التحديات الأخلاقية لمؤسسة الأسرة في عصر العلم (خاتمة البحث)

د. محمد غالي

استاذ الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام

مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق

كلية الدراسات الإسلامية بقطر

جامعة حمد بن خليفة

 

التحديات الأخلاقية لمؤسسة الأسرة في عصر العلم (الجزء الأول)

التحديات الأخلاقية لمؤسسة الأسرة في عصر العلم (الجزء الثاني) 

 

 استعرضنا في الجزئين الأول والثاني من هذه الدراسة بعض مظاهر توسع سلطة العلوم الطبية والحيوية وتدخلها في كثير من أمور الأسرة –بتوسيع مساحة الممكن تارة وتضييقه تارة أخرى- بفضل التقدم التكنولوجي الهائل الذي أحدثته هذه العلوم في حياة البشر، وحاولنا رصد ردود أفعال علماء الإسلام على هذه الظاهرة. ونحاول في هذه الخلاصة أن نستخدم النماذج والأمثلة التي ذكرناها في البحث للوصول إلى بعض القضايا الكلية التي يتعين بحثها وسبر غورها بغية صناعة خطاب أخلاقي طبي متماسك من الناحية المنهجية ويمتلك القدرة على إنتاج مواقف أخلاقية تتفاعل وتتشابك مع العلوم الطبية والحيوية بشكل منهجي منضبط دون الاكتفاء بردود أفعال آنية للقضايا الجزئية التي تثيرها هذه العلوم بين وقت وآخر. ومراعاة لضيق المقام هنا، فسوف يتم إلقاء الضوء على قضيتين فقط آملين أن نستكمل تتبع واستقصاء ودراسة هذه القضايا الكلية والمفاهيم المركزية في بحوث تالية بحول الله تعالى.

القضية الكلية الأولى التي تلح كثيرا عند معالجة مثل هذه القضايا هي العلاقة بين الإسلام والعلم. بالرغم من تأكيد كل فقهاء الإسلام وعلمائه تقريبا على ضرورة التعاطي الإيجابي مع نتائج الأبحاث العلمية والطبية وأن الإسلام يدعوا إلى العلم –في المطلق- ويحث على طلبه، إلا أن النقاشات التي أوردناها في هذا البحث تبرز وجود بعض الإشكاليات في تعاطي بعض علماء الإسلام مع نتائج البحوث العلمية الحديثة. فنلحظ مثلا في خطاب "فريق المضيقين" تخوفا وتوجسا من الأخذ ببعض النتائج التي تقدمها العلوم الطبية والحيوية، فيرفض بعضهم تقنية التلقيح الصناعي حتى بين المتزوجين ويرفض البعض الآخر إجراء الفحوص الطبية على المقبلين على الزواج و يرفض معها تدخل علم الوراثة في كيفية اختيار الزوجين المناسبين. وفي نظري أن هذه المواقف لا تعبر عن موقف سلبي من العلم في المطلق بقدر ما تعكس تخوفا من سلطة العلم التي قد تزاحم سلطة الشرع ويدعم هذا الشعور بالطبع التخوف أيضا من مصدر هذا العلم، فبالنسبة لهؤلاء الفقهاء هذه بحوث قد تمت صناعتها وصياغة نتائجها في العالم الغربي، بعيدا عن الإسلام و عن الدين عموما، وبالتالي فهم ينظرون إليها أحيانا بعين الريبة والشك وخاصة إذا ما تعارضت نتائجها مع ما يرونه الموقف الشرعي الصحيح.

وفي مقابل هذا الفريق نجد "فريق الموسعين" الذي يُسَلِّم بنتائج الأبحاث العلمية ويدمجها في الخطاب الفقهي والشرعي دون مناقشة أو نقد في الغالب الأعم. ومعظم فقهاء هذا الفريق يخلطون بين قبول هذه النتائج في أوساط المجتمعات العلمية وإدراجها ضمن مجموعة من الحقائق العلمية أو الفرضيات القوية التي تفيد الظن الغالب من جهة وبين توظيف هذه النتائج في الخطاب الأخلاقي والاجتماعي من جهة ثانية. فهم يرون أنه طالما سَلِمت النتائج من الاعتراض والنقد العلمي فإن رفضها أو ردها في خطابهم الفقهي سيعني بالضرورة أنهم ضد العلم والتقدم وهذا سوف يسيء إلى صورة الإسلام خاصة في عصر العلم الذي نعيشه اليوم. ومرة أخرى نلمس أن هذا التوتر في العلاقة بين الإسلام والعلم له علاقة ما بمصدر هذا العلم فالعالم الغربي –الذي أنتج هذا العلم- يمكن أن يتهم الإسلام وعلمائه بالجمود في حال رفضهم لنتائجه.   

ولكن هذا الخلط في كل الأحوال محل إشكال كبير ولا يحظى بالقبول حتى في مجال الأخلاق الطبية والحيوية في الأوساط الغربية والتي يصعب اتهامها بالجمود أو بمعاداة العلم. فمُنَظِّري هذا المجال أمثال روبرت فيتش (معهد كينيدي للأخلاق، جامعة جورجتاون، الولايات المتحدة الأمريكية) دافعوا عن ضرورة الفصل بين الثابت علميا من ناحية والمقبول مجتمعيا وأخلاقيا من ناحية أخرى. وعندهم مبدآن مركزيان في هذا المجال يمكن ترجمتهم إلى "تحقيق المصلحة" و"عدم الضرر"، وكان في القديم الطبيب وحده-حتى دون مشاورة المريض أو إخباره- يقوم بتحديد ما هو من مصلحة المريض فيفعله وما هو ضرر فيتفاداه ويتركه. إلا أن تغييرا في ضبط معايير المصلحة والضرر بدأ يظهر منذ سبعينات القرن الماضي واستقر الأمر الآن على أن المريض هو صاحب الحق في تقرير المصلحة والضرر أما الطبيب فعليه فقط أن يمد المريض بالمعلومات التي تساعده على اتخاذ هذا القرار. ولم أرا أحدا -فيما اطلعت عليه من أدبيات الغرب في هذا المجال- بأن هذا التغيير في ضبط المعايير التي تحدد المنفعة أو الضرر هو جمود في الفكر أو أنه ضد التقدم العلمي.

القضية الكلية الثانية، وهي ذات صلة بما ختمنا به كلامنا في القضية الأولى، تتعلق بضبط عدد من المفاهيم المركزية في الخطاب الأخلاقي عموما وفي الخطاب الشرعي الإسلامي على وجه الخصوص، وعلى رأسها المصلحة والمفسدة أو المنفعة والضرر. للطب دائما تصوره الخاص حول هذه المفاهيم المركزية وكما ذكرنا كانت نظرة الطبيب للمنفعة والضرر قديما هي الفيصل والحَكَم إلا أن الأمر قد تغير الآن في الأوساط الغربية حيث يتم النظر إلى القضايا الإشكالية من زوايا متعددة وليس فقط من لجانب الطبي، فهناك مثلا حقوق المريض ورغباته التي يجب احترامها حتى وإن اختلفت مع ما يراه الطبيب منفعة ومصلحة وهناك الجوانب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي قد تجعل الحكم الأخلاقي النهائي على مسألة ما مخالفا لما يراه الأطباء. لكن يبدو أن عددا من الفقهاء ممن صنفناهم ضمن "فريق الموسعين" لا يزال أسيرا للنظرة الطبية وأنها وحدها يمكن أن تشكل معيارا وضابطا للمصلحة والمفسدة في الخطاب الإسلامي الأخلاقي. وبالتالي تأتي تقنية التلقيح الصناعي لتحقق "مصلحة" إنجاب الذرية فيفتح بعض علماء الشيعة الباب واسعا لتحقيق هذه المصلحة حتى تأتي في النهاية على حساب مؤسسة الزواج والمفترض أنها الطريق الشرعي الوحيد لتكوين الأسرة وإثبات النسب. وتأتي أبحاث علم الوراثة لتقول بأن زواج بعض الرجال ببعض النساء قد يتسبب في "ضرر" وهو إصابة الذرية بأمراض وراثية فيقول بعض فقهاء "فريق الموسعين" بأن إزالة الضرر فرض في الإسلام فيفتون بتحريم هذا النوع من الزواج.

ولو تأملنا في هذه المسائل ونظرنا في أبعادها المتشابكة والمختلفة لوجدنا أن إنجاب الذرية عن طريق التلقيح الصناعي قد لا يكون المصلحة العليا في كل الأحوال فقد اعتبر الشرع الإنجاب خارج إطار العلاقة الزوجية مفسدة وضررا وبالتالي لا يمكن الترخص في هذا الضرر مقابل تحقيق مصلحة ما من المنظور الطبي. كذلك الأمر بالنسبة لضرر إصابة الذرية بأمراض وراثية فنجد أن هناك جوانب أخرى جديرة بالاعتبار أيضا، فماذا عن الضرر العاطفي والاجتماعي الناتج من منع طرفين من الزواج كانا على وشك الزواج وربما جمعتهم عواطف مشتركة وجمعت أسرتيهما مصالح مشتركة كذلك وكيف سيؤثر تعطيل هذا الزواج –حتى وإن بقيت نتائج الفحص سرية- على فرص هذين الطرفين في الزواج مستقبلا خاصة في سياق المجتمعات العربية المعاصرة؟ هذه أيضا كلها أضرار ينبغي أن توضع في الاعتبار مقابل الضرر الذي يحذر منه الطب خاصة وأن الضرر في المفهوم الطبي له مخارج أخرى منها الاتفاق على عدم الإنجاب أو الإنجاب لكن بعد عمل الفحوص الوراثية على الأجنة الملقحة قبل غرسها في الرحم... الخ. وهذه الاعتبارات ينبغي أن تأخذ حظها من الدراسة والبحث وخاصة في مجال العلوم الاجتماعية والبحوث الميدانية. ثم ما الموقف لو خرجنا عن إطار الطب وجاءت أبحاث ميدانية بنتائج ثابتة تقرر أن زواج الأقارب له أضرار اجتماعية جسيمة، هل سيخلص الفقهاء إلى منع زواج الأقارب أيضا بناء على هذا "الضرر" الذي أثبتته مثل هذه الدراسات أم أن الأمر هنا متعلق في الحقيقة بنظرة الفقهاء للعلوم الطبية وليس بالضرورة للمفاهيم المركزية مثل المصلحة والمفسدة ؟!

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق