الروحانية والمشاركة المدنية: النموذج النبوي
لن يكون من قبيل المبالغة القول بأن الروحانية الإسلامية اليوم أصبحت حكراً على الصوفيين، وأن الانخراط في الحياة المدنية والمشاركة المبنية على الإيمان هي من نصيب الإسلامين فقط. فقد اُشتهر عنهم أنهم يمثلون توجهات فكرية متعارضة تماماً تناقض بعضها البعض، وبات التعايش المشترك بين الطرفين مغالطة، بل ومن باب اجتماع النقيضين عند البعض. وأصبح الخطاب الإسلامي على كافة الأصعدة والمستويات بدءاً من جهات صنع القرار وحتى المنظمات الشعبية متشبعاً بهذا الفهم المجزأ والمبتور للدين الإسلامي. ولأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو القدوة والنموذج الذي ينبغي أن يحتذى كما بيّن القرآن الكريم، فإننا في أمس الحاجة إلى دراسة النموذج النبوي للتطور الروحاني والمشاركة المدنية حتى يمكننا الإجابة على التساؤل الذي يطرح نفسه: هل يمكن للمرء اتباع الطريق الروحاني وفي الوقت ذاته العمل بجد لبناء مجتمع أفضل يسع الجميع؟إن الإسلام – كغيره من النظم التي تدين بالتوحيد – يدعو إلى الإيمان بإله واحد خلق البشر وركّب فيهم عنصرين – روحاني ومادي. ونفخ الله سبحانه وتعالى فينا الروح، وترمز هذه النفخة إلى الكيان الروحاني، أما الجسد فهو تمثيل للجانب المادي. فإن الجزء المادي فينا يسير وفق قوانين الجاذبية، والغرائز والدوافع البيولوجية، وفي الوقت ذاته تتوق روحنا إلى عالم المثل العليا والروحانيات. ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حتى قبل النبوة وفي عمر الأربعين، يشتاق إلى تلك الروح الإلهية ويسعى جاهداً لخلق مجتمع أفضل يحقق الرخاء للبشرية جمعاء. فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد يتأمل في النفس البشرية وفي خلق الله والأمانة التي تحملها الإنسان، فأرسى بذلك أسس "الخلوة" والمحاسبة التي يعرفها الصوفيون. وكانت هذه الخلوة بمثابة إعداد روحي للنبي صلى الله عليه وسلم يؤهله لاتصال وثيق مع القوة الخفية التي لديها جميع أسرار الوجود في هذا الكون اللانهائي. وتضمنت الآيات القرآنية الأولى التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم دروساً روحية تقرّ بحدود المعرفة البشرية وخضوع الذات أمام بارئها، قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5].

إن النبي محمد هو النموذج الإنساني الكامل الذي بلغ ذروة النجاح الروحي وخلّف تراثاً يقتدي به من يأتي بعده ليكون نبراساً له يهديه إلى أرقى الدرجات الروحية. إنها روحانية تربط الروح ببارئها، وتطهر النفس البشرية من الرذائل والنقائص التي تعتريها من تعصب، وغضب، وكراهية، وأنانية، وطمع، وحسد، وحب للثروة والقوة، والبخل، لتحل محلها الفضائل النبيلة من عاطفة صادقة، ورحمة، وحب، وتواضع، وصبر، وحمد، وتوكل على الله وكرم. ومن خلال المداومة على ذكر الله، يصل القلب إلى السكينة والطمأنينة. لقد لاحظت السيدة عائشة مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على الاستغفار والإكثار منه حتى أنه كان يستغفر الله أكثر من سبعين مرة في اليوم والليلة وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم، فتعجبت وسألته عن ذلك، فكان جوابه: "أفلا أكون عبداً شكورا".

إن النموذج النبوي في الروحانية هو خير قدوة عملية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم "قراناً يمشي على الأرض". ولا شك أن فضائل النفس البشرية التي ينبغي لنا التحلي بها لا يمكن أن تتأتى بالعزلة، إذ لا بد من مخالطة الناس والتفاعل معهم والمشاركة في تنمية المجتمع ورخاء البشرية حتى يتطور لدينا هذا الحس الروحاني. وفي مرحلة من المراحل ينشأ ارتباط جوهري بين الجانبين. فكيف يتخلص المرء من التعصب ويتحكم في غضبه إذا لم يخالط الناس ويصبر على أذاهم؟ ألم نرى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في شوارع المدينة بجوار امرأة عجوز ليستمع إلى قصتها وشكواها؟ ألم نستمع لأنس بن مالك – الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشر سنوات، يكشف لنا أن حبيبه النبي لم يوبخه أو يعنّفه يوماً؟ ألم نحس بالعاطفة التي عامل بها النبي ذاك البدوي الذي تبول في مسجده؟ ألم نفكر في كلمات ابن عباس حين قال أنه لم يجد من هو أكرم عطاءً من رسول الله؟ إن حياة النبي محمد ما هي إلا شهادة أبدية على القيم الروحية والأخلاقية للإسلام وتجسيد حي لها.

لقد اختلطت الرحلة الروحية للنبي بالمشاركة الحياتية المدنية – وما فيها من حرص وسعي نحو تحقيق الرخاء الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والتعليمي والثقافي للمجتمعات الإنسانية. هذا السعي الحثيث لتحقيق التغيير الاجتماعي كان قائماً على أسس روحية راسخة. إن حرص الإنسان على تطهير روحه من الآثام والأدران التي لحقت به، والوقوف في وجه المساوئ الاجتماعية كالظلم، والاضطهاد، والتمييز والعنصرية هي قيم أخلاقية والتزام ومسؤولية يفرضها الإسلام على أتباعه. وقد أسهم البني في رخاء مجتمعه حتى قبل النبوة، فشارك في "حلف الفضول" وهو حلف تعاهدت فيه قريش على نصرة المظلومين ومساعدة المحتاجين، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم حلف لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت.

لقد لُقب النبي صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، حتى إن أهل مكة في أوجّ اضطهادهم للمسلمين ومحاربتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يضعون أمانتهم عنده. وحينما أرادت قريش إعادة بناء الكعبة ونشب الخلاف بين القبائل فيمن يضع الحجر الأسود وكادوا أن يقتتلون فيما بينهم، عرض عليهم أحدهم أن يحكّموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأوه هتفوا‏:‏ هذا الأمين، رضيناه.

إن صحيفة المدينة هي أول دستور مكتوب في العالم، تم فيه توثيق حقوق أهل المدينة وواجباتهم. وبموجب هذه الصحيفة، كان يهود المدينة جزءاً من "الأمة" أو المجتمع يعيشون جنباً إلى جنب مع المسلمين – في أجمل صورة للتسامح، والتعايش والتعاون المشترك. وقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ.

إن النموذج النبوي في حب الذات الإلهية تجسد في هذا الايمان الصادق، المصحوب بالعمل ونفع الناس، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. وليس المسلم الحقيقي من يؤدي ما عليه من عبادات ونسك فقط، يقول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].

وحول هذا التصوير القرآني البديع للمسلم الحقيقي الملتزم بدينه، كتب الدكتور عمر فاروق عبد الله، أحد المفكرين المسلمين في أمريكا في مقالة له بعنوان: "Living Islam with Purpose" أو "كيف تعيش حياة هادفة في ظل الإسلام"، كتب يقول: "إن التأكيد على الالتزامات الاجتماعية يكشف بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام أكثر من مجرد عقيدة تُعنى بالعبادات الشخصية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال حصرها في نطاق أنشطة المسجد أو المراكز الإسلامية. إن أداء التكاليف الفردية مثل الصلاة والصيام لا يغني أبداً عن المهمة الأخلاقية للمسلم في القيام بواجبه نحو مجتمعه. ولا شك أن المسلم يعرّض نفسه لسخط الله حين يتجاهل التزاماته المجتمعية ويقنع بعبادته الشخصية فقط.
وفي الوقت ذاته لا ينبغي أن يكون هناك لبس وتفريط، فقيام الشخص بالتزاماته نحو مجتمعه لا يعني بالضرورة إعفائه من التكاليف الفردية أو تقصيره فيها".

إنه هذا التراث الرائع الذي تجسد في ماضٍ ليس عنا ببعيد – في حياة شخصيات إسلامية ملهمة – مثل شاه ولي الله في الهند (1703 -1762)، عثمان دان فوديو في نيجيريا (1754 – 817)، عبد القادر الجزائري في الجزائر (1807 – 1883)، ألكسندر راسل ويب في أمريكا (1846 – 1961)، عبد الله كويليام في بريطانيا (1856 – 1932)، وبديع الزمان سعيد النورسي في تركيا (1877 – 1960) وغيرهم من تلك القامات الروحية الرائعة – وقد انحاز الكثير منهم إلى الطرق الصوفية – لكنهم سعوا بكل جد واجتهاد لنقل السكينة والهدوء الداخلي الذي عايشوه واختبروه إلى مجتمعاتهم. وقد كان هذا منهجاً أصيلاً وجزءًا لا يتجزأ من إيمانهم بالله، وهو منهج تأصلت جذوره وتشبع بتقوى الله والشوق إلى الذات الإلهية دون انفصال عن المكان أو الزمان الذي يعيشون فيه.

لا شك أن المشاركة الحياتية المدنية لا تقتصر على المشاركة السياسية فقط. وهذا النموذج النبوي أمام أعيننا يدعو إلى المشاركة في كافة نواحي الحياة المدنية. إن التحدي الذي يواجهنا نحن المسلمين أينما وجدنا– هو القدرة على صياغة رؤية تتخطى حدود الهوية والسياسة وتتحرك نحو ما يمكن تسميته "الإنسانية الإسلامية". لقد أرسل الله نبينا رحمة للعالمين، وكان بمثابة رسالة متأصلة في الأخلاق والكرامة الإنسانية. وفي إطار سعينا لنشر قبسات هذه الرحمة النبوية على المستوى المجتمعي، ينبغي أن ينصب التركيز بشكل خاص على مجالات محددة مثل الحكم الرشيد، والقضايا البيئية، والعدالة الاجتماعية ومكافحة المادية، والفقر والجهل.

وفي سياق الخطاب الإسلامي المعاصر، لا بد من إحياء هذا الإرث النبوي بتركيبته الأصيلة التي تميزت بالحيوية والإبداع في مختلف الأبعاد الظاهرة والباطنة للدين الإسلامي. ويقتضي هذا أن نفهم عقيدتنا ونمارسها بشكل شمولي، متكامل ومترابط. ولا بد أن ننأى بأنفسنا عن الروحانية الزائفة الموجودة على الساحة الثقافية العالمية، تلك الروحانية التي تُعنى فقط بالشكليات والممارسات الإيمانية الظاهرة، وما لحق بها من مأثورات شعبية. وفي الوقت ذاته، علينا أن نتفادى الإفراط في إضفاء الصبغة السياسية على إيماننا، وأن نتجنب المشاركة الحياتية المبنية على المصلحة الشخصية التي تقودها الهوية – السياسة وتسعى نحو المكاسب المادية والسلطة الدنيوية..

خلاصة القول، تحتاج الروحانية منا ألا نقف عند حدود الصوفية، وأن نخرج بالمشاركة الحياتية القائمة على الايمان عن نطاق هيمنة الإسلاميين. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل بإمكان هذا أن يؤدي إلى ظهور منهج جديد يجمع بين الطريقتين، طريقة الصوفية والإسلاميين؟

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق