأخلاق وهو ما نراه جليّا في دول عربية كثيرة تحكمها أنظمة شمولية دكتاتورية أو عسكرية. حيث أنه غالباً ما تتحول الأجهزة الإعلامية بمن فيها من إعلاميين إلى أدوات دعائية تضليلية تسعى إلى فرض وصاية فكرية على الشعوب وتقديس الحاكم الذي ما زال في كثير من بلداننا يحمل أوصافاً وألقاباً في وسائل الإعلام العربية لا تجد لها مثيلاً في الدول الديموقراطية. فالملك في الإعلام المغربي هو أمير المؤمنين والحاكم في الإعلام الليبي كان ملكاً لملوك إفريقيا، وفي غيرهما أصحاب الفخامة والجلالة والتعظيم والسموّ. بينما يتجرد الإعلام في الدول الديموقراطية من أوصاف التفخيم و التعظيم.

وفي هذا السياق يبدو جليّاً تأثير سلطان السياسة و المال على الأداء المهني لوسائل الإعلام والتزامه بأخلاق المهنة، في ظل غياب منظومة قانونية تنظم وتردع.

لهذا كثيراً ما نجد مؤسسات إعلامية تزخر أدراجها بمواثيق الشرف المهني ودليل السلوك المهني وأخلاقيات المهنة لكنها تبقى أحياناً حبراً على ورق لا تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب ضغوط سياسية أو من أصحاب المصالح من مموّلين ومعلنين.

 

سلسلة الندروات التخصصية: الإعلام والأخلاق: شهادات المشاركين ١١/٢٠١٣

 


 

* خديجة بن قنة هي إعلامية جزائرية ومقدمة أخبار وبرامج بقناة الجزيرة الفضائية. قدمت هذه الورقة في ندوة الأخلاق الإسلامية والإعلام التي عقدها مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق في 2-4 نوفمبر 2013 بالدوحة.

 

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق