رؤية فقهيّة في  قضايا مشروع الجينوم البشري

رؤية فقهيّة في قضايا مشروع الجينوم البشري[1]

 

الأستاذ الدكتور محمد نعيم ياسين

الدكتور محمد نعيم ياسين أردني الجنسية، حاصل على درجتي الإجازة العالية في الشريعة (1964) والقانون (1965) من جامعة دمشق. وحاصل على درجة التخصص (الماجستير) في الشريعة (1968) وفي القانون (1968) من جامعة الأزهر في مصر. وحاصل على درجة العالمية (الدكتوراه) في الشريعة من جامعة الأزهر عام 1972 ليتخصص في الفقه المقارن والسياسة الشرعية. درّس الدكتور محمد نعيم في جامعات عديدة منها جامعة الأردن وجامعة الكويت وجامعة قطر وجامعة العلوم الإسلامية العالمية، وهو الآن أستاذ بكلية الشريعة والقانون في جامعة العلوم الإسلامية بالأردن. وشارك الدكتور محمد نعيم في العديد من الهيئات واللجان العلميّة (30 مؤسسة)، من ذلك عضوته في اللجنة العلمية للموسوعة الفقهية الكويتية الصادرة عن وزارة الشؤون الدينية في الكويت، وعضو مجلس الإفتاء للمملكة الأردنية من 1990-1995م. علاوة على أنه عضو هيئة تحرير عدد من المجلات المحكمة والأكاديمية والصناديق البحثية، وفي عام 1989 حاز على جائزة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في مجال فقه القضايا الطبية من مؤسسة الكويت لتطوير العلوم. وللدكتور محمد نعيم العديد من المؤلفات منها الإيمان، أبحاث فقهية في قضايا طبية، الوجيز في الفقه الجنائي الإسلامي، وصدر له مؤخراً كتاب بعنوان مباحث في العقل. وكتب أكثر من 40 بحثاً في القضايا الطبية، وقضايا الزكاة وغيرها.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لاشك في أن مسائل هذا المشروع من المستجدّات العصريّة؛ وهذا يعني أنها لا تقع تحت طول النصوص الشرعيّة الجزئيّة بصورة مباشرة، وأنها مسائل اجتهاديّة يمكن تناولها من قبل علماء الشرع، وأنها قابلة للاختلاف فيها بينهم. ولكن الدول ليس لها إلا خيار واحد، وهو الأصلح للمجتمع، بناء على القاعدة الفقهيّة المتفق عليها (تصّرف الأمام على الرعيّة منوط بالمصلحة).

ومثل هذه المسائل عند البحث عن حكم الشرع فيها يجب فيها اتباع خطوات لا يصح القفز عنها، والمبدأ العام في مثل هذه المسائل هو ما قاله الإمام الجويني (لا يجوز بحال أن نستحدث وجوهاً في استصلاح العباد وجلب أسباب الرشاد لا أصل فيها في الشريعة). وفيما يأتي ذكر تلك الخطوات مع الإشارة الإجمالية إلى كيفيّة إنزالها على مسائل مشروع الجينوم البشري:

الخطوة الأولى: النظر في حقيقة كل مسألة من مسائل هذا المشروع، بحيث يقع تصورها بصورة دقيقة من الباحث الشرعي؛ حتى يستطيع أن يعرف الأصل الشرعي الذي يمكن أن تُلحق به. ومبدأ هذه الخطوة يكون من عند أهل الاختصاص الدقيق علماً وعملاً، ويعتمد على معطياتهم لعلماء الشرع من بيانات تنقل إليهم صورة الممارسة بكل دقة؛ ليحصل لهم تصورها بوضوح تام. وهذا يقتضي ترتيب اتصالات كافية بين الطرفين تتمثل في أبحاث جينوميّة بلغةٍ ميسّرة يمكن فهمها من علماء الشرع. ثم يكلف هؤلاء العلماء بكتابة رؤيتهم لموقف الإسلام من الممارسة الجينوميّة، ثم عرضها للمناقشة في حضور الطرفين.

ومن الجدير بالذكر في هذه الخطوة أن المطلوب فيها هو تصوير كل ممارسة تمارس في المشروع الجينومي البشري على حدة، ولا يُكتفى بالتوصيف الإجمالي لعمليات هذا المشروع ومكوناته. وهذا هو الواجب في التعاطي الفقهي مع أي عمل مركب، ولا يجوز التعامل معه جملة واحدة إلا إذا كان المقصود هو تحديد المسار الصحيح في البحث الشرعي في هذا المشروع.

وفي هذه الخطوة الأولى، ولنسمّها خطوة التصوير يحسن أن يشتمل توصيف الممارسات الجينية على تحديد نسب النجاح ونسب الفشل، والآثار الجانبيّة لها، والأخطاء الطبيّة المحتملة فيها، والمآلات التي يمكن أن يؤول إليها الأمر بعد الممارسة في المستقبل القريب والبعيد، وحالات الضرورة التي تتصور في مجرياتها.

الخطوة الثانية: ومحلها يكون بعد حصول الفقهاء على التصوير المطلوب للممارسة المعنيّة في مشروع الجينوم البشري، يجب على الباحث الشرعي أن يفتّش في نفسه أو بالرجوع إلى غيره من العلماء أو مصنفاتهم عن النصوص الشرعية ذات العلاقة بالممارسات المتعلقة بمشروع الجينوم البشري، ثم يستحضر جميع المبادئ والقواعد الشرعيّة العامّة التي يحتمل أن يكون لها أثر في الحكم، ومن جملة ذلك قواعد المصلحة والمفسدة وقواعد الضرورة وقاعدة التعسف في استعمال الحق، وقاعدة الاحتياط والحذر، وسد الذرائع وفتحها أحياناً، وقواعد الضرر وإزالته، ذلك من القواعد الشرعيّة ذات العلاقة. وهذه الخطوة صعبة على الباحث الشرعي، ويجب عليه أن يستحضر معها دائماً ما حصّله من صور الممارسة من أهل الاختصاص، كأنها حاضرة امامه وهو شاهد عليها، ليُجري تفاعلاً بين تلك الصورة متعددة المناظر القادمة من العلماء الممارسين في مشروع الجينوم البشري، وتلك العناصر الشرعية التي تصلح أن تكون مصادر للرأي الشرعي في تلك الصور.

ولما كان المقصود من هذه الورقة هو بيان الحكم الشرعي الإجمالي لممارسات مشروع الجينوم البشري، وليس لكل ممارسة تدخل تحت مسمّاه، وإنما بيان الخطوط العريضة التي يمكن أن توصل باتباع خطوتي البحث المذكورتين إلى الأحكام التفصيلية لمسائل المشروع. وفي سبيل ذلك لابدّ من تصنيف تلك المسائل من حيث أهدافها ‘لى صنفين: الصنف الأول: - مسائل التشخيص أو الكشف الجيني. الصنف الثاني: - مسائل العلاج الجيني. ومع أن هذا التصنيف قد لا يشمل كل شيء في المشروع لكن المجموعتين السابقتين يمكن أن ينتظم فيها معظم قضايا المشروع الجيني البشري:

المطلب الأول

معالم الحكم الشرعي للفحص الجيني

لم يرد في شأن الفحص الجيني نص خاص إلا أن يقال: إن حديث الأمر بالتداوي لا يتم إلا بالفحص الجيني، ويدخل في ذلك الوقاية من الأمراض، وهذه يدخل فيها الأمراض الجينية، ومعناه عام لابد من النظر بجانبه في قواعد المصالح والمفاسد والضرورة والمآلات، وقد يختلف الحكم بين الأفراد وبين المؤسسات والشركات وبين الدولة:

أولاً: الأفراد يباح لهم طلب الفحص الجيني لأنفسهم، ولا يقوم أحدٌ مقام أحد في هذا الأمر. ولا أظن أن الفحص الجيني للفرد يكون فيه أية مصلحة إذا اشترط صاحبه أن لا يطلع عليه هو نفسه، ولا أي إنسان، فإن هذا عبث. أما إذا اشترط على الطبيب أن يطلعه عليه إذا وجد أمراً خطيراً سواء أكان له علاج في وقت الفحص أم لم يكن؛ فهذا فيه نفع معتبر؛ وبخاصة إذا كان له علاج محتمل، أو لم يكن له علاج في وقت الفحص؛ لأن المسار التصاعدي لهذا العلم يعطي بعض الأمل. كذلك فإن حق الفرد في هذا الأمر مشروط بأن لا تؤدي ممارسته إلى الضرر بالغير مما ليس له شأن، ويستلزم أخذ بعض الاحتياطات؛ فإنّ من القواعد المتفق عليها عند الفقهاء عدم جواز التعسّف في اسعمال الحق. وسرّ الإنسان حق له بلا شك، وحفظه على كل من اقتضى العمل أن يطلعوا عليه. ولكن هذا الحق إذا أدى إلى الإضرار بصاحبه أو بأولاده أو أي شخص آخر، أو بالمصلحة العامّة؛ فإن ذلك يفع تحت الحكم الشرعي العام الذي يدلّ عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار)، وما اشتُق منه من القواعد؛ كقاعدة (الضرر يُزال)، وقاعدة منع التعسّف في استعمال الحق. غير أنّ القدر المسموح به من مخالفة صاحب الحق هو القدر الذي يُزيل الضرر الخاص أو العام؛ فلا يُكشف السرّ لمن لا شأن له، وتوضع العقوبات الرادعة على المخالفين، ويمنع الضرر الذي يمكن أن يصيب صاحب السرّ أو يعوض بما يجبره.

ذلك إذا أراد شخص أن يقوم بالفحص الجيني باختياره. ولكن ما الحكم إذا كان بغير إرادته أو بإرادة ناقصة؟ جواب هذا السؤال يتعلق بعدة صور نأتي على ذكر طائفة منها في الفقرات التالية:

ثانياً: إجراء الفحوص الجينيّة على خلايا تؤخذ من الأموات: الرأي في هذه الصورة أن حكمها يشبه إلى حدٍ بعيد أخذ أعضاء الميت لزراعتها في الأحياء، أو الانتفاع بها في وجه من وجوه الانتفاع، فأرى أنه لا يجوز إجراء تلك الفحوص على الأموات إلا أن تؤخذ موافقتهم المسبقة أثناء حياتهم، وهم في كامل قواهم العقلية والإرادية. ويكون ذلك في صورة وصيّة أو ما في حكمها. ولا أرى انّ لأحد أن يتصرف في رفاتهم إلا بناءً على ذلك، ولا يصح أبداً الاكتفاء بالرجوع إلى الورثة؛ فليس بحسب رأئي أي حق بالتبرع بعضو أو أي شيء من جسد الميت؛ لأن حق الورثة يقتصر على تركة الميت، وهي أمواله، ولا يدخل فيها جسده.

ثالثاً: ومن الصور التي قد يجد المرء فيها نفسه مضطراً لإجراء فحص جيني أن تشترط الشركة للتوظيف فيها أو تجديد تعاقداتها مع موظفيها، أو تطلب شركة تأمين من المستأمن القيام بفحص جيني بغية اعتباره في قبول طلب ذلك الشخص أو في رفع مقادير الأقساط التي تطلب ممن توحي فحوضهم ببعض الخلل في جيناتهم، فهل يتسع الفقة لمثل هذا الظرف؟

مما يحتمل قوله في هذه الصور أن العقد شريعة المتعاقدين، وأن الأصل في الشروط هو الإباحة إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم مباحاً، وأن مقصد هذه الشركات هو دفع الخسارة أو ضَعْف الأداء الوظيفي، وهذا النوع من المصالح الخاصة. ولكنّ هذا جزء من الصورة، وليس جميع الصورة، بل الباقي منها هو الأهمّ، ألا وهو المصالح والمفاسد العامّة التي يمكن أن تترتب على إباحة هذه التصرفات للشركات الخاصة ومنها شركات التأمين.

وإذا أردت أن تدرك الصورة الكلية في هذه القضيّة، فإن خير الزوايا التي يمكن أن يريك تلك الصورة، إذا نظرت منها هي زاوية النظر إلى حال المجتمع الإنساني وإذا أبيحت ساحة التداول الجينومي البشري؛ فلو أنك تخيلت وضع البشريّة وقد فتح الباب للحصول على المعلومات المتعلقة بالجهاز الوراثي لأفراد الناس وتجمعاتهم، والتجارة في هذه المعلومات واستخدامها بغير ضوابط، وتصنيف الناس بحسب خصائصهم الوراثية، وانتشار التمييز الجينومي بين المجتمع الإنساني، والذي لا يقل خطورة – في نظري – من التمييز العنصري، بل إن النوع الأول يمكن ان يتخذه بعض العنصريين متكئاً لعنصريتهم، إذا دققت النظر على هذا النوع فإنك سترى في هذا الوضع الإنساني جميع أنواع التصرفات المنافية للحضارة والكرامة الإنسانية. ولسوف ترى تنافساً قذراً في تداول المعلومات الوراثية، سواء على مستوى الإنتاج، ويمثله شركات البحث، أو على مستوى التسويق، ويمثلة الشركات المتخصصة في بيع المعلومات، أو على مستوى الاستهلاك كما في شركات التوظيف وشركات التأمين. ثم يمكن أن ترى الناس أفراداً وشعوباً وقبائل قد صنفت إلى درجات كثيرة لسُلّم لا يرى فيه أثر للقيم العليا الإنسانية، والأخلاق السامية، والكرامة التي منحها الله عز وجل لكل من انتمى إلى الإنسانية. ومن المؤسف أن شيئاً من ذلك قد ظهر أولاً في قناعات علماء ماديين كداروين، ثم لشد ما اعجبت التصنيفات الوراثية فلاسفة ومفكرين ثم زعماء سياسيين كالفاشيين والنازيين والشيوعيين، حتى اعتمدوا سُلّماً للشعوب، وأرادوا إعلاء كلمة من جعلوهم في أعلى ذلك السُلّم، واعتبارهم فوق الشعوب، فأباحوا لأنفسهم عمليات إبادة جماعية، وضحايا بالملايين أو مئات الملايين. بل رأى بعض المفكرين ما سماه بالانتخاب الصناعي، وهو تدخل أصحاب السلطة للقضاء على الضعفاء بمنع علاجهم وأساليب أخرى حتى يتخلص المجتمع الإنساني منهم ولا يبقى فيه إلا الأقوياء. إن أسوأ وضع يتصور للبشرية أن يوضع الضعفاء في سجون الإهمال، والأقوياء في قصور التبجيل والإكرام، إذا كان معيار الضعف والقوة هو معياراً جسمانياً.

لذلك فإن من الواجب على الدول والشعوب وضع المواثيق والقوانين التي تضبط كل علم يتوقع أن تكون مخرجاته خطيرة على المجتمع الإنساني مثل علم الجينوم البشري بأطرٍ تحكم كيفيّة ممارسته، وأطر أُخَر تحكم استعمالات مخرجاته. وأرى من زاوية النظر في المآلات التي أشرنا إليها بصورة إجمالية أن البحث العلمي في الجينوم البشري واستخدام نتائجه ينبغي أن يكون تحت خيمةٍ من الضوابط والشروط المتفق عليها دولياً، المدعومة بالقوانين الداخليّة، ورقابة دولية وأخرى داخلية، كما في العلم النووي والكيميائي والأسلحة الجرثومية ونحوها.

وفي هذا البيان الذي قدمناه نجد الجواب على كثير من الأسئلة التي تثار حول استخدامات المعلومات الجينوميّة، وهو يشير إلى ضرورة منع وصولها لكل شركة لا تستعملها في المصلحة العامة، وإنما لتحصل على مكاسب خاصة، وينبغي أن توضع في سياق تداول الأسلحة الخطيرة المذكورة.

والحقيقة أنه إذا اتبعت هذه السياسة، وهي سياسة المنع من التداول الذي يقصد به المكاسب الخاصة، فإنه سيغلق الباب أمام جميع الشركات التي يمكن أن تجعل المعلومات الجينية مادة لأعمالها التجارية، وإلا فإن التجارة بتلك المعلومات ستكون من أعظم مصادر الربح على حساب الإنسانية.

ولن يكون هذا المنع فعالاً إلا إذا كان دولياً، ولتنتبه الدول التي سبقت غيرها في تكنولوجيا الجينوم البشري؛ فإن فوضى البحث والتعامل في هذا المجال سيكون وبالاً على الجميع، وسوف يثير مشكلات قد تكون الحروب من بينها؛ لأن أمّة من الأمم أو قبيلة من القبائل أو أسرة من الأسر لن تسمح بأن تعامل على أساس التمييز الجينومي، وقد يكوت ردّ فعلها مؤذياً للجميع.

رابعاً: إذا كان طالب الفحص الجيني هو الدولة، فالحكم فيه مبناه على قاعدة شرعيّة لا خلاف فيها، وهي قولهم (تصرف الإمام – رئيس الدولة – على الرعيّة منوط بالمصلحة)؛ يعني أن مناط الحكم في تصرفات الدولة على شعوبها هو تحصيل المصالح لها، ورفع المفاسد عنها.

ولا شك في أنه إذا كان المقصود من الفحص الجيني الذي تجريه الدولة على شعبها هو اكتشاف أسباب أمراض أو أنواع من الخلل يصيب الجينوم، ويحتمل أن ينتشر بين الناس. وذلك من أجل وضع خطط وقائية أو علاجيّة، ومقاومة تلك الأمراض ومنع انتقالها إلى الأجيال، أو كان الفحص يعين على معرفة ما يحتمل أن يتقنه الأشخاص للانتفاع بهم على الوجه الأحسن، أو تشجيع الناس وتوعيتهم لتناول بعض الأدوية والمطاعيم التي تحسن فيهم بعض القدرات، أو تحسن من الثروات الحيوانية والنباتية، أو تقاوم أمراضها، وغير ذلك من المنافع والمصالح التي يعرف تفاصيلها أهل الاحتصاص.

لاشك في ان ما تقدم وأمثاله هو من المكاسب العامّة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالمسح الجيني، والاطلاع على الصورة الجينيّة المجتمعيّة، لبناء الخطط واتخاذ الإجراءات، ووضع الأموال الكافية لهذا الأمر.

لكل هذه اللوحة التي قد تظهر بذلك الوجه الجميل، قد تُخفي من الوجه الآخر مايستدعي عدم التعجل في الحكم على هذا النوع من تراتيب السياسة الداخلية، وينبغي أن يستحضر الباحث قبل ترجيح رأي معين ثلاثة أمور هي:

الأمر الأول: مدى مصداقية ما يُقال عن تلك المكاسب والمصالح التي ذكرناها سابقاً: هل وصلت إلى درجة الحقائق والنتائج المؤكدة، أم أنها توقعات علميّة لم يتضح بعدُ نسبة النجاح فيها، أو أن بعضها كذلك، وبعضها مؤكد. ولا شك أن هذا الأمر له أثر سلبي في ميزان الترجيح، وتكون السلبيّة في الوزن بقدر التشكيكات العلميّة في المنافع المزعومة لمعطيات مشروع الجينوم البشري.

الأمر الثاني: الآثار الجانبية السلبيّة التي يتوقع حدوثها نتيجة لتنفيذ المشروع على مستوى الدولة، سواءٌ أكانت أضراراً ماديّة تصيب الناس في أبدانهم، كما يُقال عن المفاسد المترتبة على بعض الأدوية، وبعض المفاسد التي تصيب الحيوانات والثمار، ويستقر أثرها الضارّ على الإنسان الذي يستهلكها. أو كانت آثاراً اجتماعيّة ضارّة؛ كالاطلاع على أسرارٍ للناس لا يحبون كشفها. واحتمال انكشاف أخطاء اجتماعية أو أخلاقية ما كانت لتظهر إلا بالمسح الجيني، كثبوت أخطاء في بعض الأنساب، مهما كان سببها، حتى لو كشفت لأحدثت فتناً بين العائلات والقبائل، وقد تنهار أسرٌ كانت تعيش في هدوء، فضلا ًعن المنازعات المالية، وبخاصة منازعات الإرث بخصوص مفسدة الكشف عن الأنساب، واحتمالات ظهور الأخطاء فيها.

مبادئ شرعية ينبغي مراعاتها في المسح الجيني بخصوص الأنساب:

  1. لا يجوز أن يكون الكشف عن الأنساب مقصداً أصلياً ولا ثانوياً للمسح الجيني، وهذا يعني تجنب المقارنات التي يمكن ان تُظهر شيئاً من أخطاء الأنساب؛ إذ ليس من مصلحة الدولة ولا الأمّة تغيير ما استقر عليه الوضع من أمر الأنساب، وما يترتب عليه من الفتن التي إن عُرف أولها لم يُعرف آخرها.
  2. إذا وقع شيء مما يجب تجنبه فيما سبق، وعُرفت أنساب سبق وقوع الخطا فيها، فالأصل فيها أن من وُلد على فراش الزوجية؛ يعني كان من امرأة لها زوج، وجاءت بالولد أثناء قيام رابطة الزوجيّة بينهما، فهذا نسب لا يجوز تغييره؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر). وأما نفي النسب من قبل الزوج فيكاد الفقهاء يتفقون على أنه لا يصح إلا فور الولادة أو بعدها بأيام.
  3. الأنساب التي ثبتت بأحكام قضائية قطعيّة بحيث صارت لا سبيل إلى الطعن فيها، ولا يجوز النظر فيها أصلاً. فإن اكتشف أمرها بالمصادفة أو بممارسة ضروريّة اقتضاها مشروع المسح الجيني؛ فلا يبرّر ذلك إثارتها، لا أمام القضاء ولا غيره؛ لأن الأحكام القطعيّة لا يجوز إثارتها من جديد، وهي حجّة على جميع الناس.
  4. لكن الفحص الجيني الرسمي يمكن أن يكون له تدخل في بعض مسائل النسب، وينبني على تدخله أحكام فقهية، مثل التدخل في معالجة نسب اللقطاء، وأول الأسئلة التي يمكن إثارتها في هذا المقام هو أنه إذا كان اللقطاء هم الأطفال الذين أُلتقطوا من الأماكن العامّة، ولا يُعرف لهم أب أو أم ينسبون إليها، فهل يمكن إلحاقهم بمكن يُكتشف أنهم آباؤهم أو أمهاتهم، فينسبون إليهم ويكلفون بتحمّل تبعاتهم؟

وفي الجواب لا نجد صعوبة في إلحاق اللقيط بمن ياتي ويطلب إلحاقه إذا كانت نتائج المسح الجيني قد كشفت عن أن هذا الرجل هو أبٌ للّقيط، ويُسمّى هذا استلحاقاً، وهو جائز عند الفقهاء، ويجب تلبية طلب هذا الرجل إذا قدّم بينة على أنه هو الذي رماه في الشارع أو أي مكان. وبعضهم اكتفى ببعض القرائن للإلحاق، وبعضهم اكتفى بمجرد الادعاء إن لم يكن هناك منازع. وهي آراءٌ تشير إلى مدى تيسير أحكام إلحاق اللقيط بمن يريده. ولا شك في أن الرجل الذي يشهد الفحص الجيني بأن اللقيط المدَّعى هو ابنه، فإن وُجد تنازع بين رجلين كان هذا الفحص مُرجحاً لمن يشهد له، وإلا فلا ينبغي طلبه إلا إذا حصل العجز عن معرفة أبيه.

ولكنّ السؤال الصعب هو أن المسح الجيني إذا أثبت بنوّة اللقيط لأحد الناس فهل يُجبر على استلحاقه وبما يترتب على ذلك من الحقوق الفرويّة والمستقبليّة؟

ومع أنني لا أستطيع الجزم بالإيجاب، لكني أُرجحه ما دام هذا اللقيط لم يولد على فراش زوجيّة معروف؛ لأن إلحاق كل إنسان بوالد وأم مبدأ شرعي ما دام ذلك ممكناً، ولم يكن فيه عدوان على حقوق الآخرين. وإذا ألحق اللقيط بمن أثبت الفحصُ الجيني أنه من صُلبه، وثبتت له الحقوق التي تكون للوالد على ولده، وثبتت الحقوق الآخرى للطرفين كالتوارث. وإذا كان الأب الذي ألحق به اللقيط فقيراً ولا يستطيع الإنفاق على الولد الذي ألحق به وجب مساعدته من الزكاة أو من المال العام.

  1. في غير مجال اللقطاء يمكن الرجوع إلى نتائج المسح الجيني عندما يوجد تنازع بين اثنين على نسب سببه القرابة، بشرط أن لا يكون المتنازع عليه قد وُلد على فراشٍ للزوجيّة. وذلك عندما يصل النزاع إلى القضاء، وقبل أن تصدر فيه أحكام قضائيّة قطعيّة، فيمكن في هذه الحالة اللجوء إلى نتائج الاختبار الجيني الموثوق.
  2. من الأمور المشتبهة والتي تحتاج إلى بذل جهدٍ خاص من جماعة قادرة على الاجتهاد أن تعتبر الفحص الجيني دليل إثبات في مسألة نفي الزوج نسب طفلٍ وُلد على فراش الزوجيّة، واتهم زوجته بالزنى، وهو ما يقتضي الحكم باللعان بين الزوجين، ولكن اعتماد دلالة الفحص الجيني يجعل من هذا الحكم مهجوراً؛ لأن ذلك الفحص يفترض أن يدل بصورة شبه قطعيّة على كون الزوج صادقاً أو كاذباً بحسب نتيجة الفحص؛ وهذا يقتضي الحكم بإثبات نسب الولد من الزوج، وبالتالي اعتباره قاذفاً، أو نفي نسبه واعتبار الزوجة زانية. فهذه النتيجة تتعارض كفاحاً مع الحكم الوارد في النص (آية اللعان). وهذا أمر يحتاج إلى مزيد بحث واجتهاد. ومع ذلك يمكن القول بأن الحدود المذكورة لا يجوز إثباتها هنا؛ لأن الفحص الجيني يبقى فيه شبهة الخطأ الإجرائي البشري أو الآلي. وفي المقابل فإن ما ورد في السنّة يشير إلى أن حكمة تشريع اللعان عند غياب أدلة الزنى أو أدلة القذف أو أدلة ثبوت النسب أو عدمه، هو غياب الأدلة التي تشهد للزوج إذا رأى امرأته تزني، فلا يقتله خوفاً من القصاص، ولا يتكلم بدون بينة خوفاً من حد القذف، فنزلت آية اللعان بمناسبة سؤال رجل وجداله مع الرسول صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا، وأن حقه سيضيع إن لم يقتل ولم يتكلم، فنزلت آية اللعان واشترطت لوجوبه عدم وجود الشهود، وفيها (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم... الخ الآية)، فهل يا ترى ينتفي هذا الشرط عندما توجد شهادة الفحص الجيني؟ الأمر محتمل.
  3. قد تكشف الممارسة آثاراً جانبية أخرى للمسح الجيني. والذي نجده بالملاحظة في هذا المقام أن قياس مفاسد الفحص الجيني ومصالحه المذكورة آنفاً، يمكن أن تتم بصورة ظاهرية، وقد تؤخذ بصورةٍ جملية من غير تحليل يكون فيه استبقاء واستبعاد وتصفية وغربلة. وهذه في نظري طريقة في التعامل السياسي الداخلي لا تحقق المصالح، ولا تندفع بها المفاسد، وقد تؤدي بالناس إلى المهالك. وأما الطريقة الصحيحة فهي طريقة التاجر الماهر الذي يحسب خسارته وربحه في كل عملية، وما يمكن جبره وما لا يمكن جبره من النفقات والهالكات. وفي مسألة المسح الجيني يحسب ذلك قبل الإقدام في كل مرّة، فيحسب في كل عملية تدخل في ذلك المشروع، وما يُتوقع من مصالحها ومفاسدها، وما يقوله الخبراء وأهل الاختصاص في نسبة النجاح ونسبة الفشل. وفي جانب المفاسد ينبغي قبل حساب حجمها الظاهر أن ينظر في كل مفسدة متوقعة، ليعرف حجمها أيضاً، ولينظر بعد ذلك ما يمكن إنقاصه من ذلك الحجم الكُلّي، باتخاذ التشريعات والأنظمة والتعليمات والإجراءات وطرق المراقبة وغير ذلك من وسائل الاحتياط والتصفية وسد الذرائع. ثم تحسب محصلة المصالح ومحصلة المفاسد بعد الغربلة المشار إليها، فإن تساوتا كان الترك أولى، وإن رَبتْ المصالح على المفاسد وجب على الدولة إنجاز المشروع. وإن نقصت المصالح عن المفاسد وجب الترك؛ إذ لا خيار للحاكم في أي عمل سوى اتباع الأصلح. ولا بد من التنبيه هنا إلى أمر يتعلق بالمستقبل الذي يأتي بعد الممارسة، ويؤثر في عملية القياس في الاتجاهين وهو النظر في المآلات، ليكون ذلك مقتضياً اما لسدّ الذرائع وإما لفتحها؛ فكم من مصلحة تكون مؤقتة ثم تزول ويحلُّ محلها مفسدة دائمة أو طويلة المدى. والعكس كذلك؛ أعني أن كثيراً من التكاليف قد تدفع لجني ثمراتٍ من المصالح مضاعفة، ففي الأولى تسدّ الذريعة إلى المفسدة. وفي الثانية تُفتح الذريعة إلى المصلحة. وفي جميع الأحوال لا يجوز أن تُضيّع النصوص والمبادئ الشرعية.

الأمر الثالث: الذي يجب استحضاره عند البحث في حكم المسح الجيني الذي تجريه الدولة هو مدى الفساد المنتشر في اجهزة الدولة، وبخاصة الجهات ذات العلاقة بهذا الموضوع، وهي كثيرة؛ فإذا انتشر الفساد بين أهل الحل والعقد، ولم يكن سن التشريعات والأنظمة واتخاذ الإجراءات وأنواع الرقابة الفعالة والعقوبات المؤثرة التي تمنع ذلك الفساد أو تخففه إلى درجة معقولة، كان من الصعب على أي باحث أن يزعم جواز المسح الجيني ووضع أسرار العباد تحت تصرف حاكم فاسد عن طريق إجبارهم على إجراء الفحص المذكور؛ لأن الالتزام بما أشرنا إليه من الضوابط والشروط لإجراء المسح الجيني يكون منعدماً أو في أدنى درجاته مما يلغي أو يقلل فاعلية تلك الضوابط.

 

المطلب الثاني

معالم الحكم الشرعي لمسائل العلاج الجيني

تقتضي القواعد الشرعية تحقيق المصالح للناس ودفع المفاسد ورفع الضرر عنهم إذا وقع بهم أو تخفيفه بقدر الإمكان. وهي قواعد تستند إلى نصوص شرعيّة تطلب من الدولة تحقيق أحسن الأحوال وأفضل الأوضاع للفرد والجماعة في الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

ولا شك في أن العلم يعتبر وسيلة مهمّة في تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي لدين الإسلام في دنيا المسلمين إذا ضبط استعماله في نفع الناس ودفع الضرر عنهم. ومن ذلك هذا العلم الذي نبحث في أخلاقياته، وهو علم الجينوم البشري وما انبثق عنه من المشاريع التي قد تجلب للناس نفعاً كيبراً، ومنها المشاريع العلاجية التي تقوم على أساس التغيير المباشر في بعض الجينات، أو صناعة الأدوية المشتقة منها، أو استنبات أعضاء أو خلايا يمكن بها علاج الأمراض المستعصية التي لا يمكن أو يصعب علاجها بالأدوية الأخرى.

والحقيقة أن التداوي واستعمال أنواع العلاج التي ترفع الضرر عن الإنسان أو تمنع وقوعه هو أمر مطلوب في الشرع. وهذا ينطبق على كل علاج، ومنه العلاج الجيني. ولكن هذا النوع قد تقترن بانحرافات في الاستعمال، أو يترتب عليه بقصد أو بغير قصد شيء من الأضرار؛ لذلك فإن معالم الأحكام للعلاج الجيني يمكن تلخيصها بما ياتي:

أولاً: لما كان العلاج الجيني تصرفاً من التصرفات الإنسانية كان الطريق إلى معرفة حكمه الشرعي يبدأ من تحديد الجنس الأعلى لهذا التصرف، ثم البحث في مصادر الشريعة عن أحكام هذا الجنس وأحكام أنواعه ومفرداته. ومن هذه البداية يرى الباحث أن حقيقة هذا التصرف هو تغيير يحدثه أصحاب الاختصاص في البدن الإنساني وبعض صفاته المهمة. وإذا رجعنا إلى حكم التغيير الذي يضعه الانسان بنفسه نجد أن هذا النوع من التصرفات (وهو التغيير والتبدل) ليس حكمه واحداً. بل يختلف باختلاف أنواعه من حيث آثاره القريبة والبعيدة، ومن حيث غايته، ومن حيث نسبة نجاحه في تحقيق تلك الغاية. ومع ذلك فإن الحكم الاجمالي الذي يحكم هذا التغيير وكل تغيير أن الشرع يوجب أو يستحب من التغييرات ما كان إلى الوضع الأحسن في الإنسان، ويحرّم كل تغيير يصير بالإنسان إلى وضع أسوأ مما كان عليه. والتغيير إلى الأحسن هو الذي يجبر نقصاُ في قدرات الإنسان وقوّاته أو يعيد ما فات منها أو يزيد عليها ما هو من جنسها. والوضع الأسوأ هو عكس ما ذكرنا.

ثانياً: لا يوجد نصّ شرعي يدل بصورة مباشرة على حكم هذا النوع من التغيير الذي يحدثه العلاج الجيني. وقد أخطأ – بحسب تقديري – من أدرجه تحت دلالة قوله تعالى حكاية عن قول الشيطان بعد أن طُرد من الجنة (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله)؛ حيث جعل صاحب ذلك القول مناط التحريم هو التغيير. وليس الأمر كذلك؛ فقد أمر سبحانه وتعالى بتغييرات جعلها سبباً لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ونهى عن تغييرات جعلها سبباً لسلب السعادة عن الإنسان في الدنيا والآخرة؛ وهذا يدل على منهج الشرع في الحكم على التغيير؛ وهو أن ما كان خيراً أو مصلحة يحرم تغييره إلى الفساد، وما كان مفسدة أو شرّاً يجب تغييره إلى الصلاح والخير. وهكذا الأمر في العلاج الجيني. وأمّا الآية الكريمة فمعناها أن كل تغيير إلى المفاسد والشرور فهو من أمر الشيطان، وما كان إلى الأصلح فهو من امر الله عز وجل.

ثالثاً: ومن جهة أخرى فإن النصّ القرآني يبيّن أن الله عز وجل قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفي معنى التقويم الأحسن يقول ابن العربي، وهو من شيوخ المفسرين (ليس لله تعالى خلق أحسن من خلق الإنسان؛ فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً)؛ فهذه قدرات أصولها موجودة في كل إنسان؛ من آدم عليه السلام إلى أبنائه الموجودين والذين سيوجدون، وإن اختلفت درجاتها، ولا شك في انه قد يعرض لهذه القدرات آفات وعاهات، فإذا أمكن الوقاية منها أو علاجها بالتدخل الجيني كان ذلك منسجماً مع المستوى الذي خُلق الإنسان عليه. والحقيقة أن من حسن التقويم أيضاً كون الإنسان تنطوي شخصيته على قابليات يمكن استخراج مفاعيلها بعقله؛ فالإنسان هو المخلوق الذي جعلت له قابلية الترقي في مدارج الكمال المادي والنفسي ومن الناحية الإجمالية يمكن القول بان طريق الاجتهاد الإسلامي يسمح باستعمال التدخل الجيني لحفظ تلك القدرات وتصحيح ما إعوج منها، أو حتى زيادة درجتها، كتحسين السمع والبصر والحياة ومستوى التفكير (الذكاء).

رابعاً: إذا كان الوضع المقبول شرعاً للعلاج الجيني هو أن يكون هذا العلاج يحقق الأحسن للإنسان أو للمجتمع فإن ذلك يفترض ما يأتي:

  1. أن تكون محصلة المصالح الفردية أو المجتمعية التي حققها العلاج أكبر وأهم من محصلة المفاسد التي تصاحبه أو تنتج عنه. ونقصد بالمحصلة صافي المصالح (كما يقال صافي الأرباح)، وصافي المفاسد؛ وهو أمر يقتضي النظر إلى ما يمكن اتخاذه من المصافي التي يمكن بها استبعاد المفاسد أو طائفة منها، سواء أكانت تلك المصافي تشريعية أو عملية تنفيذية. ثم يُنظر إلى الصورة الكاملة الشاملة للمفاسد والمصالح، ومدى خطورة الأولى وأهمية الثانية.
  2. أن توجد أساليب علمية موثوقة ومجربة ومقننة لقياس مخرجات العلاج الجيني من المصالح والمفاسد. وإلا فإن الحكم الشرعي يكون موقوفاً حتى تتضح الأوزان الحقيقية للمصالح والمفاسد بموازين علمية معتمدة في الأوساط العلميّة.
  3. أن تكون المؤشرات التي تشير إلى المآلات القريبة والبعيدة للاستعمالات والأدوية والمنتجات الجينومية بصورة إيجابية وفقاً للظنّ العلمي الغالب؛ وهذا يقتضي مع الدراسات والاختبارات العلمية الانتظار لفترات كافية للتعرف على تلك المآلات. وقبل ذلك تكون الأحكام الشرعية معلقة على شرط السلامة المستقبلية، بحيث يظل الباب مفتوحاً للتراجع بعد المراجعة، وظهور الرجوع إلى المآلات الضارّة.
  4. أن يكون مستوى الجودة عالياً في جميع مستلزمات العلاج الجيني، سواء من حيث القائمون على الممارسة من علماء التقدير وعلماء السرير وعلماء المختبر. أو من حيث المواد المستعملة، أو من حيث الأجهزة. وأن يُضبط ذلك بتشريعات وأنظمة ورقابة مستمرة.
  5. إذا لم يكن القصد من التدخل الجينومي سوى الاحتياط لأمور محتملة الحدوث في المستقبل، ولم يكن لعلاج مرضٍ موجود، فإن النظر الشرعي يقتضي أن لا يُسمح بذلك التدخل، وبخاصّة في الأطفال، الذين هم في مراحل سريعة النمو والتطور. ويستثنى من ذلك حالتان: الأولى: حالة الضرورة؛ بحيث يُرى أن عدم إجراء هذا التدخل سيجعل الحالة أكثر خطورة، وأقرب إلى الهلاك الكلّي أو الجزئي. الثانية: أن يكون التدخّل لمنع ضرر محتمل من النوع الذي لا يترتب ولا يُخشى أن يترتب عليه آثار جانبية ضارة.
  6. الفكرة السابقة يستلزم حسن تطبيقها أن يجتهد أهل الاختصاص في تحديد ما يُعتبر من الضرورات المقتضية إجراء العلاج والتجاوز عن بعض المفاسد، للاستفادة منها في أي تشريع ينظم هذا الموضوع، وتحديد ما يترتب عليه من أنواع العلاج الجيني آثار جانبية، ومدى خطورتها؛ ليتخذ موقف مناسب من ذلك.
  7. ويشير ما تقدم من الضوابط إلى ضرورة وضع تشريع ينظم الممارسات الجينية، والأخطاء التي يجب أن يُسأل عنها من يقوم بها، والجزاءات المناسبة على هذه الأخطاء.

 

كتبه الأستاذ الدكتور محمد نعيم ياسين

في 12/2/2014م

[1] تم تقديم هذا البحث خلال الحلقة النقاشية "الرعاية الصحية والأخلاق"، والتي نظمها مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية (WISH) بالتعاون مع مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق (CILE) يوم 17 فبراير 2015.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق