دراسة بوشامب وتشلدرس لنظريات المنفعة في كتابهما قواعد الأخلاق الطبية والإحيائية  (١)

د. محمد علي البار

مدير مركز أخلاقيات الطب

المركز الطبي الدولي بجدة، المملكة العربية السعودية

يعتبر بوشامب وتشلدرس من أعلام أخلاقيات الطب في أواخر القر العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. ويعتبر كتابهما المذكور المرجع الأساسي والأهم للدارسين لأخلاقيات الطب (يسمى بعد توسيع دائرته الإحيائية الطبية). يقول المؤلفان: "لقد خصصنا الفصل الثامن لمناقشة النظريات الأخلاقية وفيه: "أن أي كتاب مرجعي يبدأ باستعراض النظرية ثم نقدها لدرجة أن لا تقوم لها قائمة، ثم ينتقل إلى النظرية الأخرى فيستعرضها، ثم ينقدها نقدا لاذعا لا يبقي ولا يذر، بحيث أن القارئ لهذه النظريات يتشكك في قيمة أي منها، وبالتالي يزهد فيها كلها. وهذا أمر غير مطلوب ولا مرغوب فيه، لأن في كل نظرية بعض الجوانب الإيجابية، وبعض الجوانب السلبية التي ينبغي أن يوجه لها الانتقاد. وهذا هو منهجنا".

وقد وضعا شروطا أو قواعد تدرس على ضوئها أي نظرية أخلاقية (في المجال الحياتي الطبي) منها:

  1. مناقشة تجريدية للنظرية.
  2. منظومة تستعرض قواعد الأخلاقيات.
  3. قواعد مترابطة.
  4. تبرير منطقي مترابط لهذه القواعد.

ولا بد أن تحوز هذه النظرية على عدة شروط حتى يمكن اعتبارها نظرية أخلاقية. وليس بالضرورة أن تحوز على كل هذه الشروط، ولكنها على الأقل تحوز معظم هذه الشروط وهي:

  1. الوضوح.
  2. الترابط المنطقي.
  3. أن تكون شاملة وكاملة ويمكن إدراكها.
  4. البساطة.
  5. القدرة على الإيضاح.
  6. القدرة على التبرير.
  7. القدرة على إيجاد محصول (ناتج) (المخرجات).
  8. ممكن تنفيذها عمليا (عملية).

وأي نظرية طوباوية لا يمكن تطبيقها على المجتمعات أو يمكن تطبيقها على عدد محدود من الأفراد لا يمثلون المجتمع ككل، فتعتبر غير عملية، وبالتالي يجب إسقاطها.

"ونرى أن النظرية النفعية أنها نظرية متماسكة البناء ومترابطة منطقيا وشاملة ولها قدرة على إيجاد محصول أو ناتج، ولكنها غير مترابطة منطقيا في عدة نقاط حيوية وهامة كما نراها، وخاصة في مجال العدالة في توزيع الخدمات الصحية، وفي مجال حقوق الإنسان وفي مجال المشاريع الشخصية.

وعلى العكس من ذلك نجد نظريات "كانت" فهي متماسكة ومتطابقة مع كثير مما نراه ولكنها محدودة جدا في مجال الوضوح والبساطة والمخرجات (المحصول أو الناتج).

النظرية النفعية المعتمدة على المآلات (النتائج):

تعتمد النظرية النفعية على نتائج العمل أو مآلاته (الذرائع) فإذا كانت نتيجة أي عمل مفيدة لأكبر عدد من المجتمع، فإنها تعتبر نتيجة حسنة ونافعة وأخلاقية، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بعدد قليل محدود من البشر. وهذه النظرية قد جاء بها جيرمي بينثام 1748-1832 وجون ستيوارت مل 1806-1873.

"ولكن الفلاسفة المعاصرين من أنصار هذه النظرية النفعية (المصلحية) يقولون إن هناك قيما هامة أهملها بينثام وجيمس وهي خارج نطاق اللذة والمال (السعادة) ومنها قيمة الصداقة، والمعرفة والصحة والجمال... وهي قيم تفوق عند بعض الناس أهمية اللذة والمال".

المكاسب المادية واللذات الحسية التي نادى بها بينثام وجيمس:

ومع هذا فإن هؤلاء الفلاسفة المحدثين يرون أهمية الفلسفة النفعية مع توسيع دائرتها لتشمل المعاني المجردة مثل الصداقة والحرية، والذاتيةAUTONOMY والجمال وحب المعرفة، واكتناه المجهول.

"ويرى بعض الفلاسفة النفعيين الآخرين أن المعاني المجردة ليست متفقا عليها عند البشر، وبالتالي يجب الحصول على رضا كل شخص حسبما يراه هو بميوله وأفكاره. (وهو أمر يجعل الضوابط شبه مستحيلة) وهو ما يعرف بالاختيارات الشخصية.

ويضرب المؤلفان مثالا بقصة طفلة في الخامسة من العمر لديها فشل كلوي وقد وصلت إلى مرحلة لابد فيها من زرع كلية من متبرع. وعند فحص الأب وجد أنه مناسب وفحص أنسجته مطابق. وقد أخبره الطبيب أن نسبة النجاح في هذ العملية محدود وقرر الأب أنه لا يريد التبرع لأن نجاح العملية مشكوك فيه، وهو يخاف من العملية وعواقبها. ولكنه طلب من الطبيب أن لا يخبر زوجته بأنه رفض التبرع، وإنما عليه أن يقول أنه غير مناسب وغير مطابق في فحص الأنسجة. وقد تردد الطبيب كثيرا في أن يقوم بالكذب على الأسرة، لأن الكذب أساسا مرفوض وعمل غير أخلاقي. وسيؤدي إذا انتشر الخداع في الطب إلى عدم ثقة المرضى بالأطباء وبالتالي سيؤدي إلى ضرر أكبر.

ويرى الطبيب أن من حق الأب أن يرفض التبرع (الحرية الذاتية (ولا يجد مبررا أخلاقيا للضغط عليه، كما أن حق المريض (هنا المتبرع وهو الأب) في الحفاظ على سره تكفله كل المدونات الأخلاقية الطبية. وفي النهاية يقرر الطبيب أن يقول للزوجة أن زوجها لأسباب طبية لا يُنصح بالتبرع بكليته (وهو كلام عام وما يسمى معاريض وليس كذبا مباشرا كأن يقول أن فحص الأنسجة غير مطابق وغير ملائم).

وهذه القصة الواقعية معضلة أخلاقية وقد انقسمت آراء الأخلاقيين النفعيين أنفسهم فيها، فمنهم من نظر إلى إجراء العملية وزرع كلية للطفلة سيعطيها فرصة للحياة، وهي فرصة غير موجودة بدون زرع كلية، ووالدها أنسجته مطابقة. وفي نظرهم ليس له عذر كاف في عدم التبرع. وعليه فإنه يجب عليه أخلاقيا أن يتبرع بكليته لابنته.

ويرد آخرون بأن موقف الطبيب سليم للأسباب التالية:

  1. من حق المريض أو المتبرع أن يرفض أي إجراء على بدنه.
  2. من حق هذا الشخص الحفاظ على سرية قراره.
  3. أن الطبيب لم يكذب كذبا مباشرا، ولكنه استخدم المعاريض.
  4. أن الكذب إذا كان في صالح المريض أو الشخص، ولن يضر الآخرين فينبغي أن يستخدم.

أقول: "وفي البلاد الإسلامية (عربا وعجما) فإن قول الحقيقة بصورة جافة للمريض مباشرة تؤدي إلى عواقب وخيمة. وخاصة إذا كان التشخيص الطبي يقول أن المرض (السرطان) مثلا، منتشر ولا فائدة من أي علاج، والمريض سيموت خلال شهر أو شهرين أو أي مدة معينة.

وهنا محاذير عدّة، منها:

  1. أن المريض قد لا يتحمل الصدمة العنيفة وتؤدي الأخبار السيئة إلى وفاته أو حدوث آلام نفسية شديدة لا مبرر لها.
  2. أن تحديد المدة التي سيعيشها المريض أمر غير صحيح والطبيب لا يستطيع أن يحدد المدة. وإن كان يعرف أن مثل هذه الحالات في العادة لا تعيش أكثر من شهر أو شهرين مثلا. فهناك استثناءات كثيرة تحدث. ولا يوجد ما يلزم الطبيب بتحديد المدة. وكم من مريض حدد لهم الأطباء موعد وفاتهم عاشوا، وربما مات الطبيب المعالج قبل المريض.
  3. أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى استخدام المعاريض. وفي المعاريض مندوحة عن الكذب المباشر.

وقد أباح الرسول صلى الله عليه وسلم الكذب للصلح بين المتخاصمين. كما يجوز للزوجة والزوج أن يستخدما الكذب لبقاء العشرة وزيادة المحبة. وأما إذا كان الكذب ينقذ حياة شخص بريء من شخص معتد ظالم فالكذب واجب.

وفي هذه النقاط يتفق معنا فيها أصحاب الفلسفة النفعية العمليةACT UTILITARIAN بينما يرفض ذلك أصحاب الفلسفة النفعية القاعدية RULE UTILITARIAN. كما يختلف عنا من باب اولى أصحاب فلسفة الواجب DEONTOLOGY وعلى رأسهم الفيلسوف كانت. فالكذب عندهم رذيلة في كل الحالات، ولا يوجد لديهم ما يبرر الكذب حتى في الحالات التي ينقذ الكذب فيها حياة إنسان (عند أصحاب فلسفة الواجب). وهو موقف مرفوض تماما. وقد انتقد ذلك الموقف عدد كبير من علماء الأخلاق. وفيما عدا إنقاذ حياة بالكذب، فإن غالبية أصحاب الفلسفة النفعية القاعدية، وكل أصحاب فلسفة الواجب يرون أن الكذب رذيلة، وبالتالي لا يمكن استخدام الكذب.

ويدعو سمارت SMART وهو من أصحاب الفلسفة النفعية العملية إلى أن الالتزام بالقواعد الأخلاقية مثل الصدق في القول، قد لا يشكل الحل الأمثل لموقف معين، ولا يعني ذلك إباحة الكذب على إطلاقه، بل الكذب ممنوع إلا في حالات خاصة، سيؤدي فيها الكذب إلى منفعة (للمريض) والصدق إلى مضرة. ولن يؤثر حدوث حالات محدودة من عدم الالتزام بالصدق، في أخلاقيات الطب، ولا في ثقة المرضى بالأطباء.

تقييم بوشامب وتشلدرس للفلسفة النفعية

"رغم الانتقادات الكثيرة التي توجه للفلسفة النفعية فإن لها عناصر قوة كالآتي:

  1. أنها تشكل فلسفة فعالة في السياسة العامة لأي دولة أو مجتمع. لأنها تبحث عن المصلحة وتوازن بين المصالح والمفاسد... وتسعى لاكتساب المصلحة الأعظم متخلية عن المصلحة الأقل. وفي الحالات التي لا توجد إلا مضار فإنها تسعى لتجنب المضرة الأكبر وتتحمل المضرة الصغرى إذا لم يكن من ذلك بد"
  2. تعمل فلسفة المنفعة (المصلحة) في موضوع الإحسان BENEFICENCE أيضا. رغم أن الإحسان يستلهم مبادئ أعلى من المصلحة وتكون مرتبطة بفعل الخير والسعي إليه.
  3. إن اهتمام فلسفة المنفعة بالمآلات (النتائج) أمر مهم من الناحية العملية.
  4. الاهتمام بالمجتمع والعدالة وتوزيع الخدمات على أكبر عدد ممكن. ولكن ذلك يؤدي أحيانا إلى التعدي على الحرية الفردية وحقوق الإنسان.

عناصر الضعف في الفلسفة النفعية

  1. تبدو المشاكل واضحة عند النفعيين الذين يسعون إلى تحقيق الاختيارات الشخصية لأن الفرد وهو يسعى للحصول على أكبر منفعة ممكنة لشخصه، يضر بالآخرين، أو على الأقل ينتقص من فرصهم للحصول على هذه المنفعة.
  2. يرى الفلاسفة النفعيون أنه يجوز عند الضرورة أخذ أطفال الأعداء وتعذيبهم ليعترف آباؤهم. وهو موقف غير أخلاقي ومشين ومرفوض. مهما كانت الفوائدة المرجوة.
  3. لا يفرق الفلاسفة النفعيون بين ما هو ضروري وإلزامي أخلاقيا وبين ما هو نفعي أي زائد عن الضرورة والفرق بينهما واضح. ومثال ذلك أن تفرض التخلص من العجزة والشيوخ إذا وصلوا إلى سن يصبحون فيها عبئا كبيرا على المجتمع، وكذلك المرضى المزمنون الذين لا يوجد أمل في شفائهم. فإن التخلص من هؤلاء يصبح عندهم عملا أخلاقيا.
  4. مشكلة التوزيع غير العادل للمنافع: ترى الفلسفة النفعية وجوب توزيع المنافع على أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع، ولكنها لا تمانع في وجود ضرر بمجموعة صغيرة من البشر، فالمصلحة تقتضي إيصال المنافع إلى أكبر عدد ممكن، وإهمال من يصيبهم الضرر من الأقليات أو الفقراء أو الضعفاء في المجتمع الأوروبي. أما خارج المجتمعات الغربية فلا قيمة أصلا لهؤلاء البشر عندهم.

الفلسفة الليبرالية:

تتحدث الفلسفة الليبرالية عن حقوق الأفراد المختلفين في المجتمع وخاصة المرأة والشاذين جنسيا وتركز جهودها على حقوقهم التي يكبتها المجتمع. ويركزون جهودهم عل نشر الشذوذ والعلاقات الجنسية المحرمة، والإجهاض وتغيير الجنس (الجندر) وما إلى ذلك من حقارات.

ومن الناحية الطبّية يركزون على ما يسمى:

  1. الحرية الذاتية AUTONOMY.
  2. الخصوصية PRIVACY .
  3. المحافظة على أسرار المريضCONFIDENTIALITY .

ولا شك أن هذه الأمور الثلاثة ذات أهمية بالغة وتقرها كل الأديان والجماعات والفلسفات بصورة عامة. ولكن عند الدخول في التفاصيل تبدأ نقاط الاختلاف وتظهر المآخذ. ففي مجال الحرية الذاتية يحق للإنسان البالغ العاقل عندهم أن يفعل في نفسه ما يشاء، فمثلا يستطيع أن يغير من جنسه من ذكر إلى أنثى.

المصلحة في الشريعة الإسلامية وفي الفلسفة الغربية

إن مفهوم المصلحة (المنفعة) هو مفهوم قديم لدى الإنسان. ويمثّله لدى اليونان أرستبوس تلميذ سقراط الذي فسر السعادة باللذة الشخصية. ولذا فإن ما يأتي باللذة هو السعادة، وما يأتي بالألم هو الشقاء. وقال إن السلوك الذي يحقق هذه السعادة القائمة على تلك اللذات هو سلوك أخلاقي، والمبادئ السلوكية التي تحققها هي مبادئ أخلاقية .

وقد بين الدكتور محمد سعيد البوطي في كتابه "ضوابط المصلحة في الشرعية الإسلامية" الفروق بين ما يسمى مصلحة في الفلسفة الغربية وبين المصلحة في الشريعة الإسلامية. وقد يبدو أن هناك اتفاقا بين تعريف المصلحة لدى الفرقين، ولكنه اتفاق ظاهري، لأن المصلحة في الشريعة منضبطة بضوابط الشريعة.

تعريف المنفعة:

المنفعة هي اللذة أو ما كان وسيلة إليها، ودفع الألم أو ما كن وسيلة إليه. وبتعبير آخر هي، كما قال الرازي، اللذة تحصيلا أو إبقاء. فالمراد بالتحصيل جلب اللذة مباشرة، والمراد بالإبقاء الحفاظ عليها بدفع المضرة وأسبابها. وقد اتفقت الشرائع على أن المنفعة هي مقياس ما يسمى الخير والشر. وأن وسائل المنفعة تعطى حكم المنفعة.

والمصلحة في الشريعة الإسلامية منضبطة بأحكام الشريعة التي تنظر إلى الدنيا والآخرة، وأن مصالح الدنيا محكومة بسلامة مصالح الآخرة. ومن ثمة فلا مجال لاضطرابها بين اختلاف الميول والرغبات والأحاسيس. أما المصلحة عند علماء الأخلاق في الغرب، فهي مرتبطة بمصالح الدنيا فقط وميزان الخير والشرّ عندهم مجرّد ما يتواضعون عليه، أو ما يبدو لهم من التجارب والخبرات، أنه يحقّق اللذة أو يبعد الألم. فأرباب نظريات الأخلاق وأرباب القوانين الوضعية إنما تعود موازين الخير والشر بأيديهم - مهما دارت ولفت- إلى القيمة المادية المحسوسة التي بها وحدها تقوم الدنيا كلها في نظرهم.

وكما تسخر فضائل الأعمال عندهم للوصول إلى الاماني والمقاصد المادية، فإن الرذائل أيضا تستخدم لنفس المهمة، إذ لا فرق بين الرذائل والفضائل مادام كل منها وسيلة مجردة، ومهما يكن من فرق بينها فإنه يسقط سقوطا تاما ما داما يستويان في تحقيق الغرض المطلوب.

إن فتح أبواب دور اللهو على مصاريعها، وعرض أشد المغريات الجنسية في أنحاء المجتمع، وإطلاق الخمور والمكيفات في رؤوس الناس وعقولهم – كل ذلك إنما يعتبر شرا في النظرة الأولى فقط، ولكنه سرعان ما ينقلب إلى خير كبير عندما يلاحظ الربح المادي الذي تثمره دور اللهو وتجنيه ضرائب الخمور. والخلاصة أن المصالح التي آمنت بها أوروبا على أيدي علماء الفلسفة الأخلاقية، ثم اتخذتها أساسا لقوانينها، مصالح تنبع من أنانية فردية غير مهذبة وإن ظهرت بمظهر السعي إلى الصالح العام، تحوم حول حاجيات الجسم وشهواته وإن بدت أنها تطرق باب العقل تسأله وتستفتيه.

أهم خصائص المصلحة في الشريعة الإسلامية :ثلاث

الخاصة الأولى: أن الزمن الذي يظهر فيه أثر كل من المصلحة والمفسدة ليس محصورا في الدنيا وحدها بل مكون من الدنيا والآخرة معا. (وبيان ذلك أن المصلحة هي المنفعة أو الوسيلة إليها. فكل عمل أثمر لصاحبه منفعة – وإن جاءت الثمرة متأخرة – يعتبر عملا صالحا.).

الخاصة الثانية: أن قيمة المصلحة الشرعية لا تنحصر فيما تنطوي عليه من لذة مادية كما آلت إلى ذلك المصلحة لدى علماء الأخلاق، بل هي نابعة من حاجتي كل من الجسم والروح في الإنسان.

الخاصة الثالثة: أن مصلحة الدين أساس للمصالح الأخرى ومقدمة عليها، فيجب التضحية بما سواها مما قد يعارضها من المصالح الاخرى إبقاء لها وحفاظا عليها.

الاختيار بين المصالح والمفاسد:

وقد ذكر سلطان العلماء العز بن عبد السلام: أن الناس إذا واجهوا مفسدتين اختاروا أقلهما ضررًا، وإذا واجهوا مصلحتين اختاروا أكثرهما فائدة، وإذا حصل التساوي فيتخير ذوو الرأي بين المصلحتين أو المفسدتين بمعرفة أمارات دالة على الترجيح.

الأطباء والاختيار بين المصالح والمفاسد:

ويقول : "وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين، ولا يبالون بفوات أدناهما ويتوقفون عند الحيرة في التفاوت والتساوي".

وقال: "واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح، ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طباع العباد نظرا لهم من رب الأرباب". وقد صدق، إلا إذا طمست الفطرة وعمت البصيرة، وصار الحق باطلا، والباطل حقا، والصلاح فسادًا والفساد صلاحا.

فلسفة الواجب الكانتية الأخلاقية

يشرح (كانت) نظريته بان لكل فرد ضميرا يمثل الإحساس بالواجب وهو أمر مطلق متعلق بالقوة المتسامية (التراننسندنتاليه) الموجودة في أعماق الإنسان كإنسان. وكما ان هناك إدراكات عقلية قبليه مستقلة عن التجربة، فهناك قوة سامية أخلاقية موجودة في كل فرد فينا. وهي في ذاتها أعمق من الأخلاق المكتسبة بالتجربة والمران والتربية.

ويقول : "وكثيرا ما يتعارض هذا الشعور الأخلاقي برغبتنا الحسية، ولكننا ندرك أنه عنصر أسمى فينا من طلب اللذة، وهو ليس ثمرة التجربة، وإنما هو جزء من بنائنا النفسي الأصيل... وهو محكمة باطنية حاضرة في كل شخص... وتأمرنا هذ المحكمة بأن نفعل الحقّ من أجل الحقّ كغاية في ذاته، لا كوسيلة للسعادة أو حتى للثواب أو هربا من العقاب فهذا الأمر أمر مطلق ينبع من داخل ذات كل فرد فينا". وهو ما أطلق عليه فلسفة الواجب DEONTOLOGY .

وهذا الأمر المطلق يتخذ شكلين :

  • عامل الناس كما تحب أن يعاملوك وبذلك تظل قاعدة إرادتك صادقة.
  • واعمل بحيث تعامل الإنسانية، سواء كانت ممثلة في شخصك أو في شخص أي إنسان آخر، وفي جميع الأحوال، كغاية في ذاته، لا كمجرد وسيلة أو واسطة لبلوغ مرام مهما كان هذا المرام أو الغرض. وهذه الصياغة لا يوجد لها نظير في النظم الغربية. ولا توجد إلا في تعاليم الإسلام والواضحة، بل والتي زادت على ما اقترحه (كانت). وذلك بمبدأ الإحسان "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله" الشورى 40.

ويقول أن علينا أن نتقبل هذه الواجبات على أنها أوامر إلهية، ولكن لن ننظر إلى الأفعال الأخلاقية بأنها إلزامية لأنها أوامر الله، بل لأنها تنبع من دواخل ذواتنا، وبالتالي سنعدّها أوامر إلهية لأن فينا التزامًا باطنيا نحوها[2]...

فلسفة الواجب DEONTOLOGY

يسمي (كانت) فلسفته في الأخلاق فلسفة الواجب على اعتبار أنها تمثل الواجب الذي ينبغي أن يعمله الإنسان دون انتظار لأي جزاء لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإنما استجابة لضمير الإنسان أو الواجب الأخلاقي الذي ينبع من ذواتنا.

دراسة بوشامب وتشيلدرس لنظريات (كانت) في الأخلاق

كما درسنا رأي بوشامب وتشلدرس عن المنفعة (المصلحة) في كتابهما "قواعد الأخلاق الطبية و الإحيائية" فإننا سنستعرض هاهنا رأيهما في النظرية الكانتية في الأخلاق وفلسفة الواجب[3]. قالا عن نظرية كانت (ومن تبعه): "نجد نظريات (كانت) متماسكة ومتطابقة مع كثير مما نراه ولكنها محدودة جدا في مجال الوضوح والبساطة والمخرجات (المحصول أو الناتج).

وقد ضرب المؤلفان مثال قصة الطفلة التي تعاني من الفشل الكلوي المذكور سابقا.

وقد ناقشنا فيما سبق موقف الفلاسفة الأخلاقيين بمختلف فئاتهم، وسننتقل هاهنا إلى مناقشة موقف الفلسفة الكانتية أو فلسفة الواجب DEONTOLOGY كما يعرضها (بوشامب وتشيلدرس). إن فلسفة الواجب، حسب المفهوم الكانتي، تقتضي أن لا يكذب الطبيب (أو أي شخص) مهما كانت الظروف لأن الكذب رذيلة، ويجب تجنبها في كل الاحوال، ولو كان الصدق سيؤدي إلى قتل بريء، أو أن الصدق سيؤدي فعلا (لا وهمًا) إلى تحطيم الأسرة كما يُظنُّ في هذه الحالة.

وهذا الموقف مرفوض عقلا ودينا، لأن إنقاذ حياة أهم من كذبة وقد سمح الإسلام بالكذب في مثل هذه المواقف، بل في مواقف أقّل منها شدّة، مثل إصلاح ذات البين. وإذا تركنا جانبا موضوع الكذب في قصة هذه الطفلة المحتاجة لزرع كلية، فإن هناك جوانب أخرى أخلاقية وهي :

سر المهنة: فعلى الطبيب أن يحافظ على سر مريضه. وهناك مبدأ الحرية الذاتيةAUTONOMY ومن حق الأب أن يرفض أن يتبرع بكليته لابنته، وبالتالي لا يعتبر موقف الأب غير أخلاقي، ولذا فإن على الطبيب أن يحترم هذا القرار. ويعتبر (كانت) أن القرار لكي يعتبر أخلاقيا ينبغي أن يصدر عن الشخص باقتناع بأنه يقوم بواجب أخلاقي، ولا يرجو منه جزاءً ولا شكورًا (لا من الناس ولا من ربّ الناس).

ومن باب أولى يعتبر أي عمل ولو كان مفيدا للآخرين، نتيجة الرغبة الشخصية، أو الخوف من الانتقاد أو بمجرد التعاطف والشفقة، يعتبر ذلك العمل جيدا في حدّ ذاته، ولكنه ليس عملا أخلاقيا حسب تعريفه، لأن العمل الأخلاقي لا يكون إلا استجابة للواجب الأخلاقي في الحياة بصرف النظر عن جميع الدوافع الأخرى. وهو أمر من النادر أن يتحقّق في الحياة.

لهذا كله فإن (كانت) يعتبر هذه العوامل الخارجية المؤثرة على القرار الشخصي كلها عوامل يجب أن تستبعد حتى يكون القرار أخلاقيا ونابعا من الحرية الذاتية ومن الإحساس الأخلاقي بالواجب DEONTOLOGY .

الأخلاقيات الكانتية المعاصرة:

تمّ تطوير أخلاقيات (كانت) على يد كثير من الفلاسفة في القرن التاسع عشر بعد وفاة (كانت)، ثم ظهرت تطورات أخرى على يد الفلاسفة في نهاية القرن العشرين.

ومن هؤلاء:

  • ألآن دوناجان ( (ALAN DONAGANالذي قدم نظريته وكتابه "نظرية الأخلاق" واعتمد فلسفة كانت في الواجب ولكنه عبأها بخرافات "التراث اليهودي المسيحي المشترك" الذي لا وجود له. وأكّد على معاملة الإنسان كغاية في ذاته وليس كوسيلة لغايات أخرى. ويعتقد أن كل المبادئ الأخلاقية تبنى على هذه القاعدة.
  • جون راولس JOHN RAWLS الذي تحدى الفلسفات النفعية وأيّد نظريات (كانت) في موضوع العقل والحرية الذاتية والمساواة، وأن هذه القيم هي الأساس في احترام الذات وحقوق الأفراد. ويرى راولس أن أي فلسفة ترى تفوق حقوق الإنسان على المبادئ الأخلاقية العقلية هي فلسفة مرفوضة.

وهناك عدد من الفلاسفة الكانتيين مثل روبرت نوزيك ROBERT NOZICK وبرنارد وليامز BERNARD WILLIAMS وتوماس ناجل TOMAS NAGEL الذين قالوا بنظرية الكوابح الأخلاقية للواجبات أو الكوابح النابعة من الواجب DEONTOLOGICAL CONSTRAINTS وأكدوا على صوابية كانت في قوله: إن بعض الأعمال غير مسموح بها أخلاقيًا، ولو كانت نتائجها حسنة (وهو ضد الغاية تبرر الوسيلة).

ويعلق بوشامب وتشلدريس على هذه الأقوال بأن أصحاب هذه النظرية يمنعون الأخ أن يسرق ميراث أخيه، ولكنهم لا يخبروننا كيف نقسم التركة بين هؤلاء الإخوة؟ أي أنهم لا يوضحون لنا الوسيلة التي نستطيع بها أن نحمي البشر دون أن نعرّض بضعة أفراد للمخاطر.

واعتراض بوشامب وتشيلدرس في غير محله. فليس من المفروض من أصحاب النظرية الأخلاقية أن يوجدوا الوسائل للمعرفة أو لحماية البشر....إلخ. ولكن المفروض من أصحاب النظرية الأخلاقية أن يوضحوا لنا هل هذا الفعل أخلاقي يجوز فعله أم لا يجوز فعله أخلاقيا.

ويقول بوشامب وتشيلدرس: أما أصحاب الفلسفة النفعية فلا أهمية عندهم لبضعة أشخاص (وخاصة إذا كانوا من السود أو من الأجناس غير البيض) يتعرضون للمخاطر في سبيل إنقاذ آلاف وربما ملايين البشر. بينما يرى أصحاب فلسفة الواجب أن النتائج غير ذات بال إذا كانت الوسائل المتخذة في تحقيقها غير أخلاقية، وهو موقف سليم تمامًا أخلاقيًا في رأينا.

ويضع بوشامب وتشيلدرس القضية التالية:

إذا كان هناك شخص مريض (مرض الموت) ومن شدة ألمه يطلب من الطبيب أن يريحه من هذه الحياة، وعائلة هذا الشخص أيضا موافقة على هذا الإجراء، ويعتقد الطبيب أن كل واحد (الأسرة والمريض وربما أيضا المستشفى) سيكون أحسن حالا لو استجاب لهذا الطلب، وهنا سيختلف موقف الطبيب الذي يؤمن بالنظرية الأخلاقية النفعية والذي سيوافق على قتل المريض (إراحته من آلامه حسب طلبه وطلب أسرته) عن موقف الطبيب الذي يؤمن بالنظرية الأخلاقية الكانتية (فلسفة الواجب)، لأن هذا الأخير سيرى من واجبه الطبي: إنقاذ الحياة، وليس إزهاقها. وبالتالي سيرفض ما يسمى "قتل الرحمة" EUTHANASIA ولو كان بطلب المريض نفسه، وبموافقة أهله على ذلك.

ما هو الموقف بالنسبة للطبيب المسلم؟ طبعا سيرفض الطبيب المسلم هذا الطلب، وإن كان مقدم الطلب ليس مسلما.

ويرى أصحاب نظرية الواجب الأخلاقية أن كل إنسان له قيمته الذاتية ولا يجوز إحداث ضرر به عمدا لإنقاذ آخرين. كما لا يجوز قتل المريض المشرف على الموت لنريحه من آلامه حسب قولهم، حتى ولو كنا نعتقد أنه سيموت بعد أيام أو أسابيع قليلة.

نظرة نقدية للفلسفة الأخلاقية الكانتية

يعتقد بوشامب وتشيلدرس أن النظرية الأخلاقية الكانتية قاصرة مثلما هي النظرية الأخلاقية النفعية، وإن كانت كل واحدة منها تحقق جوانب مهمة، إلا أنها تقع في المحذور في جوانب أخرى.

تناقض الواجبات: نفرض أننا وعدنا أطفالنا برحلة، ووعدنا كذلك الوالدة بأنها إذا مرضت فإننا سنقف معها وندخلها المستشفى، ولنفرض أن كلا الأمرين وقعا في وقت واحد. فإن صاحب الفلسفة الكانتية سيقع في إحراج شديد إذ أن كلا الوعدين يجب أن ينفّذ طالما أن الشخص قد وعد بذلك. وبالتالي لا يوجد حلّ مرض لهذه القضية من وجهة النظر الكانتية. لأن المقولات الأخلاقية عند (كانت) مطلقة، ولا بد من الالتزام بها، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نفي بكلا الالتزامين في وقت واحد.

والأمر في واقع الأمر أبسط من هذه السفسطة. فبالنسبة للمسلم لا بدّ من تقديم رعاية الأم والأب، وخاصة إذا كان أحدهما مريضا. وأما الأولاد فالرحلة يمكن أن تؤجل إل وقت آخر.

ويعتقد الفلاسفة الكانتيون (أي الذين يتبعون أسس كانت الأخلاقية) مثل جون راولس JOHN RAWLS أن الكوابح الأخلاقية والأسس التعاقدية الأخلاقية بين الأفراد، والحرية الذاتية هي الأسس الهامة للأخلاق في أي مجتمع متحضر.

ويرى بوشامب وتشيلدرس أن هذه الأسس التعاقدية تصلح للعلاقات بين الدول وبين الدولة والفرد وبين الأفراد في المجالات التعاقدية. ونظرية (كانت) الأخلاقية التي تقوم على مبدأ التعاقد والالتزام به، لا تصل هذا المستوى الإنساني الرفيع أبدًا وتبقى دائمًا في السفح عند المستوى التعاقدي وهو أمر لا يصلح للحياة الإنسانية في النطاق الأسري وفي نطاق الصداقة.

وقد قام الفيلسوف هيجل بانتقاد نظرية (كانت) بأنها تفتقد القدرة على إيجاد نظام واضح للأخلاق المهنية، وهي الأخلاق التي يلتزم بها أصحاب كل مهنة في إطار مهنتهم. ويرى هيجل أن "العقلانية" و"الإنسانية" و"الحرية الذاتية" كلها أمور جيّدة، ولكنها لا تكفي لوضع نظام للأخلاق المهنية، واعتبرها من الناحية العملية والتطبيقية فارغة وغير عملية في كثير من الأحيان ولا تجيب على كثير من التساؤلات، ولا تحل كثيرا من المعضلات التي تواجهها هذه النقابات المهنية من الجانب الأخلاقي.

[1] أصل هذه الورقة فصل من موسوعة أخلاقيات مهنة الطب، تأليف د. محمد علي البار ود. عدنان أحمد البار ود. حسان شمسي باشا، جدة: كرسي محمد حسين العمودي لأخلاقيات الممارسة الطبية، جامعة الملك عبدالعزيز وكنوز المعرفة. قام بتجميع مادة هذه الورقة أ. شوقي الأزهر نائب مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق ثم اطلع د. محمد البار على نص الورقة وطلب بعض التعديلات التي تم إدراجها في هذه النسخة المنشورة على موقع المركز.

[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 41/223.

[3] Beauchanp T, Childress J: Principles of Biomedical Ethics edition, 2001, Oxford University Press, New York pp 337-383.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق