أحكام الهندسة الوراثية, مراجعة: د. أمل حسن، تسنيم فاضل، د. سعيد إسماعيل

احكام الهندسة الوراثية[1]

تأليف:  د. سعد بن عبد العزيز بن عبد الله الشويرخ

مراجعة و إعداد: د. أمل حسن

تسنيم فضل

د. سعيد إسماعيل

 

المقدمة:

يعتبر التطور العلمي الحاصل في علم الوراثة من أهم المستجدات التي يشهدها العصر وخصوصا فيما يتعلق بمجال الهندسة الوراثية. يتخلَّق الجسم البشري من خلية واحدة تتطور لاحقاً إلى أنسجة معقدة ومتخصصة يتكون كل منها من خلايا تحتوي نواة تحمل المادة الوراثية. تتجه اغلب الابحاث الى معرفة عدد الجينات المتواجدة في المادة الوراثية وتركيبها ووظائفها، ومن ثم السعي لتغيير هذه المادة الوراثية باستخدام تقنيات جديدة عرفت بالهندسة الوراثية، حتى صارت للهندسة الوراثية تطبيقات متنوعة وفي مجالات متعددة، وصارت هذه التقنية مصدرا رئيسا لإنتاج أنواع العقاقير والأمصال الطبية المختلفة.

المقدمة: كتاب أحكام الهندسة الوراثية هي رسالة دكتوراه منشورة تمت مناقشتها في عام 2006 ونال فيها الدكتور سعد بن عبد العزيز بن عبد الله الشويرخ درجة الدكتوراه في الفقه من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد ناقشت الرسالة عدة مواضيع تتعلق بالوراثة والهندسة الوراثية والاحكام الشرعية المتعلقة بها، حيث تضمن الكتاب المنشور معظم الفتاوى الفقهية المُوصَى بها من الجهات العلمية والندوات الفقهية فيما يتعلق بالهندسة الوراثية؛ وترجيح أيها أقرب للصواب.

ويعزو سبب اختيار الكاتب للموضوع الى عدة عوامل منها: مسيس الحاجة للتبحر في المسائل الشرعية المتعلقة بأحكام الهندسة الوراثية، بسبب جِدّة الموضوع، والسبق في كتابة بحث علمي خاص يجمع مسائل الموضوع وأحكامه، بهدف اثراء البحوث العلمية الشرعية بالمواضيع المعاصرة، بالإضافة إلى الحرص على إظهار كمال الشريعة الاسلامية واستيعابها لجميع حاجات الناس، واظهار ان الفقه الاسلامي يتميز بالسعة والقدرة على التَّمَاشِي مع المستجدات.

 وقد اطلع الكاتب على عدة رسائل علمية وبيانات صادرة عن ندوات فقهية ناقشت المواضيع المتعلقة بالهندسة الوراثية، منها على سبيل المثال لا الحصر: "بحوث مجمع الفقه الاسلامي بجدة عن الاستنساخ البشري عام 1418 هــ" و" ندوة الانعكاسات الأخلاقية للعلاج الجيني المنعقدة في كلية العلوم بجامعة قطر عام 2001"، وعدد من الرسائل العلمية منها رسالة دكتوراه في كلية الشريعة والقانون في جامعة الازهر قدمها الباحث السيد محمود عبد الرحيم مهران بعنوان" الأحكام الشرعية والقانونية للتدخل في عوامل الوراثة والتكاثر".

وقد عمد الكاتب لاعتماد منهج بحثي مبني على تصور المسألة بطريقة دقيقة رجوعا الى آخر ما توصل إليه العلم فيها قبل إطلاق الأحكام، وبيان المسائل القديمة والمستجدة المتفق على الأحكام المتعلقة بها مع إبراز الدليل لتعليل إصدار الحكم، والتمحيص في المسائل المختلف فيها واعتماد المذاهب الفقهية الاربعة المشهورة.

جاءت خطة البحث التي اعتمدها الكاتب شاملة لجميع المواضيع المتعلقة بالهندسة الوراثية، حيث تطرق الكاتب في المباحث الخمسة للأحكام الشرعية المتعلقة بالوراثة والهندسة الوراثية وما يندرج تحتهما من تقنيات تستدعي البحث، خصوصا فيما بتعلق بالفحوصات الجينية بجميع انواعها والعلاج الجيني والاستنساخ واستخدام الخلايا الاولية (الاصلية) واستخدام الهندسة الوراثية لإنتاج العقاقير وتحسين المحاصيل الزراعية، جاء اختيار جميع هذه المواضيع موفقا من جانب حاجة المجتمع العلمي الاسلامي الى مرجع شامل لأحكام التقنيات المتعلقة بالهندسة الوراثية.

التمهيد:

كَّرم الله الانسان وأحسن تركيبه فخلق له أعضاء مختلفة لكل منها وظيفة مختلفة تتكامل جميعها لتكون منظومة الجسم الانساني الفريد. يتكون كل من هذه الاعضاء من مجموعة من الأنسجة التي تتكون من وحدات صغيرة جدا لا ترى بالعين المجردة تسمى بالخلية، حيث تمثل كل خلية كائنا حيا في ذاته يؤدي مجموعة من الوظائف الضرورية لاستمرارية حياة  الكائن، وتتركب الخلية من 3 اقسام رئيسة: الغشاء الذي يحيط بالخلية للحفاظ على محتوياتها وإدخال ما تحتاجه الخلية من مواد ويتكون من طبقتين دهنيتين رقيقتين، سائل الخلية وهو سائل جيلاتيني شفاف يملأ الخلية ويتكون من الماء كمكون أساسي بالإضافة إلى الاملاح والمواد الغذائية ويحتوي على العديد من الجزيئات الصغيرة اللازمة لعمل الخلية مثل الميتوكوندريا (بيت الطاقة)، الرايبوسومات، وغيرها. أما الهلام او النواة وتعد اكبر مكونات الخلية فهي العقل المدبر للخلية وتحتوي على المادة الوراثية المتوارثة عن الآباء والأجداد والتي تكون على شكل خيوط ملتفة تسمى الصبغيات، حيث تحتوي كل خلية على 46 صبغيا على هيئة أزواج .

وقد عرف الناس منذ قديم الزمان انتقال الصفات من الأجداد للآباء ، وجاءت الشريعة الاسلامية مؤكدة لهذه الحقيقة ومبينةً لبعض أصول علم الوراثة في أحاديث عدة ونصوص كثيرة.

وتعددت التعريفات للهندسة الوراثية لتتجاوز اثنتا عشر تعريفاً، أما التعريف الأشمل الذي يجمع ما ورد فيها جميعا فهو "التعامل مع المادة الوراثية باستخلاص معلومات عنها، او التغيير فيها".

حقيقة الجينات البشرية:

الجينات هي جمع كلمة "جين" وهي مأخوذة من الكلمة اليونانية "جينوس" والتي تعني الأصل ويعرفها العلماء بأنها "الوحدات الافتراضية الأساسية للوراثة التي تنتقل من الأصول للفروع"، ويوجد الجين ضمن سلسلة الحمض النووي المتكونة من القواعد النيتروجينية الأربعة المرتبة بطريقة معينة لتحمل كل منها الشفرة الخاصة لصنع البروتينات التي تتحكم في صفات الكائن الحي وأنشطة خلاياه الكيميائية. والجينات لها وظائف متعددة كتحديد الصفات الشكلية للإنسان من طول ولون العينين ولون الشعر وغيرها، بالإضافة الى القابلية للإصابة بالأمراض الوراثية، فإذا طرأ أي تغيير في ترتيب شفرة القواعد النيتروجينية يؤدي ذلك إلى تغيير البروتين المنتج وبالتالي إصابة الشخص بالأمراض الوراثية، وتتفاوت الصفات الوراثية في كيفية ظهورها سواء كانت طبيعية أو مرضية.

ويشير المؤلف إلى أن عدد الجينات في جسم الانسان تقدر بين 30 إلى 35 ألفاً، لكن آخر الدراسات العلمية تفيد بأن عدد الجينات يتراوح بين 20-25 ألفاً ، ويمكن تقسيمها الى 3 أنواع: موروثات متنحية، موروثات سائدة، وموروثات مرتبطة بالجنس، والمرض الوراثي هو المرض الذي يظهر بسبب خلل في الموروث نتيجة تغيرات في الحمض النووي. ويمكن تقسيم الأمراض الوراثية حسب طريقة انتقالها من الآباء الى الأبناء الى 3 أنواع : أمراض وراثية سائدة وأمراض وراثية متنحية وأمراض وراثية مرتبطة بالجنس.

مشروع الجينوم البشري:

الجينوم البشري مصطلح جديد في علم الوراثة مركب من كلمتين "جين" و"كروموسوم" اختصاراً، وهو مجموع الجينات الموجودة في الخلية الإنسانية، وقد تم الكشف عن الجينوم لأول مرة في مشروع دولي ضخم عرف بمشروع الجينوم البشري والذي بدأ في عام 1990 ولم يتم الانتهاء من تنفيذه الا عام 2003، وشاركت فيه الدول المتقدمة لرسم خريطة شاملة تحدد كل جين وموقعه ووظيفته، بالإضافة إلى محاولة معرفة الأسباب التي تؤدي للإصابة بالأمراض الوراثية  وتحديد الجينات المعتلة وحفظ جميع هذه المعلومات في قواعد بيانات لتسهيل استعمالها للبحوث الطبية فيما بعد.

ومن أبرز التطبيقات التي تلت مشروع الجينوم البشري معرفة أسباب الأمراض الوراثية التي يسببها خلل في مورِّثة واحدة عن طريق إجراء فحوصات ما قبل الزواج وفحوصات الأجنة اثناء الحمل وفحص اللقائح قبل نقلها الى الرحم في حالات التخصيب الخارجي والفحوصات التوقعيّة قبل ظهور أعراض الأمراض، وكذلك اكتشاف المورثات التي تزيد من قابلية الانسان للإصابة بالأمراض المركبة الشائعة كالسكري وأمراض القلب ومورثات السرطان أيضا، بالإضافة إلى دراسة المادة الوراثية للجراثيم المسببة للأمراض المعدية بغرض الوقاية منها، ودراسة الاختلافات بين البشر في استجابتهم للعلاجات واستحداث طرق علاج جديدة مثل العلاج الجيني والعلاج بالخلايا الجذعية.

وقد أصدرت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية توصية بمشروعية دراسة الجينوم البشري من باب التفكر والتبصر في خلق الله، ومشروعية استخدام الجينوم البشري في مجالات الوقاية من الامراض وعلاجها باعتباره وسيلة لتحقيق مقاصد مشروعة.

 

المراد بالفحص الجيني

 

تعددت التعبيرات التي تعرف الفحص الجيني ولكن أشملها " قراءة تركيب المادة الوراثية لبعض الجينات لمعرفة اعتلالها وسلامتها"، ويُجرى هذا الفحص في عدة حالات منها إجراء الفحص للمقبلين على الزواج بغرض الوقاية من الأمراض الوراثية المنتشرة في المجتمع بتحديد ما إذا كان أحد الزوجين أو كلاهما حاملاً لجين معتل مما يؤدي الى احتمال إصابة ذريتهما بمرض وراثي حتى وإن كان الزوجان سليمان من المرض ولا يشتكيان من أعراضه.

أما عن الأضرار المحتملة لإجراء هذا الفحص فمن ضمنها إيهام الناس بأن الفحص سيُجَنِّب ذريتهم المرض، وإحجام الشباب عن الزواج عند ظهور صفة وراثية معتلة، وكلفة الفحص المرتفعة، وسهولة الحصول على شهادة مزورة بدفع رشوة مالية.

وتعقيبا على ما ذكره المؤلف، نقول بأن جميع ما ذكره من أضرار تعد قابلة للتفنيد ولكنها غير مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفحص نفسه، إذ أنه تُجرى حملات توعوية موسعة بين افراد المجتمع لشرح أهمية الفحص وما يترتب عليه وبيان أن نتائج الفحص لا تفيد القطع بأن الذرية ستصاب بالمرض. أما عن كلفة الفحص، فأغلب دول الخليج تُجري الفحص بالمجان لمواطنيها، أما في غيرها من الدول فقيمة الفحص المالية جزء بسيط من التكلفة المالية التي سَيَتَكَبَّدُهَا الزوجان إذا أنجبا أطفالاً مصابين باعتلالات وراثية. وأخيراً، فإن الحصول على شهادة سلامة من الأمراض الوراثية مُزَوَّرَة أمر غير أخلاقي ويستدعي وجود قوانين رادعة في البلاد العربية وألا يجرى الفحص إلا في مراكز حكومية موثوقة.

الأمراض الوراثية وزواج الأقارب:

كثر اللغط مؤخرا عن زواج الأقارب ودوره في انتقال الأمراض الوراثية، ولكن الدراسات الحديثة أثبتت أن زواج الأقارب يزيد احتمالية الإصابة بالأمراض الوراثية بنسبة ضئيلة وتتمركز في الامراض المتنحية لأن الجينات الحاملة لها تتوارث منذ الجد المشترك ولا تظهر الأعراض إلا اذا كان الزوجان يحملان نفس الجين المتنحي.

أما عن رأي الشرع في زواج الأقارب، فمشروعيته جليه لكن اختلف الفقهاء في تحديد الوصف الشرعي من كونه مباحاً كما في قول الحنفية والمالكية أو مندوباً كما في قول الظاهرية أو مكروهاً اعتماداً على أحاديث ضعيفة لا أصل لها.

حكم اجراء الفحص الجيني:

وقد أجمع اهل العلم والفقه على مشروعية اجراء الفحص الجيني قبل الزواج من باب مشروعية الوقاية من الأمراض كما في الكتاب والسنة، وأن الشرع جاء بمقدمات قبل الزواج منها الخطبة والنظر إلى المخطوبة للتعرف على صفات المخطوبين لضمان استقرار الزواج فمن باب أولى التعرف على قابلية الإصابة بالأمراض الوراثية لتفاديها.  بينما أفتت فئة قليلة بعدم الحاجة لإجراء الفحص، كما قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي بي"، ورداً على هذه الحجة فإن الأخذ بالأسباب لا يتعارض مع حسن الظن بالله، لذلك يرجح القول الأول القائل بمشروعية اجراء الفحص الجيني قبل الزواج.

حكم كشف سر الفحص الجيني:

إذا قام الخاطب والمخطوبة بإجراء الفحص الجيني في المراكز المتخصصة، وأراد أحدهما الاطلاع على نتيجة الآخر، وذلك بسؤال الطبيب المختص الذي قد يشكل عليه الأمر من جهة كون الإخبار يعد من قبيل النصيحة، أو أنه يعد من كشف الأسرار وخيانة الأمانة، فالأصل أن ما يطَّلع عليه الطبيب من نتائج فحص المريض سر يحرم عليه نشره، والواجب إبقاء نتائج الفحص الجيني سرية، لذلك ينبغي ان تنص النظم في المؤسسات الطبية على تحديد من له حق الاطّلاع على النتائج وهو الطبيب المختص دون غيره.

الفحص قبل الحمل:

يطلق هذا المصطلح على عملية فحص الخلايا عند إجراء طريقة التلقيح خارج الرحم، وهي تقنية تجرى عن طريق إعطاء المرأة هرمونات تزيد إفراز البويضات وتسحب هذه البويضات خارج الجسم ويؤخذ منيّ الزوج وتلقح البوييضات في أنبوب اختبار في المعمل ومن ثم تفحص الخلايا للتأكد من سلامتها من الأمراض الوراثية ثم تنقل إلى رحم الزوجة لينمو الجنين. ومن أهم مميزات هذه الطريقة، تجنب إنجاب أطفال مصابين بأمراض وراثية وتجنب إجهاض الجنين في حال اكتشاف إصابته بالأمراض الوراثية. أما عن أبرز عيوب التقنية، فتشمل التكلفة العالية بالإضافة الى عدم ضمان أن البويضة التي تزرع في المرأة بعد فحصها سليمة من أمراض وراثية أخرى غير المرض الذي أُجْرِيَ الفحص له، بالإضافة الى انخفاض نسبة نجاح هذا الحمل.

حكم فحص الخلايا:

اختلف الفقهاء على حكم اجراء الفحوصات الجينية على الخلايا، فمنهم من قام بإجازة إجراء الفحص للمصالح المترتبة على هذا الفحص من حفظ النسل وأن هذه الخلايا لا تعتبر جنيناً كاملاً في هذه المرحلة المبكرة قبل زرعها في الرحم.

ومنهم من حرَمه لاحتمال حدوث خطأ في اللقائح وهو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة من ضرورة المحافظة على النسل، وتتطلب التقنية كشف العورة المغلظة للمرأة. وردّاً على هذه الحجج، فإن هناك العديد من الإجراءات والقيود والتدابير التي يتم اتّخاذها قبل زرع البويضات الملقّحة في رحم المرأة لتجنب حدوث المفسدة التي تتعارض مع مقاصد الشريعة، وأن كشف عورة المرأة أمام الطبيب الأجنبي ضرورة علاجية في حالات العقم عند الزوجين والضرورات تبيح المحظورات.

وترجيحاً يتضح جواز إجراء الفحص الجيني على الخلايا قبل زرعها في رحم الأم مع اشتراط عدم اختلاط اللقائح مع غيرها مما يؤدي الى اختلاط الأنساب ولذلك وجب إجراءها في مراكز طبية موثوقة.

آثار الفحص قبل الحمل:

وقد يترتب عدة آثار على إجراء الفحص الجيني قبل الحمل، منها:

الأثر الاول: فسخ عقد النكاح: قد يطلب الطرف السليم فسخ عقد النكاح بعد بيان نتيجة الفحص نظرا لوجود الأمراض الوراثية في الطرف الآخر، وهذا فيه قولان. القول الأول يقول بالجواز استناداً لجواز فسخ عقد النكاح لوجود عيب في أحد الزوجين كما في مذهب جمهور الفقهاء، وقول آخر بتحريم فسخ عقد النكاح إذا تبين وجود مرض وراثي لدى أحد الطرفين استناداً لأحاديث ووقائع ضعيفة من السنة وغير صحيحة. وترجيحاً، يجوز فسخ عقد النكاح بين الزوجين إذا تبين وجود أمراض وراثية لدى أحد الطرفين والتي قد تنتقل للنسل قياساً على مشروعية فسخ العقد في حالات الجذام والبرص والجنون وغيرها من الحالات الثابتة في السنة.

الأثر الثاني: اختيار جنس الجنين : تختلف الأمراض الوراثية في طريقة انتقالها، فمنها ما ينتقل عن طريق الصبغيات الجنسية فيصيب الذكور فقط أو الإناث فقط، وقد تكون أمراضاً خطيرة ولتجنب الإصابة بها يلجأ الأبوان لاختيار جنس الجنين، وتُجرى هذه التقنية بطريقتين: الأولى تُمَاثِل التلقيح الخارجي المشروحة سابقاً حيث يتم إخصاب بويضة المرأة في المعمل في أنبوب اختبار ومن ثم يتم اختيار الأجنة المناسبة لزرعها في رحم المرأة ، أما في الطريقة الثانية فيتم تحديد جنس الجنين عن طريق نوع الحيوان المنويّ الذكريّ ولا يتم تخصيب إلا الحيوانات المنوية المناسبة، وهناك عدة صفات تساعدهم لإختيار الحيوان المنويّ منها لأن الحيوان المنويّ المذكر أسرع وأقصر عمراً وأصغر حجماً من الحيوان المنويّ المؤنث.

وقد اختلف أهل العلم في بيان حكم اختيار جنس الجنين، فمنهم من قام بحرمته استناداً لتعارضه مع مشيئة الله، وردّاً على هذه الحجة فقيام الأطباء بهذه العملية إنما هو من باب الأخذ بالأسباب وقد تنجح العملية أو لا بمشيئة الله، وحجتهم أيضاً أن معرفة جنس الجنين يتعارض مع علم الغيب المختص بالذات الإلهية، وتعقيباً على ذالك فيمكن القول بأن معرفة جنس الجنين عند الأطباء إنما هو ظن يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ، أما علم الله سبحانه وتعالى فهو قطعي غير قابل للخطأ. وإحدى الحجج أيضاً هو أن اختيار جنس الجنين يندرج تحت تغيير خلق الله، وتعقيباً على هذه الحجة بأن عملية اختيار الجنين لا تشتمل على أي تغيير في طبيعة البويضة الملقّحة وإنما عملية كشف واختيار فقط. ومنهم من أجاز عملية اختيار الجنين من باب أن الشريعة راعت جلب المصالح ودرء المفاسد واختيار جنس الجنين بهذه الطريقة يضمن سلامة الذريّة المُنجَبَة من الأمراض الوراثية.

الأثر الثالث:  منع الحمل بالتعقيم: التعقيم عملية جراحية في الجهاز التناسلي تفقد القدرة على الإنجاب بصورة دائمة من باب أنه لا ضمان لعدم إصابة الذريّة بالأمراض الوراثية، وقد حُرِّم التعقيم استدلالاً بأن فيه قطع للنسل وهو ما يتنافى مع المقاصد الضرورية التي جاءت الشريعة لحفظها. وأُجِيزَ التعقيم في حالات الأمراض الوراثية الخطيرة إذا تَعَذَّر إيقاف الإنجاب بصورة مؤقتة، لأنه لا يُسلَم من احتمال انتقال الأمراض الوراثية من الأصول إلى الفروع، واستشهاداً بأنه لم يرد نص على منع الحمل بالتعقيم وأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد في تحريمها نص. وتعقيباً على ذلك أن حُرمة التعقيم تأخذ القياس على الإخصاء وهو عملية نزع الخصيتين من الرجل لمنع الإنجاب وهي عملية محرمة قولاً واحداً.

الفحص في اثناء الحمل:

وسائل الفحص اثناء الحمل ومميزاته: توجد 3 وسائل رئيسية للكشف المبكّر عن الامراض الوراثية اثناء الحمل:

 

حكم إجراء الفحص أثناء الحمل:

 اختلف أهل العلم على حكم إجراء الفحص أثناء الحمل على قولين: التحريم من باب أن لا فائدة من إجراء الفحص لأنه يٌجرى مُتَأخِراً في الحمل بعد المدة المُجاز فيها الإجهاض، وأن نتائج الفحص غير دقيقة بشكل قطعي عن إصابة الجنين بمرض وراثي واحتمالية حدوث ضرر للجنين أو أمه. أمّا جواز الفحص أثناء الحمل فله شرطين: أولهما، وجود حاجة مسيسة لإجراء الفحص ووجود دلالة قوية على إصابة الحمل بمرض وراثي، والشرط الثاني انتفاء الضرر على الجنين والأم من باب ان الشرع حثَّ على التداوي وان هذه الإجراءات من باب الوقاية التي هي خير من العلاج.

حكم الإجهاض:

توجد الكثير من التشوهات التي يصاب بها الجنين بسبب جينات معتلة، فقد يكون الخلل شذوذا عدديا إما بزيادة أو نقصان في عدد الصبغيات، أو شذوذ شكلي في تركيب أحد الصبغيات. وتختلف هذه التشوهات في وقت حدوثها وبالتالي حكم إجهاض الجنين فيها. وقد أجمع العلماء قديماً وحديثاً قولاً واحداً على تحريم إجهاض الجنين بعد نفخ الروح أي بعد 120 يوما، وبه صدرت الفتاوى من مجامع فقهية عدة بأدلة من الكتاب والسنة لأن الله حرم قتل النفس بغير حق وهذا التحريم يشمل الجنين بعد نفخ الروح. أما قبل نفخ الروح، فقد اختلف العلماء في الحكم، فمن أجاز اجهاضه اشترط ثبوت تشوه الجنين واصابته بعيوب تستحيل معها الحياة الطبيعية، أما تحريم الإجهاض قبل نفخ الروح فهو من باب أنه قتل للنفس.

خاتمة:

جاءت رسالة الدكتوراه هذه كملخص وتجميع لكل ما قيل ونُوقش من فتاوى وآراء فقهية فيما يتعلق بالمواضيع التي تخصّ الهندسة الوراثية خصوصاً وعلم الجينوم عموماً، سواء كانت في رسائل بحثيّة، أو توصيات مجامع فقهية، أو كتب منشورة، مع مراعاة نُدرة المراجع والكتب المنشورة في مواضيع علم الجينوم في ذلك الوقت لهذه المواضيع المستحدثة.

تعقيب:

تتميز الشريعة الإسلامية بالتسامح والقدرة على التماشي مع متغيرات العصر على النقيض من الديانات السماوية الأخرى، إذ سمح باب الاجتهاد في الفتاوى باستخلاص احكام شرعية لكل ما يستجد من علوم واختراعات وتقييم مدى قبول الشريعة الإسلامية لها، ومسيس الحاجة لمشروع آخر بهذا الحجة في وقتنا الحالي. إذ أن الرسالة نُشِرَت منذ عشر سنوات والعلم في هذا المجال لم يتوقف عند ذاك الحدّ، بل تطوّر ومازال في تطوّر مستمر يستدعي أن يُكرّس علماء الدين بعضاً من البحث والتمحيص فيها، وهو المحصّلة النهائية التي يسعى للوصول لها هذا المشروع، أن يواكب الدين وتيرة تسارع العلوم بشتى أنواعه.

في هذه المراجعة والتلخيص، تم التركيز على أهم المواضيع التي تتعلق بمشروع جينوم قطر وأنشطته حيث أنها أكثر المواضيع الشائكة التي يتم تداولها في هذا المجال، لذلك جاءت هذه المراجعة ناقصة وليس لجُلّ الرسالة المنشورة.

 

[1] [تمت كتابة هذ البحث في إطار المشروع البحثي "توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية (Indigenizing Genomics in the Gulf Region (IGGR): The Missing Islamic Bioethical Discourse)" بتمويل من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمسجل برقم NPRP8-1620-6-057. علما بأن المسؤولية عن البيانات الواردة هنا تقع بالكامل على عاتق من قام بتأليف البحث]

 

 

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق