علم الجينوم في منطقة الخليج: إدارة النتائج العرضية من منظور أخلاقي إسلامي

د. مجمد غالي

أستاذ الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام

مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق

كلية الدراسات الإسلامية

جامعة حمد بن خليفة، قطر.

 

شهدت العاصمة القطرية نهاية الشهر المنصرم (29-30 نوفمبر 2016) النسخة الثالثة من مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية «ويش»، ويمثل واحدة من مبادرات مؤسسة قطر التي أطلقتها سمو الشيخة موزة بنت ناصر نهاية عام 2013 بالتعاون مع جامعة إمبريال كوليدج لندن بالمملكة المتحدة والتي يعمل بها رئيس مجلس الإدارة التنفيذي للمؤتمر، البروفيسور اللورد دارزي وهو واحد من كبار الجراحين في عالمنا المعاصر. وكانت شبكة الجزيرة العالمية الشريك الإعلامي الرسمي لنسخة هذا العام من "ويش" وقامت بتغطية واسعة لفعالياته.

وقد شارك في قمة "ويش" هذا العام ما يزيد على ألف واربعمائة شخص يمثلون أكثر من مائة دولة حول العالم، من بينهم عدد كبير من الوزراء وصانعي السياسات الصحية والأكاديميين. ونود هنا التركيز على واحدة من فعاليات نسخة هذا العام وهو المنتدى البحثي "علم الجينوم في منطقة الخليج والأخلاقيات الإسلامية: الإدارة الأخلاقية للنتائج العرضية". وقد شارك في كتابة البحث الذي أصدره هذا المنتدى فريق من الباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة[1] منها علوم الوراثة والجينوم والاخلاقيات الطبية والحيوية والأخلاق الإسلامية، وتبرز أهمية موضوع هذا المنتدى البحثي من خلال التعرف على ما بات يعرف بـــ "ثورة الجينوم" والتقنيات المرتبطة بهذا العلم الجديد وحجم الآمال العريضة المنعقدة على ما يمكن أن تنجزه هذه التقنيات في المستقبل القريب والبعيد.

 

تقنيات علم الجينوم: آفاق رحبة وطموحات خليجية

يحتوي الجسم البشري على عشرات التريليونات من الخلايا وداخل كل خلية يوجد الَّدنا (DNA) على شكل خطوط ملتفة. وإذا ما قمنا فَرضَاً بفرد كل هذه الخطوط الملتفة ووضعناها على شكل صف متواصل فإن هذا الصف – الذي سيكون سمكه أرفع آلاف المرات من الشعرة الواحدة- سيمتد لمسافة تكفي للذهاب من الأرض إلى الشمس والعودة منها 500 مرة! فالجينوم البشري هو المجموع الكلي لهذا المحتوى الوراثي الهائل للإنسان، وقد تم التعرف عليه وفك شيفرته عقب إنجاز مشروع الجينوم البشري مع بداية هذا القرن بتكلفة بلغت ما يقارب 3 مليار دولار.

ونظرا للكم الهائل من المعلومات التي يمكن التوصل إليها عن طريق قراءة وتحليل الجينوم، فقد أُطلق عليه اسم "كتاب الحياة" والذي تفتق عن تصور أو مفهوم جديد للطب يسمى بالطب الشخصي أو الطب الدقيق، ويعني الاعتماد على المعلومات الجينية أو الوراثية الخاصة بكل شخص على حدة وتحديد أسلوب العلاج أو الرعاية الصحية بناء على المعلومات الواردة في "كتاب الحياة" الخاص بكل مريض بعد دراسة طبيعة وتركيبة المرض محل البحث. وتتزايد القناعة بين المتخصصين في علوم الطب والبيولوجيا وصناع السياسات الصحية بكون الطب الشخصي هو البديل الأمثل للأسلوب التقليدي في الطب والذي يعتمد في الأساس على دراسة المرض ذاته ثم تشخيص علاج أو دواء يتم اعتماده للمصابين بهذا المرض بشكل عام.

وبالإضافة إلى القدرة على تشخيص الحالة الصحية الآنية للمريض وسبل علاجه بشكل دقيق، تساعد التقنيات العلمية المتعلقة بالجينوم كذلك في الكشف عن جزء كبير من المستقبل الصحي للفرد والمتعلق باحتمالية إصابته بأمراض معينة بعد بلوغ سن معين أو احتمالية نقله -عن طريق الطفرات الجينية- لأمراض معينة لذريته ربما لن يصب هو بها في حياته وقد أدى هذا لوجود فرع جديد من الطب يعرف بالطب التنبئي. وبعيدا عن الأمور الطبية البحتة، تساعد تقنيات الجينوم أيضا على الكشف عن جزء كبير من الماضي البعيد لأسلاف شخص ما ويمكن تتبع هذا الماضي لمئات وربما آلاف السنين، ونشأ من ذلك ما يعرف بـعلم "النسب الجينومي". وما نشير إليه هنا من علوم ومعارف تولدت من رحم تقنيات علم الجينوم هو مجرد غيض من فيض، فقد أفردت المجلة العلمية ذائعة الصيت "نيتشر Nature" في عددها الصادر في 28 فبراير 2013 مقالا يتحدث عما يسمى بــ "موضة الجينوم"، وهي ظاهرة استحداث كم كبير من المصطلحات والمجالات العلمية الجديدة تتم صياغتها عمدا على وزن كلمة جينوم وذلك بهدف "القول بأنك جزء من علم جديد مثير"، بحسب أليكسا ماكريه، عالِمة اللسانيّات والمعلوماتية الطبية بكلية الطب في جامعة هارفارد.

في ضوء ما سبق، أبدى عدد من دول الخليج -على مستوى صناع القرار وواضعي السياسيات الوطنية- رغبة قوية في أن تكون جزءا من صناعة هذه العلوم والتقنيات الجديدة والطموحة وأن تكون شعوبها في مقدمة من تتاح له ثمار هذه المنجزات العلمية. فقد تم إطلاق مبادرتين كبيرتين بمخصصات مالية ضخمة لمشاريع جينوم على المستوى الوطني في كل من قطر والمملكة العربية السعودية نهاية عام 2013، بالإضافة إلى مشاريع أخرى -وإن كانت أقل حجما- في البحرين وعمان والكويت والإمارات. وتلازم مع هذه الرغبة الصارمة في اقتحام هذا المجال العلمي، وجود رغبة أخرى لا تقل صرامة في أن يكون اللحاق بثورة الجينوم متوافقا مع القيم والأخلاق الإسلامية التي تشكل ركنا رئيسا في هوية وثقافة شعوب المنطقة. فقد أكدت الشيخة موزا بنت ناصر في كلمتها الافتتاحية لنسخة مؤتمر "ويش" لهذا العام -في معرض حديثها عن برنامج جينوم قطر- على أهمية مراعاة البعد الأخلاقيِ والدينيِ والحاجة إلى تجديد الاجتهاد في ثقافتنا وديننا بهدف تحقيق الاستفادة القصوى من منجزات العلومِ الطبية، كما دعت سموها إلى ضرورة "أن نحترم فكرنا الديني في الوقت الذي نحرص فيه على أن نكون جزءاً من الخريطة العالمية الصحية" ثم أضافت "ولمقاربة مثل هذه القضايا، يشهد "ويش" هذا العام تنظيم ندوة حول الجينوم في منطقة الخليج العربي من منظورٍ أخلاقي"، في إشارة منها إلى المنتدى البحثي الذي نحن بصدد الحديث عنه في السطور التالية.

 

إدارة النتائج العرضية لأبحاث الجينوم من منظور أخلاقي إسلامي

يتميز علم الجينوم والتقنيات المرتبطة به، كما أسلفنا سابقا، بالقدرة على إنتاج كم هائل من المعلومات لا ترتبط فقط بالحالة الصحية للشخص صاحب الجينوم. كثير من هذه المعلومات يتجاوز -كما وكيفا- ما تم التخطيط للكشف عنه من قِبل الشخص صاحب الجينوم أو من قِبل الطبيب المعالج أو الباحث العلمي، فغالبا ما تكشف تقنيات الجينوم عن معلومات كثيرة لم يتم السعي ورائها بل ربما توجد رغبة في عدم الاطلاع عليها أصلا، وتعرف هذه المعلومات بالنتائج العرضية. وتشكل الإدارة الأخلاقية لهذه النتائج العرضية وكيفية التعامل معها واحدة من أهم المعضلات الأخلاقية التي شغلت علماء الأخلاق في الغرب خلال العقد الأخير، نظرا لأن البنوك الحيوية ومشروعات الجينوم لا تستطيع إجراء أبحاثها دون وجود إطار أخلاقي واضح في التعامل مع مثل هذه النتائج والإجابة على أسئلة مركزية من قبيل: متى يجب ومتى يمتنع الكشف عن هذه النتائج العرضية؟ وفي حال الكشف عنها، فمن الذي يتم إخباره بها (الشخص صاحب الجينوم مثلا، أو أقاربه الذين يشاركونه جزءا كبيرا من تركيبته الجينية أو بعض أجهزة الدولة) ومتى يجب أن يكون هذا الإخبار؟ وهل تختلف الإجابة على مثل هذه الأسئلة في حال كان الشخص صاحب الجينوم حيا أو ميتا أو بالغا أو قاصرا أو في حال كانت النتائج متعلقة بحالته الصحية أو بأمور اجتماعية أخرى مثل النسب والأصل العرقي أو القبلي؟ هناك حاجة ملحة لتناول هذه الأسئلة من منظور أخلاقي إسلامي كما عبر عن ذلك القائمون على مشاريع الجينوم التي انطلقت بالفعل في عدد من دول الخليج العربي. وفي ظل غياب البحوث العلمية حول هذه القضايا الأخلاقية وعدم تعرض قرارات المجامع الفقهية حول الجينوم لهذه المسائل، جاء هذا المنتدى البحثي ليفتح باب التعامل مع بعض هذه القضايا، ويمكن إيجاز أهم ما خلص إليه المنتدى في النقاط التالية:

* لا بد من إعلام الأشخاص الذين يتبرعون بعيناتهم للمشاركة في أبحاث الجينوم باحتمال وجود النتائج العرضية، وذلك قبل إجراء البحوث على هذه العينات. فبدون هذا الإعلام لا يمكن أن نسمي الموافقة التي يتم الحصول عليها من هؤلاء الأشخاص موافقة مستنيرة أو واعية.

* هناك عدد محدود من النتائج العرَضية يجب أن يتم الكشف عنها في كل الأحوال وإبلاغ الشخص صاحب الجينوم بها. ومن ذلك النتائج التي تكشف عن قابلية الشخص للإصابة بأمراض فتاكة لكن من الممكن تلافيها عن طريق عمل بعض الإجراءات الطبية الضرورية أو اتباع تعليمات وإرشادات محددة. وهذا واجب أخلاقي لأنه متعلق بمقصد حفظ النفس وهو أحد مقاصد الشريعة التي تقع في مرتبة الضروريات. وإنقاذ الإنسان من التهلكة -بصرف النظر عن دينه وعرقه- واجب أخلاقي وديني في الإسلام، كما أوضحت الآية القرآنية الكريمة في سورة المائدة "مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".

*  هناك عدد محدود أيضا من النتائج العرَضية يجب الامتناع عن كشفها، سواء كان ذلك للشخص صاحب الجينوم أو لغيره. ومن ذلك النتائج المتعلقة بالأنساب، لأن قضايا النسب تقع خارج إطار التداوي أو البحث العلمي الذي يرسم حدود العلاقة بين صاحب الجينوم وبين الطبيب أو الباحث العلمي، ومكان البحث عنها وتقصيها هو القضاء وأروقة المحاكم وفق ضوابط شرعية وقانونية محددة لا مؤسسات البحث العلمي. كما ينبغي التنويه أيضا إلى أن مسائل النسب في المنظومة الشرعية الإسلامية لا ينبني فقط على وجود علاقة بيولوجية بين الطفل ومن ينسب إليهما من والدين، وإنما لا بد من وجود علاقة نكاح شرعية أو ما يسمى بــ "الفراش". وفي حال وجود هذا الفراش الشرعي، لا يتم نفي النسب إلا بطرق محدودة جدا حددها الشرع، والنتائج العرضية ليست واحدا من هذه الطرق.

* غالب النتائج العرضية تقع في دائرة رمادية بين الواجب والمحظور الشرعيين، ويتوقف الحكم الأخلاقي على الكشف أو عدم الكشف عنها على عدة عوامل وعناصر متشابكة ومعقدة منها مدى توافر الرعاية الصحية في البلد الذي يعيش فيه الشخص حتى يتمكن من متابعة ما كشفت عنه النتائج العرضية، ومنها الحالة النفسية والاجتماعية للشخص، ومنها طبيعة الجهة التي توصلت إلى هذه النتائج العرضية إذا كانت مؤسسة متخصصة في إجراء البحوث فقط أو مؤسسة طبية تقدم العلاج للمرضى، ومنها درجة اليقين أو الظن أو الوهم التي تفصح عنها النتائج العرضية ... الخ.

* ضرورة التنسيق بين عدة أطراف وجهات مختلفة للاتفاق حول الطرق المثلى للإدارة الأخلاقية للنتائج العرضية من منظور إسلامي. ويشمل هذا التنسيق خبراء ومتخصصين من قطاعات مختلفة مثل وزارات الصحة والعدل والأوقاف بالإضافة إلى الباحثين والأكاديميين في مجالات الطب والعلوم البيولوجية والأخلاق الطبية الإسلامية، وذلك بهدف وضع سياسات واضحة وإرشادات توجيهية خاصة باحتياجات واهتمامات كل مؤسسة تنخرط في بحوث الجينوم وتقنياته المختلفة.    

روابط ذات صلة

التغطية الإعلامية: بالإضافة إلى عدد من وسائل الإعلام التي قامت بتغطية الحدث باللغة الإنجليزية، والتي يمكن التعرف عليها عبر هذا الرابط، نشير هنا إلى أهم وسائل الإعلام العربية:

 


 

[1] تشكل فريق الباحثين من: محمد غالي محمد غالي، الباحث الرئيس وإيمان سعدون (وزارة الصحة العامة، قطر) وفوزان الكريع (مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، المملكة العربية السعودية) وخالد فخرو (مركز السدرة للطب والبحوث وكلية طب وايل كورنيل في قطر) ومعن زواتي (مركز علوم الجينوم والسياسة بجامعة ماكجيل، كندا) وسعيد إسماعيل (برنامج جينوم قطر) وتوفيق بن عمران (مؤسسة حمد الطبية وكلية طب وايل كورنيل في قطر).

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق